فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول لَهُ إِذَا أعلمه

رقم الحديث 375 ( وعن أنس رضي الله عنه عن النبيّ قال: ثلاث) أي من خصال أو ثلاث خصال أو خصال ثلاث ( من كنّ) أي وجدن فهي تامة، و ( فيه) ظرف لغو متعلق به كذا أعربه الحافظ في «الفتح» ، ويجوز أن تكون كان ناقصة والظرف الخبر ( وجد) من الوجدان بكسر الواو في المصدر ( بهن حلاوة الإيمان) قال المصنف: المراد من حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق في الدين وإيثار ذلك عن أغراض الدنيا، ومحبة العبد تحصل بفعل طاعته وترك معصيته وكذا الرسول اهـ.
وقال الحافظ: فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: إنما عبر بالحلاوة لأن الله تعالى شبه الإيمان بالشجرة في قوله: { مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة} ( إبراهيم: 24) فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر واجتناب النواهي، وزهرها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الشجرة وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها ( أن يكون الله ورسوله أحبّ) بالنصب خبر يكون ( إليه مما سواهما) قال البيضاوي: المراد بالحبّ هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الائتمار بأمره حيث يصير هواه تبعاً له ويلتذ بذلك التذاذاً عقلياً، إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكم} ( التوبة: 24) إلى أن قال: { أحبّ إليكم من اللهورسوله} ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله: { فتربصوا} قال المصنف: إنما قال مما سواهما ولم يقل ممن ليعم من يعقل ومن لا يعقل.
وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية.
وأما قوله للذي خطب فقال: «ومن يعصهما، فقال: بئس خطيب القوم أنت» فليس من هذا، لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، وثم أجوبة أخرى قال الحافظ في «الفتح» : من محاسنها أن تثنية الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر المجموع المركب من الجهتين لا كل واحدة منهما فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، وأما أمر الخطيب بالإفراد فلان كلاً من العصيان مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم ويشير إليه قوله تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} ( النساء: 59) فأعاد أطيعوا في الرسول دون أولي الأمر لأنهم لا استقلال في الطاعات كاستقلال الرسول اهـ.
ملخصاً من كلام البيضاوي والطيبي ( وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا) قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحبّ في الله أن لا يزيد بالبرّ ولا ينقص بالجفاء ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه) الإنقاذ أعم من العصمة منه ابتداء بأن يولد على الفطرة ويستمرّ، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة، وعلى الأول فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة بخلاف الثاني فإن العود فيه على ظاهره، وعدى العود بفي دون إلى لتضمنه معنى الاستقرار كأنه قيل ويستقر فيه، ومثله قوله تعالى: { وما يكون لنا أن نعود فيها} ( الأعراف: 89) ( كما يكره أن يقذف في النار) الكاف في محل المفعول المطلق واستدل به على فضل من أكره على الكفر فصبر وترك التقية حتى قتل.
قال الحافظ: وأخرجه البخاري في الأدب في فضل الحب في الله بلفظ «وحتى أن يقذف في النار أحبّ إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله تعالى منه» وهو أبلغ من لفظ حديث الباب لأنه سوى فيه بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الآخرة ( متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه قال المصنف: هو حديث عظيم من أصول الدين.


رقم الحديث 376 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: سبعة) أي سبعة أنفس فلذا صح الابتداء به، ويجوز أن يعتبر مسوغ آخر، ومفهوم العدد ليس بحجة على الصحيح عند الأصوليين، فلا يشكل عليه أن الذين يظلون تحت العرش يوم القيامة فوق السبعين، وقد جمع في ذلك جزءاً الحافظ السخاوي وكذا الحافظ السيوطي ( يظلهم الله في ظله) أضافه إليه تشريفاً، وقيل المراد بظله كرامته أو حمايته كما يقال: أنا في ظلّ فلان، وهو قول عيسى بن دينار وقواه عياض، وقيل المراد في ظلّ عرشه ويدل عليه حديث سلمان «سبعة بظلهم الله في ظل عرشه» فذكر الحديث، وإن أريد ظل العرش استلزم كونه في كنف الله وكرامته من غير عكس فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيده التقييد بيوم القيامة في رواية ابن المبارك، فترجح أن المراد ظل العرش لا ظل طوبى وظل الجنة خلافاً لمن زعم لأن ذلك إنما يكون بعد دخول الجنة وهو عام لكل داخلها.
