فهرس الكتاب

ذكر المصطفين من عباد جبال غير معروفة المكان

ذكر المصطفين من عباد جبال غير معروفة المكان 892 عابد في جبل عن مسعر أن عابداً كان يتعبد في جبل، يؤتى بقوته كل يوم قرصين.
قال سفيان: وقال غير مسعر: كان يأتيه طير أبيض.
قال فأتاه ذات يوم بقوته فجاءه سائل فأعطاه أحد القرصين.
ثم أتاه سائل آخر فكسر القرص الثاني نصفين فأعطاه النصف وبقي النصف لنفسه، ثم قال والله: ما هذا النصف بالذي يغني عن هذا شيئاً، ولا هذا النصف بالذي يكفيني، ولأن يشبع واحد خير من أن يجوع اثنان.
فسلم القرص كله للسائل وبات طاوياً، فأتي في منامه فقيل له: سل.
فقال: أسأل المغفرة.
فقيل له: هذا شيء قد أعطيته فسل.
قال أسأل أن يغاث الناس.
قال: وكان عام جدب فأغيثوا.
893 عابد آخر على جبل أبو الهيثم عن عبد الله بن غالب أنه حدثه قال: خرجت إلى الجزيرة فركبت السفينة فأرفت بنا إلى ناحية قرية عادية في سفح جبل خراب ليس فيها أحد.
قال: فخرجت فطوفت في ذلك الخراب أتأمل آثارهم وما كانوا فيه إذ دخلت بيتاً يشبه أن يكون مأهولاً.
قال فقلت: إن لهذا البيت لشأناً.
قال: فرجعت إلى أصحابي فقلت: إن لي إليكم حاجة.
قالوا: وما هي؟ قلت: تقيمون علي ليلة.
قالوا: نعم.
قال: فدخلت ذلك البيت، فقلت: إن يكن له أهل فسيأوون إليه إذا جاء الليل.
فلما أن جاء الليل سمعت صوتاً قد انحط من رأس الجبل، يسبح الله ويحمده ويكبره.
فلم يزل الصوت يدنو كذلك حتى دخل البيت.
قال: ولم أر في ذلك البيت شيئاً إلا جرة ليس فيها شيء، ووعاء ليس فيه طعام.
فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى ذلك الوعاء فأكل منه طعاماً، ثم حمد الله تعالى.
ثم أتى تلك الجرة فشرب منها شراباً.
ثم قام فصلى حتى أصبح.
فلما أصبح أقام الصلاة فصليت معه فقال: رحمك الله دخلت بيتي بغير إذني؟ قال: قلت رحمك الله لم أرد إلا الخير.
وقلت: رأيتك أتيت هذا الوعاء فأكلت منه طعاماً وقد نظرت قبل ذلك فلم أر فيه شيئاً، وأتيت تلك الجرة فشربت منها شراباً وقد نظرت قبل ذلك فلم أر فيهاشيئاً.
قال: أجل ما من طعام أريده من طعام الناس إلا أكلته من هذا الوعاء، ولا شراب أريده من شراب الناس إلا شربته من هذه الجرة.
قال: قلت: وإن أردت السمك الطري؟ قال: وإن أردت السمك الطري.
فقلت: رحمك الله إن هذه الأمة لم تؤمر بالذي صنعت، أمرت بالصلاة في الجماعة وعيادة المريض، واتباع الجنائز.
فقال: ههنا قرية فيها كل ما ذكرت وأنا منتقل إليها.
قال: فكاتبني حيناً ثم انقطع عني كتابه فظننت أنه مات.
وكان عبد الله بن غالب لما مات وجد من قبره ريح المسك.
894 عابد آخر على جبل قال محمد بن الحسين: حدثني أحمد بن سهل قال: حدثني أبو فروة السائح، وكان والله من العاملين لله عز وجل بمحبته، قال: بينا أنا أطوف في بعض الجبال إذ سمعت صدى جبل فقلت: إن ها هنا لأمراً ما.
