فهرس الكتاب

ومن عقلاء المجانين بجبل لبنان

ومن عقلاء المجانين بجبل لبنان: 876 شيبان المصاب محمد بن أحمد بن سلمة قال: حدثني سالم قال: بينا أنا سائر مع ذي النون في جبل لبنان إذا قال لي: مكانك يا سالم حتى أعود إليك.
فغاب عني في الجبل ثلاثة أيام وأنا أنتظره، إذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران، فلما كان بعد الثالث رجع إلي متغير اللون ذاهب العقل، فقلت له بعد أن رجعت إليه نفسه: يا أبا الفيض أسبع عارضك؟ فقال: لا.
دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفاً من كهوف هذا الجبل فرأيت رجلاً أبيض الرأس واللحية أشعث أغبر نحيفاً نحيلاً كأنما أخرج من قبره، ذا منظر مهول وهو يصلي، فسلمت عليه بعد ما سلم.
فرد علي السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعاً وساجداً حتى صلى العصر واستند إلى حجر حذاء المحراب يسبح، لا يكلمني.
فبدأته بالكلام فقلت له: رحمك الله توصيني بشيء، ادع الله عز وجل لي بدعوة؟ فقال: يا بني آنسك الله تعالى بقربه.
ثم سكت.
فقلت: زدني.
فقال: يا بني من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصال: عزاً من غير عشيرة، وعلماً من غير طلب، وغنى من غير مال، وأنساً من غير جماعة.
ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت، فلما كان بعد ثلاثة أيام قام فتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف وقال لي: يا بني كم فاتني من الفرائض؟ صلاة أو صلاتان أو ثلاث؟ قلت: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن فقال: إن ذكر الحبيب هيج شوقي ... ثم حب الحبيب أذهب عقلي وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين، وقد أنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام.
فقلت له: يرحمك الله وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة.
وبكيت فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبه بدلاً، فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد وعلم الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه.
ثم صرخ صرخة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا.
فما كان إلا هنية وإذا بجماعة من العباد منحدرين من الجبل حتى واروه تحت التراب.
فسألت: ما اسم هذا الشيخ؟ قالوا: شيبان المصاب.
قال سالم: فسألت أهل الشام عنه فقالوا: كان مجنوناً خرج من أذى الصبيان،قلت: تعