فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - باب الإِخلاصِ وإحضار النيَّة في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة والخفيَّة

رقم الحديث 11 ( وعن أبي العباس عبد ابن عباس) عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ابن عبد المطلب رضي الله عنهما) ولد قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب، وبنو هاشم محصورون فيه قبل خروجهم منهبيسير وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل ابن خمس عشرة، وقيل ابن عشر، ويؤيد الأول ما صح عنه من قوله في حجة الوداع «وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام» وصح أنه دعا له بقوله: «اللهم فقهه في الدين وعلمه الحكمة والتأويل، اللهم علمه تأويل القرآن، اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علماً وفقهاً» وثبت عنه أنه قال: «رأيت جبريل مرتين» وهذا سبب عماه في آخر عمره.
وفضائله شهيرة ومناقبه كثيرة، أوردت جملة صالحة منها في كتاب فضل زمزم.
روي له ألف حديث وستمائة وستون حديثاً، اتفقا منها على خمسة وتسعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين.
مات بالطائف ودفن بها سنة ثمان وخمسين في خلافة ابن الزبير، وقيل: سنة تسع، وصلى عليه محمدبن الحنفية وقال؛ مات رباني هذه الأمة ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي) أي: روي عن أبي العباس أنه روى عن النبي ما يأتي حال كونه مندرجاً في الأحاديث القدسية وهي التي يرويها ( عن ربه تبارك) قال البيضاوي أو تكاثر خيره، من البركة وهي كثرة الخير، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، فإن البركة تتضمن معنى الزيادة، وقيل: دام من بروك الطير على الماء، ومنه البركة لدوام الماء فيها، وهو لا يتصرف فيه ولا يستعمل إلا تعالى اهـ.
وعلى الثاني مما قاله، فيكون قوله ( تعالى) أي: تنزّه عما لا يليق به مما يقوله الجاحدون المبطلون إطناباً.
ثم هذه عبارة السلف في رواية الأحاديث القدسية، فلذا آثرها المصنف، ولهم في ذلك عبارة أخرى وهي أن يقال: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله، والمعنى واحد.
وقد ذكرت ما افترق فيه القرآن والحديث القدسي في «شرح الأذكار» ، وسيأتي بعضه في باب الصبر.
وقيل: ليس من الأحاديث القدسية، بل المراد فيما يرويه عن فضل ربه أو حكمه أو نحو ذلك.
وتعقب ذلك الجزم بأن كلا الأمرين محتمل، والأقرب إلى السياق وإلى اصطلاح السلف المذكور في رواية الأحاديث القدسية أنه منها، وقد جاء في بعض طرق الصحيحين ما يصرح بأنه منها وهو «يقول الله عزّ وجل: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها عليه بمثلها، وإن تركها لأجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، وإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها عليه بمثلها» ( قال) أي: النبي، ويصحّ عوده إلىالله، وعليه فيكون من الإظهار في محل الإضمار قوله: ( إن الله كتبالحسنات والسيئات) أي: أمر الحفظة بكتابتهما، أو كتبهما في علمه على وفق الواقع منهما أو قدر مبالغ تضعيفهما ( ثم بين) أي: الله تعالى، وجعل الضمير له مبني على ما مر من أن المراد بعن ربه عن حكمته أو فضله وقد علمت ما فيه، و «ثم» للترتيب الذكرى ( بين ذلك) للكتبة من الملائكة حتى عرفوه واستغنوا به عن الاستفسار كل وقت كيف يكتبونه ( فمن هم بحسنة) أي: أرادها وترجح فعلها عنده، فعلم منه بالأولى العزم وهو الجزم بفعلها والتصميم عليه ( فلم يعملها كتبها الله عنده) هي عندية شرف ومكانة لتنزهه تعالى عن عندية المكان ( حسنة) لأن الهم بالحسنة سبب إلى عملها وسبب الخير خير، أما الخطرة التي تخطر ثم تنفسخ من غير عزم ولا تصميم فليست كذلك.
