فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الإصلاح بَيْنَ الناس

رقم الحديث 248 ( وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: كل) بالرفع مبتدأ خبره «عليه صدقة» ( سلامى) بضم السين وتخفيف اليم: هو العضو وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء اهـ.
وفي النهاية: السلامى جمع سلامية وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل جمعه ومفرده واحد ويجمع على سلاميات اهـ.
وقول الأذكار يميل إلى غير آخر بقيل وفي المشارق للقاضي عياض: أصل السلامى عظام الأصابع والأكارع.
وفي النهاية: هي التي بين مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل كل عظم مجوّف من صغار العظام.
المعنى: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة، وقيل إن آخر ما يبقى فيه المخ من البعير إذا عجف السلامي والعين اهـ.
وظاهر أن المراد من السلامى هنا ما هو أعم من العضو، وهو كما في «القاموس» : كل لحم وافر بعظم وغيره، فقولي في «الأذكار» أو هو العضو إما باعتبار معناه لغة على بعض الأقوال، وإما أنه تجوز به عن مطلق الجزء.
قال في «شرح مسلم» : أصله عظام الأصابع وسائر الكف، ثم استعمل في سائر عظام البدن ومفاصله اهـ.
قال العراقي في «شرح التقريب» : وهو المراد في الحديث.
قلت: وأيده المصنف بخبر مسلم: «خلق الإنسان على ستين وثلثمائة مفصل» وقوله: ( من الناس) في محل الصفة لسلامى ( عليه) أي على ذلك الجنس ونظيره حديث: «خير نساء ركبن الإبل وأحناه على زوج نساء قريش» قال السهيلي في «الروض» : الضمير فيه عائد على الجنس أو الضمير عائد على السلامى، وذكره باعتبار أنه عضو أو مفصل عليه ( صدقة كل يوم) بالنصب على الظرفية الزمانية، وأجاز الحافظ في «الفتح» رفعه مبتدأ أولاً، وتعدل مبتدأ ثانياً وصدقة خبر الثاني والجملة خبر مبتدأ الأول والرابط مقدر: أي كل يوم تطلع فيه الشمس العدل فيه صدقة ( تطلع) بضم اللام كما مر ( فيه الشمس) جملة صفة يوم وهو صفة توضيحية فيها بيان تجديد هذه الصدقات على الإنسان صبيحة كل يوم في مقابلة ما أنعم الله تعالى به عليه في خلق تلك السلاميات من باهر النعم ودوامها التي هي نعمة أخرى؛ ومما يزيد العبد تيقظاً لنعمة الدوام عليه أنه تعالى قادر على سلب نعمة الأعضاء عن عبده كل آن، وهو في ذلك عادل في حكمه، فعفوه عن ذلك إدامة نعمة العافية عليه صدقة توجب الشكر بدوامها فيتعين على العبد الشكر لهذه النعم بالصدقة بما يأتي في الحديث وغيره مقابلة لتلك النعم بقدر الطاقة مع ما ورد من أن الصدقة تدفع البلاء فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها، وظاهر قوله: «عليه صدقة كل يوم» وجوب الشكر بهذه الصدقة كل يوم،لكن في حديث «الصحيحين» : «فإن لم يفعل فليمسك عن الشر فإنه له صدقة» وهو يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئاً من الشرّ ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب، وهو كاف في شكر هذه النعم وغيرها.