ومقصود الحديث ما اختص به أصحاب تلك الخصال ( يوم لا ظل إلا ظله) وجه الكرماني الحصر في السبعة المذكورة بما ملخصه: إن الطاعة إما أن تكون بين العبد والربّ أو بينه وبين الخلق، فالأول باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو الناشىء في العبادة، والثاني إما عام وهو الإمام العادل، أو خاص بالقلب وهو التحاب، أو بالمال وهو الصدقة، أو بالبدن وهو العفة ( إمام عادل) اسم فاعل من العدل والمراد به صاحب الولاية العظمى ويلحق به من ولي شيئاً من أمر المسلمين فيعدل فيه ويؤيده رواية مسلم من حديث ابن عمر ورفعه «إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه بغير إفراط ولا تفريط، وقدمه في الذكر لعموم النفع به ( وشاب) بتشديد الموحدة اسم فاعل ( نشأ في عبادة ا) زاد ابن زيد في روايته «حتى توفي على ذلك» وعند سلمان «أفنى شبابه ونشاطه في عبادة ا» وفيه إيماء إلى فضل من لم يزاول المعصية أصلاً على من أقلع وتاب منها ( ورجل قلبه معلق بالمساجد) ظاهره أنه من التعليق كأنه شبه بالشيء المعلق في المسجد كالقنديل مثلاً إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجاً عنه، ويدل عليه رواية الحوفي «كأنما قلبه في المسجد» ويحتمل أن يكون من العلاقة شدة الحبّ ويدل عليه رواية أحمد «متعلق بالمساجد» ورواية الكشميهني بزيادة فوقية بعد الميم وكسر اللام، زادسلمان «من حبها» وزاد مالك «إذا خرج منه يعود إليه» ( ورجلان تحابا) بتشديد الموحدة وأصله تحاببا: أي اشتركا في جنس المحبة وأحب كل منهما صاحبه حقيقة لا ظاهراً فقط، و «في» في قوله: ( في ا) تعليلية ( اجتمعا عليه) هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري «اجتمعا على ذلك» والمشار إليه ومرجع الضمير هو الحب المدلول عليه بقوله تحابا ( وتفرقا عليه) المراد أنهما داما على المحبة ولم يقطعاها لعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت، وعدت هذه الخصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان لأنها لا تتم إلا باثنين.
H ولما كان المتحابان بمعنى واحد كان عد أحدهما مغنياً عن الآخر، لأن الغرض عدّ الخصال لا عد جميع المتصف بها وهذا مقصود الترجمة ( ورجل دعته امرأة ذات منصب) أي أصل وشرف ( وجمال) وصفها بالأوصاف التي جرت العادة بمزيد الرغبة لمن تحصل فيه، وقل من يجتمع فيها ذلك من النساء، والمراد دعته إلى نفسها كما زاد ابن المبارك في روايته، وعن البيهقي في «الشعب» من حديث أبي هريرة «فعرضت نفسها عليه» والظاهر أنها دعته إلى الفاحشة وبه جزم القرطبي ولم يحك غيره، وقال بعضهم: يحتمل أنها دعته إلى التزويج فخشي أن يشغله عن عبادة مولاه والافتتان بها، أو خاف أن لا يقوم بحقها لشغله بالعبادة عن التكسب لها.
والأول أظهر ويؤيده وجود الكناية في قوله إلى نفسها، ولو كان المراد التزويج لصرح به، والصبر عن الموصوفة بما ذكر من أكبر المراتب لكثرة الرغبة في مثلها وعسر تحصيلها سيما وقد أغنت عن مشاق التوصل إليها بمراودة ونحوها ( فقال: إني أخاف ا) في رواية كريمة «ربّ العالمين» والظاهر أنه يقول بلسانه ليزجرها وتعتبر بقلبها ويحتمل أنه بقلبه، قاله عياض، قال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوف من الله ومتين غوى وحياء ( ورجل تصدّق) بلفظ الماضي، قال الكرماني: جملة حالية بتقدير قد ( بصدقة) نكرها ليشمل كل ما تصدق به من قليل وكثير، وظاهره يشمل المفروضة والمندوبة لكن نقل المصنف أن إظهار المفروضة أولى من إخفائها ( فأخفاها حتى لا تعلم) بضم الميم وفتحها ( شماله ما تنفق يمينه) هكذا في معظم الروايات في البخاري وغيره، ووقع في صحيح مسلم مقلوباً «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» وقد بسط الحافظ في «الفتح» في بيان من وهم بذلك، وما في البخاري هو الصواب وهو وجه الكلام لأن السنة في الصدقة إعطاؤها باليمين.
والقصد من الحديث الحثّ على المبالغة في إخفاء الصدقة بحيث إن شماله مع قربها منيمينه وتلازمها لو تصوّر أنها تعلم لما علمت ما فعلت اليمين لشدة إخفائها فهو على هذا من مجاز التشبيه، ويؤيده أنه جاء في رواية «تصدق بصدقة كأنما أخفى يمينه عن شماله» ويحتمل أن يكون من مجاز لحذف أي حتى لا يعلم ملك شماله ( ورجل ذكر الله تعالى) أي بقلبه من التذكر أو بلسانه من الذكر ( خالياً) أي عن الخلق لأنه حينئذٍ يكون أبعد من الرياء.
أو المراد خالياً عن الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ، ويؤيده رواية البيهقي «ذكر الله بين يديه» ويؤيد الأول رواية ابن المبارك وحماد بن زيد «ذكر الله خلاء» أي في موضع خال وهي أصح ( ففاضت عيناه) في فاضت الدموع منهما وإسناد الفيض إليهما مبالغة كأنها هي التي فاضت» قال القرطبي: وفيض العين بحسب حال الذاكر وما ينكشف له، فبكاؤه خشية من الله تعالى حال أوصاف الجلال، وشوقاً إليه سبحانه حال أوصاف الجمال.
قال الحافظ في «الفتح» وذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له فيما ذكر إلا إن أريد بالإمام العادل الإمامة العظمى وإلا فيمكن دخول المرأة حيث تكون ذات عيال فتعدل فيهم ويخرج خصلة ملازمة المسجد لأن صلاتها في بيتها أفضل من المسجد، وما عدا ذلك فالمشاركة حاصلة لهن.
فائدة: أورد الحافظ السخاوي في «جزئه» المسمى بالخصال الموجبة للظلال تسعة وثمانين خصلة ذكر أدلة ذلك وما ورد فيه في آخره أن الأديب معمر بن عبد القوي المكي المالكي نظمها على ترتيب لها في جزئه فقال: أناس روينا في الصحيحين سبعة يظلهم الرحمن في برد ظله وقد حازهم زين الهدى شيخ وقته أبو شامة في النظم منه بقوله محب عفيف ناشىء متصدق وباك مصلّ والإمام بعدله وزاد عليه شيخ الإسلام عدة ثلاثة سبعات رواها بنقله وأبرزها نظماً فقال ونظمه هو الدر لا نظم يكون كمثله وزد سبعة: إصلال غاز وعونه وإنظار ذي عسر وتخفيف حمله وحامي غزاة حين ولوا وعون ذي غرامة حق مع مكاتب أهله وزد مع ضعف سبعتين إعانة لأخرق مع أخذ لحق وبذله وكره وصبر ثم مشي لمسجد وتحسين خلق ثم معظم فضله وكافل ذي يتم وأرملة وهت وتاجر صدق في المقال وفعله وحزن وتصبير ونصح ورأفة تربع بها السبعات من فيض فضله وقد زاد فيما