فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الصبر

رقم الحديث 25 ( وعن أبي مالك الحارثبن عاصم) هذا أحد أقوال عشرة في اسمه، وقيل: كعب ابن عاصم وقيل كعببن كعب، وقيل عبيد، وقيل عبيد الله، وقيل عمرو.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في «أمالي الأذكار» : التحقيق أن أبا مالك الأشعري ثلاثة: الحارثبن الحارث وكعبابن عاصم وهما مشهوران باسمهما.
والثالث هو المختلف في اسمه، وأكثر ما يرد في الروايات بكنيته وهو راوي الحديث اهـ ( الأشعري) نسبة إلى الأشعر: قبيلة مشهورة من اليمن، والأشعر هو ثبتبن أددبن زيدبن يشجب، وقيل: له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه.
قدم أبو مالك ( رضي الله عنه) مع الأشعريين على النبي ويعد في «الشاميين» ، توفي في خلاقة عمر بالطاعون، وطعن هو ومعاذ وأبو عبيدة وشرحبيل ابن عتبة في يوم أحد، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعة وعشرون حديثاً روى عنه مسلم حديثين: هذا الحديث وبدأ به كتاب الطهارة من صحيحه، وحديث «أربع في أمتي من أمر الجاهلية» وروى له البخاري على الشك فقال: عن أبي مالك أو أبي عامر، وروى عنه أصحاب السنن الأربع ( قال: قال رسول الله: الطهور) قال المصنف: بالضم على المختار وهو قول الأكثر اهـ.
والمراد به بالضم الفعل: وبالفتح الاسم، كالسحور بالفتح اسم لما يتسحر به.
وقال الخليل والأزهري: بالفتح فيهما، بل أنكر الخليل الضم، وحكى صاحب «المطالع» الضم فيهما.
وقال القرطبي: إنما روي بالفتح إما على قول الخليل أو على تقدير مضاف: أي استعمال الطهور.
واشتقاقه من الطهارة، وهي لغة النظافة حسية كانت أو معنوية.
قال جماعة من أهل اللغة: هي حقيقة في الصورية مجاز في المعنوية، وقيل يمكن أن يقال: إنها حقيقة في القدر المشترك لرجحانه على المجاز والاشتراك.
وشرعاً: فعل ما يترتب عليه إباحة أو ثواب مجرد ( شطر) أي نصف( الإيمان) أن ينتهي تضعيف أجره إلى نصف أجر الإيمان فالمراد بالإيمان حقيقته.
واعترض بأن الصلاة أفضل من الوضوء ولم يرد فيها ذلك.
وأجيب بالتزامه وإن لم يرد، ومفهوم الاسم ضعيف، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة مثل ( { وما كان الله ليضيع إيمانكم} ) ( البقرة: 143) وهي لا تصح إلا بطهر فكان كالشطر، ورجحه المصنف بأنه أقرب الأقوال، وأيده بعض محققي المتأخرين.
وأجاب عما اعترض به عليه بكلام ذكرته في «شرح الأذكار» ( والحمد) أي: هذه الجملة بخصوصها لأنها أفضل صيغ الحمد، ولذا بدىء بها الكتاب الغزيز أو هي وما يؤدي مؤداها من الثناء على الله سبحانه وتعالى بصفات كماله، ورجح بعضهم الأخير ( تملأ) بالفوقية: أي هذه الكلمة بالمعنى اللغوي أو الجملة لو جسمت، أو بالتحتية: أي يملأ هذا المبنى وكذا ما أفاد مفاده لو كان جسماً ( الميزان) باعتبار ثواب التلفظ بذلك مع استحضار معناه: أي الثناء على الله بالجميل الاختياري والإذعان له، والميزان المراد منه حقيقته أي ما توزن به الأعمال: إما بأن تجسم أو توزن صحائفها فتطيش بالسيئة وتثقل بالحسنة؛ وإنما ملأ ثواب هذه الجملة كفة الميزان مع سعتها المفرطة لأن معاني الباقيات الصالحات في ضمنها، ذكره العلائي في الجزء الذي ألفه في شرح هذا الحديث ولذلك قال رضي الله عنه: لو شئت أن أوقر بعيراً منها لفعلت، وذلك لأن الثناء تارة يكون بإثبات الكمال/ وتارة بنفي النقص، وتارة بالاعتراف بالعجز عن الإدراك، وتارة بالتفرد بأعلى المراتب، والألف واللام في الحمد لاستغراق جنس المدح والحمد مما علمناه وجهلناه، وإنما يستحق الإلهية من اتصف بذلك، فاندرج الجميع تحت الحمد، ذكره العلائي في أثناء كلام له ( وسبحان ا) منصوب على المصدر، وقيل: اسم مصدر.
وقال الزمخشري، هو علم على التسبيح وانتصب بفعل مضمر: أي أسبحه سبحان ثم نزل منزلة الفعل فسد مسده اهـ وظاهره أنه علم أضيف أو قطع عنها وأن إضافته للبيان لا للتعريف كزيد الخيل، وهذا ظاهر قول الأخفش إنه معرفة وضع لهذا المعنى، ولذا امتنع صرفه للعملية وزيادة الألف والنون، والمحققون على أن تعريفه بالإضافة.
والتسبيح تنزيه الله عن السوء والنقائص وتبعيده منها ( والحمد) معطوف على ما قبله: أي هاتان الكلمتان ( تملآن) بالفوقية «أو» شك من الراوي «يملأ» بالتحتية: أي المذكور منهما أوأجرهما قيل: ويحتمل أن يراد أحدهما فيكون المشكوك فيه أنهما معاً يملآن ما بين السموات والأرض أو أحدهما، أو بالفوقية، أي الكلمة الشاملة لهما.
وقال العاقولي في «شرح المصابيح» : يروى بالمثناة الفوقية ( ما بين) طبقات ( السموات) السبع، وفي السلاح «السماء» بالإفراد وعزاه لمسلم، وكأنه باعتبار أصله، وإلا فالذي عندي بأصل مصحح «السموات» بالجمع وكذا هو في الكتب الحديثية ( والأرض) أفرده، والمراد به الجمع: أي الأرضون ولعل ذلك لأن طباق الأرض متلاصقة لاخلاء بينها بخلاف طباق السموات» .
قال البيضاوي في «التفسير» إنما جمع السموات وأفرد الأرض لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة في الحقيقة، بخلاف الأرضين اهـ وإنما ملأ ثواب ما ذكر ما بين المذكورات التي لا يحيط بسعتها إلا خالقها سبحانه لأن العالم كله شاهد بأن اهو خالقه والقائم بتدبيره، وبأنه لا يجوز أن يكون له فيه شريك ولا معين، وبأنه واجب الإتصاف بصفات الكمال منزه عن مشابهة المحدثات إذ الأهلية إنما تتم بذلك.
قيل: وإلى هذه الشهادة يشير قوله تعالى: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده} ( الإسراء: 44) فسبحان اللَّه والحمد يتضمنان إثبات الرب والواحد وجميع صفات الجلال والكمال له ونفي جميع النقائص عنه، فكأنه قائلها شاهد بذلك، وعلى جميع العالم بأنه مربوب مخلوق في قهره وتدبيره لا منعم عليه ولا قادر ولا مالك بالحقيقة سواه، فله من الأجر بقدر ما شهد به من الحق فملأ أجرهما ما بين السموات والأرض، نقله العلائي عن ابن برجان في الكلام على لا إله إلاالله.
قال العلائي: ويصح نقله إلى هنا ( والصلاة) سيأتي معناها لغة وشرعاً إن شاء الله تعالى ( نور) أي: محسوس: أي إن الصلاة نفسها تضيء لصاحبها في ظلمات الموقف بين يديه، ولم يجيء في فعل متعبد به أنه نور في نفسه سوى الصلاة، فالظاهر أن هذا النور خاص بها، وأصرح منه ما لأحمد بسند صالح عن ابن عمر، قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وكان مع قارون وفرعون وهامان وأبيّبن خلف» وقيل: النور أجرها لا هي فتكون على تقدير مضاف، وقيل نور ظاهر على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النور وجه المؤمن، فالإسناد مجازي منالإسناد للسبب.
وقيل: النور معنوي لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب، فتصد عن المهالك وتوصل إلى طريق السلامة كما يستضاء بالنور.
وقيل: نور القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسن والجوارح فرضاً ونفلاً، فالصلاة الكاملة يحصل بها من النور الإلهي في القلب ما لا يعبر عنه.