أما الشكر المستحبّ فهو أن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار والمتعدية كالإعانة والعدل، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله مع أن فيه ذكر بعض الطاعات ( يعدل) أي يصلح وهو بتقدير «أن» قبله في تأويل مصدر مبتدأ خبره صدقة أو أوقع الفعل فيه موقع المصدر: أي مع قطع النظر عن «أن» ، وهذا الإعراب جار في قوله وتعين وما بعده كما سبق في باب بيان كثرة طرق الخير أي عدله ( بين الاثنين) المتهاجرين أو المتخاصمين أو المتحاكمين بأن يحملهما لكونه حاكماً أو محكماً أو مصلحاً بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح الجائز، وأشار إلى أنه الذي لا يحلّ حراماً ولا يحرم حلالاً ( صدقة) عليها لوقايتهما مما يترتب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح كما أشير إليه بقوله تعالى: { أو إصلاح بين الناس} وقوله تعالى: { كونوا قوامين بالقسط} ( النساء: 135) أي العدل { شهداء ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فا أولى بهما} ( النساء: 135) وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين المؤمنين ( ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها) نفسه أو غيره بإمساكها لذلك ( أو يضع) وأورده المصنف في «الأربعين» «أو يرفع» ( له عليها متاعه) وهو كل ما ينتفع به من عرض الدنيا قليلاً كان أو كثيراً ( والكلمة الطيبة) وهي كل ذكر أو دعاء للنفس أو للغير، وسلام عليه وردّ وثناء بحق ونحو ذلك مما فيه سرور واجتماع القلوب وتآلفها.
وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله: «ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» وقد سبق مع حديث أبي هريرة هذا في باب بيان طرق الخير ( صدقة وبكل خطوة) وهو بفتح الخاء المعجمة للمرة الواحدة وضمها لما بين القدمين ( يمشيها إلى الصلاة) وكذا إلى سائر الطاعات كطلب العلم وصلة الأرحام وزيارة الإخوان ( صدقة وتميط) بضم أوله: أي تزيل ( الأذى) هو ما يؤذي المارّة من حجر أو شوك أو نحوهما ( عن الطريق) مذكر ومؤنث ( صدقة) وأخرت هذه لأنها دون ما قبلها كما يشير إليه خير«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلاالله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ( متفق عليه) وتقدم زيادة عليها من مخرجيه في الباب المشار إليه.
( ومعنى يعدل بينهما) كنى عن الاثنين المذكورين في الخبر بضميره ( يصلح بينهما بالعدل) .


رقم الحديث 249 ( وعن أم كلثوم) بضم الكاف وسكون اللام وبالمثلثة آخره ميم ( بنت عقبة) بضم المهملة وسكون القاف بعدها موحدة فهاء ( ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح المهملة الأولى بعدها تحتية ساكنة واسمه، أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أسلمت ( رضي الله عنها) بمكة قبل أن يأخذ النساء في الهجرة إلى المدينة ثم هاجرت وبايعت فهي من المهاجرات المبايعات.
قيل وهي أول من هاجر من النساء كانت هجرتها في سنة سبع في الهدنة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من قريش، وكانوا صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يردّ إليهم من جاء مؤمناً وفيها نزلت: { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات} ( الممتحنة: 1) الآية.
وذلك أنها لما هاجرت لحقها أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذي كان بينه وبين قريش في الحديبية فلم يفعل، وقال: نأبى ذلك.
قال عمر بن عبد العزيز: يقولون إنها مشت على قدمها من مكة إلى المدينة، فلما قدمت المدينة تزوّجها زيد بن حارثة، فقتل عنها يوم مؤتة فتزوّجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب، ثم طلقها فتزوّجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوّجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت، وهي أخت عثمان بن عفان لأمه.
وروى عنها ابنها حميد بن عبد الرحمن وغيره، روي لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أحاديث فيما ذكر ابن حزم آخر سيرته وابن الجوزي في «مختصر التلقيح» إلا أنهما قالا في ترجمة من روي له عشرة أحاديث: أم كلثوم ولم ينسبوها، ثم رأيت ابن مالك قال في «شرح المشارق» : إنها روى لها كذلك، ولها في «الصحيحين» هذا الحديث الواحد اهـ.
( قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـيقول: ليس الكذاب) أي إثم الكذب من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللام أو معناه: ليس بكثير الكذب ( الذي يصلح بين الناس) أي يكذب للإصلاح بين المتباغضين لأن هذا الكذب يؤدي إلى الخير وهو قليل أيضاً ( فينمي خيراً) بفتح التحتية أي يبلغ خبراً فيه خير يقال نمى الحديث: إذا بلغه على وجه الإصلاح، ونماه بالتشديد: إذا بلغه على وجه الإفساد ( أو) شك من الراوي أي شك هل قال: «فينمي خيراً» أو قال ( يقول خيراً متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الصلح ومسلم في الأدب، وكذا رواه فيه أبو داود والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي في السير.
( وفي رواية مسلم) لهذا الحديث أي في بعض طرقه زيادة على الرواية المتفق عليها، فالرواية المذكورة آنفاً فيه أيضاً من طريق معمر قال فيه إلى قوله: «وينمي خيراً» ولم يذكر ما بعده، أي من الزيادة وتلك الزيادة هي قوله: ( قالت) أي أم كلثوم كذا في طريق عند مسلم وفي طريق أخرى عنده قال ابن شهاب الزهري: «ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث» الحديث فجعل مسلم في تلك الطريق هذه الزيادة من قول الزهري.
وفي الطريق التي أشار إليها المصنف قول أم كلثوم فقال: قالت ( ولم أسمعه) أي النبيّ ( يرخص) بتشديد الخاء المعجمة وبعدها مهملة، من الترخيص، ضد الحظر ( في شيء مما يقول الناس) أي إنه كذب كما هو كذلك في قول الزهري، وحذف قولها كذب هو كذا عند مسلم ( إلا في ثلاث) أي من الخصال ( تعني) أي أم كلثوم بتلك الثلاث ( الحرب) كأن يقول لأعداء الدين: مات كبيركم أولنا جيش كبير يأتينا، أو نحو ذلك مما فيه مصلحة عامة للمسلمين، فيجوز ارتكاب الكذب لعظم النفع ( والإصلاح بين الناس) بأن يقول لزيد مثلاً: رأيت عمرو: يعني عدوه، يحبك ويثني عليك خيراً مما لم يكن ليصلح بينهما ويذهب الشنآن ( وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) كأن يقول أحدهما للآخر لا أحدأحبّ إليّ منك، فهذا الكذب جائز لعظم المصلحة المترتب عليه على محظور الإخبار بخلاف الواقع.
وكذا يجوز الكذب لتخليص محترم، بل يجب على من سئل عن محترم قصد سائله عن إهلاكه أن يخفيه ولو باليمين، وليس في الحديث ما يدل على الحصر.
وقال قوم: لا يجوز ذلك إلا بطريق التورية، وهي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره كأن يقول فعل فلان كذا وينوي إن قدر، ويقول في الحرب: مات كبيركم ويريد بعض المتقدمين منهم.
قال الدماميني في «حاشية البخاري» : وليس في الحديث ما يقتضي جواز الكذب، فإنه قال: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس» وسلب الكذب عن المصلح لا يستلزم كون ما يقوله كذباً لجواز أن يكون صدقاً بطريق التصريح أو التعريض اهـ.


رقم الحديث 250 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصوم بالباب) أفرد صوت المضاف مع تعدده في نفس الأمر لتعدد المضاف إليه لكونه لمح فيه كونه مصدراً في الأصل.
قال في «الصحاح» : قد صات الشيء يصوت صوتاً اهـ.
فيكون هذا نظير إفراد السمع في قوله تعالى: { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} ( البقرة: 7) على أحد الوجوه في الآية أو لاختلاط أصواتهم وعدم تمايزهم فصارت كالصوت الواحد لإدراك حاسة السمع لها رفعة ( عالية) بالجرّ على أنه صفة خصوم، وبالنصب على أنه حال من أصواتها كذا في نسخة مكتوب على ضمير التثنية رمز صحّ.
وفي رواية البخاري «أصواتهم بصيغة الجمع» .
قال في «فتح الباري» : كأنه جمع باعتبار من حضر وثنى باعتبار الخصمين، أو كان التخاصم من الجانبين بين جماعتين فجمع باعتبار ذلك وثنى باعتبار جنس الخصم، وليس فيه حجة لمن جوّز إرادة صيغة الجمع بالاثنين، كما زعم الشراح.
