فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الإِخلاصِ وإحضار النيَّة في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفيَّة

رقم الحديث 1 ( وعن أمير المؤمنين) أول من لقب به من الخلفاء، أما أول من لقب به مطلقاً فعبد الله بن جحش في سرية وقد بينت مستند ذلك في «أواخر شرح الأذكار» ( أبي حفص) بالحاء المهملة وهو الأسد، كناه به كما في «الفتح المبين» ، وكني به لكمال شجاعته ومزيد صلابته ( عمر بن الخطاب بن نفيل) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية ( ابن عبد العزى) بضم المهملة وتشديد الزاي بعدها ألف مقصورة ( ابن رياح) بكسر الراء بعدها تحتية وبعد الألف حاء مهملة ( ابن عبد ا) كذا هو في «أسد الغابة» ، وفي نسخة من التهذيب للمصنف بدل عبد اهذا عدّي ( ابن قرط) بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة ( ابن رزاح) بفتح الراء قيل وقد تكسر، وبعدها زاي وبعد الألف حاء مهملة ( ابنعدي) بفتح المهملة وكسر الثانية وتشديد التحتية ( ابن كعب) بسكون المهملة بعدها موحدة ( ابن لؤي) بضم اللام وفتح الهمزة تصغير اللأى.. قال في «المواهب اللدنية» : وهو الثور.
وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ابن غالب القرشي العدوي رضي الله عنه) أشار المصنف إلى طريق النسبة إلى القبائل، وذلك أنه يبدأ بالأعم قبل الأخص فيقال القرشيّ الهاشميّ، ليحصل بالثاني فائدة، إذ لو ذكر الأول بعد الثاني بأن قيل الهاشميّ القرشيّ لخلا عن الفائدة إذ يلزم من كونه هاشمياً كونه قرشياً بخلاف العكس، ذكره المصنف في «تهذيبه» وغيره، قال: فإن قيل كان ينبغي ألا يذكر الأعم بل يقتصر على الأخص.
فالجواب أنه قد يخفى على بعض الناس كون الهاشمي قرشياً، ويظهر هذا الخفاء في البطون الخفية كالأشهلي من الأنصار، إذ لو اقتصر على الأشهلي لم يعرف كثير من الناس أنه من الأنصار أم لا، فذكر العام ثم الخاص لدفع هذا.
توهم، قال: وقد يقتصرون على الخاص وقد يقتصرون على العام، وهذا قليل اهـ روي لعمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثاً، وقال أبو نعيم: أسند عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المتون سوى الطرق مائتي حديث ونيفا كذا في «التلقيح» لابن الجوزي، اتفق الشيخان منها على ستة وعشرين، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بأحد وعشرين، وقد أعرضنا عن بسط تراجم الرجال في هذا الكتاب طلباً للإيجاز، وحذراً من الإسهاب ( لا) سيما وقد ترجمنا معظم من ذكر من الصحابة هنا في «شرح الأذكار» ، واقتصرنا هنا على ذكر عدة مروياته وزمن وفاته وبعض يسير من بيان حالاته لعموم حاجة المحدث لذلك وا الموفق ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) : الجملة المضارعية بدل اشتمال من مفعول سمعت أو حالية تبين المضاف المحذوف وقبله أي كلامه.
وأتى به مضارعاً بعد سمع الماضي: إما حكاية لحالة وقت السماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السامع.
وما ذكر من أن ثمة مضافاً محذوفاً، والجملة بعده تبين المحذوف هو المشهور.
وقيل إن سمع يتعدّى لمفعولين فلا محذوف، بل أولهما رسول وثانيهما الجملة.
واعترض بأن محل تعديتها لهما إذا كانت فيما يظن، وأجيب بمنع الحصر.
ثم الحديث المذكور لم يرو من طريق صحيح عنه إلا من حديث عمر رضي الله عنه وإن رواه نحو عشرين صحابياً، فهو وإن أجمعوا على صحته غريب باعتبار أوله مشهور باعتبار آخره، وليس بمتواتر لفقد عدد التواتر في بعض طبقاته ( إنما) هي لتقوية الحكم المذكور بعدها إتفاقاً،ولذا وجب كونه معلوماً للمخاطب أو في منزلته، ولإفادة الحصر وضعاً حقيقة على الأصحّ عند جمهور الأصوليين خلافاً لجمهور النحاة.
والحصر وبمعناه القصر: إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عما عداه لورودها لذلك في كلامهم غالباً، والأصل الحقيقة وجواز غلبة المجاز خلاف الأصل، والقصر في الخبر من قصر المسند إليه ويعبر عنه بالموصوف في «المسند» ويعبر عنه بصفته، وهو إضافي لخروج بعض الأعمال عن اعتبار النية فيها، وفي الخبر حصر آخر هو عموم المبتدإ، إذ هو جمع محلى بأن التي للاستغراق لا للماهية، إذ المفتقر للنية إفراد العمل لا ماهيته من حيث هي ماهية إذ لا وجود لها في الخارج، ورواية «إنما العمل» المبتدأ فيها مفرد محلى بأل المذكورة فيفيد العموم وخصوص الخبر على حد صديقي زيد لعموم المضاف لمعرفة، وعلى هذا فجمع بينهما في هذه تأكيداً وسقطت إنما في رواية صحيحة إكتفاء عنها بهذا الحاصر ( الأعمال) هي حركات البدن فتدخل فيها الأقوال ويتجوّز بها عن حركات النفس وأوثرت على الأفعال لئلا تتناول فعل القلب غير المحتاج للنية، كالتوحيد والإجلال والخوف لصراحة القصد به، والنية لئلا يلزم التسلسل أو الدور المحال، وأل في الأعمال قيل للعهد الذهني: أي: غير الأعمال العادية لعدم توقف صحتها على النية؛ وقيل للاستغراق كما تقدم إلا أنه إضافي، والعموم مخصوص لخروج جزئيات من الأعمال عن الاحتياج إلى النية بأدلة مقرّرة كالواجب غير المتوقف على النية من نحو قضاء دين وكفّ عن محرم، والمتوقف على النية حصول الثواب في ذلك، وهو غير ما الكلام فيه، إذ هو هل تلزم النية في صحة الترك بحيث يعصى بتركها.
والتحقيق كما تقدم أنه لا تلزم النية فيه وأن المجرّد منها لاثواب فيه.
وإنما يحصل بالكفّ الذي هو فعل النفس، وهو أن يقصد الترك بقصد امتثال أمر الشارع فيه.
ولا تجب النية في عمل اللسان من نحو قراءة وذكر وأذان، إذ ليس شيء عادي من ذلك حتى يميز بالنية عنه، وصرّح الغزالي بحصول ثواب الذكر اللساني ولو مع الغفلة، نعم تجب في قراءة منذورة ومثلها كل ذكر نذره ليتميز الفرض من غيره ( بالنيات) الباء فيه قيل للسببية والتقدير وجود الأعمال شرعاً مستقرّ أو ثابت بسببها، ويصح كونها للملابسة وكونها للمصاحبة.
قال بعض المحققين: فعلى الأول هي جزء من العبادة وهو الأصح.
وعلى الثاني شرط، وفيه نظر، بل كل منهما محتمل للشرطية والركنية إذ كل منهما يقارن المشروط والماهية ويكون سبباً في وجودهما، وإيضاحه أن ركن الماهية لكونه جزأها مغاير لها مغايرة الجزء للكل فتصدق عليه المصاحبة كما تصدق عليه السببية.
وأما السببيةفصادقة مع الشرطية وهو واضح لتوقف المشروط على الشرط ومع الركنية لأنه بترك جزء من الماهية تنتفي الماهية اهـ.
إلا أنها إذا كانت للمصاحبة تشعر باعتبار وجوب استصحابها إلى الآخر لأنه الظاهر من المعية وهذا حال الشروط، بخلافها على الملابسة فإن هذا الإشعار منتف عندها، وقال الكازروني في «شرح الأربعين» : الباء فيه للاستعانة اهـ ثم قيل لا بد من تقدير مضاف للمحصور وهو المسند إليه فقدره الأكثرون بالصحة: أي: إنما صحة الأعمال بالنيات وقدره آخرون بالكمال وقالوا تقديره إنما كمال الأعمال وقد بينت دليل القولين ورد الثاني وتأييد القول الأول في «شرح الأذكار» والأقرب كما قال بعض المحققين وقال: إنه التحقيق أنه لا حاجة لتقدير في الخبر وليس في دلالة اقتضاء بل اللفظ باق على مدلوله من انتفاء الأعمال حقيقة بانتفاء النية لكن شرعاً إذ الكلام فيه، والتقدير إنما وجودها كائن بالنية فإذا انتفت انتفى العمل ونفي الحقيقة إنما ينتفي بانتفاء شرطها أو ركنها فيفيد مذهبنا من وجوبها في كل عمل إلا ما قام الدليل على خروجه، والعام المخصوص حجة في غير ما خص منه اهـ.
