فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب حسن الخلق

رقم الحديث 630 ( وعن أبي أمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين واسمه صدى بن عجلان ( رضي الله عنه قال: قال رسول الله: أنا زعيم ببيت في ربض الجنة) بفتح الراء والموحدة وضاد معجمة: ما حولها خارجاً عنها تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدينة وتحت القلاع، قاله في «النهاية» ( لمن ترك المراء) بالكسر مصدر كالمماراة وهي المجادلة، ويقال ماريته أيضاً: إذا طعنت في قوله تزييفاً للقول وتصغيراً للقائل، ولا يقال المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال فإن يكون ابتداء واعتراضاً، قاله في «المصباح» ( وإن كان محقاً) بضم أوله وكسر المهملة فيما يماري ويجادل: أي وإن كان ذا الحق في نفس الأمر، وذلك لأنه بعد أن يرشد خصمه إليه ويأبى عن قبوله، وليس من طالبي الاستبصار فلا ثمرة للمراء إلا تضييع الوقت فيما هو كالعبث ( وببيت في وسط الجنة) الواو عاطفة على ما قبله: أي وأنا زعيم ببيت في وسطها وهو بفتح المهملة: أي متوسطها، ويجوز إسكان المهملة كما في «المصباح» ( لمن ترك الكذب) أي الإخبار بخلاف الواقع، والمراد ترك المذموم منه وهو مالا مصلحة راجحة فيه.
فيكون عاماً مخصوصاً مما عدا ذلك، إذ قد يكون مندوباً تارة كالكذب للإصلاح بين المتخاصمين وواجباً أخرى، كما إذا تيقن ترتب هلاك معصوم على صدقه بالإخبار عنه، ودليل التخصيص الأحاديث الواردة باستثناء ذلك ( وإن كان مازحاً) أي بكذبه غير قاصد به الجد ولا يتناول التعريض فإنه ليس بكذب أصلاً كقول إبراهيم: { إني سقيم} أي سأسقم، وقوله في سارة إنهاأخته: أي باعتبار الإسلام وإطلاق الكذب على ذلك في بعض الأحاديث من مجاز المشاكلة: أي ظاهر صورته ذلك ( وببيت في أعلى الجنة) هو ظاهر في أن المراد بوسط الجنة فيما قبله متوسط درجاتها ومنازلها، ففيه شرف كل من ترك الكذب وحسن الخلق على ماقبله ( لمن حسن) بتشديد السين المهملة ( خلقه) وفي الإتيان به بصيغة التفعيل إيماء إلى مشقة التخلق بذلك والاحتياج فيه إلى مزاولة للنفس ورياضة لها ( حديث صحيح رواه أبو داود) في الأدب ( بإسناد) هو رجال السند ( صحيح) أي ولا علة بالمتن ولا شذوذ فلذا صحح المصنف المتن، وإلا فظاهر أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن لجواز عروض شذوذ أو نكارة أو علة فادحة ( الزعيم) بوزن عظيم بالزاي والعين المهملة والتحتية ( الضامن) ومنه قوله تعالى: { قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} ( يوسف: 72) .


رقم الحديث 631 ( وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن من أحبكم إليّ) أي أكثركم حباً إليّ: أي اتباعاً لسنتي ( وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) أي في الجنة فإنها دار الراحة والجلوس، أما الموقف فالناس فيه قيام لرب العالمين، والنبيّ حينئذ قائم للشفاعة للعباد وتخليصهم مما هم فيه من الكرب إذ هو المقام المحمود الذي أعطيه يومئذ، ويوم تنازعه الوصفان قبله، ويحتمل ألاّ يكون من ذلك ويكون للأقرب منه ( أحاسنكم أخلاقاً) جمع أفعل التفضيل هنا وأفرده في حديث أبي هريرة السابق، لأن المضاف إلى المعرفة يجوز فيه الوجهان، وأخلاقاً جمع خلق بضمتين أو بضم فسكون تخفيفاً ويجمع على خلائق أيضاً كما قاله الحافظ في كتاب الإنقاض في دفع الاعتراض ( وإن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني) حذف الظرف لدلالة ما قبله عليه أو لزيادة التفظيع للمعصية وشناعتها بتعميم البعد للمجلس والموقف لأن حذف المعمول يؤذن به.
قال العاقولي في «شرح المصابيح» : هذا الحديث مبني على قاعدة هي أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون ويتفاضلون بعد في صفات الخير وشعب الإيمان، فيتميز الفاضل بزيادة محبة، وقد يتفاوتون في الرذائل فيصيرون مبغوضين من حيث ذلك ويصير بعضهم أبغض من بعض، وقد يكون الشخص الواحد محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه.
وعلى هذه القاعدة فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبّ المؤمنين كافة من حيث هم مؤمنون، وحبه لأحسنهم خلقاً أشد، ويبغض العصاة من حيث هم عاصون، وبغضه لأسوئهمأخلاقاً أشد، كما يؤخذ ذلك من المعاملة.
بل جاء عند البيهقي في «الشعب» «وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مساوئكم أخلاقاً الثرثارون» والحديث أورده في «المشكاة» من حديث أبي ثعلبة الخشني ( الثرثارون والمتشدقون) بضم الميم وبفتح أوليه وكسر الدال المشددة ( والمتفيهقون) أي إنهم الذين يتعمقون في الكلام، والتشدق: تكلف السجع والفصاحة والتصنع بالمقامات، وهو بضم الميم وفتح أوليه وكسر الهاء ( قالوا) أي الحاضرون من الصحابة، ولم أقف على أسمائهم ( يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون) كذا هو بالواو في الأصول على الحكاية لما وقع منه في لفظ الخبر، أي عرفنا المراد منهما ( فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
رواه الترمذي وقال: حديث حسن)
ورواه البيهقي بنحوه في «الشعب» من حديث ثعلبة الخشني، وليس فيه قالوا قد علمنا الخ ( والثرثار) بالمثلثتين المفتوحتين بينهما راء ساكنة ( هو كثير الكلام) تكلفاً.
زاد العاقولي: وخروجاً عن الحق، والثرثرة كثرة الكلام وترديده ( والتشدق: المتطاول على الناس بكلامه ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً لكلامه) قال ابن الحاجب في «الشافية» : ويجىء بمعنى تفاعل ليدل على أن الفاعل أظهر أن أصله: أي الفعل حاصل له وهو منتف عنه: نحو تجاهلت وتغافلت اهـ.
u وما نحن فيه من هذا: أي لإظهار أن عنده الفصاحة.
وعظم الكلام وهما منتفيان عنه.
وقال العاقولي: قيل المتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز.
وقيل هو المستهزىء بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم ( والمتفيهق أصله) أي اشتقاقه ( من الفهق) بفتح الفاء وسكون الهاء وبالقاف ( وهو الامتلاء) زاد العاقولي: والاتساع، يقال أفهقت الإناء ففهق فهقاً ( وهو الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه) بالإتيان بالزائد على الحاجة على سبيل الإطناب والإسهاب ( ويغرب به) أي يأتي بالألفاظ الوحشية الاستعمال، الغير المألوفة في الكلام( تكبراً) علة ملء الفم بالكلام ( وارتفاعاً) علة التوسع فيه ( وإظهاراً للفضيلة على غيره) بالاطلاع على غريب الألفاظ والوصول إلى محاسن النفس والرضا عنها، وفي ذلك الإغماض عن محاسن السوى والإعراض عنها وهو الكبر.
( وروى الترمذي) في «جامعة» ( عن عبد الله بن المبارك) بن واضح الحنظلي التميمي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي الأئمة الأعلام، حمل عن أربعة آلاف شيخ، وروى عن ألف منهم، وقيل له: إلى متى تكتب العلم؟ فقال: لعل الكلمة التي أنتفع بها ما كتبتها بعد، قال ابن مهدي: كان ينسخ وحده وكان يفضله على الثوري، وقال: ما رأيت أنصح للأمة منه، وقال ابن عيينة: ما رأيت للصحابة عليه فضلاً إلا بصحبتهم للنبي وغزوهم معه، وقال: كان ففيهاً عالماً زاهداً سخياً شجاعاً شاعراً، وقال الفضيل: ما خلف بعده مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً إماماً حجة.
ولد سنة ثماني عشرة ومائة ومات منصرفاً من الغزو بهيت سنة إحدى وثمانين ومائة، زاد غيره في رمضان، وقد بسطت ترجمته في كتابي «رجال الشمائل» ( رحمه الله في تفسير حسن الخلق قال: هو طلاقة الوجه) أي فرح ظاهر البشرة ويقال هو طليق الوجه وطلقه، وقال أبو زيد: طلق الوجه متهلل بسام ( وبذل المعروف) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للكلمة الطيبة باللسان وبذل الندى والإحسان باليد وغير ذلك من صنائع المعروف ( وكف الأذى) من قول وفعل عن الناس.
وقد جمع جماعة محاسن الأخلاق في قوله تعالى: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} ( الأعراف: 199) وقيل حسن الخلق احتمال المكروه الذي ينزل به بحسن المداراة بترك حظه من الدنيا وتحمل الأذى من غير إفراط ولا تفريط، وقال الحافظ: حسن الخلق اختيار الفضائل وترك الرذائل، وقال السيوطي: قال الباجي: هو أن يظهر منه لمن يجالسه أو ورد عليه البشر والحلم والإشفاق والصبر على التعليم والتودد إلى الصغير والكبير، والله تعالى أعلم.
4