واستفيد من ذكر الحسنة هنا والمضاعفة فيما يأتي اختصاص المضاعفة بمن عمل دون من نوى، فهما في الأصل سواء وإن اختص العامل بالتضعيف، وقوله: ( كاملة) وصف حسنة وذكر لئلا يظن أنها لكونها مجرد همّ ينقص ثوابها ( وإن همّ بها) أي: بالحسنة ( فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات) لأنه أخرجها من الهمّ إلى ديوان العمل، فكتب له بالهمّ حسنة ثم ضوعفت فصارت عشراً، وهذا التضعيف لازم لكل حسنة تعمل.
قال الله تعالى: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} ( الأنعام: 160) ثم قد تضاعف بعد لمن شاءالله.
قال الله تعالى: { وا يضاعف لمن يشاء} ( البقرة: 261) مضاعفة أخرى ( إلى سبعمائة ضعف) علي حسب ما اقترن بها من إخلاص نيته وإيقاعها في محلها الذي هي به أولى وأحرى.
وفي رواية في «الصحيحين» أيضاً «إلى تسعمائة ضعف إلاّ الصيام فإنه لي وأنا أجزي به» وفيها دليل على أن الصوم لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله تعالى لأنه أفضل أنواع الصبر، وقد قال تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} ( الزمرة: 10) ( إلى أضعاف كثيرة) وكثيرة هذه وإن كانت نكرة إلا أنها أشمل من المعرفة فتقضي لهذا أن يحسب توجيه الكثرة على أكثر ما يمكن.
كتصدق بحبة برّ مثلاًتحسب له في فضل الله تعالى أنه لو بذرها في أزكى أرض مع عناية الريّ والتعهد» ثم حصدت وبذر حاصلها في أزكى أرض كذلك وهكذا إلى يوم القيامة، جاءت تلك الحبة كأمثال الجبال الرواسي، وما ذكرته من أن التضعيف بعشرة لا بد منه لكل عامل حسنة وأن التضعيف بسبعمائة فأكثر إنما يحصل للبعض على حسب مشيئته تعالى، هو ما جزم به المصنف رحمه الله تعالى ( وإن همّ بسيئة فلم يعملها) بأن ترك فعلها أو التلفظ بها لوجهه تعالى لا لنحو حياء أو خوف ذي شوكة أو عجز أو رياء، بل قيل يأثم حينئذٍ من حيث نحو الرياء، لأن تقديم خوف المخلوق على خوف الله محرم وكذا الرياء ( كتبها الله عنده حسنة) لأن رجوعه عن العزم عليها خير أيّ خير فجوزي في مقابلته بحسنة، وأكدت بقوله: ( كاملة) إشارة إلى نظير ما مر في كاملة في الهم بالحسنة.
لا يقال نظير ما مرّ ثم إن الهمّ بالحسنة تكتب فيه حسنة أن يكون بالسيئة تكتب فيه سيئة، فإن الهمّ بالسوء من أعمال القلب.
لأنا نقول؛ قد تقرّر أن الكف عنها خير أيّ خير، وهو متأخر عن ذلك الهم فيكون ناسخاً له { إن الحسنات يذهبن السيئات} ( هود: 14) وعند مسلم «يقول ا؛ إنما تركها من جرّاي» أي: من أجلي وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد أحمد «ولم تضاعف عليه» ويدل له قوله تعالى: { فلا يجزى إلا مثلها} ( الأنعام: 160) نعم قد تعظم بشرف زمان أو مكان كالأشهر الحرم ورمضان ومكة، أو بشرف الفاعل لها وقوة معرفته با تعالى وقربه منه، فإن من عصا السلطان على بساطه أعظم جرماً ممن عصاه على بعده.
ثم قوله: «إن هم الخ» فيه دليل على أن العزم لا يكتب معها، لكن أفتى قاضي القضاة ابن رزين من أئمتنا بأن من عزم عليها ففعلها ولم يتب منها أوخذ بعزمه لأنه إصرار.
