فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب في الاقتصاد في العبادة

رقم الحديث 142 ( وعن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ دخل عليها وعندها امرأة قال من هذه؟ قالت: هذه فلانة) قال المصنف في «المبهمات» : قال الخطيب: هي الحولاء بنت ثويببن حبيببن أسدبن عبد العزى ( تذكر) بفتح الفوقية والفاعل عائشة.
وفي «مسند الحسن» بن سفيان: هذه فلانة وهي أعبد أهل المدينة.
وفي «مسند أحمد» : لا تنام تصلي، وروي يذكر بالبناء للمفعول وبالتحتية: أي: يذكرون ( من صلاتها) أي: أنها كثيرة، وروي فذكر بفاء فضم المعجمة فكسر الكاف ( قال) إشارة إلى كراهة ذلك خشية الملل والفتور على فاعله فينقطع عن العبادة التي التزمها فيكون رجوعاً عما بذل لربه من نفسه ( مه) كلمة زجر: بمعنى اكفف، ما ذكر من كونه زجراً عن ذلك هو ما اقتصر عليه في «فتح الباري» .
قال السيوطي في «التوشيح» : ويحتمل أن يكون زجراً لعائشة عن مدحها المرأة بذلك ( عليكم من العمل بما تطيقون) الدوام عليه ( فوا) أتى به لتأكيد الأمر، ويسن الحلف لمثل ذلك ( لا يمل الله حتى تملوا) بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى، فإطلاقه عليه من باب المشاكلة نحو { وجزاء سيئة سيئة مثلها} ( الشورى: 40) قال السيوطي: هذا أحسن محامله.
وفي بعض طرقه عن عائشة «كلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل» أخرجه ابن جرير في «تفسيره» : أي: لا يقطع ثوابه ويتركه اهـ.
قال الحافظ العسقلاني في «فتح الباري» : في بعض طرق حديث ابن جرير ما يدل على أنه مدرج من قول بعض الرواة اهـ.
قال القرطبي وجه المجاز فيما ذكر أن الله تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن قطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملل تسمية للشيء باسم سببه هذا بناء على إبقاء «حتى» على مدلولها من انتهاء الغاية، وقيل بتأويلها.
فالمعنى: لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعلكذا حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم: البليغ لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يبق له عليهم مزية.
وهذا المثال أشبه مما قبله، لأن شيب الغراب ليس ممكناً عادة بخلاف الملل من العابد.
وقال المازري: حتى بمعنى الواو؛ والمعنى: أن الله لا يملّ وتملون، فنفاه تعالى عنه وأثبته لهم.
وقيل: حتى بمعنى حين، والأولى أليق وأجري على القواعد وهو أنه من باب المقابلة اللفظية ( وكان أحب الدين إليه) عند المستملي «إلى ا» وهو يدل على أن الضمير في إليه تعالى.
والأكثر على أنه لرسوله، ولا منافاة بينهما فإن ما كان أحبّ إلى الله كان أحبّ إلى رسوله ( ما داوم صاحبه عليه) قال ابن العربي: معنى المحبة من الله تعالى تعلق الإرادة بالثواب: أي: أكبر الأعمال ثواباً أدومها.
قال المصنف: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة اهـ.
قال ابن الجوزي: إنما أحبّ العمل الدائم، لأن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم وقتاً في كل يوم كمن لازم يوماً وانقطع شهراً، ولأنه بتركه العمل بعد دخوله فيه كان كالمعرض بعد الوصل فهو متعرّض للذم والعضل اهـ ملخصاً ( متفق عليه) .
و ( مه) بسكون الهاء إذا كان النهي عن أمر معين وبكسرها منونة إذا كان عن غير معين ( كلمة نهي وزجر.
ومعنى لا يمل ا)
أي: المعنى لا مدلول اللفظ لما قد عرفت، وكأنه أشار إلى ذلك بالإتيان بأي في قوله: ( أي: لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة المالّ حتى تملو فتتركوا، فينبغي لكم) إذا عرفتم ما يترتب على العمل الشاق من الانقطاع ( أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه) من العمل الصالح وإن قلّ ( ليدوم ثوابه) عليه ( لكم و) يستمر ( فضله عليكم) لدوام تفضله بجعله سبباً له.


رقم الحديث 143 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط) قال شيخ الإسلام زكريا في «تحفةالقاري» على «صحيح البخاري» : يعني ثلاثة رجال: عليّبن أبي طالب وعبد ابن عمرو ابن العاص، وعثمانبن مظعون.
وإلا فالرهط لغة: من ثلاثة إلى عشرة اهـ ( إلى بيوت أزواج النبي يسألون) يجوز أن يكون صفة للثلاثة وأن يكون حالاً لها ( عن عبادة النبيّ) أي: عن قدرها ليتمسكوا بها ويقتدوا به في أفعاله فأخبروا بها ( فلما أخبروها) فالفاء عاطفة على مقدر ( تقالوها) بتشديد اللام المضمومة تفاعل من القلة: أي: عدوها قليلة، قال الأبي في «شرح مسلم» : إنما تقالوها بالنسبة إلى فهمهم، وربّ قليل عند شخص كثير في نفسه.
وكان الشيخ يعني ابن عرفة يقول: الضمير إنما هو عائد على أعمالهم لاستكثارهم عمله، وهذا يرده أنه في البخاري حين تقالوه ( قالوا: وأين نحن من النبيّ؟) أي: بيننا وبينه بون بعيد ومسافة طويلة، فإنا على صدد التفريط وسوء العاقبة وهو معصوم ( وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قال تعالى: { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ( الفتح: 2) وهذا كناية عن تشريفه وتكميله، وإلا فلا ذنب يصدر منه لعصمته من الذنوب مطلقاً على سائر أحواله، وتقدم وجه آخر ( فقال أحدهم) وعند مسلم بعضهم ( أما) حرف شرط فيه معنى التوكيد ( أنا فأصلي الليل أبداً) أي: أحييه بالقيام ولا أنام شيئاً منه ( وقال الآخر) بفتح الخاء المعجمة ( وأنا أصوم الدهر) أي: ما عدا يومي العيد وأيام التشريق لحرمة صومها ( ولا أفطر) في شيء من أيامه ( وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً) يحتمل أنه زهد فيه لكونه من المستلذات ولما يرى من أن النكاح شاغل عن كمال الجد في العبادة.
قال الجنيد: ما رأينا من تزوّج فبقي على حاله ( فجاء رسول الله) أي: أعلم بما قالوه فجاء ( فقال: أنتم) بحذف ألف الاستفهام التقريري: أي: أأنتم ( الذين قلتم كذا وكذا) ويحتمل أنه أوحي له بما قالوه ولم يعلمه به أحد من البشر فأخبر به معجزة، وتقدير الكلام: فقالوا نعم إذ الاستفهام يقتضيه، ويحتمل ألا يكون على الاستفهام ويكون لينبئهم على علمه بكلامهم فيكون منقبيل ما يسمى عند علماء المعاني بلازم فائدة الخبر والأول أقرب ( أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح ( وا إني لأخشاكم وأتقاكم له) لما جمع الله له من علم اليقين مع المعرفة القلبية واستحضار العظمة الإلهية ما لم يجتمع لأحد سواه وأراد ردّ ما بنى عليه القوم أمرهم حيث أعلمهم أنه مع كونه بالغاً في الخشية أعلاها وفي العبادة منتهاها لم يفعل ما أرادوا فعله.
