فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر

رقم الحديث -66 القبور: جمع قبر وهو معروف، وهو مما أكرم به بنو آدم، وأول من سنه الغراب حين قتل قابيل أخاه هابيل.
وقد قيل إن بني إسرائيل أول من أقبر وليس بشيء كذا في لغات المناج، وخرج بالرجال النساء والخناثى فيكره لهم على الصحيح مطلقاً خشية الفتنة وارتفاع أصواتهن بالبكاء نعم يسنّ لهن زيارته.
قال بعضهم: وكذا مآثر الأنبياء والعلماء والأولياء، قال الأذرعى: إن صح فأقاربها أولى بالصلة من الصالحين اهـ.
وظاهره أنه لا يرتضيه لكن ارتضاه غير واحد بل جزموا به.
والحق أن يفصل بين أن تذهب بمشهد كذهابها للمسجد فيشترط فيه ما يشترط ثمة من كونها عجوزاً ليست متزينة بطيب ولا حليّ ولا ثوب زينة كما في الجماعة بل أولى، وأن تذهب في نحو هودج مما يستر شخصها عن الأجانب فيسنّ لها ولو شابة، إذ لا خشية فتنة هنا، ويفرق بين نحو العلماء والأقارب بأن القصد إظهار تعظيم نحو العلماء بإحياء مشاهدهم، وأيضا فزوّارهم يعود عليهم منهم مدد أخروى لا ينكره إلا المجرمون، بخلاف الأقارب.
فاندفع قول الأذرعي إن صح الخ، كذا في «التحفة» لابن حجر ( وما يقوله الزائر) أي من التحتية والدعاء لهم وما مع ذلك.


رقم الحديث 581 ( عن بريدة) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة ثم هاء تأنيث، وهو ابن الحصيب بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون التحتية بعدها فموحدة، ابن الحارث الأسلمي.
أسلم ( رضي الله عنه) قبل بدر ولم يشهدها، وقيل أسلم بعدها، وشهد خيبر، روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وسبعة وسبعون حديثاً، منها في الصحيحين أربعة عشر، اتفقا على واحد منها، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بأحد عشر، روى عنه ابناه والشعبي وأبو المليح الهذلي، سكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، وتوفى بها سنة ثنتين أو ثلاث وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان وبقى ولده بها ( قال: قال رسول الله: كنت نهيتكم عن زيارة القبور) لقرب عهدهم بالجاهلية وكلماتها القبيحة التي كانوا يألفونها على القبور ( فزوروها) نسخ لذلك النهي لما تمهدت القواعد واتضحت الأحكام، فعلموا ما ينفع وما يضرّ، فحينئذ طلبها منهم وعللها كما في رواية أخرى لمسلم بأنها تذكر الآخرة: أي لأنها ترقّ القلوب بذكر الموت وأحواله وما بعده، وأكد في تحفظهم عن عادة الجاهلية كما صح: ألا يقولوا هجرا: أي باطلا لأجل ما في ذلك من التذكير بالآخرة خلاف ما هذا.
والقاعدة الأصولية أن الأمر بعد الحظر للإباحة على أنه اعتضد بتكرر زيارته للأموات وبالإجماع على طلبها، بل حكى ابن عبد البرّ عن بعضهم وجوبها، واتفقوا على ندبها للرجال في قبور المسلمين وإن بلوا، لأنه يبقى منه عجب الذنب ولبقاء الروحبمحل القبر، وأخذوا من تعليله بأنها تذكر الآخرة قصر استحبابها على من قصد بها التفكر في الموت ومآل الدنيا إلى ماذا؟ مع الترحم والاستغفار والتلاوة والدعاء لهم، وهي لمن كان يعرفهم في الدنيا آكد.
وقد قسم المصنف الزيارة إلى أقسام، لأنها إما لمجرد تذكر الموت والآخرة فيكفي رؤية القبور من غير معرفة أصحابها، وإما لنحو الدعاء فيسن لكل مسلم، وإما للتبرك فيسن لأهل الخير لأن لهم في برازخهم تصرفات وبركات لا يحصى مددها.
وإما لأداء حق نحو صديق ووالد لخبر أبي نعيم «من زار قبر والديه أو أحدهما يوم الجمعة كان كحجة» ولفظ رواية البيهقي «غفر له وكتب له براءة» وإما رحمة وتأنساً لخبر أنس «ما يكون الميت في قبره إذا رأى من كان يحبه في الدنيا» ولا يسن سفر الرجل لأجل الزيارة إلا لقبر نبيّ أو عالم أو صالح، وشذّ الروياني فقال: يحرم السفر لها في غير ما استثنى ( رواه مسلم) أول حديث فيه أشياء كان نهى عنها ثم نسخ ذلك النهي وأباحها، في «الجامع الصغير» «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» رواه ابن ماجة وابن مسعود، وحديث «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترقّ القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً» رواه الحاكم في «المستدرك» عن أنس اهـ.


رقم الحديث 582 ( وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما) «ما» فيه وقتية، فلذا وصلت بها كل في الخط ونصبت على الظرفية ( كان ليلتها) أي باعتبار دور القسم ( من رسول الله) متعلق بالليلة لأنها بمعنى النصيب أو بمحذوف أي التي تخصها منه ( يخرج) جواب كلما لأنه وإن كان ظرفا فيه معنى الشرط لعمومه وهو العامل فيه وهما خبر كان، وذلك حكاية معنى كلامها لا لفظه، فكأن الراوي قال عن عائشة كان عادته أن يخرج ( من آخر الليل إلى بقيع) بالموحدة فالقاف فالتحتية فالمهملة بوزن سميع ( الغرقد) بالغين المعجمة والراء والقاف والدّال المهملة وزن جعفر.
قال في «النهاية» : هو ضرب من شجر العضاة وشجر الشوك واحدته الغرقدة، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقد لأنه كانفيها غرقد وقطع ( رواه مسلم) وآخره «فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع أهل الغرقد» .


رقم الحديث 583 ( وعن بريدة رضي الله عنه قال: كان النبي يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) جمع مقبرة، ورواه في «المشكاة» «القبور» ( أن يقول قائلهم) أن ومنصوبها في تأويل مصدر مفعول يعلمهم وإذا ظرف له، ولا يصح كونه ظرفا ليقول مقدراً قبله يدل عليه منصوب أن المذكورة بعد، نظير ما قيل فى فيه من قوله تعالى: { وكانوا فيه من الزاهدين} ( يوسف: 2) أي علمهم قولهم، وفيه يخرجوا إلى القبور ويصلوها ( السلام عليكم) أخذ منه أفضلية تعريف السلام على تنكيره والرد على من قال الأولى أن يقال للأموات عليكم السلام لأنهم ليسوا أهلاً للخطاب، والحديث «إن عليك السلام تحية الموتى» وردّ بأن الخطاب لا فرق في النظر إليه بين تقدمه وتأخره على أن الصواب أن الميت أهل للخطاب مطلقاً، لأن روحه وإن كانت في أعلى عليين لها مزيد تعلق بالقبر فيعرف من يأتي، ومن لا كما دل عليه الخبر الصحيح «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» والحديث إخبار عن عادتهم في الجاهلية لا تعليم لهم، أو المراد بالموتى كفار الجاهلية: أي تحية موتى القلوب فلا تفعلوه ( أهل الديار) بالنصب على الاختصاص وهو الأصح، أو النداء وأيد بوروده في رواية أخرى «يا أهل الديار» فكانت تلك قرينة على إرادة النداء هنا وتقدير أداته وترجيحه على الاختصاص وإن كان أفصح وبالجر بدل من كم، والمراد بالديار القبور، وسميت بذلك لأنها للموتى من حيث اجتماعهم كالديار للأحياء ( من المؤمنين والمسلمين) بيان لأهل الديار ولللاحتراز عمن قد يكون في المقبرة من خارج عنالملة من الجاهلية ( وإنا إن شاء الله) أتى به للتبرك امتثالا للآية أو تعليق بالنظر للحوق بهم في هذا المكان بعينه أو للموت على الإسلام أو أنّ إن فيه بمعنى إذ كما قيل به في قوله تعالى: { وخافون إن كنتم مؤمنين} ( آل عمران: 175) ( بكم للاحقون نسأل الله) استئناف على طريقة أسلوب الحكيم، فإنهم لما سلموا عليهم ودعوا لهم خبروا أنهم لاحقون بهم، قال لسان حالهم: جئتمونا فلم لا تدعوا لنا بدعاء جامع وتشركوا أنفسكم فيه معنا كما هو السنة؟ فقالوا نسأل الله ( لنا ولكم العافية) وهي الأمن من مكره ( رواه مسلم) في الجنائز، رواه أبو داود في رواية أبي الحسن بن العبد عنه لا في رواية أبي القاسم، ورواه النسائي وابن ماجه.


رقم الحديث 584 ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور بالمدينة، فأقبل عليهم بوجهه) ضمير المذكرين العقلاء باعتبار من فيها من الأموات بتغليبهم على من سواهم.
ويؤخذ منه سنّ استقبال وجه الميت بوجه الزائر حال السلام عليه، وظاهر الحديث استمرار ذلك حال الدعاء أيضاً وعليه العمل كما قالوه، لكن السنة عندنا أنه حال الدعاء يستقبل القبلة كما علم ذلك من أحاديث أخرى في مطلق الدعاء، وقدمت على هذا الحديث لاحتمال أنه إنما أقبل بوجهه حال السلام، قال أصحابنا: ويسنّ التأدب مع الميت حال زيارته كما كان يفعل معه حال حياته أي ولو تقديراً بأن أدرك زمنه ( فقال: السلام على أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) وقدم نفسه اهتماما وفيما مرّ إعلاما بأن من أدب الداعي للغير أن يشرك فيه نفسه وأن يقدمها لحديث «ابدأ بنفسك» ( أنتم سلفنا) قيل هو مجاز من سلف المال فكأنه أسلفه وجعله ثمنا للأجر المقابل لصبره عليه، وقيل حقيقة لأن سلف الإنسان من مات قبله ممن يعزّ عليه وبهذا سمى الصدر الأول من الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم بالسلف الصالح، ومن خص اسم السلف بالتابعين فقد أبعد، والذي دل عليه كلامهم في مواضع ما ذكرنا، وضابطه القرون الثلاثة التي شهد بخيريتها ( ونحنبالأثر) بفتحتين أو بكسر ففتح: أي ميتون عن قريب، إذ كل آت قريب ( رواه الترمذي، وقال: حديث حسن) وسكت المصنف عن وصف الترمذي له بالغرابة أيضا كما يفعله كثيراً، لأنه يرى أن ذلك لا يضرّ في حسن الحديث وحجيته لأنها غرابة نسبية.
67