فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة

رقم الحديث 240 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: لا يستر عبد) أي إنسان ولو كان مكلفاً ( عبداً) أي من ذوي الهيئات غيرمعروف بالشر والأذى على ذنب مضى منه كما سبق بسط ما يستر فيه ومالاً في الباب قبله ( في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) إما بأن يمحو ذنبه ولا يسأله عنه ابتداء أو يسأله عنه من غير أن يطلع عليه أحداً من الخلق كما في حديث ابن عمر في ذلك في الصحيح ثم يعفو عنه، وكان الجزاء بالستر ليوافق الجزاء العمل الصالح والنعم الصادرة منه عز وجل أعلى وأتم، ولا شك أن الستر في ذلك اليوم أكثر عدداً وأعظم جرماً ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 241 ( وعنه) أي أبي هريرة ( رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل أمتي معافىً) اسم مفعول من المعافاة وهو من العفو مرفوع تقديراً خبر كل، يعني كلهم سالمون عن ألسن الناس وأيديهم ( إلا المجاهرين) قال العلقمي قال شيخنا وللنسفي «إلا المجاهرون» بالرفع على البدل وهو رأي الكوفيين اهـ.
» وقال ابن مالك في التوضيح لشواهد «الجامع الصحيح» حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب أن ينصب مفرداً كان أو مكملاً وروده مرفوعاً بالابتداء ثابت الخير ومحذوفه، فمن الثابت الخبر قول ابن أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، وإلا بمعنى لكن وأبو قتادة مبتدأ ولم يحرم خبره، ومن المبتدأ بعد إلا المحذوف الخبر قول النبي: «كل أمتي معافىً إلا المجاهرون» أي لكن المجاهرون لا يعافون، وللكوفيين في هذا الذي يغتفر مذهب آخر، وهو أن يجعلوا إلا حرف عطف وما بعدها معطوف على ما قبلها اهـ.
قلت: وقد سبقه إلى استدراكها ابن هشام في «المغني» ، وزاد الجملة المسند إليها نحو: { وإذا قيل إن وعد الله حق} ( الجاثية: 32) وأول الشيخ أكمل الدين في «شرح المشارق» الرفع بأن معافىً في معنى النفي فيكون استثناء من كلام تام غير موجب.
قال في «فتح الباري» : المجاهر الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فتحدث بها، والمجاهر في هذا الحديث يحتمل أن يكون من جاهر بمعنى جهر والنكتة التعبير بفاعل المبالغة، ويحتمل أن يكون على ظاهر المفاعلة، والمراد الذين يجاهر بعضهم بعضاً بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث يؤيد الاحتمال الأول ( وإن من المجاهرة) قال السيوطي: كذا للنسفي والكشميهني: أي في رواية البخاري وللأكثر من المجانة، وهو تصحيف، قاله عياض، ولمسلم من الإجهار ولأبي نعيم من الجهار، والثلاثة بمعنى الظهور والإظهار، وفي رواية لمسلم الهجار، وللإسماعيلي الإهجار وهمابمعنى الفحش والخنا وكثرة الكلام.
قال عياض: هما أيضاً تصحيف ( أن يعمل العبد) وفي نسخة الرجل ( بالليل عملاً ثم يصبح) بالنصب ( وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان) بالبناء على الضم لأنه كناية عن معين وهو الذي يحدثه العاصي عنمعصيته ( عملت البارحة) قال في «الفتح» : هو أقرب ليلة مضت من وقت القول وأصلها من برح: إذا زال ( كذا وكذا) قال في «النهاية» : هي من ألفاظ الكنايات مثل كيت وكيت ومعناه: مثل ذا، ويكنى بها أيضاً عن المجهول وما لا يراد التصريح به اهـ.
وهذا قد تقدم نقله عن «النهاية» ( وقد بات يستره ربه) جملة حالية من فاعل يقول: ( ويصبح) معطوفاً على يصبح ( يكشف ستر ا) الكائن ( عليه) قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم وفي التستر بها السلامة من الاستخفاف، لأن المعاصي تذلّ فاعلها من إقامة الحد عليه إن كان فيها حد، ومن التعزير إن لم توجب حداً، وإذا تمحض حق الله وهو أكرم الأكرمين، فكذا إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة والذي يجاهر بها يفوته جميع ذلك، والحديث مصرّح بذمّ من جاهر بالمعصية، فيستلزم مدح من تستر، وستر الله مستلزم لستر المؤمن على نفسه.
فمن قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها فقد أغضب ربه فلم يستره.
ومن قصد التستر بها من الله عليه بستره إياها اهـ.
ملخصاً من «فتح الباري» ( متفق عليه) وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن أبي قتادة بلفظ «كل أمتي معافى إلا المجاهر، الذي يعمل العمل بالليل فيستره ربه ثم يصبح فيقرأ: يا فلان إني عملت البارحة كذاوكذا فيكشف ستر ا» كذا في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 242 ( وعنه) أي أبي هريرة رضي الله عنه ( عن النبي: إذا زنت الأمة) أي الرقيقة ( فتبين زناها) برؤيته لذلك أو إقرارها أو إقامة بينة الزنا ( فليجلدها) بكسر لام الفعل ( الحد) هو خمسون سوطاً والحد مفعول مطلق ( ولا يثرب عليها) أي يوبخها ويقرعها بالذنب نحو يا زانية يا فاجرة لما فيه من الفحش ( ثم) بعد الحد ( إن زنت) مرة ثانية ( فليجلدها الحد) وفي رواية بحذف الحد هنا ( ولا يثرّب عليها) أي وإن تكرّر منها الذنب لاستيفاء مقتضاه بالحد ( ثم) بعد الحد في الثانية ( إن زنت) المرة الثالثة ( فليبعها) ندباً عند الجمهور، وقال داود وجوباً ( ولو بحبل من شعر) مسارعة لمفارقة أرباب المعاصي وتركمخالطتهم، وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب.
فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟ فالجواب: لعلها تتعفف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها والتوسعة عليها أو يزوّجها أو غير ذلك، ذكره المصنف في «شرح مسلم» ( متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضاً كما في «الأطراف» للمزي، وطرقه إلى سعيد المقري كثيرة جداً ( التثريب) مصدر ثرب بالمثلثة ( التوبيخ) أي والتقريع بالذنب كما تقدم.


