فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب في مَنْ سَنَّ سُنَّةً حسنة أَوْ سيئة

رقم الحديث 171 ( وعن أبي عمرو وجرير) بفتح الجيم وكسر أولى الراءين بينهما تحتية ساكنة ( ابن عبد ا) بن جابربن مالكبن نضربن ثعلبة البجلي الأحمسي بالمهملتين الكوفي ( رضي الله عنه) وبجيلة، وهي بنت صعيربن سعد العشيرة أم أنمار بنت أوس نسبوا إليها: قال ابن قتيبة قدم جرير على النبي سنة عشر من الهجرة في رمضان فبايعه وأسلم.
وكان عمر يقول: جرير يوسف هذه الأمة، وكان طويلاً يصل إلى سنام البعير، وكان نعله ذراعاً نزل الكوفة ثم تحول إلى أفريقيا ومات بها سنة إحدى وخمسين.
وقيل: أقام بالجزيرة وتوفي بهاسنة أربع وخمسين.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث: اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بستة: ومناقبه كثيرة، ومن مستظرفاتها أنه رضي الله عنه اشترى له وكيله فرساً بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة درهم، فقال لصاحبها: أتبيعها بأربعمائة درهم؟ قال نعم، ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، ثم ستمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة.
وذكرها المصنف في «التهذيب» وغيره ( قال: كنا في صدر) أول ( النهار عند رسول الله) نتشرف برؤياه ونستمطر الفيوض الإلهية من سحب محياه ( فجاءه قوم عراة) جمع عار ( مجتابي النمار) حال وسيأتي ضبطهما ومعناهما، قال المصنف: أي: خرقوها وقوروا وسطها ( أو) شك من الراوي: أي قال مجتابي النمار أو قال مجتابي ( العباء) وهو بفتح العين المهملة وبالموحدة والمد جمع عباءة وعباية لغتان ( متقلدي السيوف عامتهم) بتشديد الميم: أي معظمهم ( من) قبيلة ( مضر بل كلهم من مضر) أي: مقصورون عليها لا يتجاوزونها إلى غيرهم ( فتمعر) بتشديد العين المهملة: أي تغير ( وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة) أي: شدة الاحتياج من عدم مواساة الأغنياء لهم بما يدفع ضررهم كما هو الواجب عليهم، إذ يجب على الكفاية على مياسير المسلمين دفع ضرر المحتاجين بإطعام الجائع وإكساء العاري وهؤلاء كذلك ولم يبادر الأغنياء إلى سد فاقتهم، فهذا سبب التمعر لا مجرد رؤية الفاقة بهم لأنها شأن الصالحين من الأمة ( فدخل) أي: منزله ( ثم خرج) منه ( فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى) أي: الظهر لأن الإقامة مختصة بالفريضة وأول فريضة بعد صدر النهار الظهر ( ثم خطب فقال: يا أيها الناس) الآية مكية والخطاب لأهل مكة إلا أن لفظ الناس عام والحكم بعده غير مقصور عليهم ( اتقوا ربكم) أي: عقابه، بأن تطيعوه ( الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم ( إلى آخر الآية) وهو ( إن الله كان عليكم رقيبا) حافظاً لأعمالكم فيجازيكم عليها: أي: لم يزل متصفاً بذلك، ووجه مناسبتها لما هوفيه أن فيها اتحاد الناس في خلقهم من نفس واحدة ثم الأمر باتقاء الأرحام على قراءة النصب وقرنه باتقاء الله الدال على أن صلتها من الله تعالى بمكان.