ولو كان أحب إلى الله مما هو عليه من الاقتصاد لفعله.
والخشية: خوف مقرون بمعرفة فهي أخص من الخوف إذ هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس واضطراب القلب من ذلك المخوف.
وقيل: الخوف حركة والخشية سكون، ألا ترى أن من رأى عدوّاً له حالة استقراره في محل يصل إليه فيه تحرّك للهرب منه وهي حالة الخوف، ومن رآه حالة استقراره في محل لا يصل إليه سكن وهي الخشية.
قال السيوطي في «مرقاة الصعود» : قال الشيخ عز الدينبن عبد السلام: في الحديث إشكال لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل القاطع على أنه عليه الصلاة والسلام غير معذب فكيف يتصوّر منه الخوف، فكيف أشد الخوف؟ قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، عليه الصلاة والسلام، فإذا حصل الذهول عن موجبات نفي العقاب حدث الخوف.
وقد يقال: إن إخباره بشدة الخوف وعظم الخشية عظم بالنوع لا بكثرة العدد: أي: إذا صدر منه الخوف ولو في زمن فرد كان أشد من خوف غيره اهـ ( لكني أصوم) تارة ( وأفطر) تارة أخرى ( وأصلي) أي: أتهجد في بعض الليل.
أداء لحق العبودية ( وأرقد) أداء لحق النفس ( وأتزوّج النساء، فمن رغب) أي: أعرض ( عن سنتي) طريقتي ( فليس مني) من هذه، تسمى اتصالية: أي: ليس متصلاً بي ليسمى قريباً مني، والسنة مفرد مضاف إلى معرفة فتعم على الراجح وتشمل الشهادتين وأركان الإسلام، فيكون الراغب عن ذلك مرتداً.
وقال المطرزي في «شرح المصابيح» : يعني من ترك ما أمرت به من أحكام الدين فرضاً أو سنة على سبيل الاستخفاف بي وعدم الالتفات إليّ فليس مني لأنه كافر، أما من تركه لا عن استخفاف بل عن الكسل لم يكن كافراً، وحينئذٍ فقوله: «ليس مني» أي: من المقتدين بي والعاملين بسنتي اهـ ( متفق عليه) واللفظ للبخاري وعند مسلم نحوه.
قال الأُبِّي: وما دلت عليهالأحاديث من راجحية النكاح هو أحد قولين، وهذا حين كان في النساء المعونة على الدين والدنيا وقلة التكلف والشفقة على الأولاد، أما في هذه الأزمنة فنعوذ با من الشيطان، ومن النسوان، فوا الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة والعزبة بل ويتعين الفرار منهن، فلا حول ولا قوة إلا با اهـ.


رقم الحديث 144 ( وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبيّ قال: هلك المتنطعون قالها) أي: هذه الجملة وكررها ( ثلاثاً) تأكيداً في النهي عنه، وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثة لتفهم عنه رواه البخاري و ( رواه مسلم) وأحمد وأبو داود.
( المتنطعون) جمع متنطع اسم فاعل من التنطع بتقديم الفوقية على النون ( المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد) وقال الحطابي: المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
وقال في «النهاية» : المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً.
قال العاقولي: يدخل في هذا الذم ما يكون القصد فيه مقصوراً على اللفظ ويجيء المعنى تابعاً للفظ، أما بالعكس فهو الممدوح، وهو أن يدع الرجل نفسه تجري على سجيتها فيما يروم التعبير عنه من المعاني كما قال: أرسلت نفسي على سجيتها وقلت ما قلت غير محتشم

رقم الحديث 145 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: إن الدين) أل فيه للعهد: أي: دين الإسلام ( يسر) قال الكرماني: معناه إما ذو يسر أو أنه يسر على سبيل المبالغة نحو زيد عدل: أي: لشدّة اليسر وكثرته فيه كأنه نفسه.
وقال الطيبي: يسر خبر إن وضع موضع المفعول مبالغة ( ولن يشادّ الدين إلا غلبه) قال الطيبي: بناء المفاعلة في يشادّ ليس للمغالبة بل للمبالغة نحو طارقت النعل وهو من جانب المكلف.
قلت: والمعنى لا يتعمق أحدفي الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه.
ويحتمل أن يكون للمبالغة على سبيل الاستعارة والمستثنى منه أعم الأوصاف: أي: لم يحصل ويستقرّ ذلك المشاد على وصف من الأوصاف إلا على أنه مغلوب ( فسددوا) الفاء جواب شرط مقدر: أي: إذا بينت لكم ما في المشادة من الوهن فسدوا: أي: الزموا السداد، وهو التوسط من غير إفراط ولا تفريط.
قال أهل اللغة: السداد التوسط ( وقاربوا) أي: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرب منه، وقد تقدم في آخر باب الاستقامة في الأصل معنى السداد والمقاربة ( وأبشروا) بالثواب على العمل الدائم وإن قل ( واستعينوا) على تحصيل العبادات ( بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) قال في «التوشيح» بالضم، قال في «مختصر القاموس» و «الفتح» : فاقتصار «التوشيح» على الضم لأنه الرواية الصحيحة كما في «المشارق» للقاضي عياض.
قال: ويقال بفتح الدال: أي: مع سكون اللام وفتحها ( رواه البخاري.
وفي رواية له)
من حديث أبي هريرة ( سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة) أي: مضموم إلى الغدوة والروحة ( القصد) بالنصب على الإغراء: أي: الزموا التوسط في الأمر من غير إفراط ولا تفريط أو مفعول ( تبلغوا) جواب الشرط المقدر: أي: إن تفعلوا ذلك على وجه القصد والمقاربة تبلغوا القصد من مرضاة ربكم ودوام القيام بعبوديته، وإن تعاطيتم المشاقّ ربما مللتم فانقطعتم ( قوله الدين) قال صاحب «المطالع» هو في أكثر الروايات ( مرفوع على) أنه مفعول ( ما) أي: فعل ( لم يسم فاعله) «ويشاد» عليه مبني للمفعول ( وروي منصوباً) بإضمار الفاعل للعلم به.
ونقل العلقمي عن المصنف أنه قال: إن هذه أكثر الروايات قال: قال الحافظ ابن حجر: وجمع بينه وبين كلام صاحب «المطالع» بأنه بالنسبة إلى رواية المغاربة والمشارقة ( وروي: لن يشادّ الدين أحد) أي: بالتصريح بالفاعل، قال الحافظ: رواه هكذا ابن السكن، وكذا هو في طرق الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم، قال الزركشي: وليس في الدين على هذه الرواية إلا النصب ( وقوله إلا غلبه: أي: غلبه الدين) بالرفع فالضمير المرفوع المستكن يرجع إليه ( وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه) أي: ولا يمكن القيام بكلها في كل وقت لأن الوقت لا يقبل عملين، وليس للإنسان في جوفه من قلبين ( والغدوة) بفتح الغين المعجمة المرة من ( سير أول النهار) الذي هو الغدو ( و) كذا ( الروحة) فهي المرة من سير ( آخر النهار) المسمى بالرواح ففي العبارة تجوّز وتسامح.
