فهرس الكتاب

دليل الفالحـــين - بابُ المجاهدة

رقم الحديث 105 ( الحادي عشر: عن) عبد الله ( بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله: الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) الشراك بكسر الشين المعجمة وبالراء وآخره كاف: أحد سيورالنعل التي تكون في وجهه ويختلّ المشي بفقده كفقد الشسع بمعجمة ثم مهملتين: السير الذي يدخل فيه أصبع الرجل.
قال ابن مالك: ووجه الأقربية أن يسيراً من الطاعة قد يكون سبباً لدخول الجنة ومثله من المعصية في النار كما قال: ( والنار مثل ذلك) .
قال في «فتح الباري» : قال ابن بطال: في الحديث أن الطاعة موصلة إلى الجنة، وأن المعصية مقرّبة إلى النار، وأنهما قد يكونان في أيسر الأشياء، وفي هذا المعنى «إن الرجل ليتكلم بالكلمة» الحديث، فينبغي للمرء ألا يزهد في قليل من الخير أن يأتيه، ولا في قليل من الشرّ أن يجتنبه: فإنه لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا السيئة التي يسخط عليه بها.
وقال ابن الجوزي: معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهل بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية اهـ.
وقال السعد الكازروني في «شرح المشارق» : أراد قرب الجنة لمن كان كافراً فأسلم، وقرب النار لمن عكس، وكذا لمن أتى بالكبائر ( رواه البخاري) ورواه أحمد.


رقم الحديث 106 ( الثاني عشر: عن أبي فراس) بكسر الفاء وبالمهملتين بينهما ألف ( ربيعة) بوزن قبيلة ( ابن كعب) ابن مالك ( الأسلمي) الحجازي ( خادم رسول الله) حضراً وسفراً ( ومن أهل الصفة) بضم المهملة وتشديد الفاء: محل سقف آخر المسجد يأوي إليه الفقراء الذين ليس لهم عريف ( رضي الله عنه) .
قال أبو نعيم: كان من أحلاس المسجد ومن الملازمين لخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله بأهل الصفة اتصال، ثم روي عنه قال: كنت أبيت على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطيه الوضوء فأسمعه من الهويّ بالليل يقول: «سمع الله لمن حمده» وللهويّ من الليل يقول: «الحمد رب العالمين» ذكره ابن الجوزي في «المستخرج» المليح من التنقيح في باب من روى عن النبي اثني عشر حديثاً.
وقال: قال البرقي: له أربعة أحاديث.
قلت: وقد انفرد مسلم عن البخاري فأخرج له هذا الحديث، وروى عنه أصحاب السنن الأربعة: توفي بعد الحرّة سنة ثلاثة وستين ( قال: كنت أبيت مع رسول الله) على باب بيته لأداء خدمته كما قال ( فآتيه) بالمد ( بوضوئه) بفتح الواو: الماء المعدّ للوضوءبضمها ( وحاجته) أي: ما يحتاج إليه من لباس وغيره ( فقال: سلني) حاجة أتحفك بها في مقابلة خدمتك لأن هذا شأن الكرام ولا أكرم منه.
ويؤخذ من إطلاقه السؤال أن الله تعالى مكنه من إعطاء كل ما أراد من خزائن الحق، ومن ثم أعدّ أئمتنا من خصائصه أن يخص من شاء بما شاء: كجعله شهادة خزيمة بشاهدين رواه البخاري، وإباحة النياحة لأم عطية في آل فلان خاصة رواه مسلم.
( فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة) أي: أن أكون معك فيها قريباً منك متمتعاً بنظرك وقربك حتى لا أفارقك، فلا يشكل حينئذٍ بأن منزله: الوسيلة وهي خاصة به عن سائر الأنبياء فلا يساويه في مكانه منها نبيّ مرسل فضلاً عن غيرهم لأن المراد أن تحصل له مرتبة من مراتب القرب التام إليه فكنى عن ذلك بالمرافقة ( فقال أو) تسأل ( غير ذلك) لأنه أهون فأو عاطفة ويصح فتح الواو فالهمزة للاستفهام داخلة على فعل دل عليه السياق: أي أترجع عن سؤالك هذا لأنه مشتق لا تطيقه ولا تسأل غيره مما هو أهون منه ( قلت: هو) أي مسئولي ( ذاك) الذي ذكرته لا غيره فلا أرجع عنه وإن كان مشقاً، وعبر عنه بذلك الموضوع للبعيد ليدله على بعد هذه المرتبة وعزتها وأنها لا تحصل بالهويني، فعدل عنها السائل إلى «ذاك» الدالة على القرب بالنسبة لذلك ليعلم بأنه مصمم على أن مسئوله غير مستبعد له على امتثال كل ما يؤمر به لأجله، فلما علم صدقه وقوة عزمه ( قال) له ( أعني) حينئذٍ ( على نفسك) المتخلفة بطبعها عن السعي في نيل المعالي لميلها إلى الدعة والرفاهية والشهوات والبطالات، وفي قوله: «أعني» إشارة إلى أنه كان مجتهداً أي اجتهاده في اصلاحه كغيره وأنه الطبيب الساعي في شفائه، والطبيب يحتاج لمساعدة المريض بتعاطيه ما يصفه له ( بكثرة السجود) المحصل لنيل مرتبة القرب المطهر للنفس عن خبائثها المخرج لها عن شهواتها وعاداتها، وببعدك عن هذه النقائص المؤدي إلى دوام المراقبة يحصل الرقي إلى المرافقة والمجاورة.
وفي «شرح المشكاة» لابن حجر: فمن كثرة سجوده حصلت له تلك الدرجة العلية التي لا مطمع في الوصول إليها بمزيد الزلفى عند الله في الدنيا بكثرة السجود المومأ إليهبقوله تعالى: { واسجد واقترب} ( العلق: 19) فكل سجدة فيها قرب مخصوص لتكفلها بالرقى إلى درجة من درجات القرب وهكذا حتى ينتهي إلى درجة المرافقة لحبيبه، فنتج من هذا الذي هو على منوال قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم ا} ( آل عمران: 31) أن القرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل إلا بالقرب من الله تعالى، وأن القرب من الله تعالى لا ينال إلا بالقرب من رسوله.
فالقربان متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر البتة: ومن ثم أوقع تعالى متابعة رسوله بي تلك المحبتين ليعلمنا أن محبة العبد ومحبته للعبد متوقفتان على متابعة رسوله اهـ ( رواه مسلم) وأحمد ابن حنبل.


رقم الحديث 107 ( الثالث عشر: عن أبي عبد الله، ويقال) في كنيته ( أبو عبد الرحمن ثوبان) بفتح المثلثة وسكون الواو بعدها موحدة وبعد الألف نون ابن بحدد، وقيل: ابن جحدد ( مولى رسول الله) .
قال الكازروني في «شرح المشارق» : كان ( رضي الله عنه) من اليمن، قيل: إنه حكمي من حكمبن سعد العشيرة، وقيل: من النمر، وقيل: من السرة: موضع بين مكة واليمن أصيب سبياً فمرّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه، وقيل: اشتراه فأعتقه، فلم يزل مع النبي حتى قبض وتحول إلى حمص، له بها دار ضيافة: مات بها سنة أربع وخمسين في زمن معاوية، وجميع مروياته ثمانية وعشرون حديثاً اهـ.
انفرد مسلم بالإخراج عنه عن البخاري فأخرج له عشرة أحاديث ذكره ابن الجوزي وغيره ( قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: عليك) اسم فعل بمعنى خذ، والباء في ( بكثرة السجود) زائدة لازمة ( فإنك لن تسجد) مخلصاً ( سجدة) أي: في ضمن ركعة أو لنحو تلاوة أو شكر، وإلا فالتعبد بالسجدة المنفردة غير مشروع ( إلا رفعك الله بها درجة) أيّ درجة ( وحط عنك بها خطيئة) أيّ: خطيئة.
وسبب رواية ثوبان لهذا الحديث أن معدانبن طلحة قال: «أتيت ثوبان فقلت: أخبرني بعمل أعمل به يدخلني الله به الجنة، أو قال: بأحبّ الأعمال إلىالله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك فذكره، وفي آخره: فلقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان» ( رواه مسلم) قال في «الجامع الصغير» : ورواهأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان وأبي الدرداء.
وهذان الحديثان ظاهران في أن تكثير السجود أفضل من طول القيام، وهو أحد مذاهب ثلاثة في ذلك، أصحها أن تطويل القيام أفضل، وقد بسطت الكلام في ذلك في كتاب الصلاة من شرح الأذكار.


رقم الحديث 108 ( الرابع عشر: عن أبي صفوان) بفتح المهملة وسكون الفاء، وقيل: أبو بسر ( عبد ابن بسر الأسلمي) قال الكازروني في «شرح المشارق» «المازني» وجرى عليه العامري في «الرياض» لكن في «أسد الغابة» بعد أن نقل ذلك عن ابن منده قال: وهذا لا يستقيم: فإن سليمان أخو مازن وليس لعبد الله حلف في سليم حتى ينسب إليهم بالحلف.
