فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - بابُ المجاهدة

رقم الحديث 95 ( فـ) الحديث ( الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى قال: من عادى) من المعاداة: ضد الموالاة ( لي) حال من قوله ( ولياً) قدر من تأخير وكان قبل صفة أو ظرف لغو متعلق بالوصف قدم اهتماماً به، وهو من تولى الله بالطاعة والتقوى فتولاه الله بالحفظ والنصرة، من الولي: وهو القرب والدنوّ، فالوليّ هو القريب من الله تعالى لتقرّبه إليه باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والإكثار من نوافل العبادات مع كونه لا يفتر عن ذكره، ولا يرى غيره بقلبه لاستغراقه في نور معرفته، فلا يرى إلا دلائل قدرته ولا يسمع إلا آياته ولا ينطق إلا بالثناء عليه ولا يتحرّك إلا في طاعته، وهذا هو المتقي قال تعالى: { إن أولياؤه إلا المتقون} ( الأنفال: 34) ( فقد آذنته) بالمد ( بالحرب) أي: أعلمته بأني محارب له، أي: أعامله معاملة المحارب من التجلي عليه بمظاهر الجلال والعدل والانتقام.
ومن عامله الحق بذلك فإنه لا يفلح، فهو من التهديد في الغاية القصوى، إذ غاية تلك المحاربة الإهلال، فهي من المجاز البليغ، وكأن المعنى فيه ما اشتملت عليه تلك المعاداة من المعاندة تعالى بكراهة محبوبه، والوعيد لمن عادى ولياً من أجل ولايته وقربه من الله تعالى، وذلك كإيذاء من ظهرت أمارات ولايته باتباع الكتاب والسنة، إما بإنكارها عناداً أو حسداً، أو بعدم الجري على ما ينبغي له من التأدب معه، أو بنحو سبه وشتمه من سائر أنواع الإيذاء التي لا مسوغّ لها شرعاً مع علم متعاطيها بذلك.
أما منازعة الوليّ في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض فلا يدخل في هذا الوعيد، فقد جرى نوع ما من الخصومة بين أبي بكر وعمر وبين عليّ والعباس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع أن الكل أولياء الله تعالى.
وإذا علم ما في معاداة الوليّ من الوعيد والتهديد علم ما في موالاته من جسيم الثواب وباهر التوفيق والهداية والقرب والتأييد ( وما تقرّب إليّ عبدي) إضافته للتشريف المؤذن بمزيد الرفعة والتأهل لعليّ المقامات ( بشيء أحبّ إليّ من) أداء ( ما افترضت) به ( عليه) عيناً كان أو كفاية كالصلاة وأداء الحقوق إلى أربابها وبرّ الوالدين ونحو ذلك منالأمور الواجبات، لأن الأمر بها جازم فيتضمن أمرين: الثواب على فعلها، والعقاب على تركها، بخلاف النفل، فلذا كان الفرض أكمل وأحب إلى الله وأشدّ تقرّباً.
وروي أن ثواب الفرض يفضل ثواب النفل بسبعين درجة؛ وبالجملة فالفرض كالأس والنفل كالبناء على ذلك الأس، ( وما يزال عبدي) إضافته لما تقدم ( يتقرّب) وفي رواية: «يتحبب» ( إليّ بالنوافل) أي: بالتطوعات من جميع أصناف العبادات ظاهرها كقراءة القرآن إذ هو من أعظم ما يتقرب به، وكالذكر وكفى في شرفه قوله تعالى: ( { فاذكروني أذكركم} ) ( البقرة: 152) وباطنها كالزهد والورع والتوكل والرضا وغير ذلك من سائر أحوال العارفين سيما محبة أولياء الله تعالى وأحبائه فيه ومعاداة أعدائه فيه ( حتى أحبه) بضم أوله والفعل منصوب.
ومحبة الله تعالى للعبد كما تقدم توفيقه لما يرضيه عنه، وإثابته ومعاملته بالإحسان، فعلم أن إدامة النوافل بعد أداء الفرائض، إذ من غير أدائها لا يعتد بالنوافل كما يشير إليه تأخير هذه وتقديم تلك، تفضي إلى محبة الله تعالى للعبد وصيرورته من جملة أوليائه الذين يحبهم ويحبونه.