قيل: ويمكن حمل النور على جميع ما تقدم من حقيقة اللفظ ومجازه على قاعدة الشافعي ( والصدقة برهان) أي: حجة على إيمان مؤديها، وقيل: على أنه لبس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، وقيل: على حبه ورسوله فإنه آثر رضاهما على المال الذي جبل على حبه، وقيل: برهان له يوم القيامة إذا سئل عن ماله فيم أنفقه؟ يقول تصدقت به وقال صاحب «التحرير» : يجوز أن المتصدق يوسم يوم القيامة بسيمى يعرف بها فتكون برهاناً له على حال ولا يسأل عن مصرف ماله، وأيد بحديث أبي داود عن عقبةبن عامر مرفوعاً «كل امرىء في ظلّ صدقته يوم القيامة حتى يقضي بين الناس» فيكون هذا الظل برهاناً على صدق إيمانه أو على إخلاصه ( والصبر ضياء) قيل: المراد هنا بالصبر الأعم من الصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى المكاره ومنه الصوم، وقيل: المراد به صبر خاص وهو الصوم ورجحه صاحب «مطالع الأنوار» بأنه صرح به في رواية ورجحه غيره باقترانه بالصلاة والصدقة فكشفها وبين خصوصياتها وأن من استجمعها حصل له نور في ( بياض) انتشر له ضياء وهو من الإضاءة انتشار النور، وهذا أكمل أحوال النور قال تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} ( يونس: 5) وقال القرطبي، إن فسر الصبر بالصوم فالضياء النور وإن اختلف لفظهما.
وإن فسر بالأعمّ فهو إضاءة عواقب الأحوال وحسنها في المآل اهـ.
قال الفاكهاني، ولم أر من فرق بين الضياء والنور، وقد فسر صاحب الصحاح النور بالضياء والضياء بالنور وردّ بأن كون الضياء هو النور، لأنه خصوصية في النور وزائد عليه وأبلغ منه.
قال والحاصل أن النور الحادث قد يخلق كامل الضياء كالشمس ودون ذلك كالقمر، وإنما سوّى القرطبي بينهما لئلا يلزم تفضيل الصوم على الصلاة، وليس بلازم لأن مناط الفضل ليس منحصراً بل له أسباب كثيرة واعتبارات متنوعة، فيكون المفضول فاضلاً في وقت وبالعكس اهـ ( وللقرآن) أي:كلام الله المنزل على حبيبه بقصد الإعجاز المتعبد بتلاوته ( حجة لك) إن امتثلث أوامره واجتنبت نواهيه فتحتج به في المواقف التي تسأل فيها عنه كمسائل الملكين في القبر وكالمسألة عند الميزان وعند الصراط ( أو) حجة ( عليك) إن لم تمتثل أوامره ولم تجتنب نواهيه، وقيل: حجة لك في الدنيا وعلى المطالب الشرعية والأحكام، أو حجة عليك لخصمك المحق، فالمرجع إليه عند التنازع، وهو دال على اتباع السنة وهي على حجية القياس والكتاب والسنة دالان على حجية الإجماع فصار القرآن مرجع جميع الأحكام لكن بواسطة تارة، وبغيرها أخرى.
قال الفاكهاني: والأول أظهر.
وقال العلائي: والآثار شاهدة به، ثم ساق أحاديث: منها للبيهقي بسند غريب عن جابر مرفوعاً «القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعلة خلفه ساقه إلى النار» ومنها عن أبي أمامة مرفوعاً «أقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لصاحبه يوم القيامة.
قال العلائي بعد إيراده حملة من الأحاديث: ورجح الزملكاني القول بذلك لهذه الآثار/ والحمل على مقتضى القولين أولى تكثيراً للفائدة.
ثم لما بين فضل هذه القربات ورغب فيها وكان إعمال النفس لها يقتضي سعياً أتبع ذلك بأن أحداً لا يترك نفسه هملاً باطلة بل لا بد له من عمل يغدو له فقال: ( كل الناس يغدو) أي: يبكر في مصالحه ( فبائع نفسه) من الله ( فمعتقها) من العذاب، وناهيك بها صفة اغتنام، إذ كان الثمن فيها دار السلام، والنظر إلى وجه الملك العلام.
قال الله تعالى: { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} ( التوبة: 111) الآية.
وهؤلاء سعوا في خلاص نفوسهم وتوجهوا بقلبهم إلى ربهم وطلب ما عنده ( أو) بائع نفسه لغير ربه من هواه أو الشيطان، فهو ( موبقها) أي: مهلكها بالطرد عن ساحة الرضوان، وبالبعد والحرمان، نعوذ با من سخطه وأليم عقابه، ويحتمل أن يكون المراد ببائع مشتر: أي كلهم يسعى، فمنهم من يشتري نفسه بالأعمال الصالحة فيعتقها من العذاب، ومنهم من يعرضها للعذاب باكتساب المآثم فيوبقها.
ورجح بأن نفسه ليست ملكه فيبيعها بل مملوكة مرتهنة بأعمالها حتى يخلصها.
واختار القاضي عياض حمله على المعنيين: أي: من اشتراها بالأعمال الصالحة أعتقها، ومن باعها في الأعمال السيئة أوبقها، كما قيل في { ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} ( البقرة: 102) وهذا على قاعدة الشافعي في حملالمشترك على معنييه، ورد كل جملة إلى معنى، وهو نوع من الإيجاز بديع عند أرباب البيان لخصت معظم ما ذكرته في هذا الحديث من شرحه فقط للعلامة العلائي ( رواه مسلم) ورواه أحمد والدارمي في «مسنده» وأبو عوانة في «صحيحه» والترمذي في «الدعوات» من جامعه، وقال إنه حسن صحيح، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وسها ابن عساكر وتبعه المزي فأغفلا في أطرافهما عن عزو هذا الحديث للترمذي، وأخرجه الطبراني في «معجمه الكبير» .
ووقع في رواية أبي سلام عن أبي مالك الأشعري اختلاف.
فمن ذكرناهم رووه عنه أبي مالك بلا واسطة، ورواه ابن ماجه وآخرون عنه عن عبد الرحمنبن غنم عن أبي مالك.
قال الحافظ السخاوي في «تخريج الأربعين» للمصنف بعد كلام طويل نقله في ذلك عن شيخه الحافظ: وبالجملة فالطريق الأولى: أعني كون أبي سلام سمعه من كل منهما، وكون الصحابي في الطريقين واحداً أولى.


رقم الحديث 26 ( وعن أبي سعيد سعدبن مالكبن سنان الخدري رضي الله عنه) الأولى عنهما لما سبق في ترجمته في باب التوبة من أنه وأباه كانا صحابيين ( أن ناساً) في «تفسير البيضاوي» أصله أناس لقولهم إنسان وإنس وأناسي، فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يكاد يجمع بينهما، مأخوذ من أنس بوزن فرح لأنهم يستأنسون بأمثالهم، أو من آنس لأنهم ظاهرون مبصرون اهـ.
وقيل: مقلوب نسي، وقيل مأخوذ من ناس ينوس إذا اضطرب وتحرك.
قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» : لم يتعين لي أسماؤهم إلا أن النسائي روي عن أبي سعيد ما يدل على أنه منهم، وذلك أنه قال: «سرحتني أمي إلى النبي، يعني لأسأله من حاجة شديدة، فأتيته وقعدت فاستقبلني وقال: من استغنى أغناه ا» الحديث.
وزاد فيه «من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت:ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله» اهـ ( من الأنصار) بفتح الهمزة اسم إسلامي علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج سموا به لنصرتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( سألوا رسول الله) حذف المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض به ( فأعطاهم) أي: عقب سؤالهم ولم يتوان لما جبل عليه من مكارم الأخلاق والسماحة ( ثم سألوه فأعطاهم) فتكرر منهم السؤال مرتين ومنه الإعطاء عقب كل مرة ( حتى نفد) بكسر الفاء وبالدال المهملة، ففي الصحاح نفد الشيء ينفد نفاداً: فنى ( ما عنده) أي: ذهب بالإنفاق جميع ما عنده ( فقال) عقب نفاده تنفيراً لهم من الاستكثار مما زاد على الحاجة من الدنيا، وتحريضاً على القناعة، وحثاً على الاستعفاف.
واللام في ( لهم) هي لام المبالغة ( حين أنفق) هو مختص بإخراج الشيء في الخير ( كل شيء) معدّ للإنفاق كائن ( بيده: ما يكن) كذا هو بالجزم فيما وقفت عليه من نسخ مصححة من الرياض وهو كذلك في أصل مصحح عندي من «صحيح مسلم» فتكون ما شرطية، وفي البخاري «ما يكون» بالرفع، قال الشيخ زكريا: فما موصول متضمن معنى الشرط، وجوابه على الوجهين قوله: «فلن أدخره» ( عندي من) بيانية ( خير فلن أدخره) بتشديد الدال المهملة، وجاء إعجامها مدغماً وغير مدغم، وأصله ادتخر فقلبت التاء دالاً على اللغة الأولى وذالاً على اللغة الثانية، والمعنى: لا أجعله ذخيرة لغيركم معرضاً ( عنكم) أو فلا أخبؤه وأمنعكم إياه ( ومن يستعفف) بفك الإدغام فالفعل مجزوم بالسكون لفظاً: أي من طلب العفة عن سؤال الناس والاستشراف إلى ما في أيديهم ( يعفه ا) أي: يرزقه العفة فيصير عفيفاً قنوعاً.