كان ( رضي الله عنه) ممن صلى للقبلتين، ووضع يده على رأسه ودعا له وقال: يعيش هذا الغلام قرناً فعاش مائة سنة، وقال: لا يموت حتى يذهب هذا الثؤلول من وجهه فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه» قال ابن الأثير: صحب النبي هو وأبوه وأمه وأخوه عطية وأخته الشماء، وحينئذٍ فكان حق المصنف أن يقول رضي الله عنهما.
وفي «التقريب» للحافظ ابن حجر: صحابي صغير له ولأبيه صحبة، توفي سنة ثمان وثمانين عن أربع وتسعين سنة، وقيل: مات بحمص، وهو آخر من مات بها بل بالشام من الصحابة سنة ست وتسعين عن مائة سنة، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين حديثاً، أخرج له البخاري حديثاً، ومسلم آخر ( قال: قال رسول الله: خير الناس) أي: أفضلهم ( من طال عمره وحسن عمله) فاكتسب في طول الأيام ما يقرّبه إلى مولاه ويوصله إلى رضاه، وحسن العمل الإتيان به مستوفياً للشروط والأركان والمكملات ( رواه الترمذي وقال حديث حسن) وكذا رواه أحمد.
وفي بعض النسخ: رواه مسلم والترمذي، وهو من غلط النساخ ( بسر بضم الباء) أي: الموحدة، وكان الإتيان بذلك أولى لبعده عن الاحتمال في الصورة الخطية أهي الموحدة أم المثناة الفوقية أم التحتية ( وبالسين المهملة) وراء.


رقم الحديث 109 ( الخامس عشر: عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي) أي: أخو والدي؛ إذ هو أنسبن مالكبن النضر وعمه ( أنسبن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر) الإضافة لأدنى ملابسة: أي الكائن فيها، وبدل المحل المعروف، قيل سمي باسم بئر ثم، وقيل: لغير ذلك ( فقال) متحسراً ( يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتل المشركين) صفة قتال والعائد محذوف أي فيه ( لئن) اللام موطئة للقسم المحذوف أي وا لئن، و ( ا) فاعل لفعل محذوف هو فعل الشرط وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ( أشهدني) أحضرني ( قتال المشركين) يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، وأن يكون مضافاً لمفعوله، وحذف الضمير الدال عليه تنزيهاً له أن يذكر في مقابلتهم ( ليرين الله ما أصنع) جواب القسم والنون للتوكيد.
قال القرطبي في «المفهم» : هذا الكلام يتضمن أنه ألزم نفسه إلزاماً مؤكداً هو الإبلاغ في الجهاد والانتهاض فيه والإبلاغ في بذل ما يقدر عليه، ولم يصرح بذلك مخافة ما يتوقع من التقصير في ذلك وتبرياً من حوله وقوته، ولذا قال في رواية: «فهاب أن يقول غيرها» ومع ذلك نوى بقلبه وصمم على ذلك بصحيح قصده ولذا سماه الله عهداً فقال: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ( الأحزاب: 23) اهـ ( فلما كان يوم أحد) برفع يوم على أن «كان» تامة وبنصبه على الظرفية والمعنى: يوم قتال أحد، أو أراد باليوم الوقعة ( انكشف المسلمون) بما وقع لهم من ترك منازلهم التي أنزلهم النبي فيها حال النصافّ للحرب ونهاهم عن التحول عنها فلما انكسر المشركون وانهزموا نزل بعض أولئك الأقوام عن تلك المنازل فكان في المخالفة سبب انهزامهم.
