فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الاستِقامة

رقم الحديث 85 ( وعن أبي عمرو) بفتح العين المهملة ( وقيل أبي عمرة) بزيادة تاء في آخره ( سفيان) بضم السين على الأفصح وهو بتثليث السين ( ابن عبد الله الثقفي رضي الله عنه) معدود من أهل الطائف/ كان عاملاً عليه لعمر حين عزل عنه عثمانبن أبي العاص ونقله إلى البحرين.
وروى له مسلم هذا الحديث والترمذي والنسائي وابن ماجه ( قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام) أي: في دينه وشريعته ( قولاً) جامعاً لمعاني الدين واضحاً في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأكتفي به، بحيث ( لا أسأل) أي: لا يحوجني لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول ونهاية الإيضاح والظهور إلى أن أسأل ( عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت با) أي: جدد إيمانك متذكراً بقلبك ذاكراً بلسانك مستحضراً تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل ( ثم استقم) على عمل الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيء من الاعوجاج فإنها ضده، والحديث على وفاق الآية قبله ( رواه مسلم) وأخرجه أحمد والدارمي وابن حبان في «صحيحه» والطبراني في «الكبير والضياء» في «المختارة» والحاكم في «مستدركه» للبيهقي في شعب الإيمان والخرائطي في مكارم الأخلاق وغيرهم، قال المصنف: هذا أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.


رقم الحديث 86 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: قاربوا وسددوا، واعلموا أنه) أي: الشأن ( لن ينجو أحد منكم من الله بعمله، قالوا: ولا أنت) أي: ولا تنجو بعملكفحذف الفعل فانفصل الضمير، ويحتمل أن يكون ولا أنت ناج بعملك فيكون مبتدأ محذوف الخبر ( قال: ولا أنا) أي: ولا أنجو، أو ولا أنا ناج بالعمل ( إلا أن يتغمدني) أي: يغمرني ( ابرحمة منه وفضل) ويلبسنيها ويغمرني بها ومنه غمدت السيف وأغمدته: أي: جعلته في غمدة وسترته به.
قال المصنف في «شرح مسلم» : مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب ولا حكم شرعي، ولا يثبت ذلك كله إلا بالشرع.
ومذهبهم أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، بل الدنيا والآخرة ملكه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو عذب المطيعين جميعهم وأدخلهم النار لكان عدلاً منه ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر وخبره صدق أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته ويعذب الكافرين ويدخلهم النار عدلاً منه.
وفي هذا الحديث دليل ظاهر لما قلناه من أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعته.
وأما قوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} ( النحل: 32) ونحوها من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة، فهي لا تعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله وفضله، فصحّ أنه لم يدخل الجنة أحد بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث.
ويصح أن يقال: إنه دخل بالأعمال المسببة عن الفضل: أي: بسببها وهي من الرحمة اهـ ملخصاً.
وأشار العارف با تعالى ابن أبي جمرة إلى جواب آخر حاصله أن الأعمال أسباب عادية كسائر الأسباب التي هي من مقتضيات الحكمة ولا تأثير لها في دخول الجنة، فالنفي باعتبار التأثير بمعنى أن الذي يؤثر في دخول الجنة في الحقيقة إنما هو الله تعالى لا الأعمال، فإنما هي مجرد أسباب صورية اقتضتها الحكمة الإلهية والإسناد إليها تارة باعتبار أنها سبب صوري، وسيأتي في باب بيان طرق الخير أجوبة أخرى.
قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث دلالة على أنه ليس أحد من الخلق يقدر على توفية حق الربوبية على ما يجب لها.
يؤخذ ذلك من قوله: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فإذا كان هو وهو خير البشر وصاحب المقامات العلا لا يقدر على ذلك فالغير أحرى وأولى.
وإذا تأملت ذلك من جهة النظر تجده مدركاً حقيقة لأنه إذا طالبنا بشكر النعم التي أنعم علينا عجزنا عنه بالقطع ومنها ما لا نعرفه كما قال: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ( ابراهيم: 34) فكيف غير ذلك من أنواع التكليفات فما بقي إلا ما أخبر به الصادق وهو التغمد بالفضل والرحمة ( رواه مسلم.
والمقاربة: القصد الذي لا غلوّ فيه)
أي: مجاوزة المأمور به والزيادة فيه ( ولا تقصير) أي إخلال بشيء منه ( والسداد) بفتح الأولى ( الاستقامة والإصابة) قال بعضهم: السداد هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها: هي الاستقامة ( ويتغمدني: يلبسني ويسترني) هو مثل يتغمدني في التعدي بالباء وإن كان لا يلزم من ترادف معنى الفعلين توافقهما في الاستعمال والصلة كصلى فإنه بمعنى دعا، ومع هذا فالأول يعدى بعلى في الخير والثاني لا يعدى بها إلا في الشرّ.
( قال العلماء: معنى الاستقامة) المطلوبة الممدوحة بالكتاب والسنة ( لزوم طاعة الله تعالى) ويلزم من ذلك ترك منهياته ( قالوا) أي: العلماء ( وهي من جوامع الكلم) هو أن يكون اللفظ قليلاً والمعنى جزيلاً وهو ما أعطيه ( وهي) أي الاستقامة ( نظام الأمور) .
قال بعض العلماء: الاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال وصفاء القلوب في الأعمال وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال.
قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: من لم يكن مستقيماً في حاله ضاع عمله وخاب جده، ونقل أنه لا يستطيعها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المألوفات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق، ولعزتها أخبر أن الناس لن يطيقوها، فقد أخرج أحمد «استقيموا ولن تطيقوا» .