وفي «النهاية» : وقيل: الاستعفاف الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال عفّ يعف عفة فهو عفيف، وهو بفتح الفاء لأنها أخف الحركات، أو بكسرها لأنها اوصل في التخلص من التقاء الساكنين ( ومن يستغن) أي: يظهر الغناء بالتعفف عما في أيدي الناس ( يغنه ا) أي: يجعله غنيّ النفس ولا غناء لا غناؤها ( ومن يتصبر) أي: يتكلف الصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا بأن يتجرّع مرارة ذلك ولا يشكو لغير مولاه ( يصبره ا) أي: يعطه من حقائق الصبر الموصلة للرضى ما يهوّن عليه كل مشق ومكدّر؛ ولشرف مقام الصبر وعلوه، لأنه جامع لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات فلا ينال شيئاً منها إلا من تحلى به، عقبه بقوله: ( وما أعطي أحد عطاء) مفعول ثان لأعطى: أي ما أعطي أحد منخلق ولا مقام ( خيراً) كذا هو بالنصب في النسخ، وفي البخاري: هو خير، وفي مسلم: خير، بحذف هو في رواية، وفي رواية بنصب خير ( وأوسع من الصبر) .
قال الشيخ زكريا: خيراً هنا ليس بأفعل تفضيل بل هو كقوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذٍ خير مستقرّاً} ( الفرقان: 24) اهـ.
ومعنى كونه أوسع: أن به تتسع المعارف والمشاهد والمقاصد.
فإن قلت: مقام الرضى أفضل منه كما صرحوا به.
قلت: هو غايته لأنه لا يعتد به إلا معه فليس أجنبياً عنه، إذ الصبر من غير رضى مقام ناقص جداً ( متفق عليه) وكذا أخرجه أصحاب «السنن الأربع» ، وزاد رزين «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» وهذه الزيادة أخرجها مسلم والترمذي من رواية عمروبن العاص كذا في «التيسير» للديبع.


رقم الحديث 27 ( وعن أبي يحيى صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء بعدها تحتية ساكنة فموحدة ( ابن سنان) بكسر المهملة ونونين بينهما ألف ابن مالكبن عمروبن عقيلبن عامربن جندلةبن جذيمةبن كعببن سعدبن أسلمبن أوس مناةبن النمربن قاسطبن هنساءبن أفصىبن دعمى ابن جديلةبن أسدبن ربيعةبن نزار الربعي النمري.
كذا نسبه الكلبي وأبو نعيم، وصدّر به ابن الأثير في «أسد الغابة» ثم حكى في نسبه قولين آخرين.
كناه بأبي يحيى، وإنما قيل له الرومي لأن الروم سبوه صغيراً فابتاعه منهم كلبي، ثم قدموا به مكة فشراه عبد الله ابن جدعان منهم فأعتقه وأقام معه إلى أن هلك عبد الله.
وقيل: إنه هرب من الروم لما كبر وعقل فقدم مكة وحالف ابن جدعان، ولما بعث النبيّ أسلم، وكان من السابقين إلى الإسلام.
قال الواقدي: أسلم هو وعمار في يوم واحد وكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين رجلاً وكان من المستضعفين بمكة الذين عذبوا، وقدم المدينة مع عليّبن أبي طالب في النصف من ربيع الأول، والنبيّ في قباء لم يرم: أي لم يبرح من مكانه بعد، وآخى النبيّ بينه وبين الحارثبن الصمة، شهد المشاهد كلها مع النبي.
وعن أنس مرفوعاً «السباق أربعة أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابقفارس، وبلال سابق الحبش «وكان عمر محباً لصهيب حسن الظن به، حتى إنه لما ضرب أوصى أن يصلي عليه صهيب وأن يصلي بالمسلمين حتى يتفق أهل الثوري على شخص، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون حديثاً، أخرج له مسلم ثلاثة أحاديث، ولم يخرّج له البخاري شيئاً.
توفي بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، وقيل: تسع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين ودفن بالمدينة ( رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: عجباً) مفعول مطلق: أي أعجب عجباً وتعجب ابن آدم من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه كما في «النهاية» ( لأمر المؤمن) أي: الكامل، وهو العالم با الراضي بأحكامه العامل على تصديق موعوده ( إن أمره) أي: شأنه ( كله) بالنصب تأكيد، وبالرفع مبتدأ خبره ( له خير) والجملة خبر إن ( وليس ذلك) الخبر في كل شأن ( لأحد إلا المؤمن) الكامل، ووضع الظاهر موضع المضمر دفعاً للوهم وليشعر بالعلية: أي إن إيمانه الكامل سبب خيريته في كل حال ( إن أصابته سرّاء) بفتح السين وتشديد الراء المهملتين: أي ما يسرّه ( شكر) أي: عرف قدر نعمة مولاه فشكره ( فكان) شكره ( خيراً له) من السراء التي نالها لكونه ثواباً أخرويا ( وإن أصابته ضرّاء) أي: ما يضرّه في بدنه أو ما يتعلق به من أهل أو ولد أو مال ( صبر) واحتسب ذلك عند الله رجاء ثوابه ورضي به نظراً لكونه فعل مولاه الذي هو أرحم به ( فكان) صبره في الضراء ( خيراً له) لأنه حصل له بذلك خير الدارين، أما غير كامل الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجتمع عليه نصبها ووزر سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكرها، فتنقلب النعمة في حقه نقمة وينعكس عليه الحال، نعوذ با من النقصان بعد الزيادة، ومن الحور بعد الكور ( رواه مسلم) وكذا رواه الإمام أحمد من حديث صهيب أيضاً كما في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 28 ( وعن أنس رضي الله عنه) تقدمت ترجمته ( قال: لما ثقل النبيّ) بضم القاف من شدة المرض، ورواه الديبع في «التيسير» بلفظ «لما احتضر» بالبناء للمجهول من الاختصار، لكن في أصله «جامع الأصول» كما هنا، ولعل ما عند الديبع لفظ النسائي ( جعل) من أفعال الشروع ( يتغشاه) أي: يغشاه ( الكرب) على وزن الضرب، أي: الشدة من سكرات الموت لعلو درجته وشرف رتبته.
وفي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» وقد أفرد بعض العارفين في هذا المعنى مؤلفاً سماه ( القول الأجلّ، في حكمة كرب المصطقى عند حلول الأجل) وقد أوردته بجملته في «شرح الأذكار» ( فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا) للندبة ( كرب أبتاه) قالته لما رأته حل به فتألم قلبها وباح بما فيه لسانها مع كمال صبرها ورضاها يفعل ربها/ ومثل ذلك لا يقدح في الكمال.
ففي الحديث «العين تدمع، والقلب يجزع، ولا نقول إلا ما يرضي الرّب» وهذا محمول على أنها لم ترفع صوتها بذلك، وإلا لكان ينهاها، ثم عند النسائي عن ثابت بدل «واكرب أبتاه» واكرباه، والأوّل أصوب لقوله في نفس الخبر ( فقال) أي: النبي ( ليس على أبيك) أي: بالمظهر إيماء إلى أن سبب صدور ما تقدم من السيدة فاطمة هو البعضية، وكونه أصلاً لها ( كرب بعد اليوم) أي: لا يصيبه نصب ولا وصب يجد له ألماً بعد اليوم لأنه ينتقل من دار الأكدار إلى دار الآخرة والسلامة الدائمة، إلى ما لا يعلم بأدناه من العطايا السنية والمراتب العلية فضلاً عن أعلاه، إلا من منحه وأولاه، وقد ورد «لا راحة للمؤمن دون لقاء ربه» فكيف بسيد السادات.
فقد انتقل لمحل قرة عينه وراحة نفسه ودوام أنسه ( فلما مات قالت) فاطمة ( يا) حرف ندبة ( أبتاه) بإسكان الهاء وأصله يا أبي فأبدلت الفوقية من التحتية لأنهما من الحروف الزوائد، والألف هي التي تلحق آخر الاسم عند الندبة وكذا الهاء وتسمى هاء السكت لحقت آخر المندوب للموقف عليها، ورأيته بضم الهاء في نسخ الرياض ولم يظهر لي وجهه لأن الهاء تلحق المندوب إلا في الوقف وهي فيه ساكنة وتحذف وصلاً، فالظاهر أنالضبط المذكور من بعض الكتاب ( أجاب رباً دعاه إلى لقاه يا أبتاه من) أي: الذي، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح كسر الميم على أنها حرف جر، والأول أولى، وفي نسخة من الرياض حذف من ( جنة الفردوس) مبتدأ.
والفردوس بستان يجمع كل ما في البساتين من شجر وزهر ونبات، قيل: وهي رومية معربة، كذا في «تحفة القارىء» .
وفي «الجامع الصغير» حديث «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه سرّ الجنة» رواه الطبراني عن العرباض مرفوعاً.
l والسرّ بالضم: الوسط، بمعنى الخيار لما في حديث آخر عند البخاري في كتاب الجهاد «إنه وسط الجنة، وإنه أعلى الجنة، وإن سقفه عرش الرحمن» وخبر المبتدإ قوله: ( مأواه) أي: منزله، وعلى كسر الميم فهو مبتدأ خبره الظرف قبله ( يا أبتاه إلى جبريل) بكسر الجيم والراء وإسكان الموحدة والتحتية بعدها لام.