( فقال) أنس: ( اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه) المسلمين من الفرار ( وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء: يعني المشركين) من قتال النبي ومن معه من المؤمنين ( ثم تقدم) إلى القتال ( فاستقبله سعدبن معاذ) منهزماً ( فقال يا سعد) يجوز ضمه وفتحه، لأنه وصف بقوله: ( ابن معاذ) ويتعيننصب ابن لأنه مضاف ( الجنة) بالنصب: أي أريد، والرفع: أي مطلوبي ( ورب النضر) بفتح النون وإسكان المعجمة: يعني أباه، وكل ما كان على هذه الصورة معرفاً فبالضاد المعجمة، ومنكراً فبالمهملة ( إني أجد ريحها) أي: الجنة ( من دون أحد) أي من مكان أقرب منه، يحتمل أن يكون على الحقيقة وأنه وجد ريحها، ويجوز أن يكون أراد أنه استحضر الجنة التي أعدت للشهيد فتصور أنها في ذلك الموضع الذي يقاتل فيه، فيكون المعنى: إني لأعلم أن الجنة تكتسب في هذا الموضع فاشتاق لها ( قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع) أي: أن أصنع ما صنع، ورواية مسلم: «فقاتلهم حتى قتل» وهي ظاهرة كما قال القرطبي في أنه قاتلهم وحده، فيكون فيه دليل على جواز ذلك بل على ندبه اهـ.
( قال أنس: فوجدنا به بضعاً) بكسر الباء وسكون الضاد المعجمة ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشر.
وسيأتي بسط الكلام فيه في باب بيان كثرة طرق الخير ( وثمانين ضربة بالسيف، أو) هي: للتنويع ( طعنة برمح، أو رمية) بفتح الراء المهملة: واحدة الرمي ( بسهم، ووجدناه قد قتل) بالبناء للمجهول لعدم العلم بعين قاتليه ( ومثل) بتشديد المثلثة ( به المشركون) حتى خفي على أهله ( فما عرفه أحد) منهم ( إلا أخته) أي: أخت أنسبن النضر، وهي الربيع بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد التحتية ( ببنانه) أي بأصابعه ومنه قوله تعالى: { أن نسوّي بنانه} ( القيامة: 4) وفي رواية بشامته: ( قال أنس: كنا نرى) بضم النون بمعنى نظن ( أو نظن) شك من الراوي في لفظ أنس وإن كان معناهما واحداً، ففيه مزيد الاحتياط في الرواية.
وعند مسلم: فكانوا يرون الخ: يعني به أن الصحابة كانوا يظنون ( أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه) وقيل: أنزلت في السبعين.
وهم أهل العقبة الثانية الذين بايعوه أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم فوفوا بذلك، قاله الكلبي، وقيل غير ذلك، والآية: ( { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} ) أو إلى قوله: { وما بدلوا تبديلا} ( الأحزاب: 23) أي استمروا على ما التزموا ولم يقع منهم نقض فيما أبرموا( متفق عليه) ورواه الترمذي ( ليرين الله روي بضم الياء) التحتية ( وكسر الراء) المهملة ( أي ليظهرن الله ذلك) الذي أصنعه من الجهاد في سبيله ( للناس، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر) وفي نسخة من البخاري «ليراني ا» إبقاء ألف الفعل على أصلها وحذف نون التوكيد وإبقاء نون الوقاية عكس الرواية الأولى ومعناه كمعنى الرواية الثانية والله أعلم.


رقم الحديث 110 ( السادس عشر: عن أبي مسعود عقبةبن عمرو الأنصاري البدري) سكن بدراً ولم يشهد وقعتها على الصحيح عند جماعة من أصحاب «المغازي» والمحدثين، لكن الذي جرى.
عليه البخاري في «صحيحه» أنه شهدها، ورجحه الحافظ في «فتحه» ، وشهد العقبة الثانية.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وحديثين، اتفقا على سبعة منها، وانفرد البخاري بواحد، ومسلم بتسعة، توفي بعد عليّ ( رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة) قال في «فتح الباري» كأنه يشير إلى قوله تعالى: { خذ من أموالهم صدقة} ( التوبة: 13) الآية ( كنا نحامل على ظهورنا) سيأتي معناه.
وقال الخطابي: يريد نكلف الحمل بالأجرة لنكتسب ما نتصدق به، وفي رواية أخرى للبخاري «انطلق أحدنا إلى السوق يتحامل» ( فجاء رجل) هو عبد الرحمنبن عوف ( فتصدق بشيء كثير) كان ثمانية آلاف درهم أو أربعة آلاف درهم، وقيل: أربعون أوقية من الذهب ( فقالوا مراء) اسم فاعل، من المراءاة: وهي العمل ليراه الناس فيكتسب منهم غرضاً دنيوياً ( وجاء رجل) هو أبو عقيل، وقيل: غيره ( فتصدق بصاع) هو أربعة أمداد نبوية فيكون خمسة أرطال وثلثا بغدادية، وكان تحصيله له بأن أجر نفسه على النزع من البئر بالحبل بصاعين من تمر، فذهب بصاع لأهله وتصدق بالآخر ( فقالوا: إن الله لغنيّ عن صاع هذا) .
سمي من اللامزين في «مغازي الواقدي» : معتببن قشير وعبد الرحمنبن نبتل بنونومثناة فوقية مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة ثم لام كذا في «فتح الباري» .
فنزل: الذين مبتدأ وخبره سخر الله منهم ( { يلمزون} ) أي: يعيبون ( { المطوّعين} ) بتشديد الطاء المهملة وأصله المتطوعين أدغمت التاء في الطاء: أي: المتنفلين ( { من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم} ) ( التوبة: 79) طاقتهم فيأتون به ( الآية) إلى قوله: { ولهم عذاب أليم} ( البقرة: 1) ( متفق عليه) ورواه النسائي وابن مردويه وغيرهم ( ونحامل بضم النون وبالحاء المهملة) وكسر الميم ( أي: يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة) طلباً لتحصيل ما يتوصل به إلى الصدقة ( ويتصدق بها) طلباً لمرضاة الله تعالى.
فالصيغة للمبالغة، ففيه أن العبد يطيع مولاه جهده وطاقته وحسب قدرته واستطاعته.


رقم الحديث -10 مفاعلة من الجهد: أي الطاقة فإن الإنسان يجاهد نفسه باستعمالها فيما ينفعها حالاً ومآلاً، وهي تجاهده بما تركن إليه بحسب طبعها وجبلتها من ضد ذلك، ولكون المجاهدة مع النفس التي بين جنبي الإنسان وهي لا تخرج ولا تنفك عنه كان هذا الجهاد الأكبر وجهاد العدو الخارج الجهاد الأصغر.
(قال تعالى) : { والذين جاهدوا فينا} ) قال بعض العارفين: هذه الآية صفوة هذه السورة.
ومن جملة المجاهدات مجاهدة النفس بالصبر عند الابتلاء ليعقب ذلك أنس الصفاء وينزع عنه لباس الجفاء.
وفي الحديث: «إن ابتلاء المؤمن يذهب عنه درنه» ( { لنهدينهم سبلنا} ) أتى بلام الابتداء أو لام جواب القسم المقدر المسند إلى الحق سبحانه إشارة إلى أنه تعالى يتولى الهداية بنفسه للمجاهدين فيه، وأنه ينعم عليهم بكمال النعمة والجزاء، ولم يقل سبيلي إشارة إلى الإمناح بكثرة المعارف، ولطائف الشهود ودوامه، وانهلال سحب الأفضال ( { وإن الله لمع المحسنين} ) المحسن من يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه سبحانه يراه، فإن كان هكذا كان له من شريف المعية ما أشار إليه بقوله: { وإن الله لمع المحسنين} وقد ورد من حديث أبي هريرة عن النبي: «أنا جليس من ذكرني، وأما مع عبدي إذا ذكرني وتحركت بي شفتاه» قال الزركشي في «الدرر» : رواه البيهقي.
(وقال تعالى) : { واذكر اسم ربك} ) بالتوحيد والتعظيم: أي دم على ذلك ( { وتبتل إليه} ) في العبادة ( { تبتيلاً} ) مصدر بتل، جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتل، وأيضاً فهو أبلغ منه في المعنى لزيادة المبنى، وقيل إن تبتل في الآية بمعنى بتل (أي انقطع إليه) عما سواه انقطاعاً، وقيل أخلص إخلاصاً، وقيل توكل توكلاً.
قال بعضهم التبتل: رفض الدنيا بما فيها والتماس ما عندالله.
(وقال تعالى: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} ) أي الموت.
(وقال تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} ) أي ير ثوابه، ففيه تشويق لتقديم العمل الصالح بين يديه ليجد جزاءه عند قدومه عليه (وقال تعالى: { وما تقدموا لأنفسكم من خير} ) بيان لما ( { تجدوه عند اهو خيراً} ) مما خلفتم ( { وأعظم أجراً} ) وهو فصل وما بعده وإن لم يكن معرفة يشبهها لامتناعه من التعريف لاقترانه بمن، ولا يجوز الجمع بينه وبين أل.
والمعنى ما أخرجتم خير لكم وأعظم أجراً عند الله مما ادخرتم، قال: «أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله، قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسولالله، قال: ما منكم من أحد إلا مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر» .
(وقال تعالى: { وما تفعلوا من خير} ) إنفاق أو غيره ( { فإن الله به عليم} ) فمجاز عليه، (والآيات) القرآنية (في الباب) أي باب المجاهدة كثيرة معلومة.