قلت: يعني به الكرماني ( وإذا أحدهما يستوضع الآخر) أي يطلب منه الوضيعة: أي الحطيطة من الدين ( ويسترفقه) أي يطلب منه الرفق ( في شيء) قال الحافظ في «فتح الباري» : وقع في رواية ابن حبان بيان ذلك الشيء قال فيأول الحديث «دخلت امرأة على النبي فقالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً فأحصيناه لا والذي أكرمك بالحق ما أحصيناه منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نستطعمه مسكيناً وجئنا نستوضعه ما نقصنا» الحديث.
قال الحافظ: ولم أقف على اسم أحد من المتبايعين وهي غير قصة كعب بنمالك وعبد الله بن حدرد التي في البخاري عقب هذا الحديث كما بينه في «فتح الباري» ( وهو) أي الثاني ( يقول وا لا أفعل) أي لا أضع شيئاً وفي رواية ابن حبان «فقال: آلى أن لا يضع خيراً ثلاث مرات» ( فخرج رسول الله) ليصلح بينهما ( فقال: أين المتألي) بضم الميم وفتح الفوقية والهمزة وتشديد اللام أي الحالف المبالغ في اليمين ( على الله أن لا يفعل المعروف) من الوضع والرفق بأخيه ( فقال: أنا يا رسول الله فله) أي ذلك المذكور من الوضع والرفق ( أي ذلك أحبّ) وفي رواية لابن حبان: «إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال فوضع ما نقصوا» قال في «فتح الباري» : وهذا يشعر بأن المراد بالوضع الحط، وبالرفع الاقتصار عليه وترك الزيادة، لا كما زعم بعض الشراح أنه يريد بالرفق الإمهال.
وفي أواخر الصلح من الفتح بعد أن ساق عن ابن حبان بيان ما سألوا فيه الرفق من أنهم أخذوا بخلاص صاحبه ثم سألوا منه ذلك بها قال الحافظ: فالمراد أنهم يستوضعونه بترك الزيادة على رأس المال والاسترقاق بترك طلب الربح ( متفق عليه) فأخرجه البخاري في كتاب الصلح عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه وهو أبو بكر عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن أبي الرجال عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري عن عمرة عن عائشة، ورواه مسلم في الشركة من البيوع: ثنا غيرواحد من أصحابنا قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي أويس اهـ.
ذكره الحافظ المزيّ في «الأطراف» .
قال الحافظ ابن حجر في «نكته» عليها: قال أبو نعيم في «المستخرج» : يقال إن مسلماً حمل هذا الحديث عن البخاري اهـ.
وكلام أبي نعيم يقتضي أنه حدث به أيضاً غيره، وقد رويناه في الأول من أعالي المحاملي رواية الإصبهانيين عنه قال ثنا إسماعيل فذكره اهـ.
وفي «فتح الباري» في باب أواخر الصلح بعد أن ذكر أنه أخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس: محمد بن يحيى الذهلي وذكر ما في المحامليات قال: فيحتمل أن يفسر من أبهمه مسلم بهؤلاء وبعضهم اهـ.
ثم في الحديث الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه بالوضع والزجر على الحلف على ترك الخير، وفيه الصفح عما يجري بين المتخاصمين من اللفظ ورفع الصوت عند الحاكم ( معنى يستوضعه: يسأله أن يضع عنه بعض دينه، ويسترفقه: يسأله الرفق) بكسر الراء ضد العنف وذلك بأن لا يزيد عليه ما نقصعليه ( والمتألي: الحالف) تقدم في كلام الحافظ أنه الحالف المبالغ في اليمين وهو الذي تقتضيه الصيغة.


