فهرس الكتاب

ذكر المصطفين من عباد البصرة المجاهيل الأسماء

ذكر المصطفين من عباد البصرة المجاهيل الأسماء 571 عابد عن الحسن قال: احترقت أخصاص بالبصرة وبقي في وسطها خص لم يحترق وأمير البصرة يومئذ أبو موسى الأشعري.
فخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص فأتي به فإذا شيخ فقال: يا شيخ ما بال خصك لم يحترق؟ قال: إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه فقال أبو موسى: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم" 1.
572 عابد آخر قال إبراهيم بن عبد الله بن المديني: قيل للحسن: ههنا رجل لم نره قط جالساً إلى أحد إنما هو أبداً خلف سارية وحده.
فقال الحسن: إذا رأيتموه فأخبروني به.
قال فمر به ذات يوم ومعهم الحسن فأشاروا له إليه فقالوا: ذلك الرجل الذي أخبرناك.
فقال: امضوا حتى آتيه.
فلما جاءه قال: يا عبد الله أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مخالطة الناس؟ قال: ما أشغلني عن الناس.
قال: فيأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلس إليه.
قال ما أشغلني عن الحسن وعن الناس.
قال: له الحسن: فما الذي شغلك يرحمك الله عن الناس وعن الحسن؟ قال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار للذنب والشكر لله على النعمة.
فقال له الحسن: أنت يا عبد الله أفقه عندي من الحسن، الزم ما أنت عليه.
573 عابد آخر عطية بن سليمان قال: صليت الجمعة ثم انصرف فجلست إلى يونس بن عبيد حتى صلينا العصر فقال: هل لكم في جنازة فلان؟ فمشينا إلى ناحية بني سعد فصلينا على الجنازة ثم قال: هل لكم في فلان العابد نعوده فأتينا رجلاً قد وقعت في فيه الخبيثة حتى أبدت عن أضراسه فكان إذا أراد أن يتكلم دعا بعقب من ماء وبقطنة فيبل لسانه حتى يبتل ثم يتكلم بكلمات يحسن فيهن.
فلما دخلنا عليه دعا بالقدح ليفعل ما كان يفعل، فبينا هو يبل لسانه سقطت حدقتاه في القدح فأخذهما فمر بهما بيده ثم قال: إني لأجد فيهما دسماً وما كنت أظنه بقي فيهما.
ثم استقبل القبلة فقال: الحمد لله الذي أعطانيهما وأمتعني بهما شبابي وصحتي حتى إذا أفنيت أيامي وحضر أجلي أخذهما مني ليبدلني بهما إن شاء الله خيراً منهما.
فقال له يونس: قد كنا تهيأنا لنعزيك فنحن الآن نهنئك فقال خيراً ودعا.
ثم خرجنا من عنده.
574 عابد آخر محمد بن عبد الرحمن عن الرجل الذي حدثه أنهم كانوا بالبصرة في شدة قحط الناس فيها وغلا سعرهم واحتبس عنهم المطر فخرجوا يستسقون، وخرجت اليهود والنصارى، فاعتزلت اليهود معهم التوراة، واعتزلت النصارى معهم الإنجيل، واعتزل المسلمون، كلهم يدعون وانصرفوا يومهم ذلك.
قال: فبينا أنا بعد ذلك أمشي في طريق المريد نظرت فإذا بين يدي فتى عليه أطمار، تقيلة النفس فهو يمشي وأنا خلفه حتى خرج إلى الجبان فدخل بعض تلك المساجد التي بالقرب من المقابر ودخلت خلفه تحول بيني وبينه أركان المسجد فصلى ركعتين ثم رفع يديه يدعو، وقال في دعائه: يا رب استغاث بك عبادك فلم تسقهم، يا رب الآن شمتت بنا اليهود والنصارى، أقسمت عليه يا رب إلا سقيتنا الساعة ولم تردني.
قال: فما برح يدعو حتى جاءت السحابة ومطرنا فخرج وخرجت في أثره لأعرف موضعه فجاء إلى دار فيها أخصاص وأكواخ فيها سكان فدخل بيتاً منها فعرفت موضعه.
فانصرفت عنه وهيأت دراهم في صرة ثم جئت فاستأذنت عليه فدخلت فإذا ليس في البيت إلا قطعة حصير ومطهرة فيها ماء وإذا هو قاعد يعمل الخوص فسلمت فرحب بي وبش فتحدثت ساعة ثم أخرجت الصرة وقلت: رحمك الله انتفع بهذه فتبسم وقال: جزاك الله خيراً أنا في غنى عنها.
فألححت عليه فجعل يدعو ويأبى أن يأخذها.
فلما أكثرت عليه تنكر لي وقال: حسبك الآن ليس بي إليها حاجة.
قال: فأقبلت عليه وقلت: رحمك الله إن لي عليك حقاً قال: وما هو رحمك الله؟ قلت: كنت أسمع دعاءك حين خرجت إلى الجبان.
