فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب فضل الجهاد

رقم الحديث -232 أي: مقاتلة الكفرة؛ لإعزاز الدين ( قال الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي: جميعاً ( كما يقاتلونكم كافة) هو محمول على ما عدا أهل الذمة من أهل الكتاب، بدليل قوله تعالى في الآية الآخرى: ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) إلى قوله: ( من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، والآية فيها الإِيماء إلى تقديم داعي قتال الكفار على داعي الطبع، من ترك قتال نحو قريب وخليل وصاحب كفار، أي: لأنهم إذا لم يراعوا لكم ذلك وجهادهم في سبيل الكفر، فأنتم أحق بأن لا تراعوه منهم ( واعلموا أن الله مع المتقين) الشرك بالنصر والإِعانة، وهو تشجيع على الإِقدام عليهم وإن كثرت جموعهم، فمن ينصره الله لا يغلب ( وقال تعالى: كتب) أي: فرض ( عليكم القتال) أي: قتال الكفرة ( وهو كره لكم) جملة في محل الحال من نائب الفاعل أي: وهو مكروه لكم بحسب الطبع لما فيه من تعريض النفس للقتل ( وعسى) للترجي ( أن تكرهوا شيئاً) هو أو غيره ( وهو) أي: المكروه ( خير لكم) في نفس الأمر ( وعسى) للإِشفاق ( أن تحبوا شيئاً) بحسب الطبع ( وهو شر لكم) في نفس الأمر ( والله يعلم) النافع لكم من الضار ( وأنتم لا تعلمون) ذلك جملة اسمية معطوفة على الاسمية قبلها، أو حالية، وفي الآية إيماء إلى وجوب التفويض في كل الأمور لله عز وجل، والرضى بما جرى به قدره، وإن لم يكن ملائماً للطبع ولا مشتهى للنفس فالخيرة في الواقع ( وقال تعالى: انفروا) أي: اخرحوا ( خفافاً وثقالاً) شمالاً وشيوخاً أو نشاطاً وغير نشاط، أو ركباناً ومشاة، أو فقراء وأغنياء، أو قليلي العيال وغير قليل، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه، أو أصحاء ومرضى، أو مسرعين بعد الاستعداد، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله بشراء آلات الحرب وبذل النفس إعزازاً لدين الله ( وقال تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) التي هو خلقها ( وأموالهم) التي هو رزقها ( بأن لهم الجنة) قيل: هو تمثيل لإثابة الله من بذل نفسه وماله في سبيله على هذا البذل بالجنة ( يقاتلون في سبيل الله فيقتلون) الأعداء ( ويقتلون) في ميدان الحرب، والجملة مستأنفة لبيان ما لأجله الشراء ( وعداً عليه حقاً) مصدران مؤكدان، فإن الاشتراء بالجنة مستلزم الوعد بها ( في التوراة) حقاً ( والإِنجيل والقرآن) أي: هذا الوعد الموعود به المجاهد ثابت فيهما، كما هو ثابت في القرآن.
قال بعضهم: الأمر بالجهاد ثابت في جميع الشرائع، وقال بعض: بين فيهما أنه اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة كما بين في القرآن ( ومن أوفى بعهده من الله) أي: لا أحد أوفى بعهده منه فهو كقوله تعالى: ( ومن أصدق من الله قيلاً) ( فاستبشروا بيعكم الذي بايعتم به) أي: افرحوا به غاية الفرح فإنه موجب للفرح الأبدي ( وذلك هو الفوز العظيم) نزلت حين قال عبد الله بن رواحة وأصحابه ليلة العقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة.
قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ( وقال تعالى: لا يستوي القاعدون) عن الجهاد ( من المؤمنين غير أولي الضرر) بالرفع صفة القاعدون فإنه ما أراد به قوماً معيناً فهو كالنكرة أو بدل، ومن قرأ منصوباً فهو حال أو استثناء، وبالجر صفة المؤمنين أو بدل منه كما مر في الرفع نزلت أولاً ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه، ثم سري عنه فقرأ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ( وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي: لا مساواة بينهم وبين من قعد عن الحرب غير أولي الضرر ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين) غير أولي الضرر صرّح به ابن عباس والحديث الصحيح يدل عليه ( درجة) الجملة موضحة لما نفي الاستواء فيه ونصب درجة بنزع الخافض أي: بدرجة عظيمة تندرج تحتها الدرجات، أو على المصدر، لأنه تضمن معنى التفضيل ( وكلاً) أي: من القاعدين لغير عذر والمجاهدين ( وعد الله الحسنى) الجنة والجزاء الجزيل ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين) بلا عذر ( أجراً عظيماً) ثم أبدل منه قوله ( درجات منه ومغفرة ْورحمة) كل واحد منهما بدل من أجر، أو كرر تفضيل المجاهدين، وبالغ فيه إجمالاً وتفصيلاً تعظيماً للجهاد وترغيباً فيه، وقيل: الأول: ما خولهم به في الدنيا من الغنيمة والظفر وجميل الذكر.