بعد ستاً ولم تقع منظمة منه كسابق قوله وفي نظمها حكم لغير كنفسه محب لسيف الله شيعة عدله وترك الزنا ترك الرياء ورشوة وأول إنعام نهاية كله فأربعة صار الجميع وقبلها ثلاثون فاقرأ العلم تحظ بنيله وزاد عليها حافظ العصر شيخنا وعلامة الإسلام جامع شمله عنيت السخاوي الذي كل عالم يروي صداه من تفيض فضلهثمانية من بعد خمسين خصلة تتبعها فيما رواه وأصله فدونكها نظماً ليحسن حفظها بأحسن تعليم يكون بسهله فأولها في العد: من هو ساكت بحلم وذو ثبت بعلم وعقله ومن حفظ القرآن في حال صغره وقاد كبيرا في الأنام بحمله مراقب شمس للمواقيت تاجر أمين بلا مدح وذم لرحله عيادة مرضى ثم تشييع ميت ومن لم يخف في الله لوماً لعدله وقبض يد عن غير حق وغضة لطرف عن المحظور قصداً لحله وترك غريم ثم فضل لمعسر وإشباع ذي جوع يتوق لأكله وواصل رحم ثم رحمة أيم بأيتامها تعني بيتم وشغله وصانع طعم لليتيم وموقن عليه رقيقاً في ارتحال وحله محب لخلق الله يبغي جلاله مؤذن فرّاج لكرب» وكله ومحيي طريقاً للنبي ومكثر صلاة عليه في النهار وليله وحامل قرآن قراءة أصفيا كذا أنبياء الله أكرم بأهله وإفراد إبراهيم بالذكر منهم عليّ ونجلاه فطوبى لنجله مريض وذو جوع وصوم وهائم ثلاثة عشر من مرحب حوله مصلّ بقرآن أتى بعد مغرب وأطفال أتباع النبي وسبله ونجل رسول الله ذكرنا به وغير حسود والعقوق لأصله وتارك مشي بالنميمة ظاهر برىء ومذكور بذكر الموله منيب لدى ذكر الإله وغاضب بحرمته ثم المحب لأجله وعمار بيت الله جل جلاله ومستغفر الأسحار يا طيب قوله ومذكور رب الناس ذاكره كذا شهيد ومن في أحد فاز بقتله معلم أبناء وأخيار ديننا أمانة أمر بالجميل وفعلهونهى وداعي الخير واختم بخاتم النبيين حب الله أكرم رسله عليه صلاة الله ثم سلامه وآل وأصحاب كرام بوصله وقد كملت تسعين تعجز واحد مبينة جاءتك من فيض فضله ونسأل مولانا الكريم إلهنا يصيرنا ممن يظل بظله اهـ ( متفق عليه) ورواه أحمد والنسائي كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، ورواه مسلم أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد معاً كذا في «الجامع الصغير» .


رقم الحديث 377 ( وعنه قال: قال رسول الله: إن الله تعالى يقول) فيه رد على من يكره أن يؤتى بالمضارع في القول المحكي عنه تعالى لأنه كلامه قديم أزلي.
والجواب أن الإتيان به للدلالة على أنه مستمر أبدي ( يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي) والسؤال عنهم مع علمه بمكانهم وغيره من أحوالهم، لينادي بفضلهم في ذلك الموقف ويصرح به وعظمته واللام فيه للتعليل: أي تحابوا لجلاله وعظمته لا لغرض سوى ذلك من دنيا أو نحوها، وروي بجلالي، قال العاقولي: أي في جلالي، فالباء بمعنى «في» وخص الجلال بالذكر لدلالته على الهيبة والسطوة وأنهم في حبهم قائمون بحق تعظيمه والخوف منه مطرقون إجلالاً لهيبته، فجمع بينهما هذا الوصف العظيم لا كما يجمع حب أهل المحابين على شهواتهم الخسيسة الباعثة على ترك الهيبة وإلقاء جلباب الحياء هيهات كم بين المحبتين اهـ.
( اليوم أظلهم في ظلي) قال القاضي عياض: إضافة الظل إليه تعالى إضافة ملك.
قال الحافظ: ولو قال إضافته تشريف لكان أولى، والمراد ظل العرش، وجاء في غير مسلم «ظل عرشي» قال القاضي: ظاهره أي في ظله من الحرّ والشمس ووهيج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قول الأكثر.