رقم الحديث 251 ( وعن أبي العباس) بتشديد الموحدة آخره مهملة ( سهل بن سعد) الأنصاري ( الساعدي) تقدمت ترجمته ( رضي الله عنه) في باب الدلالة على الخير ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني عمرو بن عوف) أي ابن مالك بن الأوس، والأوس أحد قبيلتي الأنصار، وهما الأوس والخزرج، وبنو عمرو بن عوف بطن كبير من الأوس فيه عدة أحياء كانت منازلهم بقباء ( كان بينهم شرّ) السبب فيه كما في «الفتح» ما في رواية «وقع بين حيين من الأنصار كلام» وعند البخاري في كتاب الصلح من طريق محمد بن جعفر عن أبي حازم «أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقالوا: اذهب بنا نصلح بينهم» ( فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بينهم في أناس) هذا هو الأصل كما تقدم وتعوض الهمزة أل ( من أصحابه) وفي نسخة «معه» بدلاً من أصحابه سمي الطبراني منهم من طريق موسى بن محمد عن أبي حازم، أُبيّ بن كعب وسهيل بن بيضاء.
وللبخاري في الأحكام أن توجهه كان بعد أن صلى الظهر ( فحبس) بضم المهملة الأولى وكسر الموحدة، أي قام ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلح بينهم وحانت الصلاة) أي دخل حين الصلاة: وهي صلاة العصر كما صرح به البخاري في روايته في الأحكام، ولفظه «فلما حضرت صلاة العصر أذن وأقام وأمر أبا بكر فتقدم» ( فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حبس وحانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت) عند أحمد وأبي داود وابن حبان أن ذلك كان بأمر النبي ولفظه: «فقال لبلال: إن حضرتالصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فلصلّ بالناس، فلما حضرت» الحديث، ونحوه للطبراني، ولا يخالف هذا قوله لأبي بكر «هل لك أن تؤم الناس» لأنه يحمل على أنه استفهمه هل تبادر أول الوقت أو تنتظر مجيء النبي، ورجح عند أبي بكر المبادرة لأنها فضيلة محققة فلا تترك لفضيلة متوهمة ( فأقام بلال وتقدم أبو بكر فكبر) وفي رواية للبخاري «فاستفتح أبو بكر الصلاة» .
قال في «فتح الباري» : وبهذا يجاب عن الفرق بين المقامين حيث امتنع أبو بكر هنا أن يستمرّ إماماً، وحيث استمرّ في مرض موته حين صلى خلفه الركعة الثانية من الصبح كما صرح به موسى بن عقبة في «المغازي» ، وكأنه لما مضى معظم الصلاة حسن الاستمرار، ولما لم يمض منها إلا اليسير لم يستمر، وكذا وقع لعبد الرحمن بن عوف حيث صلى النبي خلفه الركعة الثانية من الصبح فإنه استمر إماماً لهذا المعنى، وقصة عبد الرحمن عند مسلم ( وكبر الناس وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في الصفوف) زاد البخاري في رواية: يشقها شقاً ( حتى قام في الصف) أي الأول كما في رواية له أيضاً، ولمسلم «فخرق الصفوف حتى قام عند الصفّ المقدم» ( فأخذ الناس في التصفيق) قيل إنه مرادف للتصفيح، وقيل لا وهو الراجح ( وكان أبو بكر رضي الله عنه) لعلمه بالنهي عن الالتفات في الصلاة وأنه خلسة من الشيطان يختلسها من صلاة العبد كما جاء ذلك في الخبر المرفوع ( لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس) أي من التصفيق كما في رواية للبخاري وفي رواية أخرى «فلما رأى التصفيق لا يمسك عنه» ( التفت فإذا رسول الله) أي حاضر فالخبر محذوف ( فأشار إليه رسول الله) أي بالمكث في مقامه، وفي رواية للبخاري في كتاب الإمامة «فأشار إليه أن امكث مكانك» .
