فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل قيام ليلة القدْر وبَيان أرجى لياليها

رقم الحديث -212 بإسكان الدال المهملة، قيل إنه بمعنى مفتوحها لأنها التي فيها يفرق كل أمر حكيم ويقدر على الأصح، وقيل إنه بمعنى الشرف، فقيل لشرف قدرها عند الله تعالى، وقيل لأن من لا شرف له إذا صادفها فقامها صار ذا قدر وشرف، وقيل غير ذلك مما بينته في سطوع البدر في فضل ليلة القدر ( وبيان أرجى لياليها) أي ليالي رمضان لها.
واختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً، ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أن الأصح منها أنها باقية وفي كل رمضان، وأنها تلزم ليلة بعينها من العشر الأخير، واختير القول بانتقالها فتكون تارة في الحادية والعشرين وتارة أخرى في أخرى من العشر الأخير، قال المصنف: وبه يجمع بين الأخبار ويرتفع التعارض عنها.
( قال الله تعالى) : ( { إنا أنزلناه} ) أي القرآن المدلول عليه بقرينة المقام ( { في ليلة القدر} ) بإنزاله فيها جملة نم اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بعد بحسب الوقائع ( { وما أدراك ما ليلة القدر} ) تعظيم لشأنها ( { ليلة القدر خير من ألف شهر} ) أي من ألف شهر ليس فيها ليلة قدر: أي العمل في تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها تلك الليلة.
نزلت هذه الآية حين ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب أصحابه من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي.
والأصح أنها من خصائص هذه الأمة ( { تنزل} ) أي تتنزل ( { الملائكة والروح} ) أي جبريل أو ضرب من الملائكة ( { فيها بإذن ربهم} ) مع نزول البركة والرحمة، قال «الملائكة في الأرض تلك الليلة أكثر من عدد الحصى» وعن كعب الأحبار: لا تبقى بقعة إلا وعليها ملك يدعو للمؤمنين والمؤمنات سوى كنيسة أو بيت نار أو وثن أو موضع فيه النجاسة أو السكران أو الجرس، وجبريل لا يدع أحداً إلا صافحه، فمن اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فمن أثر مصافحته ( { من كل أمر} ) أي لأجل كل أمر قدر في تلك السنة ( { سلام هي} ) ليس هي إلا سلامة لا يقدر فيها شر وبلاء، أو لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً.
أو ما هي إلا سلام لكثرة تسليم الملائكة فيها على أهل المساجد.
وعن مجاهد سلام هي من كل خطر ( { حتى مطلع الفجر} ) غاية تبين انتهاء تعميم السلامة أو السلام كل ليلة قدر إلى وقت طلوعه، والمطلع بالفتح مصدر على القياس، وبالكسر مصدر أيضاً كالمرجع، أو اسم زمان كالمشرق على خلاف القياس، وقد قرىء في السبع بهما.
( وقال تعالى) : ( { إنا أنزلناه} ) أي الكتباب المبين ( { في ليلة مباركة} ) هي ليلة القدر ( { إنا كنا منذرين} ) محذرين بإنزال الكتاب: جملة مستأنفة لبيان فائدة الإنزال ( { فيها} ) أي في تلك الليلة ( { يفرق} ) يفصل ويثبت ( { كل أمر حكيم} ) محكم لا يبدل من الأرزاق والآجال وجميع أمورهم إلى السنة ( { أمراً من عندنا} ) نصب على الاختصاص: أي أعني به أمراً حاصلاً من عندنا أو حال من كل أو من ضمير حكيم ( { إنا كنا مرسلين} ) إلى الناس رسلاً تتلو عليهم آياتنا بدل من «إنا كنا منذرين» أي أنزلناه لأن عادتنا الإرسال ( { رحمة من ربك} ) مفعول له، وقيل «إنا كنا» علة لِ «يفرق» و «رحمة» مفعول به: أي تفصل فيها الأمور لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا وفصل الأمور من باب الرحمة ( { إنه هو السميع العليم} ) للأقوال والأفعال والرب لا بد وأن يكون كذلك.


