فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب زيارة أهل الخيرومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة

رقم الحديث 360 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما بعد) ظرف للقول ( وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق بنا إلى أم أيمن) هي بفتح الهمزة والميم وسكون التحتية بينهما مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رضي الله عنها) صارت إليه بالإرث من أبيه قاله بعض، وقال القرطبي: كانت لأمه آمنة فورثها عنها، ونقله الدميري عن أبي بن شيخ وقال في «الديباجة» : عتقها عبد الله أبو النبي، قال: وقال الواقدي: كانت لعبد المطلب وصارت للنبيميراثاً: أي بأن وهبها لابنه عبد الله ثم ورثها النبيّ.
إذ من البين أن النبيّ لم يرث عبد المطلب لوجود أولاده.
وفي «فتح الباري» في أواخر كتاب الهبة قال ابن شهاب: كان من شأن أم أيمن أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما توفي أبوه كانت أم أيمن تحضنه حتى كبر، فأعتقها ثم أنكحها زيد بن حارثة، وتوفيت بعده بخمسة أشهر واسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان رضي الله عنها، وهي أم أيمن غلبت عليها كنيتها كنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعده أم أسامة بن زيد تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه، وتعرف بأم الظباء، وشربت هي وأم أيمن بركة مولاة أم حبيبة جاءت بها من أرض الحبشة بوله.
قال السهيلي: أم أيمن بركة المذكورة: أي في الترجمة هي التي هاجرت في حرّ شديد من مكة إلى المدينة وليس معها أحد، فبينا هي كذلك إذ سمعت حفيفاً فوق رأسها، فالتفتت فإذا دلو أدى لها من السماء فشربت منها فلم تظمأ بعدها أبداً، وكانت تتعمد الصوم في خيار القيظ لتعطش فلا تعطش ( نزورها) جملة مستأنفة ( كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها) كرامة لها وكان يقول أم أيمن أمي، وكان يكرمها ويبرّها مبرّة الأم ويكثر زيارتها، وكان عندها كالولد ولذا تصخب عليه: أي ترفع صوتها عليه وتدمر: أي تغضب وتضجر فعل الوالدة بولدها، قاله القرطبي.
وقال المصنف: في هذه الجملة زيارة الصالحين وفضلها وزيارة الصالح لمن هو دونه، وزيارة الإنسان لمن كان صديقه يزوره ولأهل ود صديقه، وزيارة جماعة من الرجال المرأة واستصحاب العالم والكبير في العيادة والزيارة اهـ.
( فلما انتهيا إليها بكت) تذكراً لعهد المصطفى وزيارتها برئءَتها لكثرة ملازمتها له وعدم مفارقتها له في الغالب ( فقالا لها ما يبكيك أما) استفهام تقريري ( تعلمين أن ما) أي الذي ( عند ا) مما أعد لنبيه مما لا تستطيع العبارة الإعراب عن أدناه فضلاً عن أقصاه ( خير لرسول الله) قال تعالى: { وللآخرة خير لك من الأولى} ( الضحى: 4) ( قالت: إني لا أبكي أني) أي لأني ( لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله) أي لا أبكي لجهلي بأخيرية ما عند الله له وأنا أعلم ذلك كماجاء عنها عند ابن ماجه قالت: «إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله» ( ولكن) استدراك لما قد يتوهم من انتفاء مقتضى البكاء عند علمها بشرف مقامه المنتقل إليه بأن للبكاء سبباً آخر هو قولها ( أبكي أن) أي لأن ( الوحي قد انقطع من السماء) أي لانقطاع الوحي من السماء عن الأرض بموته، فإن بفتح الهمزة على إضمار حرف التعليل كما ضبطه القرطبي.
قال: وانقطاع الوحي سبب اختلاف مذاهب الناس ووقوع التنازع والفتن وحصول المصائب والمحن، ولذا نجم بعده النفاق وفشا الارتداد والشقاق، ولولا أن الله تعالى تدارك الدين بثاني اثنين لما بقي منه أثر ولا عين اهـ.
