فهرس الكتاب

أبو عبد الله الحربي الزاهد

569 أبو عبد الله الحربي الزاهد إبراهيم بن شبيب بن شيبة قال: كنا نتجالس في الجمعة فأتى رجل عليه ثوب واحد ملتحف به فجلس إلينا فألقى مسألة فما زلنا نتكلم في الفقه حتى انصرفنا.
ثم جاءنا في الجمعة المقبلة فأحببناه وسألناه عن منزله فقال: أنزل الحربية فسألناه عن كنيته فقال: أبو عبد الله.
فرغبنا في مجالسته ورأينا مجلسنا مجلس فقه.
فمكثنا بذلك زماناً ثم انقطع عنا فقال بعضنا لبعض: ما حالنا؟ قد كان مجلسنا عامراً بأبي عبد الله وقد صار موحشاً فوعد بعضنا بعضاً إذا أصبحنا أن نأتي الحربية فنسأل عنه.
فأتينا الحربية وكنا عدداً فجعلنا نستحي أن نسأل عن أبي عبد الله فنظرنا إلى صبيان قد انصرفوا من الكتاب فقلنا: أبو عبد الله.
فقالوا: لعلكم تعنون الصياد؟ قلنا نعم.
قالوا هذا وقته الآن يجيء.
فقعدنا ننتظره فإذا هو قد أقبل مؤتزراً بخرقة وعلى كتفه خرقة ومعه أطيار مذبحة وأطيار أحياء.
فلما رآنا تبسم إلينا وقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: فقدناك وقد كنت غمرت مجلسنا فما غيبك عنا؟ قال: إذاً أصدقكم.
كان لنا جار كنت أستعير منه كل يوم ذاك الثوب الذي كنت آتيكم فيه وكان غريباً فخرج إلى وطنه فلم يكن لي ثوب آتيكم فيه هل لكم أن تدخلوا المنزل فتأكلوا مما رزق الله عز وجل؟ فقال بعضنا لبعض: ادخلوا منزله فجاء إلى الباب فسلم ثم صبر قليلاً ثم دخل فأذن لنا فدخلنا فإذا هو قد أتى بقطع من البواري فبسطها لنا فقعدنا فدخل إلى المرأة فسلم إليها الأطيار المذبحة وأخذ الأطيار الأحياء ثم قال: أنا آتيكم إن شاء الله عن قريب فأتى السوق فباعها واشترى خبزاً فجاء وقد صنعت المرأة ذلك الطير وهيأته فقدم إلينا خبزاً ولحم طير فأكلنا فجعل يقوم فيأتينا بالملح والماء فكلما قام قال بعضنا لبعض: رأيتم مثل هذا؟ ألا تغيرون أمره وأنتم سادة أهل البصرة؟ فقال أحدهم: علي خمسمائة.
وقال الآخر: علي ثلثمائة.
وقال هذا وقال هذا، وضمن بعضهم أن يأخذ له غيره.
فبلغ الذي جمعوا في الحساب خمسة آلاف درهم فقالوا: قوموا بنا نذهب فنأتيه بهذا ونسأله أن يغير بعض ما هو فيه.
فقمنا فانصرفنا على حالنا ركباناً فمررنا بالمربد فإذا محمد بن سليمان أمير البصرة قاعد في منظرة له فقال: يا غلام ائتني بإبراهيم بن شبيب بن شيبة من بين القوم.
فجئت فدخلت عليه فسألني عن قصتنا ومن أين أقبلنا فصدقته الحديث.
فقال: أنا أسبقكم إلى بره،يا غلام ائتني ببدرة دراهم فجاء بها فقال: ائتني بغلام فراش فجاء فقال: احمل هذه البدرة مع هذا الرجل حتى تدفعها إلى من أمرنا.
ففرحت ثم قمت مسرعاً فلما أتيت الباب سلمت فاجابني أبو عبد الله ثم خرج إلي.
فلما رأى الفراش والبدرة على عنقه كأني سفيت في وجهه الرماد وأقبل علي بغير الوجه الأول فقال: ما لي ولك يا هذا؟ أتريد أن تفتنني؟ فقلت: يا عبد الله اقعد حتى أخبرك أنه من القصة كذا وكذا، وهو الذي تعلم أحد الجبارين، يعني محمد بن سليمان، ولو كان أمري أن أضعها حيث أرى لرجعت إليه فأخبرته إني قد وضعتها.
فالله الله في نفسك.
فازداد علي غيظاً وقام فدخل منزله وأصفق الباب في وجهي، فجعلت أقدم وأؤخر ما أدري ما أقول للأمير.
ثم لم أجد بداً من الصدق فجئت فأخبرته الخبر فقال: حروري والله، يا غلام علي بالسيف.
فجاء بالسيف فقال له: خذ بيد هذا الغلام حتى يذهب بك إلى هذا الرجل فإذا أخرجه إليك فاضرب عنقه وائتني برأسه، قال إبراهيم: فقلت أصلح الله الأمير، الله الله، فوالله لقد رأينا رجلاً ما هو من الخوارج ولكني أذهب فآتيك به وما أريد بذلك إلا افتداء منه.
قال فضمننيه فمضيت حتى أتيت الباب فسلمت فإذا المرأة تحن وتبكي، ثم فتحت الباب وتوارت فأذنت لي فدخلت فقالت: ما شأنكم وشأن أبي عبد الله؟ فقلت: ما حاله؟ قالت: دخل فمال إلى الركى فنزع منها ماء فتوضأ ثم سمعته يقول: اللهم اقبضني إليك ولا تفتني.
ثم تمدد وهو يقول ذلك.
فلحقته وقد قضى فهو ذاك ميت.
فقلت: يا هذه إن لنا قصة عظيمة فلا تحدثوا فيه شيئاً.
فجئت محمد بن سليمان وأخبرته الخبر فقال: أنا أركب فأصلي على هذا.
قال: وشاع خبره بالبصرة فشهده الأمير وعامة أهل البصرة.
رحمة الله عليه.