رقم الحديث 1189 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: من قام) أي أحيا بالعبادة ( ليلة القدر) ويحصل أصل قيامها بصلاة العشاء فيها جماعة والعزم على صلاة الصبح كذلك ( إيماناً واحتساباً) أي مؤمناً ومحتسباً ( غفر له ما تقدم من ذنبه) .
قال المصنف: قد يقال هذا الحديث مع حديث «من قام رمضان» الخ يغني أحدهما عن الآخر.
وجوابه أن يقال: قيام رمضان من غير موافقة ليلة القدر ومعرفتها سبب لغفران الذنوب، وقيام ليلة القدر لمن وافقها وعرفها سبب للغفران وإن لم يقم غيرها اهـ.
( متفق عليه) ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جان كلهم من حديث أبي هريرة، ورواه النسائي أيضاً من حديث عائشة كذا في «الجامع الكبير» .


رقم الحديث 1190 ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي) قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» : لم أقف على تسمية أحد منهم ( أروا) بضم أوله ( ليلة القدر في المنام) أي قيل لهم فيه إنها ( في السبع الأواخر) أي آخر سبع من الشهر، وقيل المراد بها التي أولها ليلة الثاني والعشرين وآخرها ليلة الثامن والعشرين.
قال الدماميني في «المصابيح» : الأواخر جمع آخرة بكسر الخاء لا جمع أخرى لأنها لا دلالة لها على المقصود وهو الآخر في الوجود وإنما تقتضي المغايرة كقولك مررت بامرأة حسنة وأخرى: أي مغايرة لها، ويصح هذا التركيب سواء كان المرور بهذه المغايرة سابقاً أو لاحقاً، وهذا عكس العشر الأول لأنه جمع أولى، ولا يصح الأوائل لأنه جمع أول الذي هو للمذكر وواحد العشر ليلة وهي مؤنثة فلا توصف بمذكر اهـ ( فقال رسول الله: أرى) بالفتح أي أبصر مجازاً ( رؤياكم) قال القاضي عياض: كذا هو بالإفراد، والمراد رؤياكم لأنها لم تكن رؤيا واحدة.
وقال الدماميني: فهو ما عاقب فيه الإفراد الجمع لأمن اللبس وهو مسموع، وقال السفاقسي: كذا يرويه المحدثون بتوحيد الرؤيا وهو جائز لأنها مصدر، وأفصح منه رؤاكم جمعاً لتكون جمعاً في مقابلة جمع، ولم يبدل ذلك وإن كان أشبه بكلام النبي لكراهة تغيير ما أدته الرواية.
قلت: مع حصول معنى الجمع بذلك لأن المفرد المضاف للعموم فهو كالجمع المضاف ( قد تواطأت) بالهمز: أي توافقت وزناً ومعنى، وأصله أن يطأ الرجل برجله مكان رجل صاحبه، وهو في مسلم تواطت بطاء فتاء.
قال المصنف: هكذا هو في النسخ وهو مهموز، فكان ينبغي كتابة ألف بعد الطاء صورة للمهموز ولا بد من قراءته مهمورا، قال الله تعالى: { ليواطئوا عدة ما حرم الله} ( التوبة: 37) اهـ ( في السبع الأواخر، فمن كان متحريها) أي متوخياً مصادفتها ( فليتحرها في السبع الأواخر) وجاء عند مسلم في حديث ابن عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك عمر مرفوعاً «من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر» وعنده من حديثه أيضاً كذلك بلفظ «التمسوها في العشر الأواخر/ فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي.
قالالحافظ في الفتح: هذا السياق يرجح الأول من الاحتمالين في تفسير السبع الأواخر ( متفق عليه) قال في الفتح: في الحديث دلالة على عظم قدر الرؤيا وجواز الاستناد إليها في الأمور الوجودية بشرط أن لا تخالف القواعد الشرعية.