( فهيجتهما) بتشديد التحتية ( على البكاء) أي أثارتهما عليه بذكرها ما يدعو إليه ( فجعلا) من أفعال الشروع أي فشرعا ( يبكيان معها) قال المصنف: فيه البكاء حزناً على فراق الصالحين والأصحاب وإن كانوا قد انتقلوا إلى أفضل مما كانوا عليه ( رواه مسلم) في باب فضل أم أيمن ورواه ابن ماجه، ومن العجيب قول الترمذي في الديباجة انفرد به المصنف وهو حديث صحيح رجاله حفاظ ثقات مخرج لهم في الصحيحين أو في أحدهما اهـ.


رقم الحديث 361 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أن رجلاً زار أخاً له) أي في الدين، وقوله: ( في قرية أخرى) في محل الحال من المفعول لتخصيصه بوصف الظرف ( فأرصد الله تعالى على مدرجته) أي محل دروجه: أي في طريقه ( ملكاً فلما أتى) أي مر الرجل ( عليه قال) ظاهره أن الملك خاطبه وشافهه ( أين تريد) واستفهم عنه مع إطلاع الله له على ذلك إن كان ليبني ما بشره الله به مما يأتي على جوابه وهو ( قال أريد أخاً لي) كائناً ( في هذه القرية) قال العاقولي: هو جواب على المعنى الغائي من السؤال، لأن قوله أين تريد؟ يقتضي أن يقول له قرية كذا، فيقول ما تفعل بها؟ فيقول أريد أخاً لي، فقدمه وأجابه من الأول علماً بما يؤول إليه السؤال ( قال: هل لك عليه من نعمة) أي عطية بالزيارة ( قال لا) أي لا نعمة لي أربها بزيارته.
قال القرطبي: أي لم أزره لغرض من أغراض الدنيااهـ.
وهو تفسير مراد لا بيان لمعنى اللفظ كما هو واضح، ثم استثنى استثناء منقطعاً، قوله ( غير) أي لكن ( أني أحببته في ا) في تعليلية ومنه حديث «عذبت امرأة في هرّة حبستها» الحديث ( قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك) الظرفان متعلقان برسول ( كما أحببته فيه) الكاف في محل المفعول المطلق.
قال ابن أبي شريف في «شرح المسايرة» في قولهم في تعريف النبيّ إنه إنسان أوحى إليه بشرع، خرج بقوله: «شرع» الوحي بغيره فيكون لغير النبي: أي كحديث الباب، وكقوله تعالى في حق مريم { أرسلنا إليها روحنا} { فأوحينا} ( الشعراء: 63) إلى أن قال الملك { إنما أنا رسول ربك} ( مريم: 19) الآية، والأصح عدّ نبوتها.
وفي المواهب اللدنية قال القرافي كما نقله عنه ابن مرزوق يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الأصح مع قوله تعالى { فأرسلنا إليها روحنا} ( مريم: 17) { أن الله يبشرك} ( آل عمران: 39) وفي مسلم فذكر حديث الباب وليس بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنسان يختص به كقوله { اقرأ باسم ربك} ( العلق: 1) فهذا تكليف يختص به في الوقت فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل { قم فأنذر} ( المدثر: 2) كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيرة أيضاً، فالنبيّ كلف بما يخصه، والرسول بذلك وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقاً اهـ.
( رواه مسلم) والمراد من محبة الله تعالى للعبد إرادته الخير والتوفيق له واللطف به.
وفي الحديث ما يدل على عظم فضل الحب في الله والتزاور فيه وأنه من أعظم الأعمال وأفضل القرب إذا تجرد عن هوى النفس، قال: «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» ( يقال أرصده لكذا: إذا وكله بحفظه) فمعنى أرصد الله على مدرجه ملكاً: أي جعله يرتقبه وينتظره ليبشره.