قال السيوطي: الغدو سير أول النهار، والغدوة أي بالفتح المرة منه، وبالضم ما بين صلاة الغدوة وطلوع الشمس اهـ ( والدلجة) السير ( آخر الليل) هذا قول بعض أهل اللغة، واقتصر في «مختصر القاموس» على أنه سير الليل كله، وقد بسط ذلك القاضي عياض فقال في «المشارق» : اختلف أرباب اللغة في هذا: أي: في أدلج بالتشديد والتخفيف وفي الإدلاج بسكون الدال وتشديدها مكسورة هل يستعمل ذلك كله في الليل كله أو بينها اختلاف؛ فقيل إن ذلك كله يستعمل في سير الليل كله والدلجة بفتح الدال وضمها سواء فيهما، وأنهما لغتان، وأكثرهم يقول ادّلج بتشديد الدال: سار آخر الليل، وأدلج بتخفيفها: الليل كله، يقال ساروا دلجة: أي: ساعة من الليل، والدلج بفتح اللام، والإدلاج بسكون الدال، والدلجة بفتح الدال: سير الليل كله، والإدلاج بتشديد الدال، والدلجة بضم الدال: سير آخره.
وفي الهجرة: فيدلج من عندهما سحراً اهـ.
( وهذا) أي: قوله استعينوا الخ ( استعارة) بأن شبه استعانة السالك في استعماله في سلوكه أوقات النشاط المقرّبة لوصوله لغاية سلوكه باستعانة المسافر السفر الحسي بسيره في هذه الأوقات التي تنشط فيها الدواب وتقطع فيها المسافات التي يقرب بقطعها من المقصد، ثم سرت الاستعارة منه إلى الفعل فهي استعارة مصرحة تبعية ( وتمثيل) بأن شبه ما يقع من السالك من الاستراحة وقتها والتعبد أوقات النشاط والفراغ بحلول المسافر تارة وارتحاله في أوقات النشاط أخرى في الوصول إلى المقصد، فالواو في كلامه بمعنى أو الاستعارة في الوجه الأخير للمجموع، ويحتمل أن يكون مراد المصنف أن ذلك استعارة تمثيلية، والله أعلم ( ومعناه: استعينوا على طاعة الله تعالى بالأعمال في وقت نشاطكم) هذا يرجع إلى الغدوة والروحة ( وفراغ قلوبكم) يرجع للدلجة ( بحيث تستلذون الطاعة) وإن كانت شاقة في ذاتها لمزيد النشاط وصفاء القلب مما يشغله عن استجلاء محاسن الطاعة ( ولا تسأمون) لنشاطكم وفراغ قلوبكم ( وتبلغون مقصودكم) من أداء العبودية حسب الطاقة ( كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات) لنشاط الدواب ببرد الهواء فيقطع فيها من المسافرة ما لا يقطعه في أطول منها من باقيالأوقات ( ويستريح هو ودابته في غيرها فيصل المقصود بلا تعب، والله أعلم) .


رقم الحديث 146 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي) زاد مسلم ( المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين) من سواريّ المسجد وكأنهما كانا معهودين بين المخاطبين، وعند مسلم «ساريتين» بالتنكير ( فقال: ما هذا الحبل) أي: ما سبب مده بهذا المكان ( قالوا) أي: الحاضرون ( هذا حبل لزينب) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: جزم كثير من الشارحين تبعاً للخطيب في «مبهماته» أنها بنت جحش ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحاً، ثم نقل ما قد يؤخذ منه ذلك فقال من جملته: وأخرجه أبو داود عن شيخين له، فقال عن أحدهما زينب بنت جحش، وعن الآخر حمنة بنت جحش، فهذه قرينة في كون زينب هي بنت جحش.
وروي أحمد عن أنس أنها حمنة بنت جحش، ولعل نسبه الحبل إليهما باعتبار أنه ملك لإحداهما والأخرى المتعلقة به.
قال: وقد تقدم أن كلاً من بنات جحش تدعي زينب فيما قيل، فالحبل لحمنة وأطلق عليها زينب باعتبار اسمها الآخر.
وعند ابن خزيمة في «صحيحه» «فقالوا الميمونة بنت الحارث» وهي رواية شاذة، وقيل: يحتمل تعدد القصة.
وزاد مسلم لزينب تصلي» ( فإذا فترت) بفتح الفوقية: أي: كسلت عن القيام في الصلاة، ووقع في مسلم: كسلت أو فترت بالشك ( تعلقت به، فقال النبي: «حلوه ليصلّ أحدكم نشاطه) بفتح النون ( فإذا فتر فليرقد.
متفق عليه)
قال الحافظ ابن حجر: فيه الحثّ على الاقتصاد في العبادةوالنهي عن التعمق فيها والأمر بالإقبال عليها بنشاط، وفيه إزالة المنكر باللسان واليد، وفيه جواز تنفل النساء في المسجد.


رقم الحديث 147 ( وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم) بفتح العين في الماضي وضمها وفتحها في المضارع وغلطوا من ضم عين الماضي، والنعاس: مقدمة النوم، وعلامته سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهم معناه ( وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم) في رواية النسائي فلينصرف، والمراد به التسليم من الصلاة بعد تمامها فرضاً كانت أو نفلاً، فالنعاس سبب للنوم وللأمر به ولا يقطع الصلاة بمجرد النعاس، وحمله المهلب على ظاهره فقال: إنما أمره بقطع الصلاة لغلبة النوم عليه، فدل على أنه إذا كان النعاس أقل من ذلك فلا قطع ( فإن أحد) أي: الواحد منكم إذا صلى وهو ناعس غاير بين لفظي النعاس فعبر أولاً بلفظ الماضي، وهنا بلفظ الوصف تنبيهاً على أنه لا يكفي وجود أدنى نعاس وتقضيه في الحال بل لا بد من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ.
فإن قلت: هل بين قوله: «نعس أحدكم وهو يصلي» وقوله: «صلى وهو ناعس» فرق؟ قلت: أجيب بأن الحال قيد في الكلام والقصد في الكلام ماله القيد، فالقصد في الأول غلبة النعاس لا الصلاة لأنه العلة في الأمر بالرقاد فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني صلاة لا النعاس لأنها العلة في الاستغفار فهي المقصود في التركيب، إذ تقدير الكلام: إذا صلى أحدكم وهو ناعس يستغفر ( لا يدري لعله يذهب يستغفر) أي: يقصد الاستغفار ( فيسبّ نفسه) أي: يدعو عليها، وهو بالرفع عطفاً على يستغفر، والنصب جواباً لـ «لعل» وجعل العارف با ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة إجابة، والترجي في لعل عائد على المصلى لا إلى المتكلم به: أي لا يدري أمستغفر أم ساب مترجياً للاستغفار وهو في الواقع بضد ذلك.
قال الطيبي: والنصب أولى لأن المغني لعله يطلب من الله الغفران لذنبه ليصير مزكى/ فيتكلم بما يجلب الذنب فيزيد العصيان على العصيان فكأنه سبّ نفسه.
قال: ومفعول لا يدري محذوف: أي: لا يدري ما يفعل وما بعده مستأنف بياني، والفاء في فيسبّ للسببية كالكلام فيـ فالتقطه آلفرعون ليكون لهم عدوّاً - ( متفق عليه) .
ورواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 148 ( وعن أبي عبد ا) ويقال أبو خالد ( جابربن سمرة) بضم الميم ابن جنادة ابن جندببن حجيربن رباببن حبيببن سواءة، بضم السين والمد، بن عامر ابن صعصعة ابن بكربن هوازنبن منصوربن عكرمةبن خصفةبن قيس عيلان بالمهملة ابن مضربن نزاربن معدّابن عدنان ( السوائي) هو وأبوه صحابيان ( رضي الله عنهما) روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بثلاثة وعشرين، توفي سنة ستّ وستين ( قال: كنت أصلي مع النبيّ الصلوات) .