وتناقض فيه كلام السبكي.
ورجح ولده ما يوافق كلام ابن رزين.
تنبيه: لم يقع من يوسف عليه السلام همّ بمعصية على ما قاله ابن أبي حاتم ومن وافقه ومعنى الآية عندهم: { وهمّ بها لو أن رأى برهان ربه} ( يوسف: 24) ؛ أي: لولا رؤية البرهان لهمّ لكنه لم يهمّ لأنه رآه.
وعلى المشهور في الآية فالهمّ الواقع منه بمعنى حديث النفس المعفوّ عنه.
واعلم أن ما يقع في النفس من قصد المعصية على خمس مراتب: الأولى: الهاجس وهو ما يلقى فيها.
ثم جريانه فيها وهو الخاطر.
ثم حديث النفس وهو ما يقع فيها من التردد هل يفعل أو لا.
ثم الهمّ وهو قصد ترجيح الفعل.
ثم العزم وهو قوة ذلك القصد والجزم به.
فالهاجس لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله وإنما هو شيء طرقه قهراً عليه، وما بعده من الخاطر وحديث النفس وإن قدر على دفعهما مرفوعان بالحديث الصحيح: أي: وهو قوله: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به» أي: في المعاصي القولية «أو تعمل به» أي: في المعاصي الفعلية، لأن حديثها إذا ارتفع فما قبله أولى، وهذه المراتب لا أجر فيها في الحسنات أيضاً لعدم القصد.
وأما الهمّ فقد بين الحديث الصحيح أنه بالحسنة يكتب حسنة وبالسيئة لا يكتب سيئة، ثم ينظر فإن تركه كتب حسنة؛ وإن فعله كتبت سيئة واحدة.
والأصح في معناه أن يكتب عليه الفعل وحده وهو معنى قوله واحدة، وإن الهمّ مرفوع، ومنه يعلم أن قوله في حديث النفس «ما لم تتكلم أو تعمل به» ليس له مفهوم حتى يقال إنها إذا تكلمت أو علمت يكتب حديث النفس، لأنه إذا كان الهم لا يكتب كما استفيد من قوله واحدة فحديث النفس أولى بذلك، كذا قال السبكي في الحلبيات وخالف نفسه في «شرح المنهاج» وتبعه ولده، وعبارته في منع الموانع هنا دقيقة، وقد نبهنا عليها في «جمع الجوامع» هي: أن عدم المؤاخذة بحديث النفس والهمّ ليس مطلقاً، بل بشرط عدم التكلم والعمل حتى إذا عمل يؤاخذ بشيئين همه وعمله، ولا يكون همه مغفوراً ولا حديث نفسه إلا إذا لم يعقبه كما هو ظاهر الحديث.
ثم حكى كلام أبيه ورجح المؤاخذة.
وخالفه غيره فرجح عدمها.
قال وإلا يلزم أن يعاقب على المعصية عقوبتين، ونظر بأنه لا يلزم عليه ذلك لأن الهمّ حينئذٍ صار معصية أخرى.
ثم قال في «الحلبيات» : وأما العزم فالمحققون على أنه يؤاخذ به، وخالف بعضهم وقال: إنه من الهم المرفوع، واستدل له بما لا يجدي.
قال ابن رزين: والعزم على الكبيرة وإن كان سيئة فهو دون الكبيرة المعزوم عليها، والله أعلم ( متفق عليه) .


