فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضلِ الصفِّ الأوَّلِ والأمرِ بإتمامِ الصفوفِ الأُولِ، وتسويِتها، والتراصِّ فِيهَا.

رقم الحديث 1082 ( عن جابر بن سمرة) بضم الميم كما تقدم ( رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله فقال: ألا) بتخفيف اللام حرف استفتاح جيء بها لتنبيه السامع لما بعدها ( تصفون) أي تسوون صفوفكم للصلاة ( كما تصف الملائكة عند) قيامها لطاعة ( ربها، فقلنا يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول) بضمففتح: أي لا يشرعون في صف حتى يكمل ما قبله، ومنه أخذ أصحابنا استحباب ذلك على التأكد فتكره مخالفته ويفوت بها ثواب الجماعة ( ويتراصون) من التراص وهو الاجتماع والانتظام قال تعالى: { كأنهم بنيان مرصوص} ( الصف: 4) ( في الصف) أي بحيث لا يبقى بينهم فرجة وهذا أيضاً سنة متأكدة يترتب على تركها ما ذكر فيما قبله ( رواه مسلم) ورواه أبو داود والنسائي.


رقم الحديث 1083 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله: قال لو يعلم الناس) أي لو علموا ( ما في النداء) أي الأذان ( والصف الأول) أي من الثواب والشرف الذي يضيق نطاق العبارة عن بيانه كما يومىء إليه حذفه ( ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يقترعوا ( عليه) أي على ما ذكر لضيق الصف الأول عن جميعهم والوقت عن أذان كلهم ( لاستهموا) لعظم فضلهما ( متفق عليه) وتقدم مشروحاً في باب فضل الأذان.


رقم الحديث 1084 ( وعنه قال: قال رسول الله: خير صفوف الرجال أولها) لقربهم من الإمام واستماعهم قراءته ومشاهدتهم لأحواله وصلوات الله وملائكته عليهم كما جاء في الأحاديث، ويليه في ذلك ثانيها ثم ثالثها وهكذا، والصف الأول أفضل حتى بمكة والمدينة على الأصح عندنا، وذلك لجريان خلاف مشهور عندنا في بطلان صلاة الذين هم أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام، ففي فضيلة الإتباع ما يزيد على المضاعفة الحاصلة للصف الثاني مثلاً الواقف في الروضة الشريفة، ومن ثم صرحوا بأفضلية النافلة في البيت عليها في مسجد مكةوالمدينة نظراً للاتباع وإن فاتت المضاعفة بناء على اختصاصها بالمسجد ( وشرها آخرها) لحرمانهم ثواب تلك الفضائل الحاصلة لمن قبلهم، بل لوقوعهم في فتنة قربهم من النساء المؤدي إلى الاطلاع على بعض ما ينكشف منهن ( وخير صفوف النساء آخرها) لبعده عن الرجال بعداً تنتفي معه الفتنة قطعا أو غالباً، ولامتثال أهله لما أمروا به من مزيد الستر والاحتجاب، ويليه في ذلك من قبله وهكذا ( وشرها أولها) لقربه من الرجال المؤدي إلى الفتنة بهم والخير والشر في الصفين أمر نسبي باعتبار كثرة الثواب وقلته، وأيضاً فالتأخر عن الكمال مع القدرة عليه فيه غاية الهضم للقدر والتسفيه للرأي والتفنع بسفساف الأمور وعدم التطلع إلى معاليها، فلا يعد في تسميته شراً لذلك ولأنه يجر إليه كما يعلم مما يأتي في شرح قوله «ولا يزال قوم يتأخرون» الخ ( رواه مسلم) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.