والثاني: ما جعل لهم في الآخرة، وقيل: المراد بالدرجة ارتفاع منزلتهم عند الله، وبالدرجات منازلهم في الجنة، وقال بعض المفسرين: القاعدون.
الأول: هم الأضراء أي: هم أولو الضرر فإن المجاهدين أفضل منهم بدرجة واحدة؛ لأن لهم نية بلا عمل وللمجاهدين نية وعمل والقاعدون.
الثاني: هم غير أولي الضرر فإن بين المجاهدين وبينهم درجات كثيرة، وهذا خلاف ما قدمناه ( وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكنم من عذاب أليم) المراد به عذاب الله مطلقاً ( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) استئناف مبين للتجارة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقال: تؤمنون إلخ ( ذلكم) أي: المذكور من الإيمان والجهاد ( خير لكم إن كنتم تعلمون) أي: إن كنتم غير جاهلين ( يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم) جواب الشرط مقدر؛ لكونه جواباً للأمر المذكور بلفظ الخبر، للمبالغة أي: آمنوا وجاهدوا فإن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم، وسميت جنة عدن؛ لخلود المؤمن فيها يقال: عدن بالمكان إذا أقام فيه ( وأخرى) أي: ولكم نعمة أخرى ( تحبونها) فإن الأمر العاجل محبوب للنفوس ( نصر من الله) بدل أو بيان ( وفتح قريب) عاجل ( وبشر المؤمنين) يا محمد بثواب الدارين عطف على تؤمنون فإنه بمعنى آمنوا ويكون جواباً للسؤال.
وزيادة كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا قيل: آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته، وقل عطف على محذوف أي: قل يا أيها الذين آمنوا وبشر ( والآيات في فضل الجهاد في الكتاب) أي: القرآن ( كثيرة) يؤدي استيعابها إلى طول زائد ( مشهورة) واضحة ( وأما الأحاديث) النبوية ( في فضل الجهاد فأكثر من أن تحصر) ؛ لكثرتها ( فمن ذلك) أي: فبعض المذكور ما ثبت.


رقم الحديث 1287 ( وعن أبي ذر رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أى الأعمال أفضل) هو كالعمل في اللذين قبله؛ لأن أل الجنسية تبطل معنى الجمعية وتصيره كالواحد، ويدل عليه قوله ( قال: الإِيمان بالله) أي: ورسوله فاكتفى بما ذكر عن قرينه لتلازمهما شرعاً ولجمع إليه الضمير في قوله: ( والجهاد في سبيله) وذلك لأنه ولو كان باقياً على معنى الجمعية لأجاب بثلاث فما فوقها، ولا يلزم من كون المذكورين فيه أفضل الأعمال تساويهما فيها، يخالف ما قبله يقال: أفضل علماء البلد زيد وعمر وإن تفاوتا فيما بينهما ( متفق عليه) وتقدم أن اختلاف الأفضل في الأخبار إما باعتبار حال السائل، أو باعتبار زمن الجواب أو نحو ذلك.


رقم الحديث 1288 ( وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لغدوة) بفتح المعجمة وسكون المهملة قال في النهاية: الغدوة المرة من الغدو وهو سير أول النهار نقيض الرواح.