وفي رواية لمسلم «وا لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ألفي صلاة» ( فكانت صلاته قصداً) أي: يأتي بمكملاتها ومسنونها من غير طول ولا قصر ( وخطبته) أي: للجمعة وغيرها ( قصدا) إذ هو لما أوتي من جوامع الكلم كان يجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة ولم يبالغ في الإيجاز لأنه بصدد البيان والمبالغة فيه تؤدي إلى خلاف ما هو بصدده غالباً ( رواه مسلم.
قوله قصداً: أي: بين الطول والقصر)
بكسر ففتح.


رقم الحديث 149 ( وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح المهملة وسكون التحية بعدها فاء ثم هاء( وهببن عبد ا) وقيل: ابن وهب السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد: نسبة إلى سواءة ابن عامربن صعصعة المذكور في نسب جابربن سمرة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة وأربعون حديثاً اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديثين ومسلم بثلاثة توفي النبي وأبو جحيفة صبيّ لم يبلغ الحلم، وكان عليبن أبي طالب يكرمه ويحبه ويثق به وجعله على بيت المال بالكوفة، نزل الكوفة ابتنى بها داراً، وتوفي بها سنة اثنتين وسبعين ( رضي الله عنه قال: آخى) بالمد والخاء المعجمة من المؤاخاة والمعاهدة على التناصر والقيام بحقوق الدين ( النبي بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء) عويمر الأنصاري لما آخى بين المهاجرين والأنصار، وذلك بعد قدومه المدينة بخمسة أشهر والمسجد يبنى كذا قيل.
وتعقب بأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد، وأول مشاهدة الخندق وأجيب بأن التاريخ المذكور هو ابتداء تاريخ الأخوة بين من ذكر، ثم كان يؤاخي بين من يأتي بعد ذلك وهلم جرا، وليس باللازم أن تقع المؤاخاة دفعة واحدة حتى يرد ما ذكر ( فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء) الكبرى واسمها خيرة بفتح المعجمة وسكون التحتية بنت حدرد صحابية بنت صحابي، ماتت قبل أبي الدرداء ( متبذلة) بفتح المثناة والموحدة وتشديد المعجمة: أي: لابسة ثياب البذلة بكسر الموحدة وسكون المعجمة: وهي المهنة وزناً ومعنىً، والمعنى: أنها تاركة للبس ثياب الزينة، وعند الكشميهني بتقديم الموحدة والتخفيف والمعنى واحد ( فقال لها: ما شأنك) زاد الترمذي في روايته: أم الدرداء متبذلة ( قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا) وفي رواية الدارقطني «في نساء الدنيا» وزاد فيه ابن خزيمة «يصوم النهار ويقوم الليل» ( فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً) على وجه القرى والكرامة فقال بعد أن قرب الطعام ( له) أي: لسلمان ( كل فإني صائم، قال) سلمان ( ما أنا بآكل) زاد الباء لتأكيد النفي ( حتى تأكل) وغرضه أن يصرف أبا الدرداء عن رأيه فيما يصنعه من جهد نفسه في العبادة وغير ذلك مما شكته إليه امرأته ( فأكل) إكراماً له فإفطاره لعذر فيثاب عليه ( فلما كان الليل) في رواية ابن خزيمة وغيره «ثم بات عنده/ فلماكان الليل» أي: أوله ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال له سلمان ( ثم فنام، ثم ذهب يقوم فقال نم، فلما كان من آخر الليل) أي: عند السحر وكذا هو في رواية ابن خزيمة.
وعند الترمذي «فلما كان عند الصبح» والدارقطني «فلما كان في وجه الصبح» ( قال سلمان: قم الآن، فصليا) في رواية الطبراني «فقاما فتوضأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة» ( فقال له سلمان) مرشداً إلى حكمة الاقتصاد وترك الغلوّ في العبادة ( إن لربك عليك حقاً) من العبادة ( وإن لنفسك عليك حقاً) من الطعام الذي تقوم به بنيتها والمنام الذي يحصل به صحتها ( ولأهلك) أي: زوجك ( عليك حقاً) هو إتيانها وقضاء وطرها، زاد الترمذي وابن خزيمة «ولضيفك عليك حقاً» زاد الدارقطني فصم وأفضل وصل ونم وأت أهلك» وذلك كالتفسير لقوله هنا ( فأعط كل ذي حق حقه لي) أي: أبو الدرداء ( النبي، فذكر ذلك له) في رواية الترمذي «فأتيا بالتثنية» وعند الدارقطني «ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي بالذي قال له سلمان، فقال له: يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقاً» مثل ما قال سلمان، ففي هذه الرواية أن النبي أشار إليهما بأنه علم بطريق الوحي ما جرى بينهما، فيحتمل الجمع بأنه كاشفهما بذلك أولاً ثم أطلعه أبو الدرداء على صورة الحال ( فقال النبي: صدق سلمان) وعند الطبراني مرسلاً قال: «كان أبو الدرداء يحيي ليلة الجمعة ويصوم يومها، فأتاه سلمان» فذكر القصة مختصرة وزاد في آخرها فقال النبي: «عويمر.
سلمان أفقه منك» اهـ.
وعويمر هو اسم أبي الدرداء.
وفي رواية لأبي نعيم «فقال النبيّ: «لقد أوتي سلمان علماً» .
قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر ما شرحنا به الحديث ملخصاً: وفي الحديث من الفوائد مشروعية المؤاخاة فيالله، وزيارة الإخوان فيه والمبيت عندهم، وجواز مخاطبة الأجنبية للحاجة، والنصح للمسلم وتنبيه من غفل، وفيه فضل قيام آخر الليل، وفيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور.
والوعيد الوارد فيمن نهى مصلياً عن الصلاة مخصوص بمن نهاه ظلماً وعدواناً، وفيه كراهية الحمل على النفس في العبادة، وفيه جواز الفطر من صوم التطوع.
ثم أطال الحافظ في بيان الخلاف فيذلك وفي لزوم القضاء ( رواه البخاري) وغيره ممن تقدمت الإشارة إليه.


رقم الحديث 150 (وعن أبي محمد عبد ابن عمروبن العاص) قال المصنف: أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه بحذف الياء وهو لغة، والصحيح الفصيح إثباتها، ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها اهـ.
وفي «شرح المشكاة للقاري» : الأصح عدم ثبوت الياء إما تخفيفاً أو بناء على أنه أجوف ويدل عليه ما في «القاموس» : الأعياص من قريش أولاد أمية بن عبد شمس: العاص وأبو العاص وأبو العيص اهـ.
فعليه لا يجوز كتابة العاص ولا قراءته بالياء لا وصلاً ولا وقفاً، إذ هو معتل العين خلاف ما يتوهمه بعض الناس من أنه اسم فاعل من عصى فيجوز إثباتها وحذفها وصلاً ووقفاء بناء على أنه معتل اللام اهـ (رضي الله تعالى عنهما قال: أخبر) بالبناء للمفعول (النبي إني أقول: وا لأصومنّ النهار) أي: كل نهار قابل للصوم ليخرج يوم العيد وأيام التشريق (ولأقومنّ الليل) أي: جميعه (ما) مصدرية ظرفية (عشت) أي: مدة عيشتي: أي حياتي (فقال رسول الله) أي: لي (أنت الذي تقول ذلك؟) أي: أأنت بتقدير همزة الاستفهام التقريري والمشار إليه قوله لأصومن الخ (فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي) أي: مفدي بهما (يا رسول الله: قال: فإنك لا تستطيع ذلك) .