فاتبعت الصوت فإذا أنا بهاتف يهتف: يا من آنسني بذكره وأوحشني من خلقه، وكان لي عند مسرتي.
ارحم اليوم عبرتي وهب لي من معرفتك ما أزداد به تقرباً إليك.
يا عظيم الصنيعة إلى أوليائه اجعلني اليوم من أوليائك المتقين.
قال: ثم سمعت صرخة ولم أر أحداً.
فأقبلت نحوها فإذا أنا بشيخ مغشي عليه قد بدا بعض جسده، فغطيته ثم لم أزل عنده حتى أفاق، فقال: من أنت رحمك الله؟ قلت: رجل من بني آدم.
قال: إليكم عني فمنكم هربت، قال: ثم بكى وقام، فانطلق وتركني.
فقلت: رحمك الله دلني على الطريق.
فأومأ بيده إلى السماء.
895 عابد آخر على جبل محمد بن أبي عبد الله الخزاعي قال: حدثني رجل من أهل الشام أنه دخل كهف جبل في ناحية عن طريق الناس.
فإذا هو بشيخ مكتوب على وجهه، وإذا هو يقول: إن كنت تطيل جهدي في دار الدنيا وتطيل شقائي في الآخرة فلقد أهملتني وأسقطتني من عينك أيها الكريم، قال: فسلمت فرفع رأسه فإذا دموعه قد بلت الأرض.
فقال: ألم تكن الدنيا لكم واسعة وأهلها لكم أناساً؟ فلما رأيت من عقله ما رأيت قلت له: رحمك الله اعتزلت الناس واغتربت في هذا الموضع؟ فقال: وأنت يا أخي، فحيثما ظننت أنه أقرب لك إلى الله عز وجل فابتغ إلى ذلك سبيلاً فلن يجد مبتغوه من غيره عوضاً.
قال: قلت: فالمطعم؟ قال: أقل ذلك عند الحاجة إليه إذا أردنا ذلك: فنبت الأرض وقلوب الشجر.
قال: فقلت: ألا أخرجك من هذا الموضع فآتيبك أرض الريف والخصب؟ قال: فبكى ثم قال: إنما الريف والخصب حيث يطاع الله عز وجل، وأنا شيخ كبير أموت الآن، لا حاجة لي بالناس.
896 عابد آخر في جبل أبو حفص عمر بن عبد الله المؤذن قال: قال قاسم الجرعن: خرجت حاجاً على طريق الشام، فبينا أنا أسير في الليل إذ غلطت الطريق فسمعت صيحة فإذا أنا بجماعة قد مسهم من الغلط مثل الذي مسني، وقد وقفوا على رجل من المتعبدين في جبل وهو يبكي ويقول في بكائه: أترى بكائي نافعي عندك ومنقذ رقبتي من حكمك؟ أتراك آخذاً من نفسي بحقك وموبخها على رؤوس الأشهاد بما ضيعت من أمرك؟ ثم صاح: آوه لكشف سترك عني، آوه لوقوفي بين يديك يا سيداه، فقال له بعض القوم: إنا غلطنا الطريق.
فقال: وأنا أيضاً قد غلطت الطريق، فمن لي ولكم بالاستقامة على وجهها؟ ثم قال: يا دليل الأدلاء دلني ودلهم ولا تحيرني وإياهم.
قال: فكشف لنا عن الطريق فسلكناها وتركناه واقفاً في صومعته.
897 عابد آخر في جبل بلغنا عن أبي الحارث أحمد بن الحارث الأولاشي أنه قال: رأيت رجلاً على رأس جبل كأنه شن بال شاخصاً ببصره نحو السماء لا يفتر عن الذكر.
فسألته المقام معه.
فقال: إن أطقت ما طوقت فأقم وإلا فامض عني، قلت: وما هو؟ قال: يكون الذهب والفضة عندك كالحصى والمدر، والسباع والهوام كالطير والأنعام، وخوفك من جنسك كخوفك من السباع، وخوفك من صحبتهم على دينك كخوفك من الشطان، فلعلك تنال ما تريد، ومتى كان الذهب والفضة أكبر في قلبك فإنك ستميل إلى الأكبر، ومتى هبت السباع أوشك أن تبعد إلى الأمن، ومتى أنست بالمخلوقين أوشك أن تهرب من الوحشة.