اهـ واللام مؤذنة بالقسم المقدر أتى بها لتأكيد الأمر عند السامع، وقال العيني: هي لام التأكيد لا لام القسم ( في سبيل الله) ظرف لغو متعلق بغدوة أو مستقر صفة لها ( أو) للتنويع لا للشك، قاله العيني ( روحة) بفتح المهملتين وسكون الواو بينهما المرة من الرواح ( خير من الدنيا وما فيها) وذلك للثواب المرتب على كل منهما، وقد ورد أن أقل أهل الجنة منزلة من يعطى قدر الدنيا عشر مرات فما بالك بأوساطهم، فضلاً عن أعلاهم، والتفضيل بينه وبين الدنيا باعتبار ما استقر في النفوس من حب الدنيا ورؤيا خيرها، وإلّا فلا مناسبة بين ديني عظيم ثوابه باقٍ وبين دنيوي مخدج فانٍ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - خاطبنا بما نألف.
ويحتمل أن يكون المراد، أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن حصلت له الدنيا وأنفقها في طاعة الله غير الجهاد ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1289 ( وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أتى رجل) قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه، وقد سبق أن أبا ذر سأل عن مثل ذلك ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أي الناس أفضل) أي: أكثر ثواباً ( قال: مؤمن يجاهد) الكفار ( بنفسه وماله) بأن يبذلهما لله تعالى طلباً لمرضاته ( في سبيل الله) قال العيني في شرح البخاري: أي: أفضل الناس مؤمن مجاهد، قالوا: هذا عام مخصوص والتقدير من أفضل الناس، وإلا فالعلماء أفضل وكذا الصديقون، كما تدل عليه الأحاديث، ويدل له أن في بعض طرق النسائي لحديث أبي سعيد "أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه".
اهـ ( قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب) ابتدأ بالنكرة فيهما؛ لكونها للتنويع فهو كقوله: فيوم لنا ويوم علينا، والشعب بكسر المعجمة وسكون المهملة قيل: هو الطريق وقيل: الطريق في الجبل وجمعه شعاب وذكره جري على الغالب، من تيسر الخلوة فيه عن الناس فالمراد: هي لا هو بخصوصه، وقوله: ( يعبد الله ويدع الناس من شره) خبر بجملة بعد خبر بمفرد، أو جملة حالية من الضمير المستقر في الظرف، أو مستأنفة جواب عن سؤال تقديره ماذا يعمل فيه.
والحديث تقدم مشروحاً في باب العزلة، وتقدم بلفظ "رجل يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه" وفي رواية "يتقي الله ويدع الناس من شره" ( متفق عليه) .


رقم الحديث 1290 ( وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رباط) بكسر الراء مصدر كالمرابطة، وإضافته إلى ( يوم) على معنى في كقوله تعالى: ( تربص أربعة أشهر) ( في سبيل الله) في محل الصفة لرباط ( خير من الدنيا وما عليها) عبر بفي في الحديث قبله وبعلى هنا؛ تفنناً في التعبير.
ويحتمل أن يكون من نيابة الحرف الجار عن مثله، كما هو مذهب الكوفيين.
قال العيني: وفائدة العدول عن في إلى على أن معنى الاستعلاء أعم من الظرفية وأقوى فقصد؛ لزيادة المبالغة ( وموضع سوط أحدكم من الجنة) أي: هذا القدر اليسير منها، ( خير من الدنيا وما فيها) من الزهرات والشهوات والمستلذات؛ لأنه فانٍ لا بقاء له ( والروحة يروحها العبد في سبيل الله تعالى) بائعاً لنفسه من الله تعالى بالجنة، والرضى منه تعالى ( والغدوة) حذف الجملة الواقعة صفة أو حالاً اكتفاء بدلالة قرينتها عليها ( خير من الدنيا وما عليها) خبر عنهما وأفرد؛ لأنه أفعل تفضيل مجرد من أل والإِضافة، وإذا كان كذلك يجب إفراده وتذكيره، أخبر أن صغير الزمان وصغير المكان في الآخرة خير من طويل الزمان وكبير المكان في الدنيا، تزهيداً فيها وتصغيراً لها، وترغيباً في الجهاد، إذ بهذا القليل يعطيه الله في الآخرة أفضل من الدنيا وما فيها، فما ظنك بمن أتعب نفسه وأنفق ماله، وقال القرطبي: أي: الثواب الحاصل على مشيئة واحدة في الجهاد خير لصاحبها من الدنيا وما فيها لو جمعت له بحذافيرها، والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقه إلى الغزو.
قال المصنف: وكذا غدوة أو روحة في موضع القتال؛ لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله ( متفق عليه) ورواه أحمد والترمذي.