قال العاقولي: ويقال أرصدته إذا قعدت له على طريقه ( والمدرجة بفتح الميم والراء) وسكون الدال المهملة بينهما وبعد الراء جيم ثم هاء ( الطريق) أنسب منهم قول القرطبي موضع الدروج وهو المشي وإن كان المآل إلى واحد ( ومعنى تربها تقوم بها وتسعى في صلاحها) أي فيتعاهده بسبب ذلك.


رقم الحديث 362 ( وعنه قال: قال رسول الله: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في ا) مخلصاً في ذلك سبحانه ( ناداه مناديان) أي من الملائكة ( طبت) أي انشرحت لك عند الله تعالى من جزيل الأجر في ذلك، أو طهرت من الذنوب بغفرانه لك بذلك ( وطاب ممشاك) أي عظم ثوابه ( وتبؤت من الجنة منزلاً» ) أي اتخذت منها داراً تنزله ( ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ) حديث ( غريب) .


رقم الحديث 363 ( وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: إنما) أداة حصر على الراجح كما تقدم أول الكتاب ( مثل) بفتحتين الشأن العجيب والأمر الغريب، ويقال بكسر فسكون، وميل بوزن رغيف: أي نظير ( الجليس الصالح وجليس السوء) كذا وقفت عليه في الرياض بتوصيف الأوّل وإضافة الثاني، وكأن حكمة ذلك مع التفنن في التعبير الإشارة إلى مجانبة الجليس السيء حيث أطلق عليه لفظ المصدر وهو السوء - بالفتح - مبالغة في التنفير، أما السوء بالضم فاسم مصدر ويجوز ضم وفتح السين فيما ذكر كقولك رجل سوء وفي نسخة من الرياض توصيف الصاحب بوصفه في كليهما ( كحامل المسك) أعم من أن يكون صاحبه أو غيره ( ونافخ الكير) وهو بكسر الكاف وسكون التحتية معروف وحقيقته: البناء الذي يركب عليه الزق، والزق: هو الذي ينفخ فيه فأطلق على الزق اسم الكير مجازاً لمجاورته له، وقيل واقتصر عليه في القاموس: الكير نفس الزق.
وأما البناء فاسمه الكور وهذا فيه لف ونشر مرتب، ثم فصل ثمرة ذينك الحالين فقال ( فحامل المسك إما أن يحذيك) بضم التحتية أوله وسكون الحاء المهملة وبالذال المعجمة: أي يعطيك وزنا ومعنى ( وإما أن تبتاع) مضارع من باب الافتعال للمبالغة: أي تطلب البيع ( منه) وفيه جواز بيع المسك والحكم بطهارته لأنه مدحه ورغَّب فيه، ففيه الرد على من كرهه وهو منقول عن الحسن البصري وعطاء وغيرهما ثم انقرض هذا الخلاف واستقرّ الإجماع علىطهارته وجواز بيعه ( وإما أن تجد) من الوجدان بكسر الواو والوجود لغة لبني عامر ( منه ريحاً طيبة) أي فجليس الأخيار إما أن يعطي بمجالستهم من الفيوض الإلهية أنواع الهبات حباء وعطاء، وإما أن يكتسب من المجالس خيراً وآداباً يكتسبها عنه، ويأخذها منه، وإما أن يكتسب حسن الثناء بمخاللته ومخالطته ( ونافخ الكير) هو بكسر الكاف وسكون التحتية.
قال الحافظ في «الفتح» وفيه لغة أخرى كور بضم الكاف، والمشهور بين الناس أنه الزق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير حانوت الحداد.
قال ابن التين: وقيل الكير هو الزق والحانوت هو الكور، وقال صاحب المحكم: الزق الذي ينفخ فيه الحداد، ويؤيد الأول ما رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة أن عمر رضي الله عنه رأى كير حداد في السوق فضربه برجله حتى هدمه اهـ.