رقم الحديث 12 ( وعن أبي عبد الرحمن عبد ابن عمربن الخطاب رضي الله عنهما) ولد قبل البعثة بسنة، وأسلم مع أبيه بمكة وهو صغير وقيل قبله، وهاجر معه وقيل قبله، ولم يشهد بدراً، وكان عمره عام أحد أربع عشرة سنة فاستصغره، ثم بلغ في عام الخندق خمس عشرة سنة فأجازه، ثم لم يتخلف بعد عن سرية من سرايا رسول الله، وقال: لشقيقته حفصة «إن أخاك رجل صالح لو أنه يقوم الليل» فلم يترك قيامه بعده، وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وزهادهم، واعتزل الفتنة فلم يقاتل مع عليّ ولا مع معاوية، وأولع بالحج أيام الفتنة وبعدها، وكان من أعلم الناس بالمناسك قيل وحجّ ستين حجة واعتمر ألف عمرة وأفتى في الإسلام ستين سنة، وحمل على ألف فرس في سبيلالله، روي له عن النبيّ ألف حديث وستمائة وثلاثون حديثاً اتفقا منها على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين، وقد ذكرت زيادة في ترجمته في «شرح الأذكار» .
مات بمكة سنة ثلاثة وسبعين شهيداً عن ستّ وثمانين سنة وسبب موته أنه سفه عليه الحجاج فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط، فعزّ ذلك عليه فأمر رجلاً فسمّ زج رمحه فزحمه في الطواف ووضع الزج على قدمه، فمرض أياماً وتوفي ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين، وقيل بفخ ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: انطلق ثلاثة نفر) في «النهاية» هو اسم جمع يقع على عدد مخصوص من الرجال: أي: ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه ( ممن كان) إفراد الضمير باعتبار لفظ من ( قبلكم) في الزمان ( حتى آواهم) حتى فيه عاطفة والمعطوف عليه انطلق، ويحتمل كونها جارة غاية لمقدر: أي: فساروا إلى أن آواهم المبيت، وآوى بالمدّ في الأفصح لكونه معتدياً وبه جاء القرآن، قال تعالى: { وآويناهما إلى ربوة} ( المؤمنون: 5) ويجوز قصره، ومصدره إيواء بوزن إكرام ومصدر القاصر أووى على وزن فعول قبل قلب الواو الثانية ياء وإدغامها في الياء بعدها وكسر الواو الأولى لمناسبة الياء والأفصح في الفعل اللازم القصر وجاء في القرآن بذلك، قال تعالى: { إذ أوى الفتية} ( الكهف: 1) ( المبيت) البيتوتة فاعل ( إلى غار) أي: كهف وجمعه غير أن بقلب الواو الساكنة ياء لكسر ما قبلها كما في «النهاية» ( فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت) بتشديد الدال ( عليهم الغار) أي بابه: أي صارت على باب الغار كالسد ( فقالوا: إنه الضمير للشأنلا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى) متوسلين إليه ( بصالح أعمالكم) أي: بأعمالكم الصالحة، الواو من تدعوا ساكنة لأنها للجمع، والأصل بعد الإعلال تدعون حذفت النون للناصب وهو أن.
قال المصنف: واستدل أصحابنا بهذا أي بقوله: «لا ينجيكم» الخ على أنه يستحبّ للإنسان الدعاء في حال كربه وفي حال الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى الله تعالى بذلك، لأن هؤلاء فعلوه فاستجيب لهم، وذكره في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم ( قال رجل منهم) قدم على الرجلين بعده إشارة إلى شرف برّ الوالدين والاهتمام بشأنهما، فإن التقديم في الذكر يكون للاهتمام ( اللهمّ) أي: يا أ ( كان لي أبوان) فيه تغليب الأب لشرفه على الأم، فهو نظير { وكانت من القانتين} ( التحريم: 12) وكان يحتمل كونها ناقصة والظرف خبراً مقدماً، وكونها تامة والظرف في محل الحال ( شيخان) بفتح الشين ( كبيران) في السن ( وكنت) معطوف على كان قبله ( لا أغبق) بفتح الهمزة وسكون الغين المعجمة وضم الموحدة وكسرها.
قال المصنف: هذا الذي ذكر من ضبطه متفق عليه في كتب اللغة وكتب غريب الحديث والشروح، وقد يصفه بعض من لا أنس له فيقول بضم الهمزة وكسر الموحدة وهذا غلط.
وقال الحافظ في «الفتح» ضبطوه بفتح الهمزة من الثلاثي إلا الأصيلي فضبطه من الرباعي وخطئوه اهـ: أي: كنت لا أقدم في شرب الماء ( قبلهما أهلاً) أي: من زوج وولد ( ولا مالاً) أي: من رقيق وخادم، والغبوق: شرب العشيّ؛ والصبوح: شرب الصباح.
قال القرطبي: والحاس هو الذي يؤتى به عند انفلاق الفجر ( فنأى) بتقديم الهمزة بوزن سعى وفي رواية: فناء بوزن جاء: أي بعد والنأي البعد ( بي طلب الشجر يوماً) لترعى فيه المواشي ( فلم أرح عليهما) بضم الهمزة وكسر الراء: أي: لم أرجع ( حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما) وفي نسخة من البخاري «فحملت» ( فوجدتهمانائمين) يحتمل أن يكون وجد فيه من أفعال القلوب فنائمين مفعوله الثاني، وأن يكون بمعنى لقي فنائمين حال من المفعول ( فكرهت) قال في «تحفة القاري» وفي نسخة: أي: من البخاري؛ وكرهت ( أن أوقظهما وأن أغبق) بفتح أوله كما تقدم ( قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي) جملة حالية من الفاعل، وكذا قوله ( أنتظر استيقاظها) ثم يحتمل أن يكون من فاعل لبث، وأن يكون من الياء في الجملة قبله وعليه فهي حال متداخلة ( حتى برق الفجر) بفتح الراء وكسرها؛ أي تلألأ وظهر ضوءه ( والصبية يتضاغون) جملة حالية من فاعل لبث أيضاً، ويتضاغون بالضاد والغين المعجمتين: يصيحون من الجوع، والضغاء ممدود مضموم الأول: صوت الذلة والفاقة ( عند قدمي) يحتمل أن يكون بفتح الميم وتشديد الياء مثنى وحذفت النون للإضافة، وأن يكون بكسر الميم وسكون التحتية، وهو لكونه مفرداً مضافاً يؤدي مؤدى الأول، وهو عند البخاري «عند رجلي» وضبط في أصل صحيح منه بتشديد الياء وهو يؤيد الأوّل من الاحتمالين فإن قلت: نفقة الفرع مقدمة على نفقة الأصل فلم تركهم جائعين؟ قلت، قال الكرماني: لعل في شريعتهم تقديم الأصل على الفرع أولى، أو كانوا يطلبون الزائد على سدّ الرمق، والصياح لم يكن من الجوع اهـ ( فاستيقظا فشربا غبوقهما) بفتح الغين ( اللهم إن كنت فعلت ذلك) المذكور من السهر واللبث عليه وحمل القدح إلى قيامهما ( ابتغاء وجهك) أي: ذاتك لا لغرض آخر دنيوي كما يدل عليه السياق ( ففرّج عنا) بتشديد الراء دعاء من التفريج: أي: افتح، ثم هو هكذا في أصلين من الرياض، والذي في «الصحيحين» «فافرج» وقضية كلام القرطبي في «المفهم» أنه بهمزة وصل وضم الراء من الثلاثي وعبارته أفرج: افتح: والفرجة بضم الفاء من السعة، فإذا كان بمعنى الراحة قلت فيه فرجة بفتحها، وفعل كل واحد منهما فرج بالفتح والتخفيف يفرج بالضم لا غير.
لكن قال الحافظ في «الفتح» : إنه بهمزة الوصل وضم الراء وبهمزة القطع وكسر الراء من الفرج والإفراج اهـ ( ما نحن فيه من) كرب سد ( هذه الصخرةفانفرجت شيئاً) أي: يسيراً من الإنفراج، وهو مفعول مطلق قائم مقام قوله فرجة الوارد في رواية ( لا يستطيعون الخروج) أي: ( منه قال الآخر) بمد الهمزة وفتح الخاء المعجمة ( اللهم إنه كان) بالتذكير للفصل بقوله: ( لي) بينه وبين مرفوعه المؤنث الحقيقي، وفي نسخة «كانت» وهو ( ابنة عم، كانت أحبّ الناس إلي) بتشديد الياء والياء المدغمة هي المنقلبة عن ألف إلي، والمدغم فيها ياء المتكلم ( وفي رواية) أي: في «الصحيحين» «كنت أحبها كأشد» أي حباً مثل أشد ( ما يحب الرجال النساء) فالكاف في كأشد صفة المصدر، وقال الكرماني هي زائدة، قال: أو المراد تشبيه محبته بأشد المحبات ( فأردتها) وفي نسخة فراودتها ( على نفسها) هو كناية عن طلب الجماع ( فامتنعت مني) أي: من موافقتي على ما طلبته منها ( حتى ألمت) أي: إلى أن نزلت ( بها سنة من السنين) المقحطة: أي المجدبة التي لا تنبت فيها الأرض شيئاً ( فجاءتني) عند نزول الشدة بها ( فأعطيتها عشرين ومائة دينار) لا ينافي ما رواه البخاري في رواية أخرى ومسلم من أن جميع ما دفعه لها مائة دينار لأن التخصيص بالعدد لا ينفي الزائد، أو أن المائة كانت تطلبها والعشرين تبرع لها بها كرامة ( على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت) أي خلّت، أو المفعول محذوف: أي: أوجدت التخلية ( حتى إذا قدرت عليها) أي: بالقعود الآتي بيانه في الرواية الثانية، ويحتمل أن يكون المراد بالقدرة عليها التمكن من الوقاع بها من غير معارض منها أو من غيرها ( وفي رواية) للبخاري ( فلما قعدت) وعند مسلم «فلما وقعت» ( بين رجليها) أي: وهيجلسة الجماع ( قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) الفضّ بالفاء والضاد المعجمة: الكسر والفتح.
ويجوز في آخر الفعل المذكور الحركات الثلاث.
والخاتم كناية عن الفرج وعذرة البكارة، وحقه: التزويج المشروع: أي: لا تزل بكارتي إلا بالتزويج ( فانصرفت عنها) إجلالاً سبحانه وتعالى وخوفاً منه كما يعلم مما يأتي.
وقوله: ( وهي أحب الناس إليّ) جملة في محل الحال مسوقة لبيان تقديم خوف الله على هوى نفسه ( وتركت الذهب الذي أعطيتها) معطوف على قوله: «فانصرفت عنها» أو على الجملة الحالية فيكون فيه زيادة في مجاهدة النفس على ترك الهوى بتخلية المال ( اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك) أي: طلب مرضاة ذاتك لا لغرض آخر ( فافرج) يجوز في ضبطه الوجهان السابقان في كلام الحافظ ( عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب ( فانفرجت الصخرة) أي: فرجة زائدة على الفرجة الأولى ( غير أنهم) مع ذلك ( لا يستطيعون الخروج منها) لضيقها عن ذلك ( وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء) بضم الهمزة وفتح الجيم جمع أجير نحو شرفاء وشريف، وسقط لفظ «إني» في هذا المقام في بعض نسخ البخاري، وجاء في رواية في «الصحيحين» «استأجرت أجراء على فرق من الطعام» ( وأعطيتهم أجرهم) أي: أجرتهم ( غير رجل) بالنصب، وقوله: ( واحد) وصف رجل للتأكيد ودفعاً لتوهم أن المراد منه الجنس نحو: «تمرة خير من جرادة» ( ترك الذي له) أي: في ذمة المستأجر ( وذهب فثمرت أجره) أي: كثرته ( حتى كثرت) بضم المثلثة ( منه) أي: من أجره بالتجارة فيه ( الأموال) أي: أنواعها من إبل وبقر وغنم ورقيق ( فجاءني) أي: ذلك الرجل الأجير ( بعد حين) أي: زمن( فقال: يا عبد الله أدّ) بحذف الياء ووقع في بعض نسخ البخاري إثباتها.