وهو اسم عبراني، قيل: معناه عبد الرحمن، وقيل: عبد الله.
وفي جبريل أحد عشر لغة ذكرتها في أوائل «شرح الأذكار» .
والظرف متعلق بقوله: ( ننعاه) أي: نرفع خبره إليه لأن الإنسان يذكر ما ينزل به من الأحوال لأصحابه على وجه الإخبار عما نزل.
ولا يضر في الكمال إذا لم يكن فيه تسخط من القدر الإلهي ولا تجزع بحال.
قال العلقمي نقلاً عن الحافظ: زاد الطبراني في هذا الحديث «يا أبتاه من ربه ما أدناه» .
ويأخذ من الحديث جواز التوجع للميت عند احتضاره مثل قول فاطمة «واكرب أبتاه» وأنه ليس من النياحة، لأنه أقرها على ذلك.
وأما قولها بعد أن قبض «وا أبتاه» إلخ، فيؤخذ منه أن تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفاً بها لا يمنع ذكره بها بعد موته، بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهراً وهو في الباطن بخلاف ذلك، أو لا يتحقق اتصافه بها فيدخل المنع اهـ.
( فلما دفن) بالبناء للمجهول ( قالت فاطمة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة، وعبر عنه بالماضي تفاؤلاً بتحققه، وأعاد ذكرها لطول الكلام بينه وبين ذكرها أو لا،.
ونظيره قوله تعالى: { أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} ( المؤمنون: 35) ( يا أنس أطابت أنفسكم) وعند الديبع: كيف طابت أنفسكم ( أن تحثوا) أي: بأن تحثوا ( على) قبر ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب) قال الحافظ: أشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك لأنه يدل على خلاف ما عرفته فيهم من رقة قلوبهم وشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابهارعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلا أنا قهرنا على فعله امتثالاً لأمره اهـ.
وروي أنها أنشدت: ماذا على من شم تربة أحمد ألا يشم مدى الزمان غواليا صبت علىّ مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن لياليا ( رواه البخاري) في آخر «المغازي» من صحيحه، وكذا رواه النسائي وابن ماجه في «الجنائز» ، وأخرجه ابن ماجه أيضاً والترمذي في «الشمائل» بلفظ «لما وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة: واكرب أبتاه» الحديث كذا في الأطراف.
ومناسبة إيراده في باب الصبر صبره على ما هو فيه من سكرات الموت وشدائده، ورضاه بذلك وتسكين ما نزل بالسيدة فاطمة من مشاهدة ذلك بقوله: لا كرب على أبيك بعد اليوم: أي: أي فهذا التعب الشديد يحتمل لقصر زمانه، بل هو محبوب لكونه فعل الله سبحانه ولما يترتب عليه من الوصول إلى منازل الأحباب ونزل الكريم التي أعدها لنبيه، فلا يعلم أدناها فضلاً عن أعلاها غير من أولاه إياها.


رقم الحديث 29 ( وعن أبي زيد) وقيل: كنيته أبو محمد، وقيل: أبو يزيد، وقيل: أبو خارجة ( أسامة) بضم الهمزة بعدها سين مهملة ( ابن زيدبن حارثة) بمهملتين بينهما ألف وبعد الثانية مثلثة ابن شراحيلبن كعببن عبد العزيزبن زيدبن امرىء القيسبن عامربن النعمانبن عامربن عبدودّبن كنانةبن بكربن عوفبن عذرةبن زيد اللاتبن رفيدةبن ثوربن كلب، الكلبي نسباً، الهاشمي ولاء كما قال المصنف ( مولى رسول الله) ولاء عتاقة منه على أبيه، وسرى منه لابنه ( وحبه وابن حبه) بكسر الحاء فيهما: أي حبيبه.
في «الصحاح» الحب: الحبيب مثل خدن وخدين اهـ.
روى ابن عبد البرّ أن النبي قال: «إن أسامة لأحبّ الناس إليّ، أو من أحبّ الناس إليّ، وإني لأرجو أن يكون من صالحيكم فاستوصوا به خيراً» وفي «أسد الغابة» أن عمر رضي الله عنه لما فرض للعطاء جعل لابنه عبد الله ألفين ولأسامة خمسة آلاف، فقال له في ذلك عبد الله، فقال عمر: فضلته لأنه كان أحبّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، وكان أبوه أحب إليه من أبيك، زاد صاحب «الشفاء» : فقدمت حبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( رضي الله عنهما) الأولى رضي الله عنه لأن حارثة والد زيد صحابي أيضاً.
وفي «أسد الغابة» : روى أسامةبن زيدبن حارثة «أن النبي دعا حارثة إلى الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» أخرجه ابن منده وأبو نعيم اهـ.
وأم أسامة هي بركة الحبشية أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاضنته، فأيمن أخو أسامة لأمه، وأمرّ أسامة على جيش فيهم عمربن الخطاب وأمره بالمسير إلى الشام فلما اشتد المرض بالنبي أوصى أن يسير جيش أسامة، فساروا بعد موته وقول ابن منده: إن النبي أمر أسامة في غزوة مؤتة غلط.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وثمانية وعشرون حديثاً، أخرج له منها في «الصحيحين» سبعة عشرة حديثاً اتفقا منها على خمسة عشر، وانفرد البخاري بحديثين.
توفي بالجرف بعد قتل عثمان وحمل إلى المدينة.
قال أبو عمر: الأصح عندي أنه توفي في سنة أربع وخمسين/ وقيل: سنة ثمان، وقيل: سنة تسع وخمسين ( قال) أسامة ( أرسلت بنت رسول الله) هي زينب، عن أبي العاص الربيع، كما قال في مصنف ابن أبي شيبة إليه ( أن ابني) الذي استظهره الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» وقال إنه الصواب أن المراد منه أمامة بنت زينب، كما ثبت في مسند الإمام أحمد بسند الحديث المذكور عند البخاري ولفظه: أتى النبيّ بأمامة بنت زينب.
ولا يشكل عليه أن أمامة عاشت بعده حتى تزوجها عليّبن أبي طالب وقتل معها، لأنه ليس في حديث الباب ما يدل على أنها قبضت حينئذٍ.
قال الحافظ ابن حجر: ولعل الله أكرم نبيه لامتثاله لأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة بأن عافى ابنة ابنته في ذلك الوقت فعاشت تلك المدة، وهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوّة اهـ.
وعلى كونه صبياً ذكراً فيحتمل أنه ولد زينب، واسمه عليّ، أبو عبد اابن عثمانبن رقية، أو محسنابن عليبن فاطمة.
قال الحافظ: وهذا أعني تقدير كونه ذكراً أقرب ( قد احتضر) بالبناء للمجهول: أي حضرته مقدمات الموت ( فأشهدنا) أي: أحضرنا ( فأرسل يقرىء السلام) بضم أوله وهو مهموز والجملة المضارعية حال من فاعل أرسل ( ويقول: إن ما أخذ) فلا ينبغي الجزع من أخذه لأن صاحب الحق إذا أخذ حقه لا يجزع منه، وقدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخراً في الواقع اهتماماً بما يقتضيه المقام ( وله ما أعطى) يعني أن الله تعالى إذا أعطى عباده شيئاً فلا يخرج بذلك الإعطاء عن ملكه بل هو باق عليه، بخلاف إعطاء المخلوق لمثله.
قيل: ويحتمل أن يراد بقوله: «ما أعطى» ما أعطاه من الثواب على المصيبة أو الحياة لمن بقي بعد الموت، أو ما هو أعممن ذلك، و «ما» في الموضعين مصدرية: أي: الأخذ والإعطاء، ويحتمل أن تكون موصولاً اسمياً فيكون العائد محذوفاً: أي: ما أخذه وما أعطاه ( وكل شيء) بالرفع جملة ابتدائية معطوفة على الجملة قبلها، ويجوز النصب عطفاً على اسم إن فيستحب التأكيد عليه، وقوله كل شيء: أي: من الأخذ والإعطاء أو الأنفس أو ما هو أعم من ذلك ( عنده) والراد منه عندية العلم مجازاً للملازمة بينهما ( بأجل مسمى) أي: معلوم مقدر فمحال أن يتقدم عليه أو يتأخر عنه.