وختمها بقوله: { رقيبا} ما تحمل كل غني على سد خلة المحتاج لاسيما الرحم، لأن من رأى شقيقه ورحمه في غاية الحاجة ولم يصله كان قاطعاً لرحمه وقرابته غير متق ولا مستحضر لكونه رقيبا عليه ( و) قال ( الآية التي في آخر الحشر) وهي قوله تعالى: ( { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} ) وفيها غاية الحث على ما في التي قبلها ( تصدق) خبر بمعنى الأمر وهو أبلغ لدلالته على الوقوع: أي: ليتصدق ( رجل) نكرة وضع موضع الجمع المعرف كما اقتضاه السياق فأفاد العموم، ومن ثم كرر من هنا من غير عاطف فقال: ( من ديناره: من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره) أي: ورجل من درهمه وهكذا ( حتى قال: ولو بشق تمرة) أي: ليتصدق ولو كان بشق تمرة ومن للجنس: أي: ببعض ما عنده من هذا الجنس تبعيضية ومجرورها والظرف في محل الحال أو إبتدائية متعلقة بتصدق: أي: من دينار له وإن احتاجه لأن الإيثار في ذلك شأن الكمل، قال تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} ( الحشر: 9) ( فجاء رجل من الأنصار بصرة) رواه مسلم كذا مبهماً في كتاب الزكاة، وعين أنها في ورق في روايته في كتاب العلم آخر صحيحه ( كادت كفه تعجز) بكسر الجيم ( عنها بل) إضراب مفيد للتأكيد والتحقيق ( قد عجزت ثم تتابع) بمثناتين فوقيتين وبعد الألف ( الناس) أي: في إتيان كل بما قدر عليه ( حتى رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها.
قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم، قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كوم وبالفتح المرة الواحدة، قال: والكومة بالضم: الصبرة والكوم العظيم من كل شيء؛ والكوم: المكان المرتفع كالرابية.
قال القاضي: والفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية ( حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل) أي: يستنير ويضيء لما حصل عندهمن الفرح باغتناء أولئك المحتاجين ومبادرة أصحابه إلى الامتثال ( كأنه مذهبة) سيأتي ضبطه وأن المراد منه على القولين الصفاء والاستنارة ( فقال رسول الله: من سن في الإسلام سنة حسنة) أي: طريقة مرضية، وإن لم يكن حسنها بالنص بل بالاستنباط بأن دعا لفعلها بقول أو فعل أو أعان عليها أو فعلها فاقتدى به في فعلها ( فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) أي: ومثل أجره فتم مضاف وإنه لما تسبب في إيجاده جعل كأنه العامل لها المأجور بها ففي الكلام تجوّز ( من غير أن ينقص من أجورهم شيء) فاعل ينقص: أي: إن حصول أجر مثل الفاعل لها لدلالته عليها لا يدخل به شيء من النقص في أجورهم ( ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة) معصية وإن قلَّت بأن فعلها فاقتدى به فيها أو دعا إليها أو أعان عليها ( كان عليه وزرها) أي: وزر عملها ( ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) وذلك لأن فعل المكلفين وإن كان غير موجب ولا متقض لثواب ولا عقاب بذاته إلا أن الله تعالى أجرى عادته الإلهية بربطهما به ارتباط المسبب بالسبب وليس للعبد تأثير في صدور الفعل عنه بوجه/ فكما يترتب كل منهما على ما يباشره بترتب على ما هو السبب فيه بنحو إرشاد أو أمر، فلما انفكت جهة المباشرة عن جهة جزاء الدلالة لم ينقص أجر الدالّ من أجر المباشر شيئاً.
وعلم من الحديث أن له من مضاعفة الثواب بحسب مضاعفة أعمال أمته ما لا يحيط به عقل ولا يحده حد؛ وذلك أن له مثل ثواب أصحابه بالنسبة لما عملوه وما دلوا عليه من بعدهم المضاعف لهم ثوابه إلى يوم القيامة، وهكذا في كل مرتبة من مراتب المبلغين عنه عند انقضاء الأمة ومنه يعلم عظيم فضل كل أهل مرتبة المتضاعف المتعدد بتعدد من بعدهم، فتأمله لتعلم فضل السلف على الخلف والمتقدمين على المتأخرين، كذا في «فتح الإله» .
قال المصنف: وفي هذا: أي: من سن سنة حسنة الخ تخصيص قوله: «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وقد تقدم انقسام البدعة إلى خمسة أقسام.
( رواه مسلم) في كتاب الزكاة والعلم من صحيحه.