( إما أن يحرق ثيابك) بناره إن وصلت إليها ( وإما أن تجد منه ريحاً منتنة) بضم الميم وكسر المثناة الفوقية وقد تكسر الميم اتباعاً للتاء، وضم التاء اتباعاً للميم قليل، قاله في «المصباح» : أي قبيحة متغيرة، أي فجليس الصاحب السيء إما أن يحترق بشؤم معاصيه، قال تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة} ( الأنفال: 25) وقال تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} ( هود: 113) وإما أن يدنس ثناءه بمصاحبته، وقد ورد «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» ففي الحديث بيان نتائج كل من صحبة الأخيار والأشرار وفي الحديث ضرب المثل وتقدم معناه في الأصل وهو المراد في الحديث، ثم خصص بالقول السائر الممثل مضربه بمورده.
قال البيضاوي: الشرط في ضرب المثل أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يتعلق بها التمثيل في العظم والصغر والشرف، وفائدته كشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل، فإن المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأن من طبعه ميل الحس وحبّ المحاكاة، وإنما يضرب بما فيه غرابة اهـ.
ملخصاً من موضع منه، ولعله حكمة ذكر الظرف بعد تجدد الأول دون الثاني ما في الأول من الكرامة فناسب إكرام المحكى عنه به، وما في الثاني من ضدها فترك دفعاً للمكافحة لما يكره ( متفق عليه) قال الحافظ المزيّ في «الأطراف» .
أخرجاه في البيوع، وتعقبه الحافظ العسقلاني بأن البخاري إنما أخرجه في الذبائح، نبه عليه القطب الحلبي في «شرحه» ووجدته كذلك.
قلت: وقد أخرجه البخاري في أوائل البيوع بتفاوت يسير فصحما قاله المزي ( ويحذيك: يعطيك) وزناً ومعنىً.


رقم الحديث 364 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: تنكح) بالبناء للمفعول أي تتزوج ( المرأة لأربع) أي من الخصال ( لمالها) بدل مطابق، بدل مفصل من مجمل بإعادة العامل اهتماماً ( ولحسبها) بفتح المهملتين وبالباء الموحدة: أي نسبها بأن تكون طيبة الأصل، وفي «المصباح» : الحسب ما يعد من المآثر.
وقال ابن السكيت: الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف، ورجل حسيب كريم بنفسه، قال: وأما المجد والشرف فلا يوصف بهما الإنسان إلا إذا كانا فيه وفي آبائه.
وقال الأزهري: الحسب الشرف الثابت له ولآبائه: قال: وقوله عليه الصلاة والسلام: «تنكح المرأة لحسبها» أحوج أهل العلم إلى معرفة الحسب لأنه مما يعتبر في مهر المثل، فالحسب الفعال له ولآبائه، مأخوذ من الحساب وهو عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا حسب كل واحد مناقبه ومناقب آبائه، ومما يشهد لقول ابن السكيت قول الشاعر: ومن كان ذا نسب كريم ولم يكن له حسب كان اللئيم المذمما فجعل الحسب فعال الشخص مثل الشجاعة والجود وحسن الخلق، ومنه قوله: «حسب المرء دينه» اهـ، وصحف من ضبطه في الحديث بالنون بدل الموحدة، لأن ذلك مذكور في قوله ( ولجمالها) هو كما قال سيبويه رقة الحسن ( ولدينها) وأعاد الجارّ في المتعاطفات إيماء إلى أن كل واحد منها مما يقصد على انفراده واستقلاله ( فاظفر) أيها المسترشد ( بذات الدين) أي بصاحبته وهو أبلغ من صاحبته لأنها كناية ( تربت يداك) أي افتقرت وأسند إلى اليدين لأن التصرف يقع بهما غالباً، ولم ترد العرب بهذه الكلمة وأمثالها معناها الأصلي من الدعاء، بل إيقاظ المخاطب للمذكور بعده وحثّ وتحريض عليه ليعتنى به.
وقيل معناه: افتقرت إن لم تفعل ما أرشدتك إليه، وقد ورد ما يؤيده.