وقال عيسى بن دينار: معناه أمنه من المكاره وأنه تعالى يكرمه ويجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم «السلطان ظلّ الله في أرضه» وقيل الظل هنا عبارة عن الراحة والنعيم يقال هذا عيش ظليل: أي طيب ( يوم لا ظل إلا ظلي) أي لا يكون فيذلك اليوم من ظل ظل مجازاً كما في الدنيا ( رواه مسلم) وأحمد، وهو من الأحاديث القدسية، وقد جمع منها الحافظ العلائي أربعين حديثاً، وفي روايته طريقتان إحداهما كما ذكر المصنف.
والثانية أن يقال عن النبي عن ربه تعالى أنه قال، والفرق بين الحديث والقرآن من وجوه: انتفاء الإعجاز، وجواز روايته بالمعنى، وعدم تعلق الثواب بقراءة ألفاظه، وجواز مسه وحمله مع الحدث وقراءته مع الجنابة وغير ذلك.


رقم الحديث 378 ( وعنه قال: قال رسول الله: والذي نفسي بيده) أقسم لتأكيد الأمر وتحقيقه والقسم يندب لذلك ( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) أي ويأمن كل منكم صاحبه بوائقه كما جاء في الحديث ( ولا تؤمنوا) قال المصنف: هكذا في جميع الأصول والروايات بحذف النون وهي لغة معروفة صحيحة اهـ.
وفي التسهيل وحذفها لغير ناصب وجازم نادر.
قال المرادي في «شرحه» وقال بعض النحويين: إنه ضرورة، قال العاقولي: وأما إثبات النون في بعض نسخ «المصابيح» فمن إصلاح الناظرين وحذف النون نظراً لحذفها فيما قبله فأتبعه ما بعده مشاكلة، وأعاده ليعلق عليه حكماً آخر، والمراد لا تؤمنوا إيماناً كاملاً ولا يؤمن بعضكم بعضاً ( حتى تحابوا) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً وتشديد الموحدة والأصل تتحاببوا لأن المحب يأمن من محبوبه ( أو لا أدلكم) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف مقدر بعد الهمزة.
أي أتتركوا التحاب ولا أدلكم ( على شي إذا فعلتموه تحاببتم) فالاستفهام وارد على الهيئة المجموعية ( أفشوا) بقطع الهمزة المفتوحة ( السلام بينكم) فيه الحث على إفشاء السلام وبذله للمسلم «من عرفت ومن لم تعرف» والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضم لبعض وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس والتواضع وإعظام حرمات المسلمين ( رواه مسلم) في كتاب الإيمان من صحيحه، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قاله المنذري في الترغيب.


رقم الحديث 379 ( وعنه عن النبي: أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكاً وذكر) أي أبو هريرة ( الحديث) المذكور في الباب قبله ( إلى قوله: إن الله قد) للتحقيق ( أحبك) أي أراد بك خيراً ( كما أحببته فيه.
رواه مسلم وقد سبق في الباب قبله)
لكن لما تعلق عرض الترجمة بقوله منه: «إن الله قد أحبك» الخ أورده.


رقم الحديث 380 ( وعن البراء) بتخفيف الراء والمد ( ابن عازب) صحابي ابن صحابي، ولذا نبه عليه بقوله: ( رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: في) حق ( الأنصار) هم أولاد الأوس والخزرج، وتقدم أنه اسم إسلامي، سموا به لنصرهم الإسلام ومبالغتهم فيها ( لا يحبهم إلا مؤمن) لأن لهم في الإسلام الأيادي الجميلة من النصر والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام وحبهم النبي وحبه إياهم وبذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام ( ولا يبغضهم) مع ذلك ( إلا منافق) ومحل ذلك أن أبغضهم من الحيثية المذكورة، أما إذا كان بغضه لأحد منهم لخصام أو لأمر اقتضاه معه بخصوصه فلا ( من أحبهم) أي تعالى ( أحبهالله، ومن أبغضهم أبغضه ا) كما يدين الفتى يدان ( متفق عليه) .