وقال: حديث حسن صحيح، ثم هذا الحديث فيه فضل الرباط، وهو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، وقال العيني: الرباط هو المرابطة، وهي ملازمة ثغر الحدود، قال ابن قتيبة: أصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه واشترط ابن التين أن يكون غير وطنه ونقله عن ابن حبيب عن مالك، ونظر فيه العيني بأنه قد يكون بوطنه وينوي بالإِقامة فيه دفع العدو، ويقال: الرباط المرابطة في نحور العدو وحفظ ثغور الإِسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوذة بلاد المسلمين.


رقم الحديث 1291 ( وعن سلمان) هو الفارسي ( رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم وليلة) هو ظاهر فيما ذهب إليه ابن مالك، في آخرين من مجيء الإِضافة على معنى في أيضاً كما تقدم.
ومن منع ذلك قال: هي فيه على معنى اللام والإِضافة لأدنى ملابسة ( خير من صيام شهر وقيامه) وذلك لأن نفع الرباط متعد وعام ونفعها قاصر خاص ( وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل) أي: أجر ما كان يعمله حال رباطه، وأجر رباطه قاله القرطبي ( وأجري عليه رزقه) أي: يرزق من الجنة، كما ترزق الشهداء الذين تكون أرواحهم في حواصل الطير تأكل من ثمر الجنة.
ذكر المصنف نحوه ( وأومن) هو وما قبله بالبناء للمفعول، وضبط أمن بالبناء للفاعل أيضاً بلا واو حكاه العلقمي عن السيوطي ( الفتان) بفتح الفاء وتشديد الفوقية، أي: فتان القبر، ففي رواية لأبي داود في سننه "وأمن من فتاني القبر" بصيغة المثنى، وهو مراد من رواية مسلم؛ لأن المفرد المحلى بأل الجنسية يصدق بالواحد والمتعدد، وضبط أيضاً بضم الفاء جمع فتن.
قال القرطبي: وتكون أل للجنس، أي: كل ذي فتنة، وقال العلقمي: المراد فتان القبر من إطلاق الجمع على اثنين أو على أنهم أكثر من اثنين، فقد ورد أن فتان القبر ثلاثة أو أربعة، وقد استدل غير واحد بهذا الحديث على أن المرابط لا يسأل في قبره كالشهيد، وقال الشيخ ولي الدين العراق: المراد به مسألة منكر ونكير.
قال: ويحتمل أن يراد أنهما لا يجيئان إليه ولا يختبرانه بالكلية، ويكتفي بموته مرابطاً في سبيل الله شاهداً على حصة إيمانه، ويحتمل إنهما يجيئان إليه لكنه يأنس بهما بحيث أنهما لا يضرانه ولا يروعانه، ولا يحصل له بسبب مجيئهما فتنة، اهـ.
( رواه مسلم) .


رقم الحديث 1292 (وعن فضالة) بفتح الفاء، وتخفيف الضاد المعجمة واللام (ابن عبيد) بصيغة مصغر، عبد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي (رضي الله عنه) أول ما شهد أحداً، وشهد ما بعدها من المشاهد ومنها: بيعة الرضوان، وشهد فتح مصر، ثم نزل دمشق وولي قضاها لمعاوية، ومات سنة ثمان وخمسين، وقيل: قبلها، كذا في التقريب للحافظ.
وفيه خرج له البخاري في التاريخ ومسلم، والأربعة روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسون حديثاً، روى مسلم منها حديثين.
اهـ، ودفن بباب الصغير من دمشق سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تسع وستين، والصحيح الأول فقد نقلوا أن معاوية حمل نعشه، وقال لابنه: أعني يا بني فإنك لا تحمل بعده مثله، وتوفي معاوية سنة ستين قاله المصنف في التهذيب.
(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كل ميت يختم على عمله) فلا يزداد ثواباً ولا عقاباً (إلا المرابط) بالنصب على الاستثناء (في سبيل الله) ثم بين وجه الاستثناء بقوله (فإنه ينمي) بفتح أوله، وسكون النون، وتخفيف الميم المكسورة وبالياء قال السيوطي في قوت المغتذى: قال العراقي: كذا وقع في رواية الترمذي بياء في آخره وفي رواية أبي داود "ينمو" بالواو، والأفصح ما هنا وهو الذي ذكره ثعلب في الفصيح.