أخرج ابنماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله «لا تزوّجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يؤذيهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامرأة جذماء سوداء ذات دين أفضل» ( متفق عليه) روياه في النكاح ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كلهم عن أبي هريرة ( ومعناه أن الناس يقصدون) بكسر المهملة الأولى ( في العادة من نكاح) ( المرأة هذه الخصال الأربع) زاد في شرح مسلم «وآخرهم عندهم ذات الدين» ( فاحرص أنت) تفسير لقوله اظفر بضميره المستكن فيه ( على ذات الدين) وعطف قوله ( واظفر بها واحرص على صحبتها) إطنابا للتأكيد.
قال الرافعي في المجلس الثالث عشر من أماليه: يرغب في النكاح لفوائد دينية ودنيوية، والفوائد المتعلقة بمطلق النكاح تحصل بنكاح أيّ امرأة كانت، ثم قال: فمن الدواعي القوية إليه الجمال، وقد نهى عن تزوّج المرأة الحسناء، وليس المراد النهي عن رعاية الجمال على الإطلاق، ألا ترى أنه قد أمر بنظر المخطوبة ليكون النكاح عن موافقة الطبع، ولكنه محمول على ما إذا كان القصد مجرد الحسن واكتفي به عن سائر الخصال، أو على الحسن التام البارع لأنه يخاف بسببه من الإفراط في الإدلال المورث للوحشة والمنازعة والأطماع الفاسدة، فالمنهل العذب كثير الزحام، ومن شدة الصبوة والميل ولا يؤمن منها تولد أمور مضرّة، ولأنها قد تصرفه عن كثير من الطاعات في غالب الأوقات، ومن الدواعي الغالبة المال وهو غاد ورائح، وإذا كان كذلك فلا يوثق بدوام الألفة سيما إذا قلّ، وقد قيل «من عظمك عند استغلالك استقلك عند إقلالك» وأما إذا كان الداعي الدين فهو الحبل المتين الذي لا ينفصم فكان عقده أدوم وعاقبته أحمد اهـ.
ملخصاً.


رقم الحديث 365 ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا) زيارة ( أكثر مما تزورنا) فأكثر مفعول مطلق، ويجوز أن يكون منصوباً على نزع الخافض، قال الحافظ في «الفتح» : روى الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: «احتبسجبريل عن النبيّ» وروى عبد بن حميد عن عكرمة قال: «أبطأ جبريل في النزول أربعين يوماً، فقال له: يا جبريل ما نزلت حتى اشتقت إليك، فقال: أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل قل له { وما تنزل} الآية.
وعند ابن إسحاق عن ابن عباس أن قريشاً لما سألوا عن أصحاب الكهف فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، فلما نزل قال: أبطأت، فذكره اهـ.
( فنزلت) أنث باعتبار أنها كلمات ( وما نتنزل) قال البيضاوي: التنزل على مهل لأنه مطاوع نزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقاً كما يطلق نزل بمعنى أنزل، والمعنى: وما نتنزّل وقتاً غب وقت إلا بأمر الله على ما تقتضيه حكمته ( إلا بأمر ربك) قال الحافظ في «الفتح» : الأمر هنا بمعنى الإذن بدليل سبب النزول المذكور ويحتمل الحكم: أي ننزل مصاحبين لأمره تعالى عباده بما شرع لهم، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك عند من يجيز حمل اللفظ على جميع معانيه اهـ.
( له ما بين أيدينا وما خلفنا) كذا في الصحيح الاقتصار على ذلك، والمراد ما أمامنا وما خلفنا من الأزمنة والأمكنة، فلا ننتقل من شيء إلى شيء إلا بأمره ومشيئته ( رواه البخاري) في التفسير، وكذا رواه الترمذي.