رقم الحديث 243 ( وعنه) أي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه قال: أتى) بالبناء للمجهول ( النبي برجل قد شرب) أي مسكراً ( قال: اضربوه) أي حداً ( قال أبو هريرة: لنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه) ومنه كأحاديث أخر في معناه يؤخذ حصول حد الخمر بالجلد باليد وأطراف الثوب وقد نقل الصنف إجماع العلماء على ذلك وما في معناه في مفرداته خزي الرجل: أي بوزن علم، لحقه انكسار؟ إما من نفسه وإما من غيره.
فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية، والذي من غيره يقال هو ضرب من الاستخفاف ومصدره الخزي وأخزى يقال منهما جميعاً.
وقوله تعالى: { لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} ( التحريم: 8) الأقرب كونه من الخزي وإن جاز كونه منهما جميعاً.
قلت: ومثله ما في الحديث ( قال: لا تقولوا هكذا) أي مثل هذا الدعاء ( لا تعينوا عليه الشيطان) جملة استئنافية لبيان حكمة النهي عن ذلك القول: أي ادعوا له بالتوفيق والنجاة من الخذلان ولا تكونوا بدعائكم عليه أعواناً عليه للشيطان ( رواه البخاري) .


رقم الحديث -29 باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة من خوف أن يتسلط على إيذاء الغير والتعرض لإضرارهم (قال الله تعالى) : { إن الذين يحبون أن تشيع} ) أي تفشو، يقال شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيوعة: أي تفرق وظهر (الفاحشة) الفعل القبيح المفرط القبح.
وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيء ( { في الذين آمنوا} ) قال القرطبي في المحصنين والمحصنات والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان ( { لهم عذاب أليم} ) والآية في العصبة الذين جاءوا بالإفك، والمصنف أوردها لما يقتضيه عموم لفظها من حصول العذاب لمن أحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين ( { في الدنيا} ) بالحد بالقذف (و) (الآخرة) بالنار لحق الله.