( قوله مجتابي النمار هو) بضم الميم و ( بالجيم وبعد الألف موحدة والنمار) بكسر النون ( جمع نمرة بفتح فسكروهي كساء من صوف مخطط) ومعناها قاطعيها كما قال ( ومعنى مجابيها: لابسيها) حال كونهم ( قد خرقوها) أي: محل جيوبها ( في رءوسهم) ونصب لابسيها الخبر عن «معنى» لمشاكلة المفسر المفسر ( والجوب) المأخوذ منه مجتاب المذكور ( القطع) ، ومنه قوله تعالى: { وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} : أي: ( نحتوه وقطعوه) واتخذوه بيوتاً بالوادي وادي القرى ( وقوله تمعر هو بالعين المهملة) المشددة ( أي تغير) من قولهم مكان أمر: أي: أجدب ( وقوله: رأيت كومين) ضبط كما تقدم عن القاضي ( بفتح الكاف وضمها) وتقدم عنه أن الأول هو الراجح ( أي صبرتين) بضم صاد المهملة اسم للمجموع من الطعام ( قوله: كأنه مذهبة) بضم الميم و ( بالذال المعجمة) الساكنة ( وفتح الهاء وبالباء الموحدة، قال القاضي عياض) في «المشارق» ( وغيره) من الأئمة ( وصحفه بعضهم فقال: مدهنة بدال مهملة) ساكنة ( وبضم الهاء وبالنون) المفتوحة ( وكذا ضبطه الحميدي) بل لم يذكر «في» بين الصحيحين غير هذه الرواية إن صحت، المدهن: الإناء الذي يدهن فيه.
وهو أيضاً اسم للنقرة في الجبل التي يستنقع فيها ماء المطر فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وصفاء هذا الدهن ( والصحيح المشهور) قال المصنف في «شرح مسلم» : قال القاضي: والصواب ( هو الأول) وهو المعروف في الروايات، وذكر في «تفسيره» على هذا وجهين: أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب: وهو شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيه خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض ( والمراد به على الوجهين) أي: ضبطه بالنون والباء وبالمهملة والنون( الصفاء والاستنارة) .


رقم الحديث 172 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ليس من) زائدة لتأكيد استغراق النفي ( نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول) وهو قابيل القاتل لأخيه هابيل حين تزوج كل منهما بأخته التي مع الآخر في بطن واحدة، وكان شريعة آدم عليه السلام أن بطون حواء كانت بمنزلة الأقارب الأباعد.
وحكمته تعذر التزوج فاقتضت مصلحة بقاء النسل تجويز ذلك فحينئذٍ قتل قابيل هابيل لأن زوجته كانت أجمل فأدى به حسده إلى قتله، وهذا لا يمنع السبب المذكور في الآية لإمكان أن سبب القتل به هذا الحسد/ وأفهم قوله الأول أنه أول أولاد آدم، فإنهما أول قاتل ومقتول من ولد آدم ( كفل) بكسر الكاف وسكون الفاء: أي: نصيب ( من) إثم ( دمها لأنه كان أول من سن القتل) ففعله بأخيه فكل من فعله بعده مقتد به ولو بواسطة أو وسائط ( متفق عليه) قال زين العرب في «شرح المصابيح» إن قلت هذا مناف لقوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى} ( الأنعام: 164) قلت: كل واحدة من النفسين المباشرة والمتسببة وازرة إثمها اهـ.
وقد تقدم بسطه في الكلام على الحديث قبله.
2

رقم الحديث -20 بأن كانت قواعد الشرع تمدح ذلك.
( و) عقاب ( من سن سنة) أي طريقة: ( سيئة) بأن كانت على خلاف ما تقدم ( قال الله تعالى) في مدح المؤمنين بذكر بعض أوصاف محامدهم ( { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجاً وذرياتنا قرّة أعين} ) لنا بأن نراهم مطيعين لك.
قال بعضهم: في هذا القول منهم إشارة إلى أنه لما كمل نفعهم أحبوا أن يعود ذلك على أتباعهم، وبدءوا بالزوجات للإشارة إلى أن في مدحهم صلاحاً للأبناء لأن من شأنهم أن يأتوا على نعت أبويهم.
قيل: أفضل سعادة المرء أن يؤتى ولداً نجيباً.
والدعاء من الآباء للأبناء وإن كان لغيرهم أي الأبناء فهو في الحقيقة صلاح للآباء، لأن العبد يؤتى يوم القيامة في صحيفته حسنة فيقول من أين لي هذه؟ فتقول الملائكة: من استغفار ولدك «وقالت طائفة: إن الولد إذا عمل طاعة كتب ضعفها لأبويه ( { واجعلنا للمتقين إماماً} ) في الخير.
( وقال تعالى: { وجعلناهم أئمة} ) يقتدي بهم في الخير ( { يهدون} ) الناس ( { بأمرنا} ) .