رقم الحديث 366 ( وعن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان ( الخدري) بضم المعجمة وسكون المهملة تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه عن النبي قال: لا تصاحب إلا مؤمناً) فيه نهي عن موالاة الكفار ومودتهم ومصاحبتهم، قال تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون با واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله} ( المجادلة: 22) الآية ( ولا يأكل طعامك إلا تقي) فيه الأمر بملازمة الأتقياء ودوام مخالطتهم، وترك الفجار فهو نهي له بالمعنى عن إكرام غير التقي وإسداء الجميل إليه وفي «مرقاة الصعود» للسيوطي هذا الحديث في طعام الدعوة دون طعام الحاجة، وإنما حذر من مصاحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، لأن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب، يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولاتجالسه ولا تطاعمه ولا تنادمه اهـ.
( رواه أبو داود) في الأدب من سننه ( والترمذي) في الزهد من «جامعه» ( بإسناد لا بأس به) فرواه أبو داود عن عمرو بن عون.
ورواه الترمذي عن سويد بن نضر كلاهما عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح عن سالم بن غيلان عن الوليد بن قيس عن أبي سعيد قال سالم: أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به، وقال الترمذي: إنما نعرفه من هذا الوجه وأشار إلى أنه غريب.


رقم الحديث 367 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: الرجل على دين خليله) ويروى «المرء بخليله» والخليل الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول ( فلينظر أحدكم من يخالل) أي فلينظر أحدكم بعين بصيرته إلى أمور من يريد صداقته وأحواله، فمن رآه ورضي دينه صادقه، ومن سخط دينه فليتنبه، ومن رآه يرى له مثل ما يرى له صحه روى ابن عديّ في «الكامل» من حديث أنس «لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى له» فأقل درجات الأخوة والصداقة النظر بعين المساواة، والكمال رؤية الفضل للأخ ( رواه أبو داود) في أبواب الأدب من السنن ( والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن) قال الحافظ السيوطي في «المرقاة» : هذا الحديث أحد الأحاديث التي انتقدها الحافظ سراج الدين القزويني على «المصابيح» ، وزعم أنه موضوع.. قلت: قال الحافظ العلائي: نسبة هذا الحديث إلى الوضع جهل قبيح، بل هو حسن كما قال الترمذي، فإن موسى بن وردان وثقه العجلي وأبو داود، وقال فيه الإمام أحمد: لا أعلم إلا خيراً.
وقال أبو حاتم والدارقطني: لا بأس به.
ولم يتكلم فيه أحد، وزهير بن محمد هو المروزيّ، وثقه أحمد وابن معين وتكلم فيه غيرهما واحتج به الشيخان في الصحيحين، وذلك يدفع ما تكلم به فيه فتفردّه يكون حسناً غريباً ولا ينتهي إلى الضعف فضلاً عن الوضع اهـ.
وقال الحافظالعسقلاني في رده عليه: قد حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقد أورده ابن عديّ في ترجمة زهير، ونقل عن أبي زرعة الدمشقي قال: قلت لمحمد بن السريّ حدثنا أبو مسهر عن يحيى بن حمزة عن زهير به موصولاً فقال: لم يصنع صاحبك شيئاً حدثنا يحيى بن حمزة به مرسلاً، وقال: وقد رواه هشام بن عمار عن الوليد عن مسلم عن زيهر به وزهير بن محمد استشهد به البخاري ولكن قالوا: إن في رواية الشاميين عنه مناكير كأنه لما دخل الشام حدث من حفظه فوهم فروايتهم عنه غير معتبرة، وهذا الحديث مما اشترك فيه الشاميون وغيرهم، وموسى المذكور وثقه جماعة وضعفه بعضهم، فحديثه من هذه الحيثية من قبيل الحسن اهـ.
وبه يعلم ما في قول المصنف بإسناد صحيح ألا أن يريد به المقبول مجازاً فيشمل الحسن اهـ.
والله أعلم.


رقم الحديث 368 ( وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيّ قال: المرء) بفتح الميم وسكون الراء وبالميم بعده: أي الشخص ( مع من أحب) وكونه معه لا يستلزم مساواته له في منزلته وعلوّ مرتبته لأن ذلك متفاوت بتفاوت الأعمال الصالحة والمتاجر الرابحة.