اهـ أي: يزداد (له عمله إلى يوم القيامة) بتنمية ثوابه والزيادة فيه ْ (ويؤمن من فتنة القبر) فلا يسأله الملكان عن إيمانه بل موته مرابطاً آية إيمانه كما تقدم (رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيحاً ورواه الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية من حديث العرباض بن سارية، بلفظ "كل عمل منقطع عن صاحبه إذا مات، إلَّا المرابط في سبيل الله فإنه ينفي له عمله ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة" أورده في الجامع الصغير.


رقم الحديث 1293 ( وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) قال الحافظ في الفتح: نقلاً عن ابن بريرة، لا تنافي بينه وبين حديث "خير من صيام شهر"، لأنه يحمل على الإعلام بالزيادة في الثواب على الأول، أو باختلاف العاملين.
اهـ قال العلقمي: أو باختلاف العمل قلة وكثرة.
قال البيهقي في الشعب: القصد من هذا ونحوه الإِخبار بتضعيف أجر المرابط على غيره، ويختلف ذلك بحسب اختلاف حال الناس نيةً وإخلاصاً، وباختلاف الأوقات ( رواه الترمذي وقال: حديث حسن) وقال الحافظ في الفتح: ورواه أحمد وابن حبان، وفي الجامع الصغير ورواه النسائي والحاكم في المستدرك.


رقم الحديث 1294 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمن الله) أي: التزم فضلا وإحساناً ( لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي) أي: بوعدي ( وتصديق برسلي) أي: بأخبارهم، وبنبوتهم ورسالتهم، وجملة لا يخرجه الخ في محل الحال من فاعل خرج ( فهو) أي: الله تعالى ( ضامن) أي ملتزم تفضلاً وكرماً لمن كان كذلك ( أن أدخله الجنة) ابتداءً من غير سابقة عذاب، أي: إن قتل في الحرب ( أو أرجعه) بفتح الهمزة، من رجع المتعدي، ومنه قوله تعالي: ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) الآية ( إلى منزله الذي خرج منه) للجهاد مصحوباً ( بما نال) أي: بالذي ناله ( من أجر) أخروي ( أو غنيمه) أصابها من مال الكفار، ويصح أن يكون ضامن بمعنى مضمون، كماء دافق أي: مدفوق أو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلابن وتامر وعليهما، فضمير هو راجع إلى الغازي، هذا واختلف في معنى أو فقيل للتقسيم أي: بأجر فقط وهو لمن لم يغنم وتارة بغنيمة فقط.
قال العيني: وليس كذلك بل هو راجع بالأجر كانت غنيمة، أو لا.
قاله ابن بطال، ويدل لأجره مطلقاً حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، وبقي لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" فهذا يدل على أنه لا يرجع بدون أجر، لكن ينقص أجر من أصاب الغنيمة، وتضعيف هذا الحديث بحميد بن هانىء وهو غير مشهور، رد بأنه غير ملتفت إليه فهو ثقة محتج به عند مسلم، ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، وفي رواية البخاري من حديث أبي هريرة "وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجره أو غنيمة" قال العيني: أي: ضمن الله بملابسة التوفي إدخال الجنة، وبملابسة عدم التوفي الرجوع بالأجر أو الغنيمة.
قال الكرماني: يعني لا يخلو من الشهادة أو السلامة، فعلى الأول: يدخل الجنة بعد الشهادة في الحال، وعلى الثاني: لا ينفك عن أجر أو غنيمة، مع جواز الجمع بينهما في قضية مانعة خلو لا مانعة جمع.
قال: ولفظ الضمان والتكفل والتوكيل والانتداب الواقعة في الأحاديث كلها بمعنى تحقيق الوعد على وجه الفضل منه.
وعبّر عليه الصلاة والسلام عن تفضل الله سبحانه وتعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به العادة بين الناس؛ لتطمئن به النفوس وتركن إليه القلوب ( والذي نفس محمد) أظهر مكان الإِضمار؛ لفخامة هذا الاسم فهو كقول الخليفة الخليفة فعل كذا دون فعلت ( بيده) أي: بقدرته، وفيه ندب القسم لتأكيد الأمر عند السامع ( ما من كلم) أي: جرح، والتنكير للإِشاعة فيصدق بالقليل منه والكثير ( يكلم) بالبناء للمفعول ( في سبيل الله) الظرف مستقر في محل الحال، والمراد به الجهاد، ومثله كل من جرح في ذات الله وكل ما دافع فيه المرء بحق فأصيب فهو مجاهد ( إلا جاء يوم القيامة كهيئة) أي: جاء حال كونه مماثلاً لهيئته ( يوم كلم) أي: في الدنيا وبين وجه الشبه على طريقة الاستئناف البياني بقوله ( لونه لون دم وريحه ريح مسك) وروى البخاري هذه الجملة القسمية من حديث أبي هريرة أيضاً بلفظ "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح المسك" وجملة لونه لون دم حالية.