قال الحافظ في «الفتح» : وفي رواية عمر بن علي: فدفع في صدره ليتقدم فأبى ( فرفع أبو بكر يده) في البخاري من باب الإمامة يديه بالتثنية ( فحمد الله) ظاهره أنه تلفظ بالحمد لكن في رواية الحميدي عن سفيان «فرفع أبو بكر رأسه إلى السماء شكراً ورجع القهقرى» وأدعى ابن الجوزي أنه أشار بالحمد والشكر بيده ولم يتكلم، وليس في رواية الحميدي ما يمنع أن يكون تلفظ، ويقوّي ذلك ما عند الإمام أحمد عن أبي حازم «يا أبا بكر لم رفعت يديك وما منعك أن تثبت حين أشرت إليك؟ قال: رفعت يديّ لأني حمدت الله على ما رأيت منك»( ورجع القهقرى) أي يمشي إلى خلفه، فقوله: ( وراءه) بالنصب على الحال تأكيد، وفعل ذلك لئلا يستدير القبلة فتبطل صلاته، وهو محمول على أنه لم تتوال منه حركات مبطلة ( حتى قام) أي تأخر إلى موقف المأموم فقام ( في الصفّ) ولم يقف منفرداً عنه لكراهته المفوتة لفضل الجماعة ( فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى) إماماً ( للناس، فلما فرغ اقبل بوجهه على الناس فقال: يا أيها الناس ما لكم؟) جملة مركبة من مبتدأ وخبر أي أيّ شيء لكم؟ ( حين نابكم) أي أصابكم ( شيء في الصلاة) هو في تلك القصة تنبيه الصديق على مجيء النبي ( ذتم) أي شرعتم ( في التصفيق) جملة حالية بتقدير قد وحين ظرف.
والمعنى: أي شيء بكم وقد صفقتم حين أصابكم شيء في الصلاة ( إنما التصفيق للنساء) وفي رواية البخاري إنما التصفيح للنساء» زاد الحميدي «والتسبيح للرجال» وقد روى البخاري هذه الجملة الأخيرة مقتصراً عليها في حديث آخر، وفي البخاري «قال سهل أي ابن سعد الساعدي هل تدرون ما التصفيح؟ هوالتصفيق» قال في «الفتح» : وهذا حجة من قال إنهما بمعنى، وبه صرح الخطابي وأبو علي القالي والجوهري وغيرهم، وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه القاضي عياض في «الإكمال» أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى.
وقيل بالحاء الضرب بأصبعين للإنذار والتنبيه وبالقاف بجميعها للهو أو اللعب اهـ.
( من نابه) أي أصابه ( شيء في صلاته فليقل: سبحان ا) لينبه على أنه في الصلاة ويقصد به الذكر وحده أو مع إعلام ( فإنه) أي المصلي ( لا يسمعه أحد حين يقول سبحان الله إلا التفت) بالبناء للفاعل ( يا أبا بكر ما منعك) من ( أن تصلي) إماماً ( للناس حين أشرت إليك) أي بملازمة ما شرعت فيه من إمامتك بالقوم، وكانت الإشارة منه قبل أن يحرم بالصلاة كما في باب الإشارة في الصلاة من «فتح الباري» ( فقال أبو بكر: ما كان) زائدة ( ينبغي) أي لا يصح ( لابن أبي قحافة) كنية أبيه واسمه عثمان رضي الله عنهما ( أن يصلي) إماماً ( بين يديرسول الله) أي ليس هذا من باب الأدب المأمور به العباد معه فما فعله من سلوك الأدب وتقديمه على الأمر الذي على سبيل الإيجاب والتحتم، وسيأتي في ترجمة ابن عوف في باب فضل البكاء بيان أنه صلى في مرض موته وراء أبي بكر أيضاً، واستمر أبو بكر إلى أن أتم الصلاة إماماً بالقوم كما تقدم قريباً.
قال في «فتح الباري» : وفي الحديث من الفوائد: الإصلاح بين الناس، وجمع كلمة القبيلة، وحسم مادة القطيعة، وتوجه الإمام بنفسه إلى بعض رغبته لذلك، وفيه جواز الصلاة الواحدة بإمامين أحدهما بعد الآخر، وفيه فضل أبي بكر على جميع الصحابة.