قال: فاصفر وجهه حتى أنكرته وساءه ما قلت له.
ثم خرجت من عنده.
فلما كان بعد ذلك بأيام أتيته فلما دخلت الدار جعل سكان الدار يصيحون بقيم الدار: هوذا هو قد جاء.
فجاء إلي فتعلق بي وقال: يا عدو نفسه ما صنعت بذاك الفتى الذي جئته اليوم الأول؟ أي شيء أسمعته؟ قلت: لا تعجل حتى أخبرك بالحديث، فقال: إنك لما خرجت من عنده قام في الحال فأخذ حصيره ومطهرته وودعنا وخرج ولم يعد إلينا إلى الساعة لا ندري أين توجه؟ 575 عابد آخر عن مالك بن دينار قال: احتبس علينا المطر بالبصرة فخرجنا يوماً بعد يوم نستسقي فلم نر أثراً لإجابة.
فخرجت أنا وعطاء السليمي وثابت البناني ومحمد بن واسع وحبيب الفارسي وصالح المرب وآخرين حتى صرنا إلى المصلى بالبصرة فاستسقينا فلم نر أثراً لإجابة.
وانصرف الناس وبقيت أنا وثابت في المصلى فلما أظلم الليل إذا بأسود دقيق الساقين عظيم البطن عليه مئزران من صوف، فجاء إلى ماء فتمسح ثم صلى ركعتين خفيفتين ثم رفع طرفه إلى السماء فقال: سيدي إلى كم ترد عبادك فيما لا ينقصك أنفد ما عندك؟ أقسمت عليك بحبك لي إلا ما سقيتنا غيثك الساعة الساعة.
فما أتم الكلام حتى تغيمت السماء وأخذتنا كأفواه القرب فما خرجنا حتى خضنا الماء.
فتعجبنا من الأسود فتعرضت له فقلت: أما تستحيي ما قلت؟ قال: وما قلت؟ قلت قولك: بحبك لي، وما يدريك أنه يحبك؟ قال: تنح عن همتي يا من اشتغل عنه بنفسه أين كنت أنا حين خصني بتوحيده ومعرفته؟ أتراه بدأني بذلك إلا لمحبته لي؟ ثم بادر يسعى.
فقلت: ارفق بنا.
قال: أنا مملوك علي فرض من طاعة مالكي الصغير.
فدخل دار نحاس فلما أصبحنا أتيت النحاس فقلت له: عندك غلام تبيعنيه للخدمة؟ قال: نعم عندي مائة غلام فجعل يخرج إلى واحداً بعد واحد وأنا أقول غير هذا.
إلى أن قال: ما بقي عندي أحد فلما خرجنا إذا الأسود قائم في حجرة خربة فقلت: يعني هذا.
قال: هذا غلام مشؤوم لا همة له إلا بالبكاء فقلت: ولذلك أريده فدعاه وقال لي: خذه بما شئت بعد أن تبرئني من عيوبه.
فاشتريته بعشرين ديناراً.
فلما خرجنا قال: يا مولاي لماذا اشتريتني؟ قلت: لنخدمك نحن.
قال: ولم ذاك؟ قلت: أليس أنت صاحبنا البارحة في المصلى؟ قال: وقد اطلعت على ذلك فجعل يمشي حتى دخل مسجداً فصلى ركعتين ثم قال: إلهي وسيدي سر كان بيني وبينك أظهرته للمخلوقين، أقسمت عليك إلا قبضت روحي الساعة.
فإذا هو ميت فبقبره نستسقي ونطلب الحوائج إلى يومنا هذا.
576 عابد آخر حصين بن قاسم الوزان قال: كنا عند عبد الواحد وهو يعظ فناداه رجل من ناحية المسجد كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي فلم يلتفت عبد الواحد ومر في الموعظة.
فلم يزل الرجل يقول: كف يا أبا عبيدة فقد كشفت قناع قلبي وعبد الواحد يعظ ولا يقطع وموعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت، ثم خرجت نفسه.
قال: فأنا والله شهدت جنازته يومئذ فما رأيت بالبصرة يوماً أكثر باكياً من يومئذ.
577 عابد آخر عن يزيد الرقاشي قال: دخلت على عابد بالبصرة وإذا أهل بيته حوله فإذا هو مجهود قد أجهده الاجتهاد.
قال: فبكى أبوه فنظر إليه ثم قال: أيها الشيخ، ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
قال: فبكت أمه.
فقال: أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟ قال: يا بني أبكي فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
قال: فبكى أهله وصبيانه.
فنظر إليهم ثم قال: يا معشر اليتامى بعد قليل، ما الذي يبكيكم؟ قالوا: يا أبانا نبكي فراقك وما نتعجل من اليتم بعدك.
قال: فقال: أقعدوني أقعدوني ألا أرى كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لما يلقاه في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمساءلة منكر ونكير وإياي؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي؟ قال: ثم صرخ صرخة فمات.