رقم الحديث 381 ( وعن معاذ) بضم الميم وبالعين والذال المعجمة: ابن جبل ( رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عزّ وجلّ: المتحابون) بتشديد الموحدة: أيالمتحابون ( في جلالي) في تعليلية كما تقدم ( لهم منابر من نور) يجلسون عليها، وفي حديث الطبراني عن أبي أيوب مرفوعاً: «المتحابون في الله على كراسيّ من ياقوت حول العرش» والمنابر جمع منبر بكسر فسكون ففتح، من النبر وهو العلو ( يغبطهم النبيون والشهداء) الغبطة تمني مثل ما للغير منا لخير من غير زواله عن صاحبه، فدل هذا الحديث القدسي على أن لهؤلاء العباد منازل شريفة عظيمة في الآخرة، ولا يلزم من تمني الأنبياء أن يكون أولئك أفضل من الأنبياء، لأنه قد يكون لك مائة فرس من العتاق ثم ترى لأخيك فرساً فتشتهي أن تشرتيه منه أو تشتري مثله وهذا من هذا القبيل، ويجوز أنه لم يقصد النظر إلى معنى الغبطة أصلاً، وإنما أريد بيان فضلهم وشرفهم عند الله فقط ( رواه الترمذي) في الزهد من جامعه ( وقال: حديث حسن صحيح) .


رقم الحديث 382 ( وعن أبي إدريس) اسمه عايذ الله بتحتية ومعجمة، ابن عبد الله ( الخولاني) نسبة إلى خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن يشجب، قبيلة نزلت الشام، كذا في «لبّ اللباب» للأصبهاني، ولد أبو إدريس ( رحمه ا) عام حنين وهو من كبار التابعين، روى عنه الزهري، توفي سنة ثمانين.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء ( قال دخلت مسجد دمشق) بكسر الدال المهملة وفتح الميم، وحكى في المطالع كسرها، أعظم بلاد الشام ( فإذا فتى براق) بتشديد الراء ( الثنايا) أي أبيض الثغر حسنه، وقيل معناه كثير التبسم ( وإذا الناس معه) أتباع له لكونه صحابياً عالماً فقيهاً ( فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل هو معاذ بن جبل) هو الأنصاري الذي قال في حقه: «أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ» وقال السيوطي: قال الباجي قال أحمد بن خالد: وهو أبو حازم، وفي هذا القول نظر وإنما هو عبادة بن الصامت، فقد رواه شعبة عن يعلى عن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن أبي إدريس الخولاني «قال.
لقيت عبادة بن الصامت» فذكر الحديث، وقال ابن عبد البر: زعم قوم أن هذا الحديث خطأ، وأن مالكاً وهم فيه، وأسقط من إسناده أبا مسلم الخراساني، وزعموا أن أبا إدريس رواه عنأبي مسلم عن معاذ.
وقال آخرون: وهم فيه أبو حازم، قال: وذا كله تخرّص.
وقد روي عن أبي إدريس من وجوه شتى غير طريق أبي حازم أنه لقى معاذاً وسمع منه فلا شيء في ذلك على مالك ولا على أبي حازم اهـ.
قلت: وحديث أبي مسلم عن معاذ رواه ابن حبان في صحيحه بنحو حديث أبي إدريس ( فلما كان) أي حصل ( من الغد هجرت) أي إلى المسجد ( فوجدته قد سبقني بالتهجير) لمسارعته إلى طريق البر واهتمامه به ( ووجدته يصلي) نافلة ( فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه) فيه تنبيه على أن الأدب لمن ورد على مشغول با تعالى أن لا يشغله ويلهيه عما هو فيه، فقد ورد «من أشغل مشغولاً با أدركه المقت في الوقت» وفيه أن الأدب قصد الإنسان من قبل وجهه كما يستحب الدخول إلى البيت من باب السلام لأنه من جهة وجه البيت ( فسلمت عليه ثم قلت: وا إني لأحبك) القسم للتأكيد وكأنه طلباً لإقباله عليه ( فقال آ) بهمزة الاستفهام الممدودة المعوض بها عن حرف القسم فلذا وجب جر ما بعدها ( قال) أبو إدريس ( ا) ضبطه المصنف بالهمزة المقصورة، وهو مجرور لنيابة الهمزة مناب حرف القسم ( فقال) أي تأكيداً للقسم ( ا، فقلتالله، فأخذ بحبوة ردائي) يحتمل أن تكون الإضافة بيانية، ويحتمل أن تكون بمعنى اللام والحبوة من الاحتباء ( فجبذني إليه) قال في «النهاية» : الجبذ لغة في الجذب، وقيل هو مقلوب منه، وفي «المصباح» : جبذه جبذاً من باب ضرب مثل جذبه، قيل مقلوب منه لغة تميمية، وأنكره ابن السراج وقال: ليس أحدهما ماخوذاً من الآخر لأن كل واحد يتصرف في نفسه ( فقال أبشر) بقطع الهمزة وكسر الشين، ويجوز وصل الهمزة وفتح الشين وضمها، قال في «المصباح» بشر بكذا يبشر من باب فرح وزناً ومعنى وهو الاستبشار أيضاً.
ويقال بشرته أبشره من باب قتل في لغة تهامة، وتكون البشرى في الخبر السار واستعمالها في الشرّ قليل للتهكم اهـ.
وحذف المبشر به لدلالة الحديث عليه وهو قوله: ( فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي) من الوجوب وهو الثبوت: أي ذلك كائن لا محالة ( للمتحابين فيّ) أي من أجلي لا لعرض ولا لغرض ( والمتجالسين فيّوالمتزاورين فيّ) تفاعل من الزيارة ( والمتباذلين في) تفاعل من البذل.
قال الباجي: أي الذين يبذلون أنفسهم في مرضاتي من الإنفاق على عدوه وغير ذلك مما أمروا به، والمراد أنا فاعل كل هذه الأمور من الجانبين كما يدل عليه صيغة التفاعل إذا كان لوجه الله تعالى لا لعرض فانٍ، ولا لغرض فإنه تجب له محبة مولاه، وهذا أعظم الجزاء وأشرف الحياء فيدل على شرف هذا.
وقد ورد «من أحبّ وأبغض وأعطى ومنع فقد استكمل الإيمان» كما تقدم ( حديث صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح) فإنه رواه فيه عن أبي حازم عن أبي إدريس الخولاني، قال الحافظ المنذري في «الترغيب» : وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» وصححه وقوله ( هجرت) أي ( بكرت) ومنه حديث «لو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه» ( وهو بتشديد الجيم) قال في «النهاية» : التهجير التبكير إلى كل شيء والمبادرة إليه، يقال هجر تهجيراً فهو مهجر، وهي لغة حجازية ( قوله آ، فقلت أ، الأول بهمزة ممدودة، والثاني بلا مد) قال الشيخ نفيس الدين العلوي: ومن خطه نقلت سماعاً في «الموطأ» بالمد فيهما، ثم إن المصنف سكت عن بيان إعرابهما.
قال النحاة: والعبارة للرضى في «شرح الكافية» : إذا حذف حرف القسم الأصلي أعني الباء فإن لم يبدل منه فالمختار النصب بفعل القسم، ويختص لفظ الله بجواز الجرّ مع حذف الجار بلا عوض.
قلت: عبارة «الجامع الصغير» تومىء إلى وجوب الجرّ حينئذٍ ويختص لفظ الله بتعويض لفظها أو همزة الاستفهام من الجار، وكذا عوض من الجار فيها قطع همزة الله في الدرج، وكأنها حذفت للدرج ثم ردت عوضاً من الحروف، وجار الله جعل هذه الأحرف عوضاً من الواو، ولعل ذلك لاختصاصها بلفظالله، ثم قال: وإذا دخلت همزة الاستفهام على الله فإما أن تبدل همزة الله ألفاً صريحة وهو الأكثر وتسهل كما هو القياس في الرجل ونحوه ولا تحذف للبس ولا تبقى للاستثقال، قال: ودليل كون هذه الثلاثة إبدالاً معاقبتها لحرف القسم ولزوم الجر معها دون النصب مع أن النصب بلا عوض أكثر اهـ.
ملخصاً.