واستدل به جمع من الشراح ومن الفقهاء كالروياني على أن أبا بكر عند الصحابة كان أفضلهم لكونه اختاره دون غيره، وفيه جواز التسبيح والحمد في الصلاة لأنه من ذكرالله، ولو كان مراد المسبح إعلام الغير بما صدر منه: أي من قصد الذكر بذلك وإلا أبطل الصلاة عند الشافعية.
وفيه جواز الالتفات للحاجة.
وأن مخاطبة المصلي بالإشارة أولى من مخاطبته بالعبارة، وأنها تقوم مقام النطق لمعاتبة النبي على مخالفته إشارته، وفيه الحمد والشكر على الوجاهة في الدين، وأن من أكرم بكرامة تخير بين القبول والترك إذا فهم أن ذلك الأمر على غير جهة اللزوم، وكأن القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك كونه شق الصفوف إلى أن انتهى إليه، فكأنه فهم من ذلك أن قصده أن يؤمّ الناس وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام له والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب والتواضع ورجح ذلك عنده احتمال نزول الوحي في حالة الصلاة لتغير حكم من أحكامها، وكأنه لأجل هذا لم يتعقب اعتذاره برد عليه.
وفيه سؤال الرئيس عن سبب مخالفة أمره قبل الزجر عن ذلك، وفيه إكرام الكبير بمخاطبته بالكنية واعتماد ذكر الرجل لنفسه بما يشعر بالتواضع من جهة استعمال أبي بكر لفظ الغيبة مكان الحضور، وإلا فكان الكلام أن يقول أبو بكر ما كان لي فعدل عنه إلى قوله: ما كان لابن أبي قحافة لأنه أول على التواضع من الأول.
وفيه غير ذلك اهـ.
ملخصاً ( متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة وأخرجه البخاري في كتاب الأحكام وأبو داود والنسائي في الصلاة اهـ.
ملخصاً من «الأطراف» للمزي ( معنى حبس) في «وحبس رسول الله» وهو مبني للمفعول ( أمسكوه ليضيفوه) بضم التحتية وكسر الضاد بعدها تحتية ساكنة، ففيه إضافة الرئيس إذا أوفد على القوم، وفيه مزيد تواضعه وجلوسه جبراً لخواطرهم لحضور ضيافتهم.
2

رقم الحديث -32 إذا حصل بينهم خصام وشنآن لأن المؤمنين إخوان.
والناس اسم جنس جمعي: قيل مأخوذ من الأنس ضد الوحشة ففيه قلب وقيل من نوس إذا تحرك، وعلى هذا فيدخل فيه الجن وتقدم بسطه مراراً ( قال الله تعالى: { لا خير في كثير من نجواهم} ) أي الناس أي ما يتناجون به ويتحدثون به ( { إلا} ) نجوى ( { من أمر بصدقة أو معروف} ) عمل برّ ( { أو إصلاح بين الناس} ) فالاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعاً لكن نجوى من كان كذلك خير.
قال الواحدي في تفسيره «الوسيط» : هذا مما حث عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأبي أيوب الأنصاري: «ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ قال: نعم يا رسولالله، قال: تصلح بين الناس إذا فسدوا وتقرّب بينهم إذا تباعدوا» وروت أم حبيبة أن النبي قال: «كلام ابن آدم عليه الإله، إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر تعالى» وروي أن رجلاً قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث قال سفيان: ألم تسمع الله يقول: { لا خير في كثير من نجواهم} فهو هذا بعينه اهـ.
( وقال تعالى: { والصلح خير} ) من الفرقة والنشوز والإعراض: أي لما فيه من الالتئام المطلوب من الزوجين.
( وقال تعالى: { وأصلحوا ذات بينكم} ) أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع.
( وقال تعالى: { إنما المؤمنون إخوة} ) أي في الدين ( { فأصلحوا بين أخويكم} ) إذا تنازعا وقرىء إخوانكم بالفوقية.