رقم الحديث 1085 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله رأى في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة أو في أخذ العلم ( فقال لهم: تقدموا فائتموا) أي اقتدوا ( بي وليأتم بكم من بعدكم) معناه على الأول: ليقف خلفي من غير تأخر كثير بأن لا يزيد ما بينهم وبينه على ثلاثة أذرع، وكذا ما بين كل صف، وما يليه أهل الفضل والصلاح ثم خلفهم من هو دونهم في ذلك وهكذا، ومعنى ائتمام كل صف بمن قبله أنه يتبعه في حركاته لأن من قبله أسرع علماً بانتقالات الإمام منه، وعلى الثاني ليتعلم كل منكم العلوم الظاهرة والباطنة مني وليتعلم التايعون منكم وهكذا قرناً بعد قرن إلى آخر الدهر ( لا يزال قوم يتأخرون) أي عن اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل ( حتى يؤخرهم الله) عن رحمته وعظيم ثوابه وفضله ورفيع منزلة أهل قربه حتى يكون عاقبة أمرهم النار كما جاء في رواية: ( رواه مسلم) وفيه آكد حث على التسبق إلى معالي الأمور والأخلاق، وأبلغ زجر عن الميل إلى الدعة والرفاهية، وأبلغ تنبيه إلى أن ذلك يؤدي إلى تجرع غصص البعد والغضب، أعادنا الله من ذلك بمنه.


رقم الحديث 1086 ( وعن أبي مسعود) عقبة بن عامر البدري ( رضي الله عنه قال: كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة) أي يسويها بيده الكريمة حتى لا يخرج بعض الصف عن بعضه ( ويقول) أي حال تسوية المناكب كما هو الظاهر من السياق، ويحتمل كونها معطوفة على الجمثة الخيرية قبلها ( استووا) في التصاف ( ولا تختلفوا) بأن يتدم منكب بعضكم على منكب بعض ( فتختلف) بالنصب لأنه في جواب النهي ( قلوبكم) أي، أهويتها وإرادتها ( ليلني) أي ليدن مني بحذف الياء وتخفيف النون كذا في جميع النسخ هنا، وفي إحدى رواياته بفتح الياء وتشديد النون على أنها للتوكيد كما تقدم في باب توفير العلماء والكبار، وبتخفيف النون مع الياء قيل وهي غلط لأن حقه لكونه أمراً باللام حذف الياء.
وأجيب بأن عدم حذف الجازم لحرف العلة لغة صحيحة.
قلت: هذا إن كانت الياء ساكنة، فإن كانت مفتوحة والنون للتأكيد خفيفة فلا يحتاج لجواب كما كان مع الثقيلة ( منكم أولو الأحلام) جمع حلم بالكسر كأنه من الحلم وهو الأناة والتثبت في الأمر وذلك من شعار العقلاء ( والنهي) بضم ففتح جمع نهية بالضم وهو العقل لأنه ينهي صاحبه عن القبائح، هذا ما جرى عليه المصنف في غير «شرح مسلم» وقال فيه: النهي العقول، وأولوا الأحلام هم العقلاء، وقيل البالغون، فعلى الأول اللفظان بمعنى، ولاختلافهما لفظاً عطف أحدهما على الآخر تأكيداً وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء اهـ.
وفي «المجموع» : أولوا الأحلام معناه البالغون العقلاء الكاملون في الفضيلة، وقد نقل المصنف بعض هذا الخلاف في الباب المذكور آنفاً ( ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين، المراهق وغيره سواء ( ثم الذين يلونهم) وهو الخناثى ويصح أن يراد بهم النساء وذكرهم على وزن ما قبله ( رواه مسلم) .


رقم الحديث 1087 ( وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: سووا صفوفكم) بترك تقدم بعض على آخر فيها، قال الشيخ تقي الدين القشيري: تسوية الصفوف اعتدال القائمين بها على سمت واحد، وقد تدل تسويتها أيضاً على سدّ الفرج فيها بناء على التسوية المعنوية،واتفقوا على أن المراد تسويتها بالمعنى الأول، وأن الثاني أمر مطلوب أيضاً ( فإن تسوية الصف) المراد به الجنس بدليل رواية الصوف بصيغة الجمع الآتية ( من إقامة الصلاة) وفي رواية «من تمام الصلاة» وفي رواية «من حسن الصلاة» ( متفق عليه) .
( وفي رواية للبخاري) أي عن أنس أيضاً ( فإن تسوية الصفوف) أي بصيغة الجمع ( من إقامة الصلاة) وفي «الجامع الصغير» بعد إيراده كذلك رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجه.
قال ابن رسلان: في هذا رد على من قال المفرد المحلى بأل لا يعم، ووجهه أنه أضاف.
الصفوف بصيغة الجمع فعمت ثم أفردها فلو لم يكن للعموم لتناقض بالعموم في الأول والخصوص في الثاني.