والأجل يطلق على الجزء الأخير، وعلى مجموع العمر ( فلتصبر) على مقادير الله ( ولتحتسب) أي: تنو بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح ( فأرسلت إليه) أي: عقب مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها كما يدل عليه العطف بالفاء التعقيبية ( تقسم عليه ليأتينها) جاء في حديث عبد الرحمنبن عوف: أنها راجعته مرتين وأنه قام في ثالث مرة وكأنها ألحت في ذلك لما ترجوه من دفع ما تجده من الألم عند حضوره بركة حضوره، وقد حقق الله رجاءها، وكان امتناعه أولاً للمبالغة في إظهار التسليم لأمرالله، ولبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لا تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة ( فقام ومعه سعدبن عبادة ومعاذبن جبل وأُبيّبن كعب وزيدبن ثابت ورجال رضي الله عنهم) الجملة حال من فاعل قام، وجملة رضي الله عنهم مستأنفة، وقد سمي منهم غير من ذكر في غير هذه الرواية: عبادةبن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبد الرحمنبن عوف ( فرفع) بالراء مبني للمجهول، وفي الكلام حذف دلّ عليه المقام، إذ تقدير الكلام: فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها واستأذنوا فأذن لهم فدخلوا فرفع ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيّ فأقعده) أي: وضعه ( في حجره) بفتح الحاء وكسرها وسكون الجيم: الحضن ( ونفسه تقعقع) بفتح التاء والقافين/ أي: تضطرب وتتحرّك زاد في رواية للبخاري «كأنها شنّ» وفي لفظ آخر «كأنها في شنة» ( ففاضت عيناه) أي: النبيّ، وجاء التصريح في رواية شعبة ( فقال سعد) أي: ابن عبادة مستبعداً ما رآه منهلما يعلمه من عادته من مقاومة المصيبة بالصبر عليها ووقع عند ابن ماجه «فقال عبادةبن الصامت» والصواب ما في «الصحيح» إن ما أخذ بالترجيح وإلا فلا منافاة، لإمكان صدوره من كل منهما ( يا رسول الله ما هذا) أي: فيض الدمع، وجاء في رواية «قال سعدبن عبادة أتبكي؟» زاد أبو نعيم في «المستخرج» : «وتنهي عن البكاء» ( فقال) ( هذه) أي: الدمعة أثر ( رحمة جعلها الله في قلوب عباده) أي: بعض عباده بدليل قوله: وفي رواية «قلوب من شاء من عباده» أي: ومثل هذا الفيضان الناشيء عن حزن القلب من غير تعمد من صاحبه ولا استدعاء لا مؤاخذة عليه فيه، إنما النهي عن الجزع وعدم الصبر، أو عما كان مع نوح أو ندب ( وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) بالنصب على أن «ما» في إنما كافة وبالرفع على أنها موصولة، والرحماء جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، وقضيته أن رحمته تعالى تختص بمن اتصف بالرحمة الكاملة، بخلاف من فيه رحمة ما، لكن قضية خبر أبي داود وغيره «الراحمون يرحمهم الرحمن» أنها تشمل كل من فيه رحمة ما، إذا الراحمون جمع راحم، وهذا هو الأوجه، وإنما بولغ في الأول لأن القصد به الرد على من استبعد جواز فيض الدمع، ولأن لفظ الجلالة فيه دلّ على العظمة فناسب فيه التعظيم والمبالغة، ولما كان الرحمن يدل على المبالغة في العفو ذكر مع كل ذي رحمة وإن قلت، قاله ابن الجوفي ( متفق عليه) في الديبع بعد إخراج الحديث إلى قوله: «ولتحتسب» ما لفظه أخرجه الخمسة إلا الترمذي ( ومعنى تقعقع) بفتح الفوقية والقافين، مضارع حذفت إحدى تاءية تخفيفاً ( تتحرك وتضطرب) والقعقعة: حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك.


رقم الحديث 30 ( وعن صهيب) بضم المهملة وفتح الهاء وسكون التحتية مصغر، تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه) في الحديث الثاني من أحاديث الباب ( أن) بفتح الهمزة، هي ومدخولها فيتأويل مصدر مبتدأ خبره الظرف قبله: أي: عن صهيب قول رسولالله، ويجوز الكسر على إضمار القول: أي أروي عن صهيب حال كونه قائلاً إن ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان ملك) بكسر اللام، أي: ذو ملك بضم الميم ( فيمن كان قبلكم) من الأمم السابقة ( وكان له ساحر) وعند الترمذي «كان لبعض الملوك كاهن يتكهن له» أي: والروايات يفسر بعضها بعضا ( فلما كبر) بكسر الموحدة: أي كبرت سنه، أما كبر بضم الموحدة ففي القدر قال تعالى: { كَبُرَت كلمة} ( الكهف: 5) ( قال للملك إني قد كبرت فابعث) أي: أرسل ( إليّ غلاماً) زاد في رواية الترمذي «فهماً» أو قال: «فطناً» نعتان.
والغلام لغة: الصبي من الفطام إلى البلوغ ( أعلمه السحر) جملة مستأنفة جواباً للسؤال المقدر، وهو: ما تفعل به؟ وعند الترمذي «أعلمه علمي فإني أخاف أن أموت وينقطع عنكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، قال: فنظروا له على ما وصف» ( فبعث إليه غلاماً يعلمه) ذكر القرطبي في «التفسير» أنّ الضحاك روى عن ابن عباس كان ملك بنجران وفي رعيته رجل له ابن/ واسم الغلام عبد ابن تامر، ثم ساق القصة بنحو ما عند مسلم ( وكان في طريقه) أي: الغلام ( إذا سلك) إلى الساحر ( راهب) هو المتعبد من النصارى المتخلي من أشغال الدنيا التارك لملاذها بالزهد فيها الصابر على مشاقها المعتزل عن أهلها ( فقعد) الغلام ( إليه) أي: إلى الراهب ( وسمع كلامه فأعجبه) زاد الضحاك في روايته «فدخل في دين الراهب» .
وعند الترمذي «فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب عن معبوده كلما مر به، فلم يزل حتى أخبره، فقال إني أعبد ا» ( وكان) الغلام ( إذا أتى) أي: أراد أن يصل ( إلى الساحر مر بالراهب) لكونه في طريقه ( وقعد إليه) لمحبته لنهجه ( فإذا أتى الساحر) ووصل إليه ( ضربه) وعند الترمذي «أن الكاهن أرسل إلى أهلالغلام إنه لا يكاد يحضرني» ( فشكا ذلك إلى الراهب فقال) أي: الراهب ( إذا خشيت الساحر) لتخلفك عندي في الذهاب إليه ( فقل حبسني) أي: منعني ( أهلي) أي: شغلهم، وجوّز ذلك إن قيل بإسلامه واستقامته، لأنه رأى أن مصلحة تخلفه عنده تزيد على مفسدة تلك الكذبة، فهو نظير الكذب لإصلاح الخصمين، أو أنه من باب الكذب لإنقاذ المحترم من التعدي عليه بالضرب ( وإذا خشيت أهلك) لتخلفك عندي في العودة من عند الساحر ( فقل حبسني الساحر، فبينما هو على ذلك) المذكور من التردد بين الرجلين ( إذ أتى على دابة عظيمة) عند الترمذي قال بعضهم إن تلك الدابة كانت أسداً ( قد حبست الناس) أي: منعتهم من المرور لخوفهم من صولتها ( فقال) الغلام ( اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟) أي: ينكشف لي ذلك ( فأخذ) الغلام ( حجراً فقال اللهم إن كان أمر الراهب) أي: ما هو فيه من الشئون والأمور ( أحب إليك من أمر) أي: حال وشأن ( الساحر فاقتل هذه الدابة) أي: عقب وصول الحجر إليها، ليكون ذلك آية على أحبية الراهب عندك، وقوله: ( حتى يمضي الناس) يصح أن يكون غاية مترتبة على السؤال وأن يكون علة له ( فرماها) الغلام ( فقتلها) بتلك الرمية، وإسناد القتل إليه مجاز عقلي لكونه السبب الصوري في ذلك والفاعل حقيقة هو الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث إثبات كرامات الأولياء، وإهانة أعداء الله الأغبياء ( ومضى الناس) أي: انطلقت ألسنتهم بالثناء عليه بالعلم.
وعند الترمذي «ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد» .