قال الحافظ العسقلاني: يحتمل أن يريد لا تطيقه في الحالة الراهنة لما علمه من أنه يتكلف ذلك ويدخل به على نفسه المشقة ويقوته به ما هو أهم منه، ويحتمل أنه يريد لا تطيقه في المستقبل لما سيأتي أنه بعد أن كبر وعجز قال: يا ليتني قبلت رخصة النبي، فكره أن يوظف على نفسه شيئاً من العبادة ثم يعجز عنه فيتركه لما تقرّر من ذم ذلك (فصم وأفطر ونم وقم) لتقوى بالفطر والنوم على الصوم والقيام ولذا كان الأفضل صيام داود وقيامهالآتيان (وصم من الشهر ثلاثة أيام) هذا تفصيل لما أجمله في قوله فصم وأفطر: أي: فصيام الثلاث من الشهر كصيامه (فإن الحسنة بعشر أمثالها) هذا أقل درجات المضاعفة، وتضعيف الحسنات من خصائص هذه الأمة نبه عليه القرافي، وظاهر الحديث أن ذلك يحصل بصيام: أي: ثلاثة كانت من الشهر، وقد اختلفت الأخبار في أفضلها (وذلك) أي: صيام الثلاث من كل شهر لكون الحسنة بعشر أمثالها (مثل صيام الدهر) في أصل الثواب لا فيه مع المضاعفة المرتبة على صيامه بالفعل لئلا يلزم مساواة ثواب الأقل من الأعمال للأكثر منها مع التساوي في سائر الأوصاف، وقواعد الشرع تأباه.
قال في «فتح الباري» : ومع ذلك فيصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً (قلت: إني أطيق) عملاً (أفضل من ذلك) أي: أكثر ثواباً من صوم ثلاث أيام وهو الزيادة في الصوم المرتب عليها الزيادة في الثواب لما عندي من القوى وفي مسلم عنه «إني لأقوى من ذلك» وعند مسلم «إن بي قوة» وعنده أيضاً «إني أجدني أقوى من ذلك» (قال: فصم يوماً وأفطر يومين) قال القلقشندي: وقع في بعض طرق الحديث زيادة قبل هذا وهي «فصم من كل شهر ثلاثة أيام» وهي على شرط مسلم وفي بعض طرقه عند الشيخين «أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قلت يا رسولالله، قال خمساً، قلت يا رسول الله قال سبعاً، قلت يا رسولالله، قال تسعاً، قلت يا رسولالله، قال أحد عشر، قلت يا رسولالله، فقال النبي: لا صوم فوق صوم داود شطر الدهر صيام يوم إفطار يوم» فهذا يدل على أن الزيادة وقعت بالتدريج فذكر بعض الرواة ما لم يذكره الآخر (قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام وهو أعدل الصيام) لأن النفس تكتسب في يوم الفطر من القوي ما يجبر به ما لحقها من وهن الصوم فتدوم على العمل، ولفظ أعدل لمسلم (وفي رواية) للبخاري (وهو أفضل الصيام) أي: صيام التطوّع فهو أفضل من صوم الدهر كما قاله المتولي وغيره خلافاً لما أفتى به ابن عبد السلام، والسرّ في ذلك أن صوم الدهر قد يفوت به حق مفروض فيكون حراماً، أو مندوب آكد من الصيام فيكون مكروهاً، وقد لا يفوت به شيء من ذلك فيباح لأنهقد لا يشق الاعتياد بخلاف صوم يوم وفطر يوم.
قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : إن قلت إذا صادف فطره يوم الإثنين أو الخميس وكانت عادته صومهما هل يحصل له فضيلة صومهما؟ قلت: الظاهر حصولها لأن عدوله إلى صوم داود إنما كان لعذر وهو طلب الأفضلية فهي تجبر ما فات بالإفطار.
(قلت: فإني أطيق أفضل من ذلك، فقال رسول الله: لا أفضل من ذلك) هو لعبد الله وغيره على قول المتولي لما تقدم.
وعلى قول آخرين إنّ سرد الصوم أفضل منه، فهو محمول على أن المراد لا أفضل منه في حق عبد ابن عمرو لما علمه من حاله ضعفه في مآله، واستدل له بأن النبيّ لم ينه حمزةبن عمرو عن سرد الصوم ويرشده إلى صوم يوم وفطر يوم، ولو كان أفضل في حق كل الناس لأرشده إليه وبينه له، إذ التأخير للبيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
وقال الحافظ ابن حجر: قوله: «لا أفضل من ذلك» ليس فيه نفي المساواة صريحاً، لكن قوله في حديث عبد ابن عمرو عند البخاري «أحبّ الصيام إلى الله صيام داود» يقتضي ثبوت الأفضلية المطلقة.
ورواه الترمذي عن ابن عمرو بلفظ «أفضل الصيام صيام داود» وكذا رواه مسلم ومقتضاه أن تكون الزيادة على ذلك من الصوم مفضولة (قال عبد ا) بعد كبره ومشقة ما سأل الإزدياد فيه من النبي حتى زادة حين كاد أن يعجز عنه ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه فتمنى الأخذ بالرخصة والأخف فقال (و) الله (لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام) بالنصب عطف بيان على الثلاثة أو بدل والجر فيه ضعيف نحو الثلاثة الأثواب (التي قال رسول الله) أي: أشار أولاً بها وبالاقتصار عليها إبقاء على النفس (أحب إلي من أهلي ومالي) قال في «فتح الباري» : ومع عجزه وتمنية الأخذ بالرخصة لم يترك العمل بما التزمه، بل صار يتعاطى فيه نوع تخفيف كما في رواية ابن خزيمة من طريق حصين، فكان عبد الله حين ضعف وكبر يصوم تلك الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ثم يفطر بعدد تلك الأيام ليقوى بذلك، وكان يقول: لأن أكون قبلت الرخصة أحبّ إليّ مما عدل به، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره.
وقوله: «ولأن أكون» الخ رواه مسلم (وفي رواية) للبخاري (ألم أخبر أنك تصوم النهار) أي: كل يوم قابل للصوم فأل فيه للاستغراق (وتقوم الليل) أي: كل الليل على الدوام(قلت: بلى يا رسول الله) سيأتي في مسلم: ولم أرد بذلك إلى الخير (قال) تنبيهاً على طريق الرفق والسداد (لا تفعل لما في ذلك من كمال المشقة المفضي بثقل الطاعة على النفس ونفرتها منه وربما ملتها فانقطعت عنها بخلاف الرفق فإنه يدوم به الأمر، ويحسن به الشأن (صم وأفطر ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا) قال المهلب: حق الجسد أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل إذ إجهاد النفس في العبادة قاطع لها عن الدوام كما تقدم «ولن يشادّ الدين إلا غلبه» (وإن لعينك) هذه رواية الكشميهني بالإفراد وعند غيره لعينيك بالتثنية (عليك حقاً) وهو النوم قدر ما ينكسر به سورة السهر (وإن لزوجك عليك حقاً) حق الأهل أن يبقى في نفسه قوّة يمكن معها الجماع، فإنه حق للمرأة تطالب به عند بعض العلماء، وإذا عجز عن ذلك بالعنة وضربت المدة ولم يأتها جاز لها الفسخ (وإن لزورك) أي: ضيفك (عليك حقاً) وحقه خدمته وتأنيسه بالأكل معه، والزور الضيف والرجل يأتيه زائراً والواحد والإنثان والثلاثة، المذكر والمؤنث فيه بلفظ واحد لأنه مصدر وضع موضع الأسماء مثل قوم صوم، ويحتمل أن يكون جمع زائر كركب وراكب (وإن بحسبك) الباء زائدة والسين ساكنة أي كافيك (أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام) وللكشميهني في كل شهر (فإذا) بتنوين الذال وهي التي يجاب بها وإن وكذا لو صريحاً أو تقديراً وإن هنا مقدرة كأنه قيل إن صمتها فإذاً (ذلك صوم الدهر) مثل أصل ثواب صومه كما تقدم وروي بغير تنوين وهي للمفاجأة.