رقم الحديث 1088 ( وعنه قال: أقيمت الصلاة) وفي رواية ذكرها في «المشكاة» الصفوف ( فأقبل علينا رضي الله عنه بوجهه) تأكيداً إذ الإقبال لا يكون إلا به ( فقال: أقيموا صفوفكم) أي داوموا على إقامتها واعتنوا بها لعظم جدواها وشرف غايتها، هذا إن كان صدر منه بعد تمام الإقامة وإن كان قبلها فمعناه اجعلوها كذلك ( وتراصوا) أي تلاصقوا بالمناكب حتى لا يكون بينكم فرجة ( فإني أراكم من وراء ظهري) أي حقيقة فأعلم ما يقع منكم ثم الرؤية قيل بعينه معجزة له، وقيل بغير ذلك مما يأتي ( رواه البخاري بلفظه) المذكور ( ورواه مسلم بمعناه) ولفظه «أتموا الصفوف فإني أراكم من وراء ظهري» ولا ينافي هذا الحديث حديث «لا أعلم ما وراء جداري» لأن هذا خاص بحالة الصلاة، لأنه لما حصل له فيها قرة العين بما أفيض عليه فيها من غايات القرب المختص بها التي لا يوازيه فيها غيره صار بدنه الشريف كالمرآة الصافية التي لا تحجب ما وراءها، وقل كان له بين جنبيه عينان كسم الخياط لا تحجبهما الثياب ( وفي رواية للبخاري) من حديث أنس أيضاً ( وكان أحدنا يلزق منكبه) بفتح الميم وكسر الكاف: هو مجتمع رأس العضد والكتف ( بمنكب صاحبهوقدمه بقدمه) مبالغة في التراص الذي أمروا به.
وعند البخاري أيضاً: قال النعمان بن بشير «رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه» .


رقم الحديث 1089 ( وعن النعمان بن بشير) الأنصاري ( رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: لتسوّن) بصيغة المبني للفاعل وحذف الواو الفاعل لملاقاتها ساكنة مع النون المدغمة ودلالة الضمة عليها ( صفوفكم) أي بعدم تقدم بعض من فيها على بعض وعدم الانتقال إلى الثاني حتى يكمل الأول ( أو) للتنويع ( ليخالفنّ الله بين وجوهكم) أي ليكونن أحد الأمرين تسوية الصفوف أو مخالفة الوجوه بتحويلها إلى أدباركم، أو بمسخها على صورة بعض الحيوان أو وجوه قلوبكم الخبر أبي مسعود السابق «فتختلف قلوبكم» أي أهويتها وإرادتها، وحينئذ تثور الفتن وتختلف الكلمة وتنحل شوكة الإسلام والمسلمين فيتسلط العدو ويفشو المنكر وتقل العبادات في ذلك من المفاسد ما لا يحصى ( متفق عليه) .
( وفي رواية لمسلم) أي عن النعمان أيضاً ( أن رسول الله كان يسوي صفوفنا حتى) غاية التسوية ( كأنما يسوي بها القداح) جمع قدح بكسر فسكون وهو السهم قبل أن يراش ويركب نصله، وعكس فيه التشبيه إذ الظاهر كأنما يسويها بالقداح مبالغة في استوائها، لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد نهاية الاستواء، وجمع في مقابلة الصفوف: أي يسوى كل صف بقدح ( حتى رأى أنا قد عقلنا عنه) أي لم يبرح يسويها حتى استوينا فيها الاستواء الذي أراده منا وفهمناه من قوله وفعله ( ثم خرج يوماً فقام حتى كاد) أي قارب ( يكبر) أي للإحرام ( فأي رجلاً بادياً) أي ظاهراً ( صدره من الصف) لخروجه عن مساواة من فيه،وبادياً صفة رجل ورجل مفعول رأي البصرية ( فقال: عباد الله) لم ينهه بخصوصه جريا على عادته الكريمة مبالغة في الستر ( لتسوّن صفوفكم) اللام هي مؤذنة بالقسم المقدر ولذا أكد الفعل بالنون ( أو ليخالفن الله بين وجوهكم) أي والله ليكونن أحد الأمرين، فيه من التوبيخ والتهديد الغاية، وفيه آكد حث على تسوية الصفوف وأبلغ زجر عن ترك تسويتها لما يترتب عليه من المخالفة المتقدم معناها والخلاف فيه.