وثلاثة أشياء هن تمام الأمر: أن تعلم أنك مبتلي لا محالة، وأن لك رزقاً مقسوماً وكذلك أجل معلوم، والثالث: أن تقصر الأمل، فهنالك لا تبالي أين حللت من البلاد ولا من شاهدت من العباد فتقدم إن شئت على بصيرة وإلا فتأخر على علم بضعف وعجز.
قلت: صف لي ما يزيد في صبري.
قال: تعلم أن الله عز وجل ناظر إليك، قد روي في بعض الأخبار: بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي فإذا علمت أن صبرك يرضي مولاك صبرت.
قلت: فما السبيل إلى الرضاء؟ قال: علم القلب بأن المولى عادل في قضائه غير متهمفيما حكم.
قلت: فما معنى الرضاء؟ قال: سرور القلب بمر القضاء؟ ثم قال: لا تنم إلا نوم يقظان، وكيف يأمن من لم يأته الأمان؟ وبادر قبل الفوت، واستعن على تصفية الطعمة بالقلة والتمس الصمت بقلة الخلطاء، واتبع قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف، ولا تميلن إلى محدثات الأمور، فكل محدثة بدعة، واعلم أن الله يراك فاتقه، وقم له بالقسط على نفسك، وتفرد بالفرد إذ كنت له عبداً، وتجرد من الهموم الشاغلة، واجعل الهم واحداً تروح في العاجلة والآجلة.
898 عابد آخر في جبل بلغنا عن بعض السلف أنه قال: رأيت في بعض الجبال شاباً أصفر اللون غائر العينين، مرتعش الأعضاء، لا يستقر على الأرض، كأن به وخز الأسنة، ودموعه تتحادر.
فقلت له: من أنت؟ فقال: آبق من مولاه.
قلت: فتعود وتعتذر.
فقال: العذر يحتاج إلى إقامة حجة فكيف يعتذر المقصر؟ فقلت: تتعلق بمن يشفع فيك.
فقال: كل الشفعاء يخافون منه؟ قلت: فمن هو قال: مولاي رباني صغيراً فعصيته كبيراً، شرط لي فوفاني، وضمن لي فأعطاني، فخنته في ضماني، وعصيته وهو يراني، فواحيائي من حسن صنعه وقبيح فعلي.
فقلت: أين هذا المولى؟ فقال: أين توجهت لقيت أعوانه، وأيت استقرت ف قدمك ففي داره.
فقلت: ارفق بنفسك فربما أحرقك هذا الخوف.
فقال: الحريق بنار خوفه لعله يرضى أحق وأولى.
ثم أنشأ يقول: لم يبق خوفك لي دمعاً ولا جلداً ... لا شك أني بهذا ميت كمدا عبد كئيب أتى بالعجز معترفاً ... وناره تحرق الأحشاء والكبدا ضاقت مساكنه في الأرض من وجل ... فهب لي منك لطفاً إن لقيت غدا فقلت: يا غلام، الأمر أسهل مما تظن.
فقال: هذا من فتنة البطالين، هبه تجاوز وعفا، أين آثار الإخلاص والصفاء؟ ثم صاح صيحة، فخرجت عجوز من كهف الجبل، عليها ثياب رثة.
فقالت: من أعان على البائس الحيران؟ فقلت: يا أمة الله دعوته إلى الرجاء؟ فقالت: قد دعوته إلى ذلك فقال: الرجاء بلا صفاء شرك.
قلت: من أنت منه؟ قالت: والدته.
فقلت: أقيم عندك أعينك عليه؟ فقالت: خله ذليلاً بين يدي قاتله عساه يراه بعين معين فيرحمه.
فلم أدر مما ذا أعجب؟ من صدق الغلام في خوفه أو من قول العجوز وصدقها.
انتهى ذكر عباد الجبال بحمد الله ومنه.