قال في «الفتح» : المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتفق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعية وإن تفاوتت الدرجات اهـ.
( متفق عليه) أي من حديث أبي موسى، ورواه أحمد والشيخان والنسائي من حديث أنس والترمذي من حديثه وزاد «له ما اكتسب» والشيخان من حديث ابن مسعود كذا يؤخذ من «الجامع الصغير» .
( وفي رواية) للبخاري في أبواب الأدب عن أبي موسى الأشعري ( قال: قيل للنبيّ الرجل) أل فيه للجنس ( يحبّ القوم) أي من أهل الصلاح ( ولما يلحق بهم) قال أهل العربية: لما تنفي الماضي المستمر فدل عل نفيه في الماضي وفي الحال، بخلاف لم فإنها للنفي في الزمن الماضي مطلقاً ( قال: المرء مع من أحبّ) هو عامّ، فمن أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحداً من المؤمنين كان معه في الجنة بحسن النية لأنها الأصل، والعمل تابع لها ولا يلزم من كونه معهم كونه في منزلتهم، ولا أن يجزى مثل جزائهم من كل وجه.


رقم الحديث 369 ( وعن أنس رضي الله عنه أن أعرابياً) هو يختص بسكان البوادي من العرب وغيرهم أما العرب فأولاد إسماعيل عليه السلام، وفي البخاري وهو في مسلم أيضاً بلفظ «أن رجلاً» وفي الفتح للحافظ أنه ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذرّ فقد وهم لأنهما وإن اشتركا في معنى الجواب، وهو أن المرء مع من أحبّ إلا أنهما اختلفا في السؤال، فإن كلاً من أبي موسى وأبي ذرّ سأل «عن الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم» وهذا سأل «متى الساعة» اهـ.
( قال: يا رسول الله متى الساعة) أي القيامة، وعبر عنها بذلك لأنها تظهر في أدنى لحظة ( قال له رسول الله: ما أعددت لها) أي حتى تسأل عنها، إذ هي زمن الجزاء ويوم الدين، قال العاقولي: وقوله: «ما أعددت لها» من أسلوب الحكيم لأنه سأل عن الوقت فقيل له مالك ولها إنما يهمك التزود لها والعمل بما ينفعك فيها، فطرح الرجل ذكر أعماله لأنه كان لا يرى لها قدراً، ونظر إلى ما في قلبه من مخصوص محبة الله سبحانه ورسوله فقدمه بين يديه ( قال: حبّ الله و) حبّ ( رسوله) يجوز رفعه نظراً لصدر جملة السؤال، ونصبه نظراً لعجز جملته، وقد قرىء بالوجهين «العفو» في قوله تعالى: { يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} ( البقرة: 19) نظراً لما ذكر، والمراد من حبّ الإنسان ورسوله طاعتهما والانقياد لأحكامهما ( قال: أنت مع من أحببت) واللفظ عام لكون كل محبّ مع محبوبه من خير أو شرّ، ومعية الله مع الإنسان بالنصر والإعانة والتوفيق ( متفق عليه) أخرجه البخاري في أبواب الأدب ( وهذا لفظ مسلم) في أبواب البر والصلة ( وفي رواية لهما) أي عن أنس أيضاً، قال: ( ما أعددت لها من) صلة لتأكيد النفي واستغراقه ( كثير) بالمثلثة ( صوم ولا) كثير ( صلاة ولا) كثير ( صدقة) يحتمل أن يراد من المثبت من ذلك الغرض فيكون كقول البوصيري: ولم أصلّ سوى فرض ولم أصم أي سواء، ويحتمل أن يكون بعض النوافل إلا أنها غير كثيرة وفي العبارة توجيه( ولكني) في نسخة من مسلم «ولكن» استدراك مما يوهمه الكلام السابق من نفي تقديم ما يرجو ثمرته في آخرته أي ولكن لي أعظم الذخائر هو أني ( أحبّ الله ورسوله) قال: «فأنت مع من أحببت» .