قال الشيخ زكريا في «تحفة القاري» : والوجه حذفها اهـ أي: ادفع ( إليّ) بتشديد الياء ( أجرى، فقلت له) مخلصاً ( كل ما ترى) من أنواع المال ( من أجرك) وفي نسخة من البخاري «من أجلك» وهو خبر المبتدإ وقوله ( من الإبل) بكسرتين أو بكسر فسكون وما بعده بيان لما قبله ( والبقر) ويقال فيه باقور، سمي بذلك لأنه يبقر الأرض: أي: يشقها للحرث ( والغنم والرقيق، فقال) أي: الأجير ( يا عبد الله لا تستهزىء بي) فإن أجري في أصله لا يقارب ذلك وهو بسكون الهمزة ( فقلت: لا أستهزىء بك، فأخذه كله فاستاقه) أي: ذلك إلى رحله ومنزله ( فلم يترك) أي: يدع لي ( منه شيئاً.
اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك)
أي: طلب مرضاتك وحدك لا غيرك ( فافرج) بالوجهين السابقين ( عنا ما نحن فيه) أي: من الكرب ( فانفرجت الصخرة) عن باب الغار ( فخرجوا يمشون متفق عليه) أي: على أصل الحديث، وإلا فبيتهما اختلاف في بعض ألفاظه.
قال المنذري في «الترغيب» بعد إيراده بنحو من حديث ابن عمر، رواه الشيخان والنسائي ورواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة باختصار ولفظه بنحوه، وفيه أن كلاً من الثلاثة قال: «فإن كنت تعلم أنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا» وفيه عند دعاء كل من الأولين من الثلاثة «فزال ثلث الحجر» وفي الثالث «فزال الحجر، فخرجوا يتماشون» .
ثم في الحديث استحباب الدعاء حال الكرب والتوسل بصالح العمل كما تقدم فيه.
وفيه فضيلة برّ الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما على من سواهما من الولد والزوجة، وفيه فضل العفاف أو الانكفاف عن المحرّمات.
لا سيما بعد القدرة عليها والهمّ بفعلها وترك ذلك خالصاً، وفيه جواز الإجارة بالطعام وفضل حسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة وإثبات كراماتالأولياء وهو مذهب أهل الحق.
ولا حجة فيه على جواز بيع الفضولية، لأن ما ذكر في شرع من قبلنا، وفي كونه حجة خلاف، وعلى تقدير الحجة فلعله استأجره بأجرة في الذمة كما أشرنا إليه ولم يسلمها له بل عرضها عليه فلم يقبلها لرداءتها، فبقيت على ملك المستأجر لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه لبقائه على ملكه فصح تصرفه فيه، ثم تبرع بما اجتمع منه على الأجير بتراضيهما، قال الخطابي: إنما تطوع به صاحبه تقرباً به إلى الله تعالى، ولذا توسل به للخلاص، ولم يكن يلزمه في الحكم أن يعطيه أكثر من القدر الذي استأجره عليه، فلذا حمد فعله، والله أعلم.
2

رقم الحديث -1000 الباب لغة: الفرجة التي يتوصل بها من خارج إلى داخل وبالعكس، والوجه، قيل: هو أنسب لأن الباب لا يناسب بالمعنى الأوّل إلا إن كان اسماً للجزء الأول من الطائفة المخصوصة من الكلام وليس كذلك، بل هو اسم للجميع وكونه بمعنى الوجه أوجه للاختلاف بين معنى كل باب وغيره كاختلاف الوجوه، لكن يصد عنه جمعهم له على أبواب دون بابات الذي هو جمع باب بمعنى الوجه.
وعرفاً: طائفة مخصوصة من الكتاب مشتملة على فصول ومسائل غالباً، وسيأتي أنه يجوز فيه الرفع والنصب بل والجرّ على وجه الأصح خلافه.
( والإخلاص) بكسر الهمزة مصدر أخلص.