قال الحافظ في «فتح الباري» : وفي توجيهها هنا تكلف.
قال الشيخ زكريا: والتقدير إن صمت ثلاثة أيام من كل شهر فاجأك عشر أمثالها (فشددت) على نفسي في عدم قبول هذه الرخصة (فشدد) بالبناء للمفعول (عليّ) في زيادة العمل، ثم بين ذلك بقوله: (قلت يا رسول الله إني أجد قوّة) تحتمل الزيادة على صوم الثلاثة في كل شهر (قال: صم صيام داود) عليه السلام (ولا تزد عليه) لعظم فضله (قلت: وما كان صيام داود) ما خبر كان مقدم عليها لأنه لكونه اسم استفهام له الصدارة (قال: نصف الدهر) أي: على سبيل التقريب وإلا فيوما العيد وأيام التشريق زائدة في عدد أيام الفطر على عدد أيام الصوم (فكان عبد الله يقول بعدما كبر) بكسر الموحدة: أي: في السنّ وشقّ عليه ثقل العمل ولم يتمكن من تركه لما تقدم (يا) قوم وقيل: إن «يا» للتنبيه (قبلت رخصة النبي) بالتخفيف يصوم الثلاث.
(وفي رواية) لمسلم (ألم أخبر) بالبناء للمفعول (أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن) أي: تختم المجتمع منذ حينئذٍ (في كل ليلة، فقلت: بلى يا رسول الله) أي: أنا أفعل ذلك الذي أخبرت به، وليس المراد إثبات أنه أخبر بذلك (ولم أرد بذلك) أي: بصيامي المتتابع وقيامي (إلا الخير) أي: إما ثواب الله تعالى وإما أداء عبوديته والقيام بما يجب لربوبيته (قال) وفي نسخة قيل: «فصم صوم داود زيادة» بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً ولجسدك عليك حقاً، قال: (فصم صوم داود فإنه كان أعبد الناس) أي: غير النبي؛ إذ المتكلم لا يدخل في عموم كلامه ولا يلزم من ذلك أن يكون أفضلهم بعد النبي، لأن التفضيل بأعلى المراتب وأعلى المنازل موهبة من الله تعالى: { يختص برحمته من يشاء} (آل عمران: 74) وحذف لمصنف ما أوردناه من الحديث وهو عند مسلم اكتفاء بما قدمه (واقرأ القرآن) أي: اختم متهجداً به (في) ليالي (كل شهر، قلت: با نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) أي: المذكور من الصوم للثلاثة الأيام والقراءة في الشهر (قال: فاقرأه في عشرين) ليلة قال: (قلت يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في عشر) أي: من الليالي (قال قلت: يا نبيّ الله إني أطيق أفضل من ذلك) وفي نسخة: أكثر من ذلك (قال: فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك) سيأتي في كتاب الفضائل الخلاف في بيان مدة الختم للقرآن واختلاف ذلك بحسب الأحوال، وأن هذا محمول على حال من كان له بعض الاشتغال بحيث يمنعه عن الإكثار من التلاوة أو من التأمل في معانيها عند الإكثار منها (فشددت) بطلب الزيادة(فشدد عليّ) بها (وقال لي النبي) من باب الإخبار بالمغيبات مما يئول إليه حاله من العجز والضعف (إنك لا تدري لعلك يطول بك عمرك) فتعجز عن القيام بمشاق العبادات ولعل معلقة لتدري عن مفعوليه (قال) ابن عمرو (فصرت إلى الذي قال لي النبيّ) أي: من قوله: «لعلك يطول عمرك» وذلك من معجزاته (فلما كبرت) بكسر الموحدة (وددت) بكسر الدال المهملة (أني كنت قبلت رخصة) تخفيف (النبي) في كل من الصيام والقيام.
(وفي رواية) أي: لمسلم (وإن لولدك) بفتحتين مفرداً وبضم فسكون جمعاً (عليك حقاً) أن تكتسب لهم وتنفق عليهم.
(وفي رواية) لهما أنه قال له (لا صام من صام الأبد) يحتمل أن يكون على وجه الدعاء، وقيل: إنه محمول على حقيقته أي بأن صام جميع أيام السنة ولم يفطر أيام العيد والتشريق/ وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها واختاره ابن المنذر وآخرون، لكن تعقب بأنه يدل على أنه ما أجر ولا أثم، وصائم تلك الأيام لا يقال فيه ذلك، والأظهر كما قال بعض شراح مسلم أنه محمول على من تضرّر به، ويؤيده أن النهي لعبد ابن عمرو وقد عجز في آخر عمره كما تقدم، فنهى ابن عمرو لعلمه بحاله في مآله، ولذا أقرّ حمزةبن عمرو الأسلمي على صيام الدهر لعلمه بقدرته بلا ضرر.
وقيل: إنه إخبار بأنه ما صام: أي ما وجد من مشقته ما يجدها غيره، وتعقبه الطيبي بأنه مخالف لسياق الحديث، ألا تراه كيف نهاه أولاً عن صيام الدهر ثم حثه على صيام ثلاثة أيام من كل شهر ثم حثه على صيام داود؟ والأولى أن يكون خبراً عمن لم يتمثل أمر الشرع (قاله) أي: هذا اللفظ وكرره (ثلاثاً) تنفيراً لابن عمرو من صوم الدهر لعلمه بمآله.
(وفي رواية) لهما أيضاً، ورواه أحمد أيضاً (أحبّ الصيام إلى الله تعالى) أي: أكثر ما يكون محبوباً، واستعمال أحبّ بمعنى محبوب قليل، لأن الأكثر في أفعل التفضيل أن يكون من فعل الفاعل، ونسبة المحبة في الصيام والصلاة إلى الله تعالى على معنى إرادة الخير لفاعلهما أو كثرة الثواب فيهما (صيام داود وأحبّ الصلاة إلى الله صلاة داود) أي: أحبّ أوقات القيام للصلاة وقت صلاة داود لما جاء في الحديث الآخر «وأحبّ القيام قيام داود» (كان ينام نصف الليل) ليستريحالبدن من تعب أعمال النهار (ويقوم ثلثه) بضمتين: وهو الوقت الذي يتجلى فيه الربّ سبحانه ويقول: «هل من سائل هل من مستغفر» (وينام سدسه) بضمتين، ونومه ليستريح من نصب القيام وبما ذكر يعلم أن مراد البيضاوي من قوله في سورة (ص) وكان يعني داود يقوم نصف الليل اهـ بيان وقت ابتداء يقظته لامدتها (وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ليجبر بالغذاء فيه الضعف الحاصل من الصوم قبله، وإنما كان هذا أحبّ لأنه أخذ بالرفق على النفوس التي تخشى منها السآمة التي هي سبب ترك العبادة وا يحبّ أن يوالي فضله ويديم إحسانه، ولأن فيه إبقاء لقوى النفس التي تستعين بها على أداء العبادات ومجاهدة الكفار، ولذا قال (وكان لا يفرّ إذا لاقى) العدوّ في الحرب لقوة نفسه بما أبقى فيها.