ويحتمل أن يكون المراد فمضي الناس في تلك السبيل لزوال المانع من سلوكها ( فأتى) الغلام ( الراهب فأخبره) فيه وفيما بعده من جهة حكايته له وعدم إنكاره أنه لا بأس بذكر الإنسان مفاخره وحمد الناس له والثناء عليه بحضوره إذا لم يترتب عليه فتنة من نحو عجب ( فقال له الراهب أي نبيّ أنت اليوم) المراد منه الحين كما في يومئذٍ ( أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى) أي: من كمال اليقين وصدق الاعتقاد، وقوله: «قد بلغ إلخ» كالتعليل لما قبله ( وإنك ستبتلى) بالبناء للمجهول، ثم يحتمل أن يكون هذا منه بطريق الكشف فيكون كرامة، أو بطريق الفراسة، أو بطريق العادة والتجربة، إذ من خالف الناس في منهجهم ابتلوه وآذوه ( فإنابتليت) بالبناء للمجهول، وأتى بحرف الشك ثانياً مع تحقيقه ذلك أوّلاً وتأكيده لأن ذلك بحسب ما قام عنده مما يقتضي وقوع ذلك حتى جزم به وأخبر عما عنده منه، وما هنا باعتبار الواقع وما يبرز في عالم الشهادة: فإن الفراسة قد تخطىء، والتجربة قد تتخلف، والكشف قد يعارض، أو قصد به التخفيف عن الغلام فلا يخاطبه بجملتين تدلان يقيناً على الابتلاء لئلا يصير في الكرب قبل حلول البلاء ( فلا تدل) بضم المهملة ( عليّ) بتشديد الياء ( وكان) أي: صار ( الغلام يبرىء الأكمه) أي: يحصل البرء عقب علاجه فالإسناد إليه مجاز عقلي، والأكمه بفتح الهمزة وسكون الكاف: هو الذي ولد أعمى ( والأبرص) أي: من وقع به البرص داء معروف ( ويداوي الناس من سائر) أي: جميع ( الأدواء) أي: الأمراض والأسقام جمع داء والجملة معطوفة على «يبرىء» الخ، عطف عام على خاص، وخصا بالذكر لأنهما داءا إعياء ( فسمع) أي: به وهي ثابتة في الحديث في نسخة مصححة من التيسير للدبيع غير أني لم أر ذلك في أصله «جامع الأصول» فلعله من الكتاب ( جليس للملك كان قد عمي فأتاه) أي: فأتى الجليس الغلام ( بهدايا كثيرة، فقال) الجليس ( ما) أي: الذي ( هاهنا) أي: في هذا المكان من الهدايا كائن ( لك أجمع) تأكيداً لما أو للضمير المنتقل للظرف المستقرّ، وما مبتدأ خبره لك، وهاهنا صلة الموصول، ورواه الديبع بلفظ «هي لك» ولعل نسخته من مسلم كانت كذلك ( إن أنت شفيتني) أي: إن شفيتني أنت لا غيرك كما يؤذن به المقام، فإن شرطية وفعل الشرط محذوف ولما حذف انفصل الضمير المتصل به، وقوله: «شفيتني» تفسير لفعل الشرط المحذوف وجواب الشرط محذوف لدلالة سابق الكلام عليه، أي: إن شفيتني فلك جميع ما هاهنا ( فقال) الغلام ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) بفتح حرف المضارعة فيهما، والجملة الثانية مؤكدة لمضمون ما قبلها: أي إذا كان لا يشفي أحد إلا الله فلا أشفي أحداً، إذ لا شفاء إلا شفاؤه سبحانه وحذف المفعول من يشفي لعدم تعلق الغرض به نحو: زيد يعطي ويمنع، لبيان أنه يقع منه هذان الصنفان من غير تعرض لبيان المعطي والممنوع، أو للتعميم ( فإن آمنت با دعوت الله فشفاك) من عماك الحسي كما شفاك بالإيمان من عماك المعنوي ( فآمن) أي: الجليس ( با تعالى) عقب قولالغلام لسبق العناية به، وليترتب عليه ما سبق ترتبه عليه في علم الله سبحانه ( فشفاه ا) أي: حصل له الشفاء الموعود بترتبه على الإيمان ليزداد يقينه.
وزاد الترمذي «أنه أخذ عليه العهد إن رجع إليه بصره أن يؤمن بالذي رده عليه، فقال نعم، فدعا الله تعالى فردّ عليه بصره؛ فآمن الأعمى» وما في «الصحيح» مقدم على ما في غيره عند التعارض ( فأتى) الجليس ( الملك) بكسر اللام ( فجلس) مفضياً ( إليه) جلوساً ( كما كان يجلس) أي: إن جلوسه بعد شفائه مماثل لجلوسه قبل حلول دائه ( فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك) أي: إدراكك للمبصرات ( قال ربي) أي: ردّه ربي، أو ربي ردّه، فالأول مراعاة للخبر، والثاني للمبتدإ ( قال) يعني الملك ( أو لك ربّ غيري؟) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاري قبل العاطف: أي أو لك ربّ غيري ( قال) يعني الجليس ( ربي) أي: مالكي ومربيّ بألطافه ( وربك) كذلك ( ا) خبر عن قوله ربي، لأن المختلف فيه بينهما تعيينه ففيه قصر قلب ( فأخذه فلم يزل) الملك ( يعذبه) بتشديد الذال والتضعيف: إما باعتبار أنواع العذاب، أو باعتبار شدته وغلظه، ليدل على من علمه ما هو فيه ( حتى) غائية ( دل على الغلام فجيء بالغلام) أي: فأمر بالغلام فجيء به، وضع الظاهر موضع المضمر دفعاً لإيهامه أن المراد فأتي بالجليس ( فقال له الملك أي بُنيّ) بضم الموحدة وفتح النون وكسر التحتية المشددة ويجوز فتحها أصله «بنيو» اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت في مثلها ثم أضيف للياء فاجتمعت ثلاثة ياءات فحذفت الثالثة تخفيفاً؛ وكسرت الثانية في لغة للدلالة على المحذوفة/ وفتحت وسكنت في أخرى تخفيفاً، قاله على سبيل التلطف به أو على ما جرت به العادة من مخاطبة الكبير للصغير ( قد بلغ من سحرك ما) موصول اسمي أو نكرة موصوفة ( تبرىء الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) كناية عن كثرة تصرفاته ومزيد أعماله، وفي نسخة: وتفعل ما تفعل ( فقال: إني لا أشفي أحداً) رد لما يفهم من كلام الملك حيث نسب إليه إبراء المريض دون الله عز وجل، ثم أثبت الغلام ذلك وحده بقوله: ( إنما يشفي الله تعالى) فهو قصر قلب وما كافة وإنما أداة حصر على الصحيح كما تقرر في«الأصول» ( فأخذه) أي: أخذ الملك الصبيّ ( فلم يزل يعذبه) ليدل على من علمه ما هو فيه ( حتى) غائبة أي كان غاية تعذيبه أن ( دله على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك) حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض، ودينه هو ما دل عليه كلامه وصرح به من عبادة الله عزّ وجلّ ( فأبى) أي: امتنع أشد الامتناع ( فدعي بالمئشار) بالهمزة في رواية الأكثرين وهو الأفصح ويجوز تخفيف الهمزة وقلبها ياء، وروي «بالمنشار» بالنون لغتان صحيحتان، إذ يقال أشرت الخشبة ونشرتها ( فوضع المنشار) بالبناء للمجهول ( في مفرق رأسه) بكسر الراء: وسطه ( فشقه حتى وقع شقه) على الأرض ( ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى) أي: امتنع أشد امتناع ( فوضع المئشار) بالهمزة وبالنون ( في مفرق) بفتح الميم وكسر الراء: أي مكان فرق الشعر ( رأسه فشقه) مستعيناً ( به) أي: المنشار، واستمرّ يشقه ( حتى وقع شقاه) بكسر الشين المعجمة: أي: جانباه على الأرض ( ثم جيء بالغلام) ولعل تأخيره حتى يرى ما فعل بصاحبه فيرجع عما هو عليه ( فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر) بفتح أوليه اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه ( من أصحابه) أي: الملك: أي أتباعه وخدمه أو من أصحاب الغلام، ويؤيده قوله فيما يأتي: ما فعل أصحابك فقصد به زجرهم عن أن يقعوا فيما تسبب عنه عذابه ( فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) من ألفاظ الكنايات يكنى بها عن المجهول وعما لا يراد التصريح به قاله في «النهاية» ( فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه) فاتركوه، بدليل ( وإلا فاطرحوه) أي: وإلا يرجع فاطرحوه، فحذف فعل الشرط لدلالة سابق الكلام عليه ( فذهبوا به فصعدوا) بكسر العين المهملة ( به) أي: جعلوه صاعداً أو صعدوا بسببه أو معه ( الجبل فقال) الغلام ( اللهم اكفنيهم بماشئت) أي: بمشيئتك، فما مصدرية أو موصولة، أي: بالذي شئت من أنواع الكفاية إما بإهلاكهم أو بغيره ( فرجف) بفتح أوليه الراء فالجيم: أي تحرك واضطرب ( بهم الجبل) فسقطوا أي: بسبب اضطرابه: وفيه نصر من توكل على الله سبحانه وانتصر به وخرج عن حول نفسه وقواها ( وجاء) الغلام ( يمشي إلى الملك) ليريه آية الله تعالى بنصر أهل دينه لينكشف عن قلبه حجب الغواية فيرجع إلى الإيمان ( فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى) وحاق سوء فعلهم بهم ( فدفعه إلى نفر) آخرين ( من أصحابه، فقال اذهبوا به فاحملوه في قرقور) في النهاية هي السفينة العظيمة وجمعها قراقير ( وتوسطوا به البحر) أي: ليبعد الغور فيتعذر الخلاص ( فإن رجع عن دينه) فاتركوه ( وإلا) أي: وإلا يرجع عنه ( فاقذفوه) بكسر الذال المعجمة، أي: ارموه بقوّة ( فذهبوا به) حتى بلغوا وسط البحر ( فقال) الغلام ( اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة) أي: انقلبت بهم ( فغرقوا) يحتمل أنه كان معهم في القرقور فنجاته دونهم آية وهذا هو الأقرب/ ويحتمل أنه كان في قرقور آخر فغرق قرقورهم ونجا ما كان هو فيه ( وجاء) الغلام ( يمشي إلى الملك) ليريه الآيات الكبرى المرّة بعد الأخرى ليبصر ضياء الإيمان، ولكن لا تبصر أعين العميان ( فقال له الملك ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، فقال) الغلام ( للملك: إنك لست بقاتلي) أي: في أي حال من الأحوال كما يقتضيه تأكيد النفي بزيادة الباء في الخبر ( حتى تفعل) أي: إلا في حال أن تفعل ( ما آمرك به، قال) الملك ( ما هو) أي: أيّ شيء الأمر الذي تأمرني به ( قال أن تجمع الناس في صعيد واحد) أي: أرض واحدة ومقام واحد ( وتصلبني) بضم اللام من الصلب وهو تعليق الإنسان للقتل، وقيل: شد صلبه على خشبة، كذا في «مفردات الراغب» ( على جذع) بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة: أي عود من أعواد النخلوجمعه جذوع ( ثم خذ سهماً من كنانتي) بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف: بيت السهام ( ثم ضع السهم في كبد) بفتح فكسر، أو بفتح، أو كسر مع سكون للثاني فيهما: أي وسط ( القوس ثم قل) أتى بثم لتفاوت منزلة ما بعدها وما قبلها، وهي قد تستعار لذلك كما في «الكشاف» في قوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} ( البقرة: 199) وإلا فمقتضى المقام الإتيان بالفاء، لأن ذلك الذكر مطلوب منه عقب وضع السهم في كبد القوس بلا مهلة ( باسم ا) .