قال الراغب في «مفرداته» : الإخلاص التعرّي عما دون الله تعالى، اهـ.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: الإخلاص إفراد الحقّ سبحانه وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقربّ إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق واكتساب محمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى.
قال: ويصح أو يصلح أن يقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين ( وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال والأحوال البارزة) أي: الظاهرة ( و) الأعمال والأقوال والأحوال ( الخفية) .
والنية واجبة أول كل فعل شرعي لتوقف صحته عليها، ودوام استحضارها إلى آخره سنة محبوبة، وأما التروك كترك نحو الزنى فلا يتوقف عليها، نعم لا بد في حصول الثواب من قصد الترك على وجه الامتثال، وإنما وجبت النية في الصوم مع أنه من باب التروك لأنه ملحق بالأفعال إذ القصد منه قمع النفس عن معتاداتها وقطعها عن عاداتها.
( قال الله تعالى) أي: عما لا يليق بشأنه سبحانه { وما أمروا} أي: اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل { إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} أي: موحدين لا يعبدون سواه.
قال بعضهم: الإخلاص تصفية العمل عن شوائب الكدر { حنفاء} مائلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، أو حنفاء حجاجاً { ويقيموا الصلاة} أي: المكتوبة في أوقاتها { ويؤتوا الزكوة} عند وجوبها، ومخلصين وحنفاء حالان من الضمير في يعبدوا، والمعنى: وما أمروا في كتابهم إلا ليعبدوا الله بهذا الوصف { وذلك دين القيمة} أي: الملة المستقيمة أو دين الجماعة القيمة أو الهاء للمبالغة.
وعن الخليل أن القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد، أو المراد بدين القيمة دين الملائكة أو ملة إبراهيم، وقرىء { وذلك الدين القيمة} على تأويل الدين بالملة كذا في «التفسير الكبير» للكواشي.
وقال الحافظ السيوطي في «الإكليل» : قوله تعالى: «وما أمروا إلخ» استدل به على وجوب النية في العبادات لأن الإخلاص لا يكون بدونها اهـ.
( وقال تعالى) : { لن تنالوا البر} أي: لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير، ولن تنالوا برّ الله الذي هو الرحمة والرضى والجنة، وقوله: { حتى تنفقوا مما تحبون} أي: من المال أو ما يعمه وغيره كبذل الحياة ومفاداته للناس والبذل في طاعة الله والمهجة في سبيله، روي «أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن أحبّ أموالي بيرحاء فضعها حيث أراك الله تعالى.
فقال: بخ بخ، ذاك مال رابحـ أو رائحـ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» .
«وجاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبها فقال: هذه في سبيلالله، فحمل عليها رسول الله أسامة، فقال زيد: إنما أردت أن أتصدق بها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى قد قبلها منك» وذلك يدل على أن إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل وأن الآية تعمّ الإنفاق الواجب والمستحب.
وقوله: { وما تنفقوا من شيء} محبوب أو غيره { فإن الله به عليم} فيجازيكم بحسبه.
وقال تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} قال القرطبي: قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يلطخون البيت بدماء البدن فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية، والنيل لا يتعلق بالبارىء تعالى لكنه عبر به تعبيراً مجازياً عن القبول، والمعنى لن يصل إليه.
وقال ابن عباس: لن يصعد إليه.
وابن عيسى: لن يصل إليه لحومها ولا دماؤها ولكن يصل إليه التقوى منكم، أي ما أريد به وجه الله فذلك الذي يقبله ويرفع إليه ويسمعه ويثيب عليه ومنه الحديث «إنما الأعمال بالنيات» اهـ.
( وقال تعالى) : { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه ا} فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه قال تعالى: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور * ألا يعلم من خلق} ( الملك: 13، 14) ( فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء) ولا يغيب عنه شيء سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة.
وفي الآيات تنبيه للموفق على الإخلاص وتحذير له من الرياء ولا يغترّ بخفائه ظاهراً فإن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، لا تخفى عليه وساوس الصدور.