وفي «شرح الجامع الصغير» : المغاربة كما قال أبو حيان يعبرون عن هذه الهمزة بهمزة الاستفهام، والمراد الصورة لا معنى الاستفهام، قال: وقد قرىء { ولا نكتم شهادة ا} ( المائدة: 16) بتنوين شهادةوقطع الهمزة، فلذا سموها ألف القطع، وليس المراد إلا قطع همزة الوصل التي مع لام التعريف في الاسم المعظم لأن هناك ألف قطع جيء بها عوضاً من حرف القسم لكنهم يتسامحون فيعبرون عنها بألف القطع كذلك اهـ.


رقم الحديث 383 ( وعن أبي كريمة) بوزن حليمة، وقيل أبو يحيى ( المقداد) بكسر الميم وسكون القاف وبالدال المهملة ( ابن معدي يكرب) بكسر الدال وفتحها وسكون الباء تخفيفاً، ويجوز في كرب لغات مع الصرف وإضافة الأول إليه مصروفاً وممنوعاً، وأصل معنى معدي كرب في لغة قحطان أو حمير: وجه الفلاح، وفي لغة غيرهم معنى معدي يكرب: يا من جاوز الحد، نبه على الأول السهيلي، وعلى الثاني الشيخ خالد الأزهري في «شرح التوضيح» ، ابن سناد بن عبد الله بن وهب بن ربيعة بن الحارث بن معاوية بن ثور بن عفير الكندي ( رضي الله عنه) كذا نسبه ابن عبد البرّ، وقيل غير ذلك، وهو أحد الوفد الذين قدموا على النبيّ من كندة بالشام، توفي سنة سبع وثمانين وهو ابن إحدى وتسعين سنة، روى له عن النبيّ سبعة وأربعون حديثاً، كذا في «المستخرج» المليح لابن الجزري ( عن النبيّ: إذا أحبّ الرجل أخاه) في الله - صلى الله عليه وسلم - تعالى ( فليخبره) ندباً، وعند بعضهم فليعلمه ( أنه يحبه) على تقدير الجار.
وحكمته أنه سبب لمزيد الحبّ وتأكده ( رواه أبو داود والترمذي وقال) الترمذي: ( حديث حسن صحيح) ورواه أحمد بسند صحيح والبخاري في «الأدب المفرد» ولفظه كما قال السخاوي في «المقاصد» أنه أحبه، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه.


رقم الحديث 384 ( وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده) تأنيساً وتلطفاً معه ( وقال: يا معاذ وا) أتى به للتأكيد المطلوب لأجله القسم ( إني لأحبك ثم أوصيك يا معاذ) وهذا الحديث أوفى شاهد على فضل معاذ وكمال استقامته واهتمامه بأمور ديانته حيث حصل له هذا المقام الأسنى من المصطفى، وذكره توطئة وبعثاً له على امتثال أمره بعده.
قال بعضهم: لما صحت محبة معاذ النبيّ جازاه بأعلا منها كما هو عادة الكرام، ولا أكرم منهولذا أكده بإن واللام ( لا تدعن) أي لا تتركن ( في دبر) بضم المهملة والموحدة: أي عقب ( كل صلاة) أي مفروضة ( تقول) أي أن تقول، أو قولك فهو كما تقدم نظير قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» ، وهو في محل المفعول لتدع ( اللهم أعني) بقطع الهمزة ( على ذكرك) الشامل للقرآن وسائر الأذكار ( وشكرك) أي شكر نعمتك الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية التي لا يمكن إحصاؤها ( وحسن عبادتك) أي بالقيام بشرائطها وأركانها وسننها من خضوع وخشوع وإخلاص واستغراق وتوجه تام ( حديث صحيح، رواه أبو داود والسنائي بإسناد صحيح) بل قال الحاكم في موضعين من «مستدركه» : إنه على شرط مسلم، وتعقبه الحافظ في تخريج الأذكار النووية فقال: أما قوله إنه صحيح فمسلم، وأما قوله على شرطهما ففيه نظر فلم يخرجا لبعض رواته وأخرج الحديث أيضاً أحمد والطبراني في كتاب الدعاء وابن حبان في «صحيحه» .