والنية بالتشديد مصدر أو اسم مصدر لغة: القصد.
وشرعاً وهو المراد هنا خلافاً لبعض المحققين: قصد الشيء مقترناً بفعله إلا في الصوم والزكاة للعسر، فإن تراخى الفعل سمي عزماً، ثم هي بالجمع في هذه الرواية عند الشيخين.
قال الحافظ السيوطي في «التوشيح» : في معظم الروايات بالنية مفرداً قيل: ووجهه أن محلها القلب وهو متحد فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر فناسب جمعها اهـ.
وهذه حكمة للإفراد.
وإلا فهو الأصل لأنها مصدر وجمعت في هذه الرواية باعتبار أنواعها من الوجوب تارة وغيره أخرى.
( وإنما لكل امرىء ما نوى) الجملة السابقة لبيان أن الأعمال لا يعتد بها شرعاً إلا بالنية الموحدة لها، وهذه الحملة لبيان أن جزاء العامل على عمله بحسب نيته من خير أو شر، وبيان أن العمل لا يجزي إلا إن عينت نيته.
قلت فتختص حينئذٍ بما يعتبر في نيته التعيين من نحو صلاة الفرض والنفل المرتب، أو تعم مطلق العبادة المعتبر فيها النية ويراد أن الذي له من عمله الموجود شرعاً بالنية هو ما قصده به من وجه الله سبحانه فيثاب أو الرياء للعباد فيمنع الثواب.
وقيل مفاد هذه الجملة امتناع النيابة في النية الشامل لها الجملة الأولى، وصحة نية الولي عن الصبي والأجير عن المحجوج عنه لمعنى يخصه هو عدم تأهل المنوي عنه لها فيهما، وقيل هذه الجملة مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص وفيه أن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة فعلم سر تأخير هذه الجملة، أنهما متغايرتان وأنه لولا تعقيب تلك بهذهلأوهمت تلك صحة النية بلا تعيين وأنه يلزمها الثواب.
و «ما» في ما نوى إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي ما يحصل لكل امرىء أي إنسان إلا الذي نواه أو شيء نواه أو منويه، والقصر في هذه الجملة عكسه في الأولى أي قصر المسند في المسند إليه.
( لطيفة) قد لمح العلامة تاج الدين السبكي إلى معنى هذه الجملة بقوله في مدح المصنف نفع الله بهما: لقيت خيراً يا نوى ووقيت من ألم النوى فلقد نشا بك عالم أخلص ما نوى وعلا سواه فضله فضل الحبوب على النوى ( فمن كان هجرته) هو تفصيل لبعض الإجمال فيما قبله، والتقدير؛ إذا تقرر أن لكل امرىء منويه من طاعة وغيرها فلا بد من مثال يجمع الأعمال كلها أمرها ونهيها وذلك الهجرة إذ هي متضمنة لذلك؛ أما الكف عن المنهي فظاهر، ومن ثم قال: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وأما الأمر فلأنه لا يتم بل لا يمكن الإتيان به إلا بهجرة دواعي النفس والهوى.
ولتضمن الهجرة هذا الأمر العام آثر ذكرها مفرداً لها بالفاء الداخلة على الجزاء إن جعلت من شرطية أو الخبر إن جعلت موصولة لمشابهة الموصول للشرط في العموم أو تضمنه له.
والهجرة لغة؛ الترك، وشرعاً؛ مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، ووجوبها باق وخبر «لا هجرة بعد الفتح» المراد لا هجرة بعد فتح مكة منها لأنها صارت دار الإسلام.
وحقيقتها مفارقة ما يكرهه الله إلى غيره للحديث المذكور، وكانت أول الإسلام إما من مكة إلى الحبشة أو منها ومن غيرها إلى المدينة، والمراد بها هنا مفارقة الوطن إلى غيره سواء مكة وغيرها، ولا يضر في التعميم كون الحديث له سبب خاص كما سيأتي بيانه لأن صورة السبب لا تخصص لكنها داخلة قطعاً ( إلى الله ورسوله) أي: قصداً ونية، فهو كناية عن الإخلاص، والظرف هنا وفيما يأتي متعلق بهجرة إن جعلت كان تامة أو بمحذوف هو خبرها إن قدرت ناقصة ( فهجرته إلى الله ورسوله) ثواباً وخيراً، فالجزاء كناية عن شرف الهجرة وكونها بمكانة عنده تعالى أو كونها مقبولة مرضية، فلا اتحاد بين الشرط والجزاء لأنهما وإن اتحدا لفظاً اختلفا معنى، وهو كاف في اشتراط تغاير الجزاء والشرط والمبتدإ والخبر وذكرت وجوهاً أخر لهذا التكرار في «شرح الأذكار» ، والمراد بكان هنا وفيما يأتي أصل الكون لا بالنظر لزمن مخصوص أو وضعها الأصلي من المضيأو هنا من الاستقال لوقوعها في حيز الشرط، وهو يخلص الماضي للاستقبال ويقاس به الآخر للإجماع على استواء الأزمنة في الحكم التكليفي إلا لمانع ( ومن كانت هجرته لدنيا) اللام للتعليل أو بمعنى إلى لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» واستظهر الأول وحكمة التغاير في التعبير هنا باللام وثمة بإلى إفادة أن من كانت هجرته لأجل تحصيل ذلك كان هو نهاية هجرته لا يحصل له غيره.
والدنيا بضم أولها وحكى كسره جمعها دنى من الدنوّ أي القرب لسبقها على الآخرة أو لدنوها إلى الزوال.
قال المصنف: الأظهر أنها كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الدار الآخرة وقد تطلق على كل جزء منها مجازاً، ثم المراد منها عرضها ومتاعها، فالتعبير بها مجاز مرسل من تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى: { فليدع ناديه} ( العلق: 17) ( يصيبها) حال مقدرة: أي: قاصداً إصابتها، وفي ذكر المصيبة عند ذكر الدنيا لطيفة ونصيحة ( أو) كانت هجرته ( لـ) أجل ( امرأة ينكحها) أي: يتزوجها كما في رواية، من باب عطف الخاص على العام إشعاراً بأن النساء أعظم ضرراً، قال: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء» وتنبيهاً على سبب الحديث وإن كان لا يخصص كما تقدم.
وسببه كما في «التوشيح» للحافظ السيوطي ما رواه سعيدبن منصور في «سننه» بسند على شرطهما عن ابن مسعود قال: «من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له مثل أجر رجل هاجر ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فقيل له مهاجر أم قيس» : وفي «فتح الإله» : السبب ما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود قال: «كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر فزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس» قيل: واسمها قتيلة بوزن قبيلة، ولم يعين اسمه ستراً عليه وإن كان ما فعله مباحاً لما يأتي.
وعلى هذا فذكر الدنيا إما زيادة على السبب تحذيراً من قصدها، أو لأن أم قيس انضم لجمالها المال فقصدهما مهاجرها، أو لأن السبب قصده نكاحها، وقصد غيره دنيا ( فهجرته إلى ما هاجر إليه) الظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدإ ويصح تعلقه بنفس المبتدإ فيكون خبره محذوفاً أي فهجرته قبيحة إذ ليست من الله في شيء وذلك حظه ولا نصيب له في الآخرة، وإيراد الموصول لإفادة التحقير وذم فاعل ما ذكر كما يشعر به السياق مع كونه مطلوبه مباحاً لأنه أظهر قصد الهجرة إلى الله وأبطن خلافه وهذا ذميم.
والحكمة فياتحاد الشرط والجزاء لفظاً في الأولى التبرّك بذكر الله ورسوله والتعظيم لهما بتكراره وبكونه أبلغ في الهجرة إليهما، إذ من سعى لخدمة ملك تعظيماً له أجزل عطاء ممن سعى لينال كسرة من مأدبة، وتركه في الثانية إظهار عدم الاحتفال بأمرهما والتنبيه على أن العدول عن ذكرهما أبلغ في مزجر عن قصدهما، فكأنه قال: إلى ما هاجر إليه، وهو حقير مهين لا يجدي.
وأيضاً فأعراض الدنيا لا تنحصر فأتى بما يشملها وهو ما هاجر إليه، بخلاف الهجرة إلى الله ورسوله فإنه لا تعدد فيها، فأعيدا بلفظهما تنبيهاً على ذلك.
وقال أرباب الإشارات من العارفين «إنما الأعمال بالنيات» يتعلق بما وقع في القلوب من أنوار الغيوب.