ويؤخذ من سياق الحديث أن الوليّ إما أن يتقرّب بالفرائض بأن لا يترك واجباً ولا يفعل محرماً أو بها مع النوافل وهذا أكمل وأفضل.
ولذا خص بالمحبة السابقة والصيرورة الآتية، وأنه لا سبيل إلى ولاية الله تعالى ومحبته سوى طاعته التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما سواها باطل ( فإذا أحببته كنت) أي صرت حينئذٍ ( سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر) بضم أوله وكسر ثالثه ( به، ويده التي يبطش) بفتح أوله وكسر ثالثه أو ضمه ( بها ورجله التي يمشي بها) .
قال بعض المحققين: التحقيق أن هذه الصيرورة مجاز أو كناية عن نصرة الله تعالى لعبده المتقرّب إليه بما ذكر، وتأييده وإعانته له وتوليه في جميع أموره، حتى كأنه تعالى نزّل نفسه من عبده منزلة الآلات والجوارح التي بها يدرك ويستعين، ولذا جاء في رواية أخرى «فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي» أي أنا الذي أقدرته على هذه الأفعال وخلقتها فيه فأنا الفاعل لذلك لا أنه يخلق أفعال نفسه: أي سواء الجزئيات والكليات، وهذا يردّ على المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق أفعاله الجزئيات.
وزعم الحلولية والاتحادية بقاء هذا الكلام على حقيقته وأنه تعالى عين عبده أو حالّ فيه ضلال وكفر إجماعاً، وما وقع في عبارات بعض العارفين مما يوهم ذلك فليس مراداً لهم،وفهم ذلك منه من قصور فهم الناظر، وإلا فهم مطهرون من ذلك الاعتقاد الفاسد كما طهرهم الله تعالى بكمال محبته من سائر المفاسد ( ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) مما يخاف، وهذه عادة الحبيب مع محبوبه، ولا يحصى عدد من حصل له ذلك فوقع له مطلوبه وذهبت عنه كروبه من صالحي الأمة، فلا نطيل بذكره خصوصاً وسيأتي في أثناء الكتاب بعضه.
وفي هذا الوعد المحقق المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب إليه بما مرّ لا يردّ دعاؤه، وقد لا يجاب الوليّ إلى سؤاله لعلمه تعالى أن الخير له في غيره مع تعويضه له خيراً منه إما في الدنيا أو في الآخرة ( رواه البخاري) وزاد بعد قوله «لأعيذنه» «وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» والتكلم في بعض رواته غير مقبول، وانفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، ورواه ابن حبان في «صحيحه» وأبو داود خارج السنن فيما رواه عنه ابن الأعرابي، ورواه أبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الزهد» وابن عدي في «الكامل» وآخرون.
وقد روي الحديث من طريق عائشة وميمونة وعليّ وأنس وحذيفة ومعاذبن جبل وابن عباس وغيرهم، وطريق كل لا تخلو عن مقال، إلا الطريق إلى حذيفة فإن إسناده حسن لكن حديثه غريب جداً ( آذنته) بالمد ( أعلنته) هذا معنى آذنته، وقوله: ( بأني محارب له) هذا معني بالحرب، وقوله: ( استعاذني روي بالنون) أي: طلبني أعيذه فيكون متعدياً ( وبالباء) الموحدة: أي اعتصم وتحصن بي.


رقم الحديث 96 ( الثاني: عن أنس رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل) أي: فهو من الأحاديث القدسية وقد تقدم في باب الإخلاص فيها بعض البيان، والفرق بينها وبين القرآن أنه معجز ويتعلق الثواب بتلاوته ولا تجوز روايته بالمعنى ولا مسّ ما كتب فيه، ولا حمله مع الحدث ولا كذلك هذه الأحاديث ( قال) أي: الربّ سبحانه أو النبيّ راوياً له عن ربه ( إذا تقرّب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبت إليه) وفينسخة منه ( باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) كذا في النسخ بحذف الواو من إذا الأولى.
والظاهر إثباتها ليدل على أن المذكور بعض حديث أوله: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإذا تقرّب إليّ الخ» ثم هذا من باب التمثيل في الجانبين.
w قال الكرماني: قامت البراهين القطعية على استحالة هذه الإطلاقات على الله تعالى، فهي إذن على سبيل التجوّز.
والمعنى من أتى شيئاً من الطاعات ولو قليلاً قابلته عليه بأضعاف من الإثابة والإكرام، وكلما زاد في الطاعة زدته في الثواب، وإن كان إتيانه بالطاعة على التأني تكون كيفية إتياني بالثواب على السرعة، فالغرض أن الثواب راجع على العمل مضاعف عليه وإطلاق النفس والتقرّب والهرولة وهي من الإسراع ونوع من العدو عليه تعالى، إنما هو مجاز على سبيل المشاكلة أو على طريق الاستعارة أو على قصد إرادة لوازمها، وهو من الأحاديث الدالة على كرم أكرم الأكرمين.
اللهم ارزقنا حظاً وافراً منه آمين ( رواه البخاري) .
قال ابن الجزري في «الحصن» بعد أن أورد صدر الحديث إلى قوله: «خير منه» تم الحديث، ورمز إليه أنه رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي «مختصر جامع الأصول» للديبع أخرجه الشيخان والترمذي وسكت عن الباقي، ولعلهما روياه بالمعنى والبخاري بخصوص هذا المبنى.


رقم الحديث 97 ( الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله) وفي نسخة النبي ( : نعمتان) أي: عظيمتان.
قال ابن الخازن: أي ما يتنعم به الإنسان.
وقال الطيبي: الحالة الحسنة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة، وقيل: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على وجه الإحسان إلى الغير.
ونعمتان مبتدأ وخبره ( مغبون فيهما) من الغبن وهو الشراء بأضعاف الثمن، أو البيع بدون ثمن المثل وهو وصف، و ( كثير من الناس) نائب فاعله أو مبتدأ وخبره مغبون وفيهما ظرف لغو، والجملة الخبر، والرابط ضمير الوصف وأفرد باعتبار لفظ كثير ( الصحة والفراغ) بدلان من نعمتان بدل مفصل من مجمل شبه المكلف بالتاجروالصحة: أي في البدن، والفراغ: أي من العوائق عن الطاعة برأس المال لأنهما من أسباب الأرباح ومقدمات نيل النجاح، فمن عامل الله تعالى بامتثال أوامره وابتدر الصحة والفراغ يربح، ومن لا ضاع رأس ماله ولا ينفعه الندم ( رواه البخاري) ورواه الترمذي وابن ماجه.


رقم الحديث 98 ( الرابع: عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ كان يقوم) أي: بالتهجد ( من الليل) أي: بعضه وهو السدس الرابع والخامس غالباً ( حتى تفطر) بفتح المثناة والفاء وتشديد المهملة وأصله تتفطر، وهو كذلك في رواية الأصيلي كما في «فتح الباري» : أي تتشقق ( قدماه) وعند النسائي: «حتى تزلع قدماه» بزاي وعين مهملة.
وللبخاري في رواية: «حتى تورّمت قدماه» .
ولا مخالفة بين هذه الروايات، فإنه إذا حصل النفخ والورم حصل الزلع والتشقق ( فقلت له: لم تصنع هذا) الأمر الشاق ( يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟) .
قال العارف با ابن أبي جمرة في أثناء كلام له على حديث: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ما لفظه: لا يخطر بخاطر أحد أن الذنوب التي خبر الله تعالى أنه بفضله غفرها للنبي من قبيل ما نقع نحن فيها، معاذالله، لأن الأنبياء معصومون من الكبائر بالإجماع، ومن الصغائر التي فيها رذائل.
أما الصغائر التي ليس فيها رذائل ففيها خلاف بين العلماء الأكثر على أنهم معصومون منها كما عصموا من الكبائر، وهو الحق لأن رتبتهم جليلة، إنما ذلك من قبيل توفية ما يجب للربوبية من الإعظام والإكبار والشكر، ووضع البشرية وإن رفع قدرها حيث رفع فإنها تعجز عن ذلك بوضعها لأنها من جملة المحدثات، وكثرة النعم على الذي رفع قدره أكثر من غيره فتضاعفت الحقوق عليه فحصل العجز، فالغفران لذلك اهـ وهو من النفاسة بمكان، وسيأتي في باب أداء الأمانة إن شاء الله تعالى كلام نفيس للقاضي عياض في عصمة الأنبياء وتفصيل الخلاف في ذلك ( قال أفلا) الفاء للسببية عن محذوف التقدير: أترك التهجد فلا ( أحبّ أن أكون عبداً شكوراً) والمعنى: أن المغفرة سبب لكونالتهجد شكراً فكيف أتركه.
قال القرطبي: ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنب وطلباً للمغفرة والرحمة، فمن تحقق غفران الله تعالى له لا يحتاج لذلك، فأفادهم أن لذلك سبباً آخر هو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه منها شيئاً.
والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه: { وقليل من عبادي الشكور} ( سبأ: 13) اهـ.
ثم الأخذ بهذا الحال من مشاقّ الأعمال إنما يطلب ممن لا يفضي به ذلك إلى الملال كما هو شأنه، فإنه كان لا يملّ من عبادة ربه وإن أضرّ بدنه، وقد جاء عنه «وجعلت قرّة عيني في الصلاة» .
أما من يفضي به لذلك فلا، ففي الحديث: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» ( متفق عليه) أي على أصل المعنى لا على خصوص الراوي والمبنى بدليل قوله: ( هذا) أي: المذكور عن عائشة بهذا اللفظ ( لفظ البخاري ونحوه) أي: بمعناه ( في الصحيحين) الذي يعبر عنه بالمتفق عليه ( من رواية المغيرةبن شعبة) وكذا رواه من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 99 ( الخامس: عن عائشة) الأخصر عنها ( رضي الله عنها) وكأنه عدل إليه لئلا يتوهم أن المغيرة اسم امرأة والضمير لأقرب مذكور ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر) أي: الأخير من رمضان كما يأتي في كلامه، وأوله الحادي والعشرون وآخره آخر رمضان ( أحيا الليل) بأنواع الطاعات ومحل النهي عن قيام الليل كله الوارد في حديث عبد ابن عمر فيمن داوم على ذلك جميع ليالي السنة لأنه مضرّ بالبدن والعقل ( وأيقظ أهله) للصلاة تنبيهاً لهم على فضل تلك الأوقات واغتنام صالح العمل فيها.
وروى الترمذي من حديث زينب بنت أم سلمة: «لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهل بيته يطيق القيام إلا أقامه» ( وجدّ) أي اجتهد في العبادة زيادة على العادة، وذلك لأن فيه ليلة القدر التي هي خير منألف شهر ( وشدّ المئزر.
متفق عليه)
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» أيضاً.
( والمراد العشر الأواخر من شهر رمضان) وقد صرح بهذا في حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي من طريق عاصمبن ضمرة عنه، وتقدم مبتداه ومنتهاه ( والمئزر) بكسر الميم وفتح الزاي وسكون التحتية ( الإزار: وهو) أي: شد المئزر لا الإزار كما قد يتبادر ( كناية عن اعتزال النساء) هذا ما جزم به عبد الرزاق عن الثوري.
واستشهد عليه بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكربن عياش نحوه: ( وقيل) هو قول الخطابي كما في «فتح الباري» ( المراد) منه ( تشميره للعبادة) على سبيل المجاز المرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد ( يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت وتفرّغت له) قال في «فتح الباري» : يحتمل أن يريد به الجد في العبادة كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له، ويحتمل أن يراد التشمير للعبادة والاعتزال معاً.
ويحتمل أن يراد حقيقته والمجاز كمن يقول طويل النجاد لطويل القامة وهو طويل النجاد حقيقة، فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة.
قال: وقد وقع في رواية عن عاصمبن ضمرة المذكور «شدّ مئزره واعتزل النساء» فعطفه بالواو فيتقوّى الاحتمال الأول اهـ.


رقم الحديث 100 ( السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: المؤمن القويّ) هو من لا يلتفت إلى الأسباب لقوّة باطنه بل يثق بمسبب الأسباب.
وقال المصنف: هو من له صدق رغبة في أمور الآخرة فيكون أكثر إقداماً على العبادات.
وقيل: المؤمنالقويّ من صبر على مجالسة الناس وتحمل أذاهم وعلمهم الخير والإرشاد.
وقال القرطبي: القويّ البدن والنفس الماضي العزيمة الذي يصلح للقيام بوظائف العبادات من الحجّ والصوم والأمر بالمعروف وغير ذلك مما يقوم به الدين ( خير) أفعل تفضيل، حذفت ألفه تخفيفاً ( وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف) يعلم المراد به من المراد بضده ( وفي كل) بالتنوين: أي من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف ( خير) لاشتراكهما في أصل الإيمان وخير هنا مصدر: وهو خلاف الشر ( احرص) أي: استعمل الحرص والاحتياط ( على) تحصيل ( ما ينفعك) من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وعيالك ومكارم الأخلاق ولا تفرط في ذلك ( واستعن با) أي: اطلب المعونة منه وتوكل عليه ولا تعتمد على حركاتك ولا على أسبابك بل الجأ في كل الأمور إليه وتوكل عليه، فمن أعانه أعين، وما أحسن قول بعض العارفين: إذا لم يعنك الله فيما تريده فليس لمخلوق إليه سبيل وإن هو لم يرشدك في كل مسلك ضللت ولو أن السماك دليل ( ولا تعجز) بكسر الجيم على الأفصح: أي لا تفرط في طلب ذلك وتتعاجز عنه تاركاً للحكمة الإلهية متكلاً على القدرة فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعاً وعادة ( وإن أصابك شيء) من المقدورات ( فلا تقل لو أني فعلت) كذا ( كان كذا وكذا) كناية عن مبهم، والجملة جواب لو، فيكون فيه ركون إلى العادات وربط للمسببات بأسبابها العادية وغفلة عن حقائق الأمور هو أن كل شيء بقدر مقدور فلذا قال ( ولكن) بسكون النون ( قل قدر ا) .
قال البرهان العلوي: ومن خطه نقلت هو بفتح أوليه المخفقين ورفع الراء، هكذا رأيت في نسخة الرزندي وسماعي «قدر» يعني بصيغة الماضي المعلوم ( وما شاء) أي: ما شاءه الله ( فعل) لا رادّ لمراده وهو على كل شيء قدير.
ففيه التنبيه على الدواء عند وقوع المقدور وذلك بالتسليم لأمر الله والرضا بقدرالله، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات بألا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن ذلك يئول به إلى الخسران، من توهم أن التدبير يعارض سوابق المقادير، وهذا عمل الشيطان كما قال ( فإن لو) بسكون الواو على الحكاية: أي إذا ذكرت على سبيل معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لوارتفع لوقع خلاف المقدور ( تفتح عمل الشيطان) أي وساوسه المفضية بصاحبها للخسران، أما إذا أتى بلو على وجه التأسف على ما فات من الخير وعلم أنه لن يصيبه إلا ما قدر الله تعالى فليس بمكروه، وفيه حديث «لو استقبلت من أمري ما استدبرت» الحديث: ( رواه مسلم) ورواه أحمد وابن ماجه كما في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 101 ( السابع: عنه) أي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حجبت) بالمهملة فالجيم مبني للمفعول والتاء في آخره للتأنيث ( النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) .
قال القرطبي: هو من الكلام البليغ الذي انتهى في البلاغة نهايته، وذلك أنه مثل المكاره بالحفاف: أي في رواية مسلم الآتية، وبمعناها الحجاب وهو الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يتخطى، وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها.
وقال المصنف: معناه لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره من الجهد في الطاعات والصبر عن الشهوات، كما لا يصل المحجوب عن الشيء إلا بهتك حجابه والتجاوز عنه، ويوصل إلى النار باتباع الشهوات.
والمراد ما كان محرماً منها لا المباح منها، فلا يدخل في ذلك لكن الإكثار منه مكروه مخافة أن يقسي القلب ويكسل عن الطاعة ( متفق عليه) في المعنى ومعظم المبنى بدليل قوله ( وفي رواية مسلم: حفت) بضم المهملة وتشديد الفاء ( بدل حجبت) وبه يندفع اعتراض الصاغاني في «المشارق» على القضاعي حيث قال: بعد أن رواه بلفظ حجبت وقال: متفق عليه.
رواية القضاعي حفت.
قال ابن مالك في شرحها: قال النووي: المذكور في «الصحيحين» حجبت لاحفت اهـ.
وهو نقل عجيب عن المصنف ولعله سهو من قلم الناسخ، وإلا فهذا اللفظ رواية مسلم ( وهو) أي: حفت و ( بمعناه) أي: حجبت: أي معناهما واحد ( أي بينه وبينها) أي النار في الأول والجنة في الثاني ( هذا الحجاب فإذا فعله) وخرق الحجاب ( دخلها) .