قال المصنف في «شرح مسلم» نقلاً عن الكتاب إنها تكتب في هذا وأمثاله بإثبات الألف بعد الموحدة.
قال: وإنما تحذف إذا كانت البسملة بجملتها لكثرته كذلك فخفف بحذفها ( ربّ الغلام) تمم به الغلام لئلا يوهم الملك الحاضرين أن الغلام أراد بقوله باسم الله معبود ذلك الملك أو الملك وإن كان لفظ الجلالة لم يسم به غير الله تعالى، ونظيره ما حكي عن السحرة { قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهرون} ( الأعراف: 121 - 122) وإلا فالجلالة أعرف الأسماء ومتعلق الأوصاف الحسنى ( ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك) المذكور ( قتلتني) إسناد القتل إليه مجاز عقلي: أتيت بما جعله الله سبباً لقتلي، وقصد الغلام من هذا الكلام إفشاء توحيد الله تعالى بين الناس وإظهار أن لا مؤثر في شيء سواه، ولم يفطن الملك لذلك لفرط غباوته ( فجمع) الملك ( الناس في صعيد) مقام ( واحد وصلبه) الضمير المستكن يعود للملك والبارز للغلام ( على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته) أي: كنانة الغلام ( ثم وضع السهم في كبد) وتر ( القوس، ثم قال: باسم الله ربّ الغلام) أي: أرميه لأقتله ( ثم رماه فوقع السهم في صدغه) بضم الصاد وسكون الدال المهملتين: هو ما بين العين إلى شحمة الأذن ( فوضع) الغلام ( يده في) أي على ( صدغه) لتألمه من السهم ( فمات، فقال الناس) لما رأوا الآية العظمى الشاهدة تعالى بالوحدانية وأنه الفاعل المختار ولا فاعل سواه وأنه هو الإله ( آمنا برب الغلام، فأتى) بصيغة المجهول ( الملك) أي: حين وقعفيما حذر منه من توحيد الله تعالى والإيمان به ( فقيل له أرأيت) بفتح التاء: أي أخبرني ( ما كنت تحذر) ما مبتدأ والجملة صلته والعائد محذوف أي تحذيره، والخبر ( قد وا نزل بك حذرُك) أو ما كنت تحذر منه من إيمان الناس وقع بك، والفضل بين قد ومدخولها بالقسم للتأكيد والاهتمام الذي يقتضيه المقام ( قد آمن الناس) تفسير للذي كان يحذر منه ( فأمر) بالبناء للفاعل: أي الملك أو بالبناء للمفعول ( بالأخدود) بضم الهمزة والدال المهملة الأولى وسكون المعجمة بينهما واو وبين الدالين ( بأفواه السكك) الأفواه جمع فوه/ والسكك بكسر أوله المهمل وفتح ثانيه جمع سكة: وهي الطرق، والمراد من أفواهها أبوابها ( فخدت) بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة أي شقت الأخاديد ( وأضرم) بالبناء للمجهول ( فيها) أي: في الأخدود ( النيران) جمع نار ( وقال) أي: الملك ( من لم يرجع عن دينه) أي: الإيمان الذي صار إليه ( فأقحموه) بهمزة القطع: أي ألقوه كرهاً ( فيها أو) شك من الراوي ( قيل له) أي: لمن لم يرجع عن دينه ( اقتحم) أي: النار فالمفعول محذوف، والمراد أنه شك هل أمرهم بإلقاء من أبى، أو بأمره أن يلقى نفسه فيها ( ففعلوا) أي: ما أمروا به من الأخدود وما بعده، واستمروا كذلك ( حتى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها) أي: في غير أوان الكلام كما أشار إليه المصنف، وزاد أنه كان سنه أكبر من سن صاحب المهد وإن كان صغيراً.
قلت: جاء في رواية عند أبي قتيبة: أنه كان ابن سبعة أشهر، ولم يذكره صاحب «الابتهاج» .
وفي «المعراج» : ذكر ابن المشاطة وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم.
وقال غيره: وقد تكلم في الصغر جماعة وبلغ عدّه لهم عشرة.
ولا ينافي خبر «الصحيحين» لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر عيسى وصاحب جريج وابن المرأة التي مر عليها بامرأة يقال لها: زنت، لاحتمال أنه قاله قبل أن يعلم الزيادة، أو أن المراد من بني إسرائيل، وقد نظم الحافظ جلال الدين السيوطي أسماءهم فقال: تكلم في المهد النبيّ محمد ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلموطفل عليه مر بالأمة التي يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها وفي زمن الهادي المبارك يختم قلت: وقد نظمت أسماءهم في أبيات ستأتي إن شاء الله تعالى في باب فضل ضعفة المسلمين ( فتقاعست) أي توقفت ولزمت موضعها وكرهت ( أن تقع فيها) أي: في النار ( فقال لها الغلام) بلسانه ( يا أماه) بسكون الهاء وهي الوقف لحقت آخر المندوب المتفجع عليه ( اصبري) أي: على هذا العذاب فإنه يئول إلى جزيل الثواب ( فإنك على) الدين ( الحق) أي: الإيمان، وفي «الكشاف» : وقيل: قال لها قعي ولا تقاعسي، وقيل ما هي إلا غميضة.
فصبرت ( رواه مسلم) ، وكذا رواه الترمذي، وفيه بعض اختلاف وزيادة ونقص، وقوله في الحديث: ( ذروته) أي: ( أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها) وجمعها ذرى بضم ففتح ( والقرقور بضم القافين) وإسكان الراء المهملة بينهما ( نوع من السفن) تقدم عن «النهاية» أنه السفينة العظيمة ( وانكفأت) السفينة ( أي انقلبت، وتقاعست) بالقاف والعين والسين المهملتين ( توقفت وجبنت) عن ولوج الأخدود، وقضية مراعاة سياق الحديث ذكر هذه المادة آخر ما يذكر من غريب الحديث، وقد وجد كذلك في أصل قديم ( والصعيد هنا) أي: في قوله: «في صعيد واحد» ( الأرض البارزة) ومن هذه المادة قوله في الحديث القدسي «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد» الحديث، وقيده بقوله هنا احترازاً عنه في نحو قوله تعالى: { فتيمموا صعيداً طيباً} ( النساء: 43) فإن المراد منه التراب ( والأخدود) بضم الهمزة ( الشقوق) بضم أولِه جمع شق ( في الأرض كالنهر الصغير، وأضرم) بالضادالمعجمة ( أوقد) وفي الحديث بيان شرف الصبر، وأنه وإن عظم في الألم وتحمل الشائد فهو سهل في جنب ما أعد لصاحبه من الثواب.
وفيه فضل الثبات على الدين وإن عذب بأنواع العذاب كما وقع من بلال في أول الإسلام، وإن كان يجوز في مثل هذه الحالة الإتيان بألفاظ الكفر مع الإيمان القلبي لعذر الإكراه كما وقع من عماربن ياسر، إلا أن ما وقع من بلال أفضل لما في الحديث: «إن مسيلمة أخذ أسيرين من أصحاب النبي، فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله فقال: ما تقول فيّ؟ فقال: وأنت: فأرسله، وقال للآخر ما تقول في محمد؟ فقال: رسولالله، فقال: وما تقول فيّ؟ فقال: لا أدري فلم يزل يسأله وهو يجيبه بذلك حتى قطعه إرباً إرباً، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما أحدهما فقد أخذ برخصةالله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» وأورد الحديث ابن كثير وغيره في تفاسيرهم.