وزاد النسائي «وإذا وعد لم يخلف» ولم يرها الحافظ العسقلاني لغيره ومناسبتها بالمقام الإشارة إلى أن سبب النهي خشية أن يعجز عن الذي التزمه فيكون كمن وعد وأخلف.
(وفي رواية) هي للبخاري في «التفسير» «أنكحني أبي امرأة ذات حسب» بفتح المهملتين بعدهما موحدة وهو الشرف بالآباء وما يعده الإنسان من مفاخرهم.
وقيل الحسب: الفعل الحسن للرجل ولآبائه (وكان يتعاهد كنته) قال القاضي عياض في «المشارق» : بفتح الكاف (أي امرأة ولده) هذا بيان للمراد بالكنة في هذا الحديث، وأما هي لغة فامرأة ابن الرجل وامرأة أخيه (فيسألها عن بعلها) بفتح الموحدة وسكون المهملة زوجها (فتقول له) شاكية في معرض الثناء والشكر (نعم الرجل) أي: هو فالمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما قبله عليه (من) بيانية (رجل لم يطأ لنا فراشاً) كناية عن المضاجعة والنوم معها على الفراش (ولم يفتش لنا كنفاً) أي: لم يكشف لنا ستراً عبرت لذلك عن امتناعه عن الجماع.. قال ابن النحوي: وبخط الدمياطي لم يدخل يده معها كما يدخل الرجل يده مع زوجته داخل إزارها؛ قال وأكثر ما يروى بفتح أوليه، من الكنف وهو الجانب تعني أنه لم يقربها (منذ أتيناه/ فلما طال ذلك عليه) أي: على أبيه (ذكر ذلك للنبي) يحتمل أن يكون سكوته عن ذلك أول ما ذكرته له لأنه رآها راضية بذلك، فلما كرر عليها السؤال تخوّف أن يتعلق بولده فيكون عليها حتى تذكره (فقال القني) بفتحالقاف أمر من لقي (به فلقيته بعد ذلك) الأمر.
قال في «فتح الباري» : زاد النسائي وابن خزيمة وغيرهما من طريق أخرى عن مجاهد: أي: عن عبد ابن عمرو «فوقع على أبي فقال: زوجتك امرأة فعضلتها وفعلت وفعلت؛ قال: فلم ألتفت إلى ذلك لما كانت لي من القوة، فذكر للنبي فقال القني معه» .
وفي رواية لأحمد من الوجه «ثم انطلق إلى النبيّ فشكاني» وعند البخاري من طريق أبي المليح عن ابن عمرو قال: «ذكر للنبي صومي، فدخل عليّ فألقيت له وسادة» وعند البخاري أيضاً عن ابن عمرو «بلغ النبي أني أسرد الصوم وأصلي الليل فإما أرسل إليّ وإما لقيته.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأن تكون توجه بأبيه إلى النبي فكلمه من غير أن يستوعب ما يريد في ذلك ثم أتاه إلى بيته زيادة في التأكيد (فقال) النبي (لي كيف تصوم؟ قلت: كل يوم، قال: وكيف تختم؟ قلت: كل ليلة، وذكر نحو ما سبق، وكان) عبد الله بعد كبره (يقرأ على بعض أهله السبع) بضم أوليه (الذي يقرؤه بالليل) أي: يريد قراءته به (يعرضه) بكسر الراء (من النهار ليكون) لقرب عهده به (أخف) قراءة (عليه بـ) ـصلاة (الليل) كان (إذا أراد أن التقوّي أفطر أياماً وأحصى) أي عدّ ما أفطر وهو خمسة عشر يوماً متوالية (وصام) أياماً (مثلهن) في العدد (كذلك) أي: متوالية (كراهة أن يترك شيئاً فارق عليه) أي: على الالتزام بالقيام به (النبي كل هذه الروايات) في حديث ابن عمروبن العاص (صحيحة معظمها في الصحيحين وقليل منها في أحدهما) وتقدمت الإشارة إلى البيان في ذلك.


رقم الحديث 151 ( وعن أبي ربعى) بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر المهملة وشد التحتية( حنظلةبن الربيع) وقيل: ربيعة والأول أكثر ابن ضبعيبن رباحبن الحارثبن مخاشنبن معاويةبن شريفبن جروةبن أسيدبن عمروبن تميم التميمي ( الأسيدي) بضم الهمزة ( الكاتب) قيل له ذلك لأنه ( أحد كتاب رسول الله) وذكرهم ابن سيد الناس اليعمري في سيرته فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعامربن فهيرة وخالد وأبان ابنا سعيدبن العاصبن أبي أجيحة، وذكر شيخنا أبو محمد الدمياطي أخاهما سعيداً وعبد ابن الأرقم الزهري وحنظلةبن الربيع الأسيدي وأبيبن كعب: وهو من كتب له من الأنصار وثابتبن قيسبن شماس وزيدبن ثابت وشرحبيلبن حسنة ومعاويةبن أبي سفيان والمغيرةبن شعبة وعبد ابن زيد وجريمبن الصلت والزبيربن العوام وخالدبن الوليد والعلاءبن الخضرمي وعمروبن العاص وعبد ابن رواحة ومحمدبن سلمة وعبد ابن عبد ابن أبي ومعيقيببن أبي فاطمة وعبد ابن سعدبن سرح العامري، وهو أول من كتب له من قريش ثم ارتد فنزلت فيه { ومن أظلم فمن افترى على الله كذباً} ( الأنعام: 21) قلت: ثم أسلم يوم الفتح ولم ينقم عليه شيء بعد إسلامه، ومات ساجداً، وذكر في كتابه أيضاً طلحة ويزيدبن أبي سفيان والأرقمبن أبي الأرقم والزهري والعلاءبن عقبة وأبا أيوب الأنصاري وخالدبن زيد وبريدةبن الحصيب والحصينبن نمير وأبا سلمة المخزومي وعبد ابن عبد الأسد وحويطببن عبد العزى وأبا سفيانبن حرب وحاطببن عمرو.
وروينا من طريق أبي داود عن ابن عباس قال: السجيل كانت لرسول الله.
وذكر ابن دحية فيهم رجلاً من بني النجار غير مسمى قال: كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تنصر، فلما مات لم تقبله الأرض انتهى كلام ابن سيد الناس ملخصاً.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحنظلة إلى أهل الطائف أتريدون الصلح أم لا؟ فلما توجه إليهم قال: ائتموا بهذا وأشباهه، ثم انتقل إلى قرقسا فمات بها.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، تفرد به مسلم عن البخاري وأخرج له هذا الحديث ( قال لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة) أي: خاف على نفسه النفاق لماكان يحصل له من الخوف في مجلس النبي ويظهر عليه فتح كمال المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج واشتغل بما سيأتي ذهب عنه ذلك، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشرّ ( قال) على وجه التعجب مما قلت: ( سبحان ا) أي: تنزيهاً ( ما تقول) أي: تأمله وانظر فيه وما استفهامية مفعول مقدم لتقول ( قلت) أي في بيان سبب قولي نافق حنظلة ( نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنا) نراهما ( رأى عين) كذا قال القرطبي إنه قيده بالنصب، وقال القاضي: ضبطناه بالرفع: أي كانا ذوو رأي عين: أي بحال من يراهما، قال: ويصح النصب على المصدر ( فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا) سيأتي ضبطه ومعناه مارسنا ( الأزواج والأولاد والضيعات) جمع ضيعة بالضاد المعجمة: وهو معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة ( فنسينا كثيراً) أي: إذا خرجنا واشتغلنا بهذه الأمور ذهب منا ذلك الحال الذي كان ونحن عند النبي وسماع موعظته ومشاهدته ( قال أبو بكر رضي الله عنه: فوا إنا لنلقي مثل هذا) .