رقم الحديث 102 ( الثامن: عن أبي عبد الله حذيفة) بضم المهملة وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية بعدها فاء ( ابن) حسيل بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية، ويقال له: حسيلي بالتصغير، ولقبه ( اليمان) لقب به لحلفه الأنصار وهم من اليمن، وإلا فهو عبسي بفتح المهملة فسكون الموحدة نسبة إلى عبسبن يعيصبن بنت غطفان ثم ابن قيس عيلان بالمهملة ابن مضر ( رضي الله عنهما) أسلم حذيفة وأبوه وشهدا أحداً وقتل اليمان يومئذٍ بأيدي المسلمين غلطاً، ونادى حذيفة حينئذٍ أبي عباد الله أبي أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه.
فقال حذيفة: يغفر الله لكم؛ ووهب دمه للمسلمين.
وكان حذيفة أحد الرقباء النجباء وأحد الفقهاء أهل الفتوى وصاحب سرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنافقين، والمختص بأخبار الفتن المستقبلة ما ظهر منها وما بطن، وله مقامات محمودة في الجهاد من أعظمها ليلة الأحزاب وخبره فيها مشهور، وأبلى في الفتوح، وحمدت مشاهده، وكان فتح همدان والدينور على يديه، وشهد فتح الجزائر، ولاه عمر المدائن، وقال عمر لأصحابه يوماً تمنوا فتمنوا، فقال عمر: لكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة ومعاذبن جبل وحذيفةبن اليمان أستعملهم في طاعة الله تعالى.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث ونيفاً، اتفقا منها على اثني عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بسبعة عشر.
توفي بالمدينة سنة ستّ وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة ( قال: صليت مع النبي) أي في صلاة التهجد، ففيه وفي حديث ابن مسعود الآتي الاقتداء في النافلة وتطويل صلاة الليل ( ذات ليلة، فافتتح سورة البقرة) فيه إطلاق ذلك بلا كراهة، وقيل: إنما يقال السورة التي تذكر فيها البقرة ( فقلت يركع عند المائة) منها، وكان القياس في رسم مائة أن تكتب الهمزة بصورة التحتية لانكسار ما قبلها لكنها رسمت بهذه الصورة لئلا تلتبس بصورة منه إذا لم تنقط، وأصلها حتى حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث ( ثم مضى) في قراءتها بعد تمام المائة ( فقلت: يصلي بها في ركعةفمضى فقلت: يركع بها) فأكملها ( ثم افتتح النساء فقرأها) إلى آخرها ( ثم افتتح آل عمران فقرأها) .
قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهادي وليس بتوقيفي: بل وكله إلى أمته وهو قول مالك وجمهور العلماء، واختاره ابن الباقلاني وقال: إنه أصح القولين مع احتمالها.
قال: والذي يقول إن ترتيب السور ليس بواجب في الكتابة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التلقين، وإنه لم يكن من النبيّ في ذلك نص ولا حد تحرم مخالفته، ولذا اختلف في ترتيب المصاحف قبل مصحف عثمان.
قال: وأما على قول من يقول: إنه بتوقيف من النبي حدده لهم كما استقرّ في مصحف عثمان، وإنما اختلفت المصاحف قبل أن يبلغهم التوقيف والعرض الأخير فتؤول النساء ثم آل عمران هنا على أنه كان قبل التوقيف في الترتيب وكانت هاتان السورتان هكذا في مصحف أبيّ.
قلت قال بعض المتأخرين: أو إنه فعله لبيان الجواز.
قال الباقلاني: ولا خلاف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأها في الأولى، إنما يكره ذلك في ركعة ولمن يتلو في غير صلاة، وقد أباحه بعضهم وتأوّل نهي السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة بتوقيف من الله سبحانه وتعالى على ما هي الآن في المصحف، وهكذا نقلته الأمة عن نبيها اهـ باختصار يسير ( يقرأ مترسلاً) أي: مرتلاً بتبيين الحروف وأداء حقها ( إذا مرّ بآية فيها تسبيح) نحو: { سبح اسم ربك} ( الأعلى: 1) ( سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوّذ تعوّذ) فيه دليل لاستحباب هذه للقارىء وهي سنة له مطلقاً ( ثم ركع فجعل) من أفعال الشروع ( يقول) في ركوعه ( سبحان ربي العظيم) وكرّر ذلك التسبيح فيه وبه قال بعض الأئمة، ولم يأخذ أئمتنا بقضية التكرير فيه وفيما يأتي بل قالوا: أقل التسبيح مرّة وأقل الكمال ثلاث وأكثره إحدى عشرة، واقتضى صريح كلامهم عدم سن الزيادة على ذلك، فإن الذي ذكروه وهو ما واظب عليه، وما في هذا الحديث وقع نادراً فلم يغيروا به ما علم واستقرّ من أحواله ( فكان ركوعه) في الطول ( نحواً) أي: قريباً ( من قيامه) في القراءة قبله ( ثم) رفعرأسه و ( قال) عند رفعه ( سمع الله لمن حمده) أي تقبله منه ( ربنا لك الحمد ثم قام) أي: دام في القيام بعد الرفع من الركوع ( قياماً طويلاً مما ركع) أي: من ركوعه، أخذ منه ما اختاره المصنف أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين ركنان طويلان، لكن المذهب أنهما قصيران لأنهما مقصودان لغيرهما لا لذاتهما.