وفي الحديث: أن الشهيد يبعث في حالته التي قبض عليها، والحكمة فيه أن يكون معه شاهد فضيلته ببذل نفسه في طاعة ربه ويشهد له على ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن ينشهر في أهل الموقف إظهاراً لفضله ( والذي نفس محمد بيده) أعاد جملة القسم؛ لأن المقسم عليه ثانياً غير المقسم عليه أولاً ( لولا أن أشق على المسلمين) أي: العاجزين عن الخروج للجهاد ( ما قعدت خلف سرية) منصوب على الظرفية، بدليل رواية مسلم الآخرى "ما قعدت خلف سرية" وبه فسر المصنف هذا الحديث في شرح مسلم، أو على الحال أي: مخالف سرية بأن يخالف فعلى فعلها فتذهب وأقيم، والسرية القطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربع مائة، تبعث إلى العدو، وجمعها سرايا سموا بذلك؛ لأنهم خلاصة العسكر وخيارهم من السرى وهو الشيء النفيس وجملة ( تغزو في سبيل الله) في محل الصفة لسرية ( أبداً) أي: في زمان من الأزمنة الآتية ( ولكن) استدراك من حاصل الكلام السابق ببيان المانع عن خروجه مع كل ( لا أجد سعة) بفتح أوليه المهملين، أي: ما يسع سائر المسلمين ( فاحملهم) بالنصب في جواب النفي ( ولا يجدون سعة) فيخرجوا بأنفسهم ( ويشق عليهم أن يتخلفوا عني) لما فيه من فقدهم الاجتماع عليه - صلى الله عليه وسلم - تلك المدة، مع فوات أجر الغزو الذي تخلفوا عن شهوده ( والذي نفس محمد بيده لوددت) بكسر الدال الأولى ( أن أغزو في سبيل الله فأقتل) بالنصب عطفاً على المنصوب قبله ( ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل) ولفظ البخاري من طريق الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل" قال العيني: استشكل بعضهم صدور هذا اليمين من النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع علمه بأنه لا يقتل.
وأجاب ابن المنير بأنه لعنه كان قبل نزول قوله تعالى: ( والله يعصمك من الناس) وأعترض بأن نزولها كان أوائل قدومه المدينة، وقد صرح أبو هريرة بسماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إنما قدم أوائل سنة سبع.
وأجاب بعضهم بأن تمني الفضل والخير لا يستلزم الوقوع.
قال العيني: أو ورد على المبالغة في فضل الجهاد والقتل فيه.
وجاء عن أنس مرفوعاً في الشهيد "أنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة" رواه مسلم وسيأتي، وروى الحاكم بسند صحيح عن جابر "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحابه الذين استشهدوا في أحد قال: والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بفحص الجبل وفحص الجبل ما بسط منه وكشف من نواحيه".
اهـ ( رواه مسلم) في الجهاد ( وروى البخاري بعضه) بل كله بنحوه، لكن مفرقاً كما علمت ( الكلم) بفتح فسكون ( الجرح) كذلك.


رقم الحديث 1295 ( وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مكلوم) أي: مجروح ( يكلم) بالبناء للمفعول، فيعم ما كان الكلم من الكفار وما كان من غيرهم، كدق حجر أو شجر أو عود ( في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى) جملة حالية مصدرة بواو الحال وقوله ( اللون لون دم والريح ريح مسك) جملة حالية أيضاً من فاعل يدمى، أو مستأنفة استئنافاً بيانياً جواب سؤال، تقديره كيف صفة ذلك ( متفق عليه) اقتصر السيوطي في الجامع الكبير على عزوه للبخاري، ولم أر هذا اللفظ في باب من يخرج في سبيل الله من البخاري، ولا في فضل الجهاد من صحيح مسلم والله أعلم.