رقم الحديث -6 في «مفردات الراغب» : استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} اهـ.
وقال بعض العارفين: مرجع الاستقامة إلى أمرين صحة الإيمان با واتباع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً.
وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تقوم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب.
(قال الله تعالى: { فاستقم كما أمرت} ) الخطاب فيه للنبي، يعني فاستقم يا محمد على دين ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرك ربك، والأمر فيه للتأكيد لأن النبيّ كان على الاستقامة لم يزل عنها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك: أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك.
وفي «تفسير القرطبي» أن الذي شيبه من سورة هود قوله: «فاستقم كما أمرت» وقال: روي عن عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا علي الشنوي يقول: رأيت النبي في المنام فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت «شيبتني هود، فقال: نعم، فقلت له: ما الذي شيبك منها: قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال لا، ولكن قوله: { فاستقم كما أمرت} اهـ.
(وقال تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} ) على التوحيد وغيره مما وجب عليهم (تتنزّل عليهم الملائكة) عند الموت (أن) أي: أو بأن (لا تخافوا) من الموت وما بعده (ولا تحزنوا) على ما خلفتم من أهل وولد فنحن نخلفكم فيهم ( { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا) أي: حفظتكم (وفي الآخرة}
) أي: نكون معكم فيها حتى تدخلوا الجنة ( { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم} ) قيل: في إضافتها إليهم إشارة إلى تنعم أنفسهم التي ذاقت المرارة في الدنيا وانظر إلى { تشتهي} وإلى قوله: { تدعون} في قوله: ( { ولكم فيها ما تدعون} ) أي: تطلبون، فإن فيه إشارة إلى تفاوت المرات، ولا يخفى أن ذلك مما تذهب فيه النفس كل مذهب ( { نزلاً} ) رزقاً مهيئاً منصوب بجعل مقدراً ( { من غفور رحيم} ) وهو الله تعالى، وإذا كان هذا النزل وهو الكرامة المعجلة فكيف بالمؤجلة، رزقنا الله تعالى اتباع الكتاب والسنة وختم لنا بالحسنى بمنه آمين.
(وقال تعالى) : { إن الذين قالوا ربنا ا} ) أي: آمنوا به ووحدوه ( { ثم استقاموا} ) اعتدلوا على ذلك وداموا عليه إلى أن يتوفاهم الله عليه، والمراد الاستقامة على التوحيد الكامل واتباع الكتاب والسنة ( { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أولئك أصحاب الجنة}
) بفضل الله تعالى، قال: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» .
الحديث (خالدين فيها) حال مقدرة (جزاء) منصوب على المصدرية بفعله المقدر: أي: يجزون جزاء (بما كانوا يعملون) .