قال القرطبي: في هذا رد على من زعم دوام مثل ذلك الحال ولا يعرجون بسببها على أهل ولا مال.
ووجه الردّ أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدع خروجه عن جبلة البشر، ولا ما هو من خاصة الملك من تعاطى دوام الذكر وعدم الفترة.
قال: وعلى الجملة فسنة الله في هذا العالم الإنسان جعل تمكينهم في قلوبهم ومشاهدتهم في مكابدتهم.
وسرّ ذلك أن هذا العالم متوسط بين عالمي الملائكة والشياطين، فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون و «يسبحون الليل والنهار لا يفترون» ، ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يفعلون ما يؤمرون، وجعل هذا العالم الإنساني متلوّناً فيمكنه ويلونه ويغنيه ويبقيه ويشهده ويفقده وإليه أشار صاحب الشفاعة بقوله: «ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» وقال في حديث أبي ذرّ «وعلى العاقل أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من مطعم ومشرب» هكذا الكمال وما عداه ترّهات وخيال.
والله أعلم ( فانطلقت أنا وأبو بكر) سائرين ( حتى دخلنا على رسول الله؛ فقلت: نافق حنظلة يا رسولالله، فقال: وما ذاك؟) أي: الذي نافق به.
( قلت: يا رسول الله إنا نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة فكأنارأي عين) أي فيحصل لنا من ذلك كمال الخوف والمراقبة والتفكر في المآل والإقبال على الآخرة ( فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً) أي فيذهب عنا غالب تلك الأحوال السنية، فخشي حنظلة أن يكون اختلاف هذا الحال من النفاق؛ فأعلمه النبي أنه ليس مكلفاً بالدوام على الحال الذي يكون عليه عنده، وأن ذلك الاختلاف ليس نفاقاً ( فقال رسول الله: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي) من المراقبة والتفكير في المآل والإقبال على الله تعالى ( وفي الذكر) .
قال القرطبي: هكذا صحت الرواية بالواو العاطفة للظرف الثاني على الظرف الأول، فيفيد أن مصاحفة الملائكة المذكورة في قوله: ( لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم) موقوفة على حصول حالتين لنا على حال مشاهدة الجنة والنار مع ذكر الله تعالى ودوام ذلك، فيعنيـ والله أعلم - أن التمكن إنما هو أن يشاهد الأمور كلها با، فإذا شاهد الجنة مثلاً لم يحجبه ما شاهد من نعيمها وحسنها عن رؤية الله تعالى؛ بل لا يلتفت إليها من حيث هي جنة، بل من حيث إنها هي محل القرب من الله تعالى ومحل رؤيته ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه وعطاؤه في منعه، ومن كان هكذا ناسب الملائكة في معرفتها فبادرت إلى إكرامه ومشافهته وإعظامه ومصافحته.
والمسئول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال ( ولكن يا حنظلة ساعة) أي لأداء العبودية ( وساعة) للقيام بما يحتاجه الإنسان قاله ( ثلاث مرات) وكرره للتأكيد ودفع ما وقع في نفسه أن ذلك من النفاق ( رواه مسلم) .
قال البخاري في كتاب «الإخبار بفوائد الأخبار» : حال العبد هو مقامه في سرّه وشهوده بقلبه وصفته ومعناه، وما كان ذلك فإنها تكون لازمة له لا ينتقل عنها في حال ولا يزول عنها بمعنى، وأما كونهم عند النبي على ما كانوا عليه فإن تلك مواجيد، والمواجيد تجيء وتذهب، لأنها عوارض تثبت في الأسرار من خارج.
قال بعض العارفين الكبار: الوجد مقرون بالزوال والمعرفة ثابتة لا تزول، قال: فالحال الذي يجدونه في أسرارهم، عند كونهم عنده خلاف المعهود، ثم يزول عنهم إذا رجعوا من عنده فكأن الذي يجدونهعنده هو سلطان الحق وقوة سرّ النبي ألا ترى إلى قول أنس رضي الله عنه: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنكرنا قلوبنا، وذلك لأن سلطان النبوّة زال عنهم، وهو كان يقهر الأعداء ويجذب الأولياء، فمن قهره للأعداء قصته مع أبي جهل في أمره بالوفاء بثمن الجمال لصاحبها فوفاه بها في حضرته، والذي يجده أصحاب النبيّ عنده جذب الحق وقوة سرّ النبي وسلطانه كان يصرفهم عن الأشياء ويأخذهم عنها ويجذبهم منها من غير أن يكون ذلك حالة لهم، فإذا خرجوا من عنده رجعوا إلى أحوالهم من النظر إلى الأولاد والشغل بالأموال، فأخبرهم أن الذي يجدونه عنده لو كان حالهم ومقامهم لصافحتهم الملائكة، ولم تصافحهم وهم عنده لأنها لم تكن حالهم، ولكنها كانت حالة سلطان الحق، ولو كان الذي يجدونه حالهم لكانت ثابتة لهم، لأنها لو كانت حالهم لكانت موهبة لهم من الله تعالى عزّ وجل والكريم لا يعود في هبته ولا يسلب كرامته اهـ ( قوله) في الكنية أبي ( ربعي هو بكسر الراء) أي المهملة وتقدم ضبط باقي حروفه ( والأسيدي) المذكور في نسب حنظلة ضبطوه بوجهين.
قال المصنف: في «شرح مسلم» أصحهما وأشهرهما ( بضم الهمزة وفتح السين) المهملة ( وبعدها ياء) تحتية ( مشددة مكسورة) والثاني كذلك إلا أنه بإسكان التحتية، ولم يذكر القاضي عياض إلا هذا وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من تميم.
وفي كتاب «تقييد المهمل» لأبي علي الحياني: الأسيدي بضم الهمزة وفتح السين وتخفيف الياء الأولى وقد شددها قوم، يقال ذلك لكل من ينسب إلى أسيدبن عمروبن تميم، ومنهم حنظلةبن الربيع الأسيدي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرف بالكاتب اهـ ( قوله عافسنا هو بالعين والسين المهملتين) وقيل السين فاء.
قال الهروي: وغيره معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، كذلك في «شرح مسلم» ، وقريب منه قوله هنا ( عالجنا) أي الضيعات ( ولاعبنا) أي: الأولاد والزوجات ففيه لفّ ونشر مشوّش، وهذا أنسب برواية الخطابي.
فإنه روى هذا الحرف «عانسنا» بالنون بدل الفاء وفسره بلاعبنا وكأن المصنف إنما فسره بذلك لأنه جاء عن حنظلة في رواية في مسلم فقال بدل عافسنا الخ ضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، فأراد تفسير الروايات بالروايات ورواه القتيبي عانشنا بالنون والشين المعجمة وفسره بعانقنا، والأول المذكور في الأصل.
قال المصنف: هوالمعروف وهو أعمّ ( والضيعات) بالضاد المعجمة وسكون التحتية أسباب ( المعاش) من حرفة ونحوها كما تقدم، سميت بذلك لأنها تحفظ صاحبها من الضياع.