وقد يجاب بأن القرب من الركوع أمر نسبيّ؛ فليس فيه نص على أنه طوّل أكثر من التطويل المشروع عندنا وهو ما يسع أذكاره الواردة فيه وقدر قراءة الفاتحة ( ثم سجد فقال) في سجوده ( سبحان ربي الأعلى) وكرره، والحكمة في جعل العظيم في الركوع والأعلى في السجود أن الأعلى لكونه أفعل تفضيل أبلغ من العظيم، والسجود أبلغ في التواضع من الركوع، فجعل الأبلغ للأبلغ ( فكان سجوده قريباً من قيامه.
رواه مسلم)
.


رقم الحديث 103 ( التاسع: عن) عبد الله ( بن مسعود رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ليلة) أي: التهجد في ليلة فهي منصوبة على الظرفية ( فأطال) أي: القيام طولاً كثيراً زائداً على العادة كما سيأتي مستنده ( حتى هممت) بفتح الميم الأولى ( بأمر سوء) بإضافة أمر إلى سوء كذا في «فتح الباري» .
وقال بعض شراح «الشمائل» بالإضافة وعدمها وفتح السين وضمها، ولعل اقتصار الحافظ على ما هو الرواية.
وفي «الصحاح» : المفتوح مصدر نقيض المسرة والمضموم اسم، وساغت الإضافة إلى المفتوح كرجل سوء، ولا يقال سوء بالضم اهـ.
وقوله ولا يقال الخ ردّ بالقراءة المتواترةـ دائرة السوءـ بالضم، ويردّ بأن ما فيه في إضافة الاسم الجامد وما فيها بإضافة المصدر وبينهما فرق ظاهر ( قيل: وما هممت به؟ قال: أن أجلس وأدعه) .
قال المصنف: فيه أنه ينبغي الأدب مع الأئمة والكبار بألا يخالفوا بقول ولا فعل ما لم يكنحراماً.
واتفق العلماء على أنه إذا شق على المقتدي في فريضة أو نافلة القيام وعجز عنه جاز له القعود، وإنما لم يقعد ابن مسعود تأدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ.
وفي «فتح الباري» : في الحديث دليل على اختيار النبيّ تطويل صلاة الليل، وقد كان ابن مسعود قوياً محافظاً على الاقتداء بالنبي، وما همّ بالقعود إلا بعد طول كثير ما اعتاده.
قال: وفي الحديث أن مخالفة الإمام في أفعاله معدودة في العمل السيء، وفيه تنبيه على جواز استفادة معرفة ما أبهم من الأقوال وغيرها، لأن أصحاب ابن مسعود ما عرفوا مراده من قوله هممت بأمر سوء حتى استفهموه عنه فلم ينكر عليهم استفهامهم عنه اهـ ( متفق عليه) ورواه الترمذي في «الشمائل» .


رقم الحديث 104 ( العاشر: عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يتبع الميت) أي: يصحبه إلى قبره ( ثلاثة أهله وماله وعمله) بالرفع بدل من الفاعل ( فيرجع اثنان ويبقى واحد) أجمله ثم فصله بقوله على سبيل الاستئناف البياني ( يرجع أهله وماله ويبقى عمله) ليكون أقرّ في النفس وأمكن لأنها يجيئها التفصيل وقد تطلبته واشتاقت إليه.
وفي الحديث: الحثّ على تحسين العمل ليكون أنيسه في قبره ( متفق عليه) والسياق للبخاري.