رقم الحديث 1090 ( وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يتخلل الصف) أي يذهب خلله نحو يتأثم ويتحنث: أي يتحرج من الوقوع في الإثم والحنث ( من ناحية إلى ناحية) أي يستوعبه من سائر أطرافه ( يمسح صدورنا ومناكبنا) بيده الكريمة حتى لا يخرج بعضها عن بعض ( ويقول لا تختلفوا) بالتقدم والتأخر في الصف ( فتختلف قلوبكم) أي أهويتها المؤدي إلى ما لا يحصى من المفاسد ( وكان يقول) حثاً على تكميل الصفوف والمبادرة إلى الأقرب منها للإمام ( إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول) بضم ففتح: أي بأن يكونوا في غير الأخير، وتسمية ما بين الصف الأول وهو الذي يلي الإمام والأخير صفوفاً أول مجاز لأنها كذلك بالنظر للأخير.
ففيه تأكيد إتمام الصف الأول ثم الثاني وهكذا، فالصفوف الأول خير الصفوف للرجال وعكسه للنساء كما تقدم في حديث أبي هريرة ( رواه أبو داود) في الصلاة من «سننه» ورواه النسائي أيضاً فيها ( بإسناد حسن) فرواه أبو داود عن هناد وأبي عاصم أحمد بن خواس الحنفي كلاهما عن أبي الأحوص عن منصور عن طلحة بن مطرف عن عبد الرحمن بن عويجة الهنمي، ويقال الهمداني، ويقال الهمداني الكوفي، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي الأحوص بالسند المذكور، كذا في «أطراف» المزي.


رقم الحديث 1091 ( وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: أقيموا الصفوف) بتسويتها كما جاء في رواية بلفظ: سووا الصفوف ( وحاذوا بين المناكب) وذلك إنما يكون عند مساواة كل للغير في المسامنة في الصف ( وسدوا الخلل) أي الفرج التي في الصفوف وذلك بأن تتراصوا حتى لا يبقى فيها فرجة ولا سعة، والفرق بينهما أن الفرجة خلاء ظاهر، والسعة أن يكونوا بحيث لو دل بينهم آخر لوسعه من غير مشقة تحصل لأحد ( ولينوا بأيدي إخوانكم) أي إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يراد: لينوا بيد من يجركم من الصف: أي وافقوه ليزيلوا عنه وصمة الانفراد المبطلة للصلاة عند بعض ( ولا تذروا فرجات) بضمتين أو بضم فسكون جمع فرجة ( للشيطان) أضيفت إليه لأنها محل تردده للإغواء ( ومن وصل صفا وصله الله) أي بإدرار أصناف رحمته وإغداق هوامع نعمته والجملة مستأنفة ( ومن قطع صفاً قطعه الله) أي عن مواسم الخيرات وحقائق المبرات.
وفيه أبلغ حث على وصل الصفوف بسد فروجها وتكميلها بأن لا يشرع في صف حتى يكمل ما قبله، وأبلغ زجر عن قطعها بأن يقف في صف وبين يديه صف آخر ناقص أو فيه فرجة، ومن تأمل بركة دعائه للواصل وخطر دعائه المقبول الذي لا يرد على القاطع وكان عنده أدنى ذرة من الإيمان بادر إلى الوصل وفر عن القطع ما أمكنه ( رواه أبو داود) ورواه أحمد والطبراني كما في «الجامع الصغير» ( بإسناد صحيح) ورواه أحمد أيضاً كما في «المشكاة» بلفظ «سووا صفوفكم وحاذوا بين مناكبكم ولينوا في أيدي إخوانكم وسدوا الخلل فإن الشيطان يدخل بينكم بمنزلة الحذف» يعني بمنزلة أولاد الضأن الصغار، وعدم تعقيبه الحكم بصحة الإسناد بوصف المتن بما يخالف ذلك يشعر بصحة الحديث عنده على القاعدة في مثله.