والنية جعل الهمّ في تنفيذ العمل للمعمول له، وألا يسنح في السرّ ذكر غيره * وللناس فيما يعشقون مذاهب * فنية العوام في طلب الأعراض مع نسيان الفضل، ونية الجهال التحصن عن سوء القضاء ونزول البلاء، ونية أهل النفاق التزين عند الله وعند الناس، ونية العلماء إقامة الطاعات لحرمة ناصبها لا لحرمتها، ونية أهل التصوّف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من الطاعات، ونية أهل الحقيقة ربوبية تولد عبودية «وإنما لكل امرىء ما نوى» من مطالب السعداء، وهي الخلاص عن الدركات السفلى والفوز بالدرجات العليا، وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعة والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته، أو من مقاصد الأشقياء، وهي ما يبعد عن الحق «فمن كانت هجرته» أي: خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلاً من منازل النفس «إلى ا» لتحصيل مراضيه «ورسوله» باتباع أمره وأخلاقه «فهجرته إلى الله ورسوله» فتخرجهم العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء «ومن كانت هجرته إلى دنيا» أي: لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه والخيلاء وغيرها، فيبقى مهجوراً عن الحق في أوطان الغربة، له نار الفرقة، نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا الجلد ولا تخلص إلى القلب، انتهى كلامهم.
نقله الكازروني في «شرح الأربعين» للمصنف ( متفق على صحته) ثم فسره بقوله رواه إلى آخره، وكذارواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان في «صحيحه» وابن خزيمة وابن الجارود والطحاوي في «شرح معاني الآثار» والبيهقي في «السنن» .
ووهم ابن دحية في زعمه أن مالكاً أخرجه في «الموطإ» ، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي ومن خطه نقلت ( رواه إماما المحدثين) بإثبات ألف التثنية خطاً وحذفها لفظاً لالتقاء الساكن أي المقتدي بهما ورعاً وزهداً واجتهاداً في «تخريج الصحيح» وإيداعه دون غيره كتابيهما، حتى ائتمّ بهما في ذلك الأئمة الذين حذوا حذوهما ( أبو عبد الله محمدبن إسماعيلبن إبراهيمبن المغيرة) بضم الميم وكسرها ( ابن بردزبه) بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فمهملة مكسورة بعدها زاي ساكنة فموحدة فهاء تأنيث وهو بالعربية الزراع.
قال في «فتح الباري» : كان بردزبه المذكور مجوسياً، وكان في بخارى والٍ يقال له اليمان الجعفي، فأسلم المغيرة بن بردزبه على يديه فمن ثم قيل للبخاري الجعفي، وأما إبراهيمبن المغيرة فلم نقف على شيء من أحواله، والظاهر أنه لم ينظر في العلم، وأما إسمعيل فذكر له ابنه ترجمة في «تاريخه» وقال: إنه سمع من مالك وحمادبن زيد وابن المبارك، وذكره كذلك ابن حبان في «الطبقة الرابعة» من ثقاته، وزاد: روى عنه العراقيون اهـ ( الجعفي) أي: مولاهم لما ذكر من أن جده المغيرة أسلم على يد اليمان ابن أخنس الجعفي فنسب إليه ولاء فأشار المصنف إلى أنه يقدم النسب إلى القبيلة ولو ولاء على النسب إلى البلاد عند الجمع.
وعبارة «التهذيب» للمصنف: إذا جمع بين النسب إلى القبيلة والبلد قدم النسب إلى القبيلة.
انتهت ( البخاري) ولد ثالث عشر شوال سنة ( 194) أربع وتسعين ومائة، وكتب عن ابن حنبل ويحيىبن معين وخلائق يزيدون على ألف.
وروى عنه مسلم خارج صحيحه وأبو زرعة والترمذي وابن خزيمة والنسائي.
ومناقبه نعمة ذكرت جلة منهم في «شرح الأذكار» .
توفي ليلة عيد الفطر سنة 256 ست وخمسين ومائتين، ودفن يخرتنك قرية على فرسخين من سمرقند.
ومن مناقبه ما حكي عنه أنه عمي صبياً فرأى في نومه إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، فتفل في عينيه أو دعا له فأبصر، فمن ثم لم يقرأ كتابه.
في كرب إلا فرج.
ثم الحديث المذكور في سبعة مواضع من«صحيح البخاري» ( أبو الحسين مسلمبن الحجاجبن مسلم القشيري) نسبة إلى قشيربن كعببن ربيعةبن عامر ابن صعصعة قبيلة كبيرة، وقشير أيضاً بطن من أسلم، منهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ( النيسابوري) نسبة إلى نيسابور أحسن مدن خراسان وأجمعها للخيرات.
قال الأصفهاني في «لبّ الألباب» : قيل لها ذلك لأن سابور لما رآها قال: يصلح أن يكون ها هنا مطينة.
وكانت قصبا فأمر بقطع القصب وأن تبنى مدينة، فقيل نيسابور، والنيّ: القصب اهـ.
ولد الإمام مسلم سنة ( 204) أربع ومائتين، ومات في رجب سنة ( 261) إحدى وستين ومائتين.
وأخذ عن أحمد وحرملة وخلائق.
روي عنه ساعة منهم من هو في درجته كأبي حاتم الرازي والترمذي فروى عنه حديثاً واحداً وابن خزيمة وخلائق ( رضي الله عنهما في كتابيهما) المشهورين بالصحيحين المعروفين بذلك كنار على علم ( اللذين) بلامين وفتح الذال المعجمة مثنى الذي وكتب بلامين فرقاً بينه وبين الذين الجمع ( هما أصحّ الكتب) بلا شك ولا مرية كما أطبق عليه من بعدهما لا سيما المحدثوند حيث جعلوا الصحيح سبعة أقسام: أعلاها ما خرجاه، فما انفرد به البخاري فما انفرد به مسلم، فما كان على شرطهما، فما كان على شرط البخاري، فما كان على شرط مسلم، فما صححه معتبر وسلم من المعارض.
وقول الشافعي: لا أعلم كتاباً بعد كتاب الله أصحّ من «موطإ» مالك إنما كان قبل ظهورهما.
فلما ظهرا كانا بذلك أحق، والجمهور على أن ما أسنده البخاري في «صحيحه» دون التراجم والتعاليق وأقوال الصحابة والتابعين أصحّ مما في مسلم، لأنه كان أعلم منه بالفن اتفاقاً مع كون مسلم تلميذه وخريجه، ومن ثم قال الدارقطني: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء، هذا وإن لم يلزم منه أرجحية المصنف إلا أنها الأصل.
قال الحافظ ابن حجر في «نكته» على كتاب ابن الصلاح بعد ذكر نحو ما ذكرنا: هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم بأن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة، وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً، وبيانه أن الذين انفرد لهم بالإخراج دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم نحو الثمانين، والذين انفرد مسلم بهم ستمائة وعشرون رجلاً، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً، ولا شك أن من سلم من التكلم فيه رأساً أقوى ممن تكلم فيه وإن لم يعول على ما تكلم به فيه، على أن المتكلم فيهم فيالبخاري لم يكثر من تخريج أحاديثهم، بخلاف مسلم، وأيضاً فأكثرهم شيوخه الذين هو أعرف بهم من غيره لكونه لقيهم وخبرهم وخبر حديثهم، وأما المتكلم فيهم في مسلم فأكثرهم من المتقدمين الذين لم يخبرهم، وأيضاً فالبخاري غالباً إنما يخرج للمتكلم فيه في المتابعات والشواهد بخلاف مسلم.
وأما ما يتعلق بالاتصال فمسلم كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذ تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما، والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة، ومن ثم قال النووي: وهذا المذهب مما يرجح به كتاب البخاري قال: وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله بهذا المذهب في «صحيحه» لكونه يجمع طرقاً كثيرة يبعد معها وجود هذا الحكم الذي جوّزه اهـ.
وجمعه لتلك الطرق هو الغالب، وفيما لم يجمع فيه طرقاً جلالته قاضية بأنه إنما جرى على الأحوط من ثبوت الاتصال انتهى ملخصاً مع يسير زيادة.
وقوله: ( المصنفة) اقتفى به أثر الإمام الشافعي رضي الله عنه في قوله: بعد كتابالله، ليحترز بذلك عنه أيضاً.


رقم الحديث 2 ( وعن أم المؤمنين) أي: في الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، دون نحو النظر والخلوة، وكذا سائر أمهات المؤمنين، وهو أب للمؤمنين في الرأفة والرحمة والمراد من نفي أبوته في الآية أبوة النسب والتبني ( أم عبد ا) كناها بابن أختها أسماء «عبد ابن الزبير» وقيل بسقط لها منه، واستبعد ( عائشة) الصديقة بنت أبي بكر الصديق عبد ابن أبي قحافة عثمان ( رضي الله عنها) وعن أبيها وجدها، تزوّجها بمكة وهي بنت ست سنين، بعد تزوّجه بسودة بشهر، وقبل الهجرة بثلاث سنين ودخل بها في شوّال منصرفة من بدر سنة ثنتين من الهجرة، وهي بنت تسع سنين، وتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة، وتوفيت سنة سبع أو ثمان وخمسين لثلاث عشرة بقيت من رمضان بعد الوتر، وصلى عليها أبو هريرة لإمارته على المدينة حينئذٍ من قبل مروان، رويلها ألفا حديث ومائتان وعشرة وقيل ألف وعشرة.
اتفقا على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وستين ومسلم بثمانية وستين ( قالت: قال رسول الله: يغزو جيش الكعبة) في رواية مسلم: «عبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه، فقلنا له: صنعت شيئاً لم تكن تفعله؟ قال: العجب أن أناساً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش» وزاد في رواية أخرى: أن أم سلمة قالت ذلك أيام ابن الزبير، وفي أخرى: أن عبد ابن صفوان أحد رواة الحديث عن أم سلمة قال: وا ما هو هذا الجيش.
قال القرطبي: وقد ظهر ما قال، فإن الجيش المرسل إلى ابن الزبير لم يخسف به اهـ.
قال العاقولي: والأولى إجراء الحديث على إطلاقه وعدم تقييده بأحد، والكعبة مأخوذة من كعبته: ربعته، والكعبة: كل بيت مربع كذا في «القاموس» .
وفي كلامهم أن إبراهيم بنى الكعبة مربعة، ولا ينافيه اختلاف بعد ما بين أركانها لأنه قليل لا ينافي التربيع، وهذا أعني كون سبب تسميتها كعبة تربيعها أوضح من جعل سببها ارتفاعها.
كما سمي كعب الرجل بذلك لارتفاعه، وأصوب من جعله استدارتها إلا أن يريد قائله بالاستدارة التربيع مجازاً، أو يكون أخذ الاستدارة في الكعب سبباً لتسميته، لكنه مخالف لكلام أئمة اللغة ( فإذا كانوا ببيداء) في رواية مسلم: بالبيداء.
قال القرطبي: والبيداء: أرض ملساء لا شيء فيها.
وفي «الصحاح» : البيداء المفازة والجمع بيد، وهل هي بيداء المدينة أو لا؟ فيه خلاف ( من الأرض) في محل الصفة لبيداء ( يخسف بأولهم وآخرهم) زاد الترمذي في حديث ضعيف «ولم ينج أوسطهم» .
وزاد مسلم في حديث حفصة: «يخسف بأوسطهم ثم ينادي أولهم آخرهم ثم يخسف بهم فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم» واستغني بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط بأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك، ولكونه آخراً بالنسبة للأول وأولاً بالنسبة للأخير فيدخل ( قالت) عائشة متعجبة من وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة ( قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملتهم ( وفيهم أسواقهم) كذا للبخاري بالمهملة والقاف جمع، والمعنى: أهل أسواقهم أو السوقة منهم ( و) فيهم ( من ليس منهم) أي: ممن خرج بقصد القتال وإنما وافقهم في صحبة الطريق ( قال) مجيباً عما سألت عنه: بأن العذاب يقع عاماً لحضور آجالهم، ثم يبعثون على نياتهم.
وقد روى الشيخان عن ابن عمر مرفوعاً رضي الله عنهما «إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا علىنياتهم» ( يخسف بأولهم وآخرهم) أي: بجملة القوم تابعهم ومتبوعهم لشؤم الأشرار ( ثم يبعثون) ويعاملون عند الحساب ( على نياتهم) فيعامل كل بقصده من الخير أو الشر.
وفي الحديث: أن من كثر سواد قوم في المعصية مختاراً أن العقوبة تلزمه معهم.
وفيه أن الأعمال تعتبر بنية العامل، وفيه التحذير من مصاحبة أهل الظلم ومجالستهم وتكثير سوادهم إلا لمن اضطرّ إلى ذلك ( متفق عليه) ورواه أيضاً غيرهما، و ( هذا) المذكور ( لفظ البخاري) ولمسلم ألفاظ وهي بنحو ما ذكر، فمن ألفاظه.
فقلنا: إن الطريق تجمع الناس.
قال: «نعم فيهم المستنصر لذلك» أي: للمقاتلة «والمجبور» بالجيم الموحدة: أي المكره «وابن السبيل» أي: سالك الطريق معهم وليس منهم.
فقال «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم» .


رقم الحديث 3 ( وعن عائشة رضي الله عنها قال قالت النبيّ: لا هجرة) أي: من مكة ( بعد الفتح) أي: فتحها، وجاء في حديث للبخاري مرفوعاً «لا هجرة بعد فتح مكة» وكان في رمضان سنة ثمان من الهجرة.
وذلك أن الهجرة: أي مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام كانت واجبة على من بمكة فيجب على من أسلم بها أن يهاجر منها إلى المدينة لكونها كانت دار كفر فلما فتحت صارت دار إسلام، أما الهجرة من المواضع التي لا يتأتى إقامة أمر الدين فيها فهي واجبة اتفاقاً، وعلى ذلك يحمل حديث «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار» قال الخطابي: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما أنهم إذا أسلموا وأقاموا بين قومهم أو ذوا، فأمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ويزول عنه الأذى.
والآخر الهجرة منمكة إلى المدينة لأن أهل الدين بالمدينة كانوا قليلين ضعيفين، فكان الواجب على من أسلم أن يهاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حدث حادث استعان بهم في ذلك، فلما فتحت مكة استغنى عن ذلك، إذ كان معظم الخوف من أهلها، فأمر المسلمون أن يقيموا في أوطانهم ويكونوا على نية الجهاد مستعدين لأن ينفروا إذا استنفروا.
قال المصنف: يتضمن الحديث على هذا القول معجزة لرسول الله، وهي أن مكة تبقى دار الإسلام لا يتصوّر منها الهجرة.
قال: وقيل معنى الحديث: لا هجرة بعد الفتح، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح.
قال تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} ( الحديد: 1) الآية اهـ ( ولكن جهاد ونية) قال الطيبي: كلمة لكن تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها: أي: المفارقة عن الأوطان المسماة بالهجرة المطلقة انقطعت لكن المفارقة بسبب الجهاد باقية مدى الدهر، وكذا المفارقة بسبب نية خالصة تعالى كطلب العلم والفرار بدينه ونحوه.
وقال المصنف تحصيل الخبر بسبب الهجرة قد انقطع بالفتح، ولكن حصلوه بالجهاد والنية ( وإذا استنفرتم) أي: طلبكم الإمام للخروج إلى الجهاد، ويحتمل العموم أي إذا استنفرتم إلى الجهاد ونحوه ( فانفروا) بكسر الفاء على الأفصح ويجوز ضمها وبالأول جاء القرآن: أي أخرجوا ( متفق عليه) ورواه أبو داود، وروى بعضه الإمام أحمد وابن حبان وأبو عوانة والدارمي وابن الجارود وقال الترمذي: إنه حسن صحيح.
نقله العزّبن فهد في «الأربعين» التي خرّجها في الجهاد ( ومعناه لا هجرة من مكة) أي بعد الفتح واجبة: لأنها وجبت منها أو لا لكونها كانت داراً للكفر وقد زال بفتحها فلا يجب منها ( لأنها صارت دار إسلام) أو معناه كما يؤخذ من كلام الخطابي: لا هجرة إلى المدينة واجبة على من آمنوأمن على دينه بعد الفتح، لأنها إنما وجبت أو لا لكون المسلمين بالمدينة يومئذٍ كانوا قليلين، فكان الواجب على من أسلم الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعانة له، واستغنى عن ذلك بعد فتح مكة لأن معظم الخوف كان من أهلها.


رقم الحديث 4 ( وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري) الخزرجي السلمي بفتح اللام لنسبته إلى سلمةبن سعد.
روي عنه أنه قال: «غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، فلما قتل أبي لم أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة قط» .
وعنه قال: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة وكان أبوه يومئذٍ أحد النقباء.
وكان جابر من أصغر الصحابة سناً.
وكان من ساداتهم وفضلائهم المتحفين بحبّ رسول الله.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف وخمسمائة وأربعون حديثاً اتفقا منها على ستين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم بمائة وستة وعشرين.
توفي بالمدينة بعد أن كفّ بصره سنة ثلاث وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وصلى عليه أبانبن عثمان، وكان والي المدينة، وجابر آخر الصحابة موتاً بالمدينة ( رضي الله عنهما) أشار إلى أنه ينبغي لكل من ذكر صحابياً أبوه صحابي، أي وقد ذكره، أن يقول رضي الله عنهما ( قال: كنا مع النبيّ في غزاة) هي غزوة تبوك كما صرحت به رواية البخاري الآتية.
وفي «النهاية» غزا يغزو غزوا فهو غاز، والغزوة: المرّة من الغزو، والاسم الغزاة: أي: بفتح الغين، وجمع الغازي غزاة بضمها وغزى وغزىّ وغزاة كقضاة وفسق وحجيج وفساق اهـ ( فقال: إنّ بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً) أي: سيراً أو في مكان سير، فهو مصدر ميمي أو اسم مكان ( ولا قطعتم وادياً) فيه إشارة إلى قوله تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل ا} ( التوبة: 12) إلى قوله: { ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} ( التوبة: 121) ( إلا كانوا معكم) أي: شركوكم في الأجر كما في الرواية الثانية «وكان لهم مثل أجركم مضاعفاً» لصحة نيتهم في مباشرة كل ما باشره إخوانهم المجاهدون ( حبسهم) أي: منعهم ( المرض) فلصحة النية أعطاهم الله مثل أجر المباشر.
كذا في «المفهم» ( وفي رواية إلا شركوكم) بكسر الراء ( في الأجر) بدل قوله: إلا كانوا معكم.
قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا دليل على أنهم شركاء في الأجر وعلى التساوي أيضاً، لأنه إذا قال الرجل لصاحبه هذا لي ولك حمل على المساواة، ولذلك تجعل الدار بينهما نصفين إلا أنه يستدل بقوله تعالى: { لا يستوي القاعدون} ( النساء: 95) الآية على ترجيح جانب الغازي على جانب القاعد، فيحمل ذلك على القاعد من غير عذر، والتساوي المفهوم من الحديث على القاعد بعذر فلا معارضة بين الآية والحديث، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا المقام ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 5 ( وعن أبي يزيد معن) بفتح الميم وسكون المهملة آخره نون ( ابن يزيدبن الأخنس) بمعجمة فنون فمهملة ( رضي الله عنهم) أتى بضمير الجمع وعلل الإتيان به كذلك بقوله: ( هو وأبو وجده صحابيون) أي: وما كان كذلك فينبغي أن يؤتى عند ذكرهم بالترضي عليهم بصيغة الجمع.
والصحابي على الصحيح: من اجتمع بالنبيّ حال حياته مؤمناً به ولو لحظة ومات على الإيمان.
قيل: وقد شهد الثلاثة بدراً.
قال الكرماني: ولم يتفق ذلك لغيرهم.
وقيل: لم يشهدها معن.
نزل معن الكوفة ثم مصر ثم الشام وقتل بمرج راهط سنة أربع وستين في دولة مروان.
ذكره ابن الجوزي في «التلقيح» فيمن له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة أحاديث، وقال: قال البرقي له حديثان اهـ.
انفرد البخاري بالرواية عنه عن مسلم للحديث الآتي، وروي عنه أبو داود ( قال) أي: معن من جملة حديث ( كان أبي) الأولى «وكان أبي» بالواو تنبيهاً على أنه بعض حديث ( يزيد) بالرفع عطف بيان لأبي أو بدل منه ( خرج دنانير يتصدق بها) ظاهره صدقة تطوع ( فوضعها عند رجل في المسجد) أي: وأذن له أن يتصدق بها على المحتاج إليها ( فجئت) الرجل ( فأخذتها) أي: باختيار منه ( فأتيته) أي: أبي ( بها) أي: مصاحباً لها ( فقال: وا ما إياك أردت) بهذه الدنانير المتصدقبها ( فخاصمته) منتهياً ( إلى رسول الله.
فقال)
: ( لك ما نويت) أي: ثوابه ( يا يزيد) لأنك نويت التصدق بها على محتاج، وابنك محتاج وإن لم تنوه ( ولك ما أخذت يا معن) لكونك قبضتها قبضاً صحيحاً ( رواه البخاري) .


رقم الحديث 6 ( وعن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص) بتشديد القاف آخره مهملة ( مالك) بالجر على العطف على أبي أو بدلاً منه ويجوز قطعه عنه مرفوعاً بتقدير هو، ومنصوباً بتقدير أعني ( أبن أهيب) بضم الهمزة وفتح الهاء وسكون التحتية ( ابن عبد مناف) بفتح الميم ( ابن زهرة) بضم الزاي ( ابن كلاب) بكسر الكاف يحتمل أن يكون منقولاً عن جمع كلب، وأن يكون منقولاً عن مصدر كالب.
وفي «المواهب اللدنية» : سئل أعرابيّ لم تسمون أبناءكم بشرّ الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنا نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا.
يريد أن الأبناء عدة للأعداء وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء.
وكلاب هذا يجتمع فيه نسب أبي النبيّ وأمه.
واسم كلاب حكيم وقيل عروة ( ابن مرّة) بضم الميم وتشديد الراء ( ابن كعب) وهو أول من جمع يوم العروبة كانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبيّ ويعلمهم أنه من ولده ويأمرهم باتباعه والإيمان به ( ابن لؤيّ) بضم اللام وفتح الهمزة وتقدم ما يتعلق به أول الباب ( ابن غالب القرشيّ الزهريّ رضي الله عنه) أسلم سعد قديماً.
وسبب إسلامه مذكور في «شرح الأذكار» ، وكان من المهاجرين الأولين شهد بدراً وما بعدها، وكان يقال له فارس الإسلام، وهو ( أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم) وقد جمع أسماءهم غير واحد كالحافظ زين الدين العراقي فقال: وأفضل أصحاب النبي مكانة ومنزلة من بشروا بجنان سعيد زبير سعد عثمان عامر علي ابن عوف طلحة العمران وأحد الستة أصحاب الشورى، كان يحرس النبيّ في مغازيه، وجمع له النبيأبويه فقال: «فدالك أبي وأمي أيها الغلام الحزور، اللهم سدّد رميته وأجب دعوته» .
ثم قال لهم هذا خالي فليأت كل رجل بخاله.
وفي هذا المقام في «شرح الأذكار» بسط فراجعه.
ودعا له النبيّ بالشفاء من جرح كان به فشفي وهو أول من أراق دماً في الإسلام، وأول من رمى بسهم في سبيلالله، وأخباره في الشجاعة والشدة في دين الله واتباع السنة والزهد والورع وإجابة الدعوة والصدق والتواضع شهيرة.
روي له عن النبي مائتان وسبعون حديثاً.
وفي «التلقيح» لابن الجوزي مائتان وإحدى وسبعون حديثاً.
وقال أبو نعيم أسند مائة حديث ونيفاً سوى الطريق.
وقال البرقي: الذي حفظ عنه نحو من سبعين حديثاً اهـ.
اتفق على خمسة عشر حديثاً، وانفرد البخاري بخمسة عشر، ومسلم بثمانية عشر.
توفي في قصره بالعقيق على سبعة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة، وصلى عليه والي المدينة مروانبن الحكم وأزواج النبيّ قيل وكان آخر المهاجرين موتاً بالمدينة ولما حضرته الوفاة دعا بخلق جبة له فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وكنت أخبؤها لهذا اليوم.
وكانت وفاته سنة ثمان أو خمس وخمسين وله بضع وستون أو سبعون أو ثمانون أو تسعون سنة ( قال: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني) فيه عيادة الكبير أتباعه، ففيه التواضع ولين الجانب ( عام حجة الوداع) سميت بذلك لأنه ودعهم فيها وهو بكسر الواو ويجوز فتحها، وتسمى بحجة البلاغ، لأنه قال لهم فيها: «هل بغلت» وبحجة الإسلام، لأنها الحجة التي حجّ فيها المسلمون وليس فيها مشرك ( من وجع اشتد بي) وفي رواية لهما «أشفيت منه على الموت» أي: قاربته وأشرفت عليه ( فقلت، يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى) فيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من نحو مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حالة، وكراهة ذلك محمولة على ما كان على وجه التسخط ونحوه لكونه قادحاً في أجر مرضه ( وأنا ذو مال) فيه دليل إباحة جمع المال، لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلا لمال كثير ( ولا يرثني) من الولد أو خواصّ الورثة وإلا فقد كان له عصبة، وقيل معناه؛ لا يرثني من أصحاب الفروض ( إلا ابنة لي) اسمها عائشة ولم يكن إذ ذاك سواها، ثم جاء له بعد ذلك أولاد.
وتعقب الحافظ ذلك في «الفتح» ، ثم قال؛ والظاهر أن البنت المشار إليها هي أم الحكم الكبرى، وأمها بنت شهاببن عبد ابن الحارث.
t قالالحافظ؛ ولم أر من حررّ ذلك ( أفأتصدق بثلثي مالي) يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية، ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة، وحكمهما سواء عندنا.
وعند العلماء كافة لا ينفذ منهما ما زاد على ثلث التركة إلا برضى الوارث ( قال لا، قلت فالشطر) أي: فالنصف بالرفع على الابتداء أي أتصدق به أو على أنه فاعل لفعل مقدر: أي أفيجوز الشطر؟ وقال في «فتح الباري» : هو بالنصب على تقدير فعل: أي أسمي أو أعين الشطر.
ثم قال: ويجوز الرفع ( قال لا، قلت فالثلث) بالرفع أو النصب ( قال) : ( الثلث) بالرفع على تقدير أنه فاعل فعل محذوف: أي يكفيك الثلث، أو خبر مبتدإ محذوف: أي المشروع الثلث، أو مبتدأ حذف خبره: أي الثلث كافيك، وبالنصب على الإغراء أو بفعل مضمر: أي أعط الثلث ( والثلث كثير) بمثلثة وعليه اقتصر الشيخ زكريا في «تحفة القاري» على البخاري ( أو كبير) أي: بموحدة، وقد حكاه مع ما قبله المصنف في «شرح مسلم» روايتين قال وكلاهما صحيح.
قال في «فتح الباري» : المحفوظ في أكثر رواياته بالمثلثة، ومعناه كثير بالنسبة إلى ما دونه قال: وهذا محتمل أن يكون مسوقاً لبيان جواز التصدق بالثلث، وأن الأولى النقص عنه وهو ما يتبادر إلى الفهم، ومحتمل أن يكون لبيان أن التصدق بالثلث من الأكمل: أي كثير أجره أو كثير غير قليل.
قال الشافعي: وهذا أولى معانيه، يعني أن الكثرة أمر نسبي اهـ.
( إنك) يجوز فتح الهمزة وهو أوضح لأنه علة لما تضمنه قوله: «والثلث كثير» من أنه لا ينبغي أن يوصي بالثلث بل ينقص عنه شيئاً قليلاً، ويجوز كسرها استئنافاً، وفيه الإشارة إلى تلك العلة أيضاً ( أن تذر ورثتك أغنياء) بفتح همزة أن: أي لأن تذر فمحله جرّ أو نصب على الخلاف في ذلك، أو هو مبتدأ فمحله رفع وخبره ( خير) وعلى الأول فهو خبر لأن، ويجوز كسر همزة أن إن صحت به الرواية، قال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر فإن فيه شرطية وجوابها جملة صدرها مع فاء الجواب محذوف: أي فو خير، وبصحة الرواية اندفع ما قبل حذف ذلك ضرورة ( من أن تذرهم) أي: تتركهم ( عالة) بتخفيف اللام فقراء ( يتكففون الناس) أي: يسألونهم ما في أكفهم، ففي الحديث حثّ على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة، وأنّ صلة القريب الأقرب أفضل من الأبعد ( وإنك لن تنفق نفقة) معطوف على قوله: «إنك أن تذر» إلى آخره، وهما علة للنهي عن الوصيةبأكثر من الثلث كأنه قال: لا تفعل لأنك إن متّ تركت ورثتك أغنياء وهو خير لك، وإن عشت تصدقت وأنفقت فالأجر حاصل لك في الحالين، وعبر بتنفق مع أن اشتراط الإخلاص لا يختص به بل يجري في كل تصرّف ما لي أو فعلى تفاؤلاً، فإن الإنفاق إنما يقال فيما صرف في الخير، وغيره يقال فيه حسنى وصنيع.
وقال ابن أبي جمرة: نبه بالنفقة على ما سواها من عمل البرّ ( تبتغي بها وجه ا) أي: ذاته وحده كما دل عليه السياق ( إلا أجرت) بالبناء للمجهول: أي آجرك الله ( عليها) وفي نسخة «بها» لأنه من العمل الصالح ( حتى ما تجعل في في امرأتك) حتى عاطفة، وما اسم موصول في محل نصب عطفاً على نفقة، ويجوز الرفع على أنه مبتدأ: أي إلا أجرت بالنفقة التي تبتغي بها وجه الله حتى بالشيء الذي تجعله في فم امرأتك، ففي الحديث أن الأعمال بالنيات.
وإنما يثاب على عمله بنيته، وأن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله تعالى به.
وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة ويثاب عليه؛ إذ وضع اللقمة في فم امرأته إنما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذّذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل.
فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجهالله.
ويؤخذ منه أن الإنسان إذا فعل مباحاً من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه.
ووجه عطف جملة وإنك لن تنفق الخ» على «إنك» الأولى بيان سبب استكثار الثلث ببيان ما يتعلق به في الدنيا والآخرة: أي: لا تستقل الثلث، فإنك إذا أخرجته أثبت الثواب العظيم.
وأبقيت لورثتك ما يصونون به وجوههم عن ذلّ السؤال، ومع ذلك تكون قد تداركت به ما فرطت.
كما في حديث «إن الله أعطى عبده ثلث ماله في آخر عمره ليتدارك به ما فرط منه» ( قال فقلت يا رسول الله أخلف) بضم الهمزة وفتح اللام المشددة، وفي نسخة من البخاري «أخلف» بهمزة الاستفهام: أي أخلف في مكة ( بعد أصحابي) أي: بعد انصرافهم معك.
قال القاضي عياض: قاله إما إشفاقاً من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها فخشي أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض، وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه.
ولذا جاء في رواية أخرى «أخلف عن هجرته» .
قال القاضي: قيل كان حكم الهجرة باقياً بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل: إنما كان ذلك لمن هاجر قبل الفتح اهـ ( قال إنك لن تخلف) أي:بأن يطول عمرك وبقاؤك في الحياة بعد جماعات من أصحابك ( فتعمل عملاً يبتغي) تقصد ( به وجه ا) وحده: أي: ذاته ( إلا ازددت به درجة) في الجنة ( ورفعة) بكسر الراء، ففي هذا فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، والحثّ على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال ( ولعلك أن تخلف) بأن يطول عمرك ( حتى ينتفع بك أقوام) في دينهم ودنياهم ( ويضربك آخرون) هذا من جملة إخباره بالمغيبات فإنه عاش حتى فتح العراق وغيره، وانتفع به قوم في دينهم ودنياهم، وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم، فإنهم قتلوا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم، وغنمت أموالهم وديارهم، وولى العراق فاهتدى على يديه خلائق بإقامة الحق فيهم من كفار ونحوهم ( اللهمّ) أصله يا أ، فحذف حرف النداء وعوّض عنه الميم ولهذا امتنع الجمع بينهما في الاختيار، وبسطت الكلام في تحقيق هذه الكلمة في «شرح الأذكار» قيل: وهو الاسم الأعظم ( أمض) بفتح الهمزة: أي أتمم ( لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم) قال القاضي عياض: استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادحاً في هجرته، ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاماً أو تقدم معنى ذلك ( لكن البائس) بموحدة وبالمد: أي الذي آثر البؤس، أي شدة الفقر والقلة ( سعدبن خوله) بفتح الخاء المعجمة وهو زوج سبيعة الأسلمية ( يرثى له) أي: يرق له ويترحم له ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن) بفتح الهمزة: أي: لأنه ( مات بمكة) وهي الأرض التي هاجر منها.
قال العلماء: انتهى كلام النبي إلى قوله: «لكن البائس سعدبن خولة» ، وما بعده، مدرج من الراوي قيل من سعد وقد جاء مفسراً في بعض الروايات، وقيل أكثر ما جاء من كلام الزهري.
واختلف في قصة سعدبن خولة: فقيل: لم يهاجر من مكة حتى مات بها.
وقيل: إنه هاجر وشهد بدراً ثم انصرف إلى مكة ومات بها، وقيل: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدراً وغيرها، وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل: توفي بمكة سنة سبع في الهدنة، خرج مختاراً من المدينة إلى مكة.
فعلى القول الأول سبب بؤسه عدم هجرته.
وعلى الثاني والأخير سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختاراً بها.
وعلى القول الثالث سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره، لما فاته من الأجر الكامل بالموت في دار هجرته، والغربة عن وطنه الذي هجره تعالى،ذكره المصنف في «شرح مسلم» ( متفق عليه) ورواه مالك في «الموطإ» وأبو داود والترمذي والنسائي كذا في «جامع الأصول» لابن الأثير.


رقم الحديث 7 ( وعن أبي هريرة) جره بالكسرة هو الأصل وصوّبه جماعة لأنه جزء علم، واختار آخرون منع صرفه كما هو شائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم، لأن الكل صار كالكلمة الواحدة.
واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معاً في كلمة واحدة بل في لفظ هريرة إذا وقعت فاعلاً مثلاً، فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظراً للأصل وتمنع من الصرف نظراً للحال، ونظيره خفي.
وأجيب بأن الممتنع رعياتهما من جهة واحدة لا من جهتين كما هنا، وكأن الحامل عليه الخفة واشتهار هذه الكنية، حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه وفي اسم أبيه على خمسة وثلاثين قولاً، أصحها ( عبد الرحمنبن صخر رضي الله عنه) وسبب تكنيته بذلك ما رواه ابن عبد البر عنه أنه قال: «كنت أحمل يوماً هرة في كمي، فرآني النبي فقال: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقال: يا أبا هريرة» وفي رواية إسحاق «وجدت هرة حملتها في كمي فقيل لي: ما هذه؟ فقلت: هرة، فقيل أنت أبو هريرة» روجح بعضهم الأول، وقيل غير ذلك.
أسلم عام خيبر وشهدها مع رسول الله، ثم لازمه الملازمة التامة رغبة في علم راضياً بشبع بطنه، وكان يدور معه حيثما دار، ومن ثم كان أحفظ الصحابة، وقد شهد له أنه حريص على العلم والحديث.
يروى عنه كما قال البخاري أكثر من ثمانمائة ما بين صحابي وتابعي، وله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً اتفقا منها على ثلاثمائة، وانفرد البخاري بثلاثة وسبعين.
وكان ملازماً لسكنى المدينة، وبها توفي في سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين عن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع.
وما اشتهر أن قبره بقرب عسقلان لا أصل له إنما ذاك صحابي اسمه حيدرة ( قال: قال رسول الله: إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلىصوركم) أي: لا يثيبكم عليها ولا يقربكم منه ذلك كما قال تعالى: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً} ( سبأ: 37) الآية، فمعنى نظر اهنا مجازاته وإثباته، وهذا بعينه يأتي في قوله تعالى: { ولا ينظر إليهم} ( آل عمران: 77) وإلا فنظره تعالى الذي هو رؤيته للموجودات وإطلاعه عليها لا يخص موجوداً دون موجود بل يعم جميع الأشياء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
والحاصل أن الإثابة والتقريب ليسا باعتبار الأعمال الظاهرة وإنما هي باعتبار ما في القلب كما قال: ( ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي الحديث الاعتناء بحال القلب وصفاته بتحقيق علومه وتصحيح مقاصده وعزومه، وتطهيره عن كل وصف مذموم وتحليته بكل نعت محمود، فإنه لما كان القلب محل نظر الربّ حق على العالم بقدر اطلاع الله تعالى على قلبه أن يفتش عن صفات قلبه وأحواله لإمكان أن يكون فيه وصف مذموم يمقته الله بسببه.
وفيه أن الاعتناء بإصلاح القلب وبصفاته مقدم على عمل الجوارح، لأن عمل القلب هو المصحح للأعمال الشرعية، إذا لا يصح عمل شرعي إلا من مؤمن عالم بمن كلفه، مخلص له فيما يعمله، ثم لا يكمل إلا بمراقبته تعالى فيه المعبر عنها بالإحسان، وحيث كان عمل القلب مصمماً للعمل الظاهر وعمل القلب غيب عنا فلا يقطع لذي عمل صالح بالخير، فلعل الله تعالى يعلم من قلبه وصفاً مذموماً لا يصح معه ذلك العمل، ولا لذي معصية بالشرّ فلعله سبحانه يعلم من قلبه وصفاً محموداً يغفر له بسببه، والأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية، ويترتب على ذلك عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالاً صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالاً سيئة، بل تحتقر تلك الحالة السيئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبر هذا فإنه نظر دقيق، لخص من المفهم للقرطبي ( رواه مسلم) وابن ماجه أيضاً.


رقم الحديث 8 ( وعن أبي موسى عبْدِ اللَّهِ) بالجر عطف بيان أو بدل من أبي موسى ( ابن قيس) بفتح القاف وسكون التحتية آخره مهملة ( الأشعري) نسبة إلى الأشعر قبيلة مشهورة باليمن والأشعر هو مرةبن أددبن زيدبن يشجب، وإنما قيل له الأشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه، كذا في لبّ اللباب.
قدم أبو موسى ( رضي الله عنه) مكة على النبي قبل الهجرة فأسلم ثم هاجر، وقدم المدينة مع جعفر وأصحاب السفينة بعد خيبر، وأسهم لهم منها كمن حضرها، وقال؛ لكم أهل السفينة هجرتان، وكان لأبي موسى ثلاث هجر: إلى مكة، ثم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة.
ولاه على زبيد وعدن وساحل اليمن، وكان يكرمه ويبجله، وقال له «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» وولاه الولايات، وقد ذكرت جملة من أحواله في باب فضل الذكر من «شرح الأذكار» ، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وستون حديثاً اتفقا منها على تسعة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة عشر.
توفي بمكة وقيل بالكوفة سنة اثنتين أو أربع وأربعين عن ستين سنة ( قال سئل) بالبناء للمجهول، والسائل هو لاحق ابن ضمرة الباهلي كما في «تحفة القاري» ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل) في محل الصفة أو الحال من الرجل، لأن أل فيه جنسية فهو نظير قوله تعالى: { وأية لهم الليل نسلخ منه النهار} ( يس: 37) وقال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني ( شجاعة) هي الإقدام على العدو عن روية، قال الشاعر:الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني ( و) سئل عن الرجل ( يقاتل حمية) بتشديد التحتية: أي: أنفة وغيره ومحاماة عن عشيرته.
( و) سئل عن الرجل ( يقاتل رياء) أي: ليرى الناس قتاله ومثله القتال سمعة أي ليسمع الناس، وقوله: «شجاعة» بالنصب وكذا المذكورات في الجمل المعطوفة بعده، وقد جاء في رواية «سئل عن الرجل يقاتل للذكر» الحديث؛ أي: لأن يذكر بالشجاعة؛ أي: ملاحظة لنظر الخلق ليمدحوه ويقبلوا عليه، فشجاعة وكذا المنصوبات في الجمل المعطوفة بعده مفعول له ( أيّ ذلك) بالرفع مبتدأ وهو اسم استفهام وخبره ( في سبيل ا) أي: كائن في طاعته ( فقال رسول الله: من قاتل لتكون كلمة ا) أي: دين الإسلام، فإن الإسلام ظهر بكلام الله الذي أظهره على لسان رسول الله، وقيل: المراد من كلمة الله دعوته إلى الإسلام ( هي العليا فهو في سبيل ا) يدخل في الحديث من قاتل لطلب ثواب الآخرة أو رضي الله لأنه من إعلاء كلمةالله.
وحاصل الجواب أن القتال في سبيل الله قتال منشؤة القوّة العقلية لا القوة الغضبية أو الشهوانية، قال المصنف؛ في الحديث بيان أن الأعمال إنما تحسب بالنيات الصالحة، وأن الفضل الوارد في المجاهدين يختص بمن قاتل لإعلاء كلمة الله ( متفق عليه) ورواه أبو داود والنسائي والترمذي.


رقم الحديث 9 ( وعن أبي بكرة) بسكون الكاف كني بذلك لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف إلى النبي لما حاصر الطائف، ثالث ثلاثة وعشرين من عبيد أهل الطائف ( نفيع) بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية آخره مهملة عطف بيان أو بدل من أبي بكرة، وقيل اسمه مسروح بمهملات، وقيل اسم أبيه ذلك ( ابن الحارث) بن كلدة بفتحتين ( الثقفي) نسبة لثقيف بوزن رغيف.
كان أبو بكرة ( رضي الله عنه) من ذوي المزايا من أصحاب رسول الله، نزل البصرة وشهد وقعة الجمل ولم يقاتل فيها واجتنب حروب الصحابة، روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة واثنتان وثلاثون حديثاً، اتفقا على ثمانية منها، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بواحد.
توفي بالبصرة سنة إحدى أو اثنتين وخمسين ( أن النبي قال: إذا التقىالمسلمان بسيفيهما) قاصداً كل منهما إتلاف صاحبه ( فالقاتل) بسببه مباشرته قتل صاحبه ( والمقتول) لحرصه على ذلك كائنان ( في النار) أي: إن لم يعف الله عنهما ( قلت: يا رسول الله هذا القاتل) : أي: حكمة دخوله النار إن لم يعف الله عنه ظاهرة لأنه ظلم أخاه ( فما بال المقتول) المظلوم ( قال إنه) أي: المقتول ( كان) عاصياً لأنه كان ( حريصاً على قتل صاحبه) ففي الحديث العقاب على من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها، ويحمل ما جاء في الأحاديث من العفو عن الخواطر على غير ذلك بأن مر ذلك بفكره من غير استقرار ويسمى هما المعصية التي عزم عليها كما ذكر تكتب سيئة ويؤاخذ بها إن لم يعملها فإن عملها كتبت معصية ثانية، وإن تركها خوفاً من الله تعالى كتبت حسنة.
وتمسك أبو بكرة بهذا الحديث في ترك القتال في الفتنة حتى نقل عنه أنه قال: لو دخل عليّ أحد حتى يقتلني لم أمنعه ( متفق عليه) قال في «الجامع الصغير» ورواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي بكرة، ورواه ابن ماجه عن أبي موسى.


رقم الحديث 10 ( وعن أبي هريرة) سبقت ترجمته ( رضي الله عنه قال: قال رسول الله: صلاة الرجل جماعة) أي: في المسجد ( تزيد على صلاته) أي: الرجل ( في سوقه) سميت بذلك لأن الناس يسوقون إليها بضائعهم.
أو لأنهم يقفون فيها على ساق ( و) تزيد على صلاته في ( بيته) جماعة كانت أو فرادي صرح به الحافظ في «الفتح» ، لكن قال المصنف: الصواب أن المراد منه صلاته في بيته وسوقه منفرداً، وقيل فيه غير هذا وهو قول باطل اهـ.
وقال الحافظ: مقتضى الحديث أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت جماعة وفرادى.
قال ابن دقيق العيد: والذي يظهر لي أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفرداً، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعةفي المسجد صلى منفرداً، قال: وبهذا يرتفع إشكال من استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق اهـ.
ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد ألا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن تكون الصلاة جماعة في البيت والسوق لا فضل فيها على الصلاة منفرداً، بل الظاهر أن التضعيف المذكور يختص بالجماعة في المسجد.
والصلاة في البيت مطلقاً أولى منها في السوق كذلك.
لما ورد من كون الأسواق محلاً للشياطين والصلاة جماعة في السوق والبيت أفضل من الإنفراد ( بضعاً) بكسر الباء وفتحها وهو من الثلاثة إلى العشرة.
وقيل: من ثلاث إلى تسع، وقيل: غير ذلك، والصحيح الأول.
والمراد منه خمس أو ست أو سبع كما جاء مبيناً في روايات في «الصحيح» ( وعشرين درجة) أي: يزيد ثواب الصلاة في الجماعة في المسجد على الصلاة في البيت والسوق هذا القدر، فيحصل له بالصلاة في المسجد ثواب أزيد من ثواب ما لو صلى تلك الصلاة بعينها منفرداً فيها بضعاً وعشرين درجة، كما ذكره ابن دقيق العيد وغيره.
قال ابن الأثير: إنما قال درجة لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع وأن تلك فوق هذه بكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق ( وذلك) إشارة إلى أن الأمور المذكورة بعد علة التضعيف والتقدير، وذلك لأنه، فكأنه يقول سبب التضعيف المذكور ( أن أحدهم) أي: الواحد من الرجال المدلول عليه بلفظ الرجل فأل فيه استغراقية ( إذا توضأ فأحسن الوضوء) بضم الواو: أي: أسبغه وأتى بسننه وآدابه ( ثم أتى المسجد) حال كونه ( لا يريد) من إتيانه إياه ( إلا الصلاة) أي: ثواب الصلاة في جماعة فأن فيه عهدية، وأوقع الفعل على الصلاة لأنها سبب، وليس مفهوم «ثم» وهو المهلة والتراخي مراداً بل المبادرة أولى؛ لقوله تعالى: { أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} ( المؤمنون: 61) .
p وفي الحديث إشارة إلى اعتبار الإخلاص ( لا ينهزه إلا الصلاة) هو بمعنى ما قبله ( لم يخط) بفتح التحية وضم الطاء المهملة ( خطوة) قال الحافظ في «الفتح» : ضبطناه بضم أوله،ويجوز الفتح.
قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة.
وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح، وقال القرطبي إنها في رواية مسلم بالضم ( إلا رفع) بالبناء للمجهول، ونائب الفاعل ضمير يعود إلى الرجل ( بها) أي: بسببها، و ( درجة) منصوب على الظرفية والدرجة بفتح الدال المرتبة والمنزلة، ثم يحتمل أن تكون حسية في الجنة، وأن تكون معنوية بمعنى ارتفاع رتبته ( وحط) أي: وضع ( عنه) أي: عن الرجل المذكور بأن يمحي من صحيفته ( بها) أي: بسببها ( خطيئة) أي: ذنب ( حتى) غاية لما قبله: أي إلى أن ( يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد) منتظراً للصلاة بالنصب على الظرفية على سبيل التوسع، وإلا فحقه ألا ينصب عليها لأنها اسم مكان مختص ( كان) الرجل ( في الصلاة) أي: في ثوابتها.
وهذا مجاز، فإن الصلاة أو ثوابها ليس ظرفاً ( ما كانت الصلاة هي تحبسه) «ما» فيه مصدرية ظرفية ثم محله ما لم يصرف جلوسه في مصلاه لغرض آخر، وهل يحصل الثواب المذكور لمن نوى إيقاع الصلاة في المسجد جماعة وإن لم يوقعها فيه أم لا؟ قال القلقشندي: الظاهر الثاني.
وقضية ما تقدم في حديث المخلفين عن تبوك من المعذورين من قول القرطبي إنهم يثابون كالمباشر لصدق نيتهم، أن يحصل له الثواب عند صدق النية ( والملائكة) قيل: هم أجسام نورانية لطيفة قادرة على التشكل، وقيل: غير ذلك، وهل هي متحيزة أو لا؟ وهل يستقل العقل بمعرفتها أو لا؟ فيه خلاف تحقيقه في علم الكلام ( يصلون على أحدكم) أي: يدعون له.
وقابل صلاة الجماعة بصلاة الملائكة ليتناسب العمل والثواب.
وهؤلاء الملائكة يجوز أن يكونوا الحفظة ويجوز أن يكونوا غيرهم ( ما) مصدرية ظرفية أيضاً ( دام في مجلسه) أي: مدة دوام كونه في مجلسه ( الذي صلى فيه) أي: صلاة تامة كما قال ابن أبي جمرة.
قال القلقشندي: والمراد ما دام فيه ينتظر الصلاة وقد ورد كذلك صريحاً عند مسلم، ومقتضى هذا أنه إذا انصرف عن مصلاه إلى موضع آخر في المسجد أو غيره وهو ينتظر الصلاة أنه ينقطع ذلك، وليس مراداً كما نبه عليه الحافظ في «الفتح» ، فقال الباجي: المنتظر في غير مصلاه من المسجد يكون في صلاة كالمنتظر في مصلاه، غير أن المنتظر في مصلاه يختص بصلاة الملائكة عليه ( يقولون) بيان ليصلون ( اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه) فعلم أن المراد بصلاتهم الدعاء لا الاستغفارفقط.
واستدل بالحديث على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال كما ذكر من دعاء الملائكة للمصلى، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونوا في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم ( ما لم يؤذ فيه) بسكون المهملة كما قاله الداودي.
قال: وضبطها بعضهم بفتحها وأراد بغير ذلكالله.
قيل: والمراد بالحدث في الحديث الذي ذكره البخاري الريح كما فسره أبو هريرة راوي الحديث.
وقيل: المراد أعم من ذلك ويؤيده رواية مسلم هذه الجامعة بين الأذى والحدث إن لم يكن الثاني تفسيراً للأول، فإن كان تفسيراً له يؤخذ منه أن اجتناب حدث اللسان واليد من باب أولى فيهما ويؤخذ منه أن الحدث يقطع ذلك ولو استمر جالساً في مصلاه.
وتأول أكثر العلماء الأذى بالغيبة والضرب فإن ذلك أعظم من أذى الحدث ( متفق عليه، وهذا لفظ مسلم) ورواه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي مقطعاً، وكذا ابن ماجه والإسماعيلي وأبو عوانة وابن الجارود مختصراً والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم، كذا في «شرح عمدة الأحكام» للقلقشندي ( قوله) كما في نسخة ( ينهزه: هو بفتح الياء والهاء) وحكي ضم الياء وكسر الهاء ( وبالزاي أي يخرجه وينهضه) وفي «النهاية» : النهز الدفع، يقال نهزت الرجل أنهزه: أي: إذا دفعته، ونهز رأسه إذا حركه.