رقم الحديث 1191 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجاور) أي يعتكف ( في العشر الأواخر من رمضان) وأوله الحادي والعشرون منه وآخره انقضاء رمضان ( ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) أخذ أصحابنا بقضية هذا الحديث فقالوا: إذا علق رجل طلاق زوجته بليلة القدر، فإن كان قبل الحادي والعشرين من رمضان طلقت بانقضائه وإن كان في الحادي والعشرين منه فما بعد فلا يقع الطلاق حتى يحول الحول ويأتي مثل يوم التعليق ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1192 ( وعنها أن رسول الله قال: تحروا ليلة القدر) قال في النهاية: التحري القصد والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالقول والفعل ( في الوتر) هذا مقيد لإطلاق الحديث قبله الشامل لأوتار العشر وأشفاعه ( في العشر الأخير) في محل الصفة أو الحال من الوتر لكونه محلي بأل الجنسية وكذا قوله ( من رمضان) والحديث محتمل لكلمن القول بلزومها لليلة معينة من الأوتار والقول بانتقالها في لياليها والله أعلم ( رواه البخاري) ورواه أحمد والترمذي، كذا في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 1193 ( وعنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل) أي قامه بأنواع العبادات من الصلاة والذكر والفكر، أو أحيا نفسه بالسهر فيه لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعاً لأن النائم إذا حيى باليقظة حيى ليله بحياته ( وأيقظ أهله) تنبيهاً على وقت الخير ليتعرضوا للنفحات.
فعند الترمذي «لم يكن النبيّ إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه» ( وجد) أي بذل جهده وطاقته في أداء الطاعة ( وشد المئزر) بكسر الميم الإزار، قال في النهاية: كنى بشده عن اعتزال النساء، وقبل إرادة تشميره للعبادة، يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي تشمرت له اهـ.
وقال القرطبي: ذهب بعضهم إلى أن اعتزال النساء كان بالاعتكاف، وفيه نظر لقوله فيه «وأيقظ أهله» فإنه يشعر بأنه كان معهن في البيت، فلو كان معتكفاً لكان في المسجد ولم يكن معه أحد.
ونظر فيه بأنه قد روى «أنه اعتكف مع النبيّ امرأة من أزواجه» وبتقدير عدم اعتكاف أحد منهن فيحتمل أن يوقظهن من موضعه وأن يوقظهن عند دخوله البيت لحاجة الإنسان.
قال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجد في العبادة، كما يقال شددت لهذا الأمر مئزري: أي شمرت له، ويحتمل أن يكون كناية عن التشمير والاعتزال معاً، ويحتمل أن يراد الحقيقة والمجاز معاً فيكون المراد شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وشمر للعبادة.
واعترض بأنه قد جاء في رواية «شد مئزره واعتزل النساء» فعطف بالواو فقوى الاحتمال الأول ( متفق عليه) كذا أورده المصنف بلفظ للعشر الأواخر وعزاه لهما، والذي فيها «إذا دخلالعشر شد مئزره» الخ من غير وصف للعشر، ونبه السيوطي على أن زيادة الوصف لابن أبي شيبة فقال الأخير، ونبه العلقمي أنه كذلك من حديث علي عند ابن أبي شيبة والبيهقي، وحديث الباب من غير لفظ الأواخر، ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه.


رقم الحديث 1194 ( وعنها قالت: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره) لشرفه على باقي الأشهر.
وفي الحديث عن أبي سعيد عن رسول الله «سيد الشهور شهر رمضان» الحديث رواه البيهقي في الشعب يجتهد ( وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره) من باقي أيامه لفضله على عشريه الأولين لكون ليلة القدر فيه ( رواه مسلم) واقتصر في «الجامع الصغير» على الجملة الأخيرة من هذا الحديث وعزاها لأحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.


رقم الحديث 1195 ( وعنها قالت: قلت يا رسول الله أرأيت) بفتح التاء أي أخبرني ( إن علمت أي ليلة ليلة القدر) برفع أي مبتدأ خبره ليلة القدر، والجملة منصوبة المحل منع العامل من العمل في اللفظ اسم الاستفهام ( ما) أي أي شيء مرفوع على الابتداء، والرابط للجملة الخبرية محذوف: أي أقوله، أو منصوب على أنه مفعول مقدم وجوباً لقولها ( أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو) بصيغة فعول الموضوعة للمبالغة لأبلغية عفوه سبحانه كيفا وكما يعفو عن الكبائر غير الشرك، وعنه بعد الإسلام وعما لا يعلم عدده سواه ( تحب العفو) خبر بعد خبر أو حال من ضمير الخبر قبله أو جملة مستأنفة أتى بها إطناباً ( فاعف عني) وفيه إيماء إلى أن أهم المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب، فإن بالطهارة من ذلك يتأهل للانتظام في سلك حزب الله وحزب الله هم المفلحون ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
تتمة: من علامات ليلة القدر أنها معتدلة، والشمس تطلع صبيحتهابيضاء وليس لها كبير شعاع، وفائدة ذلك معرفة يومها، إذ يسن الاجتهاد فيه كليلتها.
215