رقم الحديث 31 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: مرّ النبيّ بامرأة تبكي عند قبر) قال في «فتح الباري» : لم أقف على اسم المرأة ولا على اسم صاحب القبر.
وفي رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، وصرح به في مرسل يحيىبن أبي كثير عن عبد الرزاق فقال: قد أصيبت بولدها ( فقال لها اتقي الله واصبري) .
وفي رواية أبي نعيم في «المستخرج» «فقال: يا أمة الله اتقي ا» .
قال القرطبي: الظاهر أنها كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى.
قال في «فتح الباري» : ويؤيده أن في مرسل يحيىبن أبي كثير المذكور «فسمع منها ما يكره، فوقف عليها» .
وقال الطيبي: قوله اتقي الله توطئة لقوله: واصبري، كأنه قال لها: خافي غضب الله إن لم تصبري واصبري ليحصل لك الثواب ( فقالت إليك) اسم فعل بمعنى تنحّ وأبعد ( عني فإنك لم تصب) بالبناء للمجهول ( بمصيبتي) .
وفي رواية للبخاري: «فإنك خلو من مصيبتي» وهو بكسر الخاء وسكون اللام.
ولمسلم «ما تبالي بمصيبتي» .
ولأبي يعلى من حديث أبي هريرة «أنها قالت: يا عبد الله إني الحراء الثكلى، ولو كنت مصاباً لعذرتني» ( ولم تعرفه) جملة حالية أي خاطبته بذلك غير عارفة أنه النبيّ ( فقيل لها: إنه النبيّ) .
وفي رواية لأبي يعلى: «فمر بها رجل فقال لها: هل تعرفينه؟ قالت: لا» وللطبراني في«الأوسط» من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضلبن العباس.
زاد مسلم في رواية له «فأخذها مثل الموت» أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياء منه ومهابة ( فأتت) للاعتذار ( باب النبي فلم تجد عنده بوابين) .
قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها: إنه النبي، استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها وتصورت أنه مثل الملوك له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصوّرته ( فقالت لم أعرفك) في حديث أبي هريرة: «وا ما عرفتك» ( فقال) ( إنما الصبر) أي الذي يحمد عليه صاحبه كل الحمد ما كان ( عند الصدمة الأولى) أو عند مفاجأة المصيبة.
بخلاف ما بعدها فإنه على عود الأيام يسلو، قاله الخطابي.
وقال الطيبي: صدر الجواب منه بهذا عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار فإني لا أغضب لغيرالله، وانظري إلى نفسك في تفويتك الثواب الجزيل بعدم الصبر عند مفاجأة المصيبة.
وقال ابن المنير: فائدة جواب المرأة بذلك أنها لما جاءت طائعة لما أمرها به من التقوى والصبر معتذرة من قولها الصادر عن الحزن، بين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال فهو الذي يترتب عليه الثواب: أي كماله اهـ.
( متفق عليه) وكذا أخرجه الترمذي والنسائي كما في «أمالي الأذكار» للحافظ ابن حجر، لكن في تيسير الوصول للديبع: أخرجه الخمسة إلا النسائي، يعني: الشيخين وأبا داود والترمذي فليحرر ذلك، ( وفي رواية) أي أخرى ( لمسلم تبكي على صبيّ لها) وهذه الرواية هي المشار إليها في كلام «فتح الباري» السابق المشعرة بأن صاحب القبر كان ابناً للباكية.


رقم الحديث 32 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى) هذا من الأحاديث القدسية وهي أكثر من مائة حديث جمعها بعضها في جزء كبير، والفرق بينه وبين القرآن أن القرآن اللفظ المنزل للإعجاز، والقدسي ما أخبر الله به نبيه بالإلهام أو رؤيا المنام أو غيره من كيفيات الوحي، فعبر عنه بعبارته، فلا يكون معجزاً ولا متواتراًكالقرآن، ولذا لم يثبت له شيء من أحكامه: من حرمة حمله ومسه على المحدث، وقراءته على الجنب، وبيعه في رواية عن أحمد، وكراهته عندنا، وحصول الثواب على كل حرف منه لقارئه بعشر حسنات وغير ذلك.
ثم لروايته صيغتان تقدم ذكرهما في باب الإخلاص.
وما عبر به في هذه الرواية فهو قريب من العبارة الأولى وهي عبارة السلف التي عبر بها المصنف ثمة، والله أعلم ( ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت) بفتح الموحدة ( صفية) أي: حبيبه لأنه يصافيه وده ويخلصه محبته، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ( من أهل الدنيا) بيان للواقع ( ثم احتسبه) بأن يرجو ثوابه ويدخره عند الله تعالى وذلك ينبىء عن الصبر والتسليم ( إلا الجنة) أي دخولها مع الناجين، وذلك لا ينافي الورود تحلة القسم ( رواه البخاري) في كتاب الرقاق من «صحيحه» .


رقم الحديث 33 ( وعن عائشة رضي الله عنها) جملة دعائية مستأنفة أو خبرية في محل الحال ونظيره فيهما جملة «» وينبغي أن يراد بهما الأول منهما لإحراز ثواب الدعاء به ( أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن) شأن ( الطاعون) وحقيقته كما يؤخذ من الأحاديث بثر مؤلم يخرج غالباً في الآباط مع لهب واسوداد حواليه وخفقان القلب والقيء، وهو كما قال الحافظ ابن حجر: أخصّ من الوباء لأنه وخز الجنّ، والوباء المرض العام ( فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء) في نسخة من البخاري ( على من شاء) أي من كافر أو عاص بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ( وجعله رحمة للمؤمنين) قال الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري: أي غير مرتكبي الكبائر.
والتخصيص يحتاج للتوقيف ( فليس من عبد يقع في الطاعون) أي به أو في بلده، أو هو من قبيل التجريد نحو: { لكم في رسول الله أسوة حسنة} ( الأحزاب: 21) .
وفي رواية بحذف في ( فيمكث في بلده) التي وقع بها الطاعون ( صابراً) علىما نزل به أو ببلده ( محتسباً) أي راجياً للأجر والثواب من الله ( يعلم أنه لا يصيبه) شيء ( إلا ما كتب له) العائد على ما محذوف ( إلا كان له مثل أجر الشهيد) وإن مات بغير الطاعون، فإنه حيث كان موصوفاً بما أشار إليه الحديث من قصده ثواب الله ورجائه موعوده، عارفاً أنه لو وقع به فبتقديرالله.
وإن صرف عنه فكذلك، وهو غير متضجر لو وقع به معتمداً على ربه في حال صحته وسقمه كان له أجر الشهيد وإن مات بغير الطاعون كما هو ظاهر الحديث، ويؤيده رواية «من مات في الطاعون فهو شهيد» ولم يقل بالطاعون/ وكذا لو وجد من اتصف بهذه الصفات ثم مات بعد انقضاء زمن الطاعون، فإن ظاهر الحديث أنه شهيد، ونية المؤمن أبلغ من عمله، أما من لم يتصف بالصفات المذكورة فإن مفهوم الحديث أنه لا يكون شهيداً وإن مات بالطاعون.
ومما يستفاد من هذا الحديث أن الصابر في الطاعون المتصف بالصفات المذكورة يأمن من فتان القبر لأنه نظير المرابطة في سبيلالله، وقد صح ذلك في المرابط كما في حديث مسلم وغيره اهـ ملخصاً من «فتح الباري» ( رواه البخاري) وكذا أحمد والنسائي.


رقم الحديث 34 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ يقول) جملة حالية عن مفعول سمعت، وأتى بها مضارعة بعد سمع: حكاية للحال الماضية ( إن الله عز وجل) أي: عزّ شأنه وجل برهانه، وأتى بهما وإن كانا في المعنى متقاربين لأن مقام الثناء مقام إطناب، وهذا حديث قدسي لأنه روى عن ربه سبحانه أنه ( قال) أي: بكلامه النفسي الذي هو صفة ذاته ( إذا ابتليت عبدي) أي عاملته معاملة المبتلي: أي المختبر، فإن الابتلاء إنما يكون من الجاهل بعواقب الأحوال وا بكل شيء عليم، وهو يستعمل في الخير والشر ( بحبيبتيه فصبر) على فقدهما محتسباً لأجرهما مدخراً له عند الله تعالى ( عوّضته منهما) أي بدلهما فهو كقوله تعالى: { أرضيتم بالحيوة الدنيا من الآخرة} ( التوبة: 38) ( الجنة) أي: مع الفائزين أو منازل مخصوصة منهما ( يريد) أي: النبي بحبيبتيه ( عينيه) محضهما بذلك لأنهما أحبّأعضاء الإنسان إليه ( رواه البخاري) وأخرج الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «يقول الله عز وجل: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة» ووجه هذا الجزاء أن فاقدهما حبيس، فالدنيا سجنه حتى يدخل الجنة على ما ورد في الحديث: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» .