578 عابد آخر عبد الواحد بن زيد قال: خرجت إلى ناحية الحربية فإذا إنسان أسود مجذوم قد تقطعت كل جارحة له بالجذام وعمي وأقعد وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى دموا وجهه.
فرأيته يحرك شفتيه فدنوت منه لأسمع ما يقول فإذا هو يقول: يا سيدي إنك لتعلم أنك لو قرضت لحمي بالمقاريض ونشرت عظامي بالمناشير ما ازددت لك إلا حباً فاصنع بي ما شئت.
579 عابد آخر فضيل أبو حاتم قال: لما كان حريق عرماز، كان رجل في خص له يسف خوصاً، والنار قد أحدقت به فلم يضره.
فقيل له في ذلك فقال: إني عزمت على رب النار أن لا يحرقني بالنار.
قيل له فاعزم عليه أن يطفئها.
قال: ففعل.
فلم تلبث النار أن طفئت.
580 عباد سبعة عن صالح المري قال: قدم علينا ابن السماك مرة فقال لي: أرني بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فدخلنا، فإذا رجل يعمل خوصاً له فقرأت {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} غافر فشهق الرجل فإذا هو قد يبس مغشياً عليه.
فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فاستأذنا عليه فقال: ادخلوا إن لم تشغلونا عن ربنا.
فدخلنا فإذا رجل جالس في مصلى له فقرأت: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} إبراهيم فشهق شهقة بدر الدم من منخريه ثم جعل يتشحط في دمه حتى يبس، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله، حتى أدرته على ستة أنفس، كل نخرج من عنده وهو على هذه الحالة.
ثم أتيت به السابع فاستأذنت فإذا امرأة له من وراء الخص تقول: ادخلوا.
فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاة فسلمنا فلم يعقل سلامنا.
فقلت بصوت عال: إن للخلق غداً مقاماً.
فقال الشيخ بين يدي من ويحك؟ ثم بقي مبهوتاً فاتحاً فاه شاخصاً بصره يصيح بصوت له ضعيف حتى انقطع.
فقالت امرأته: اخرجوا عنه فإنكم ليس تنتفعون به الساعة.
فلما كان بعد ذلك سألت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله عز وجل، وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتاً متحيراً لا يؤدي فرضاً فلما كان بعد ثالثة عقل.
581 عابدان ابن سماك قال: دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه دلني على عبادكم.
فأدخلني على رجل عليه لباس الشعر، طويل الصمت لا يرفع رأسه إلى أحد.
قال فجعلت أستنطقه الكلام فلا يكلمني.
فخرجت من عنده فقال لي صاحبي: ههنا ابن عجوز هل لك فيه؟ قال: فدخلنا عليه فقالت العجوز: لا تذكروا لابني شيئاً من ذكر جنة ولا نار فتقتلوه علي فإنه ليس لي غيره، قال: فدخلنا على شاب عليه من اللباس نحو مما على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت فرفع رأسه فنظر إلينا ثم قال: أما إن للناس موقفاً لا بد أن يقفوه قال: فقلت بين يدي من رحمك الله؟ قال: فشهق شهقة فمات، قال ابن السماك فجاءت العجوز فقالت: قتلتم ولدي.
قال: فكنت فيمن صلى عليه.
582 عابد آخر أبو عبد الله خرزي قال قلت لمحمد بن السماك: أخبرني عن أعجب شيء رأيته من الخائفين.
قال: اشتقت إلى عباد البصرة فأتيت الربيع بن صبيح فنزلت عليه ثم قلت له: هل تعرف ههنا أحداً من الخائفين؟ قال: نعم ههنا زاهد يقال إنه من الخائفين قلت له فبكر بنا إذا صلينا.
قال فبكرنا إلى بعض زوايا البصرة فدق باباً فخرجت عجوز فسلم عليها ثم قال: ما فعل ابنك؟ قالت إن ابني قد نسي الدنيا.
قال: أتأذنين لنا أن ندخل عليه؟ قالت: بشرط أن لا تذكروا له القيامة.
قال: فأذنت لنا فدخلنا فإذا شاب عليه مدرعة شعر، في عنقه طوق وسلسلة مشدودة بسارية البيت، فإذا قبر محفور وإذا هو جالس على شفير قبره ينظر في لحده فقال الربيع: يا هذا أخوك محمد بن السماك المذكر أتاك زائراً.
فالتفت إليه فقال: ما أنت قائل؟ فتلجلج لساني وهنت فجهدت الجهد أن أنطلق فما قدرت.
فخرجنا يومئذ ثم عدت في اليوم الثاني فإذا هو على حالته التي رأيناها أمس فالتفت إلي فقال: ما أنت قائل؟ فتلجلج لساني.
ثم قلت إن للعباد مقاما.
قال: ويحج عند من؟ قلت: عند مالك الملوك.
فشهق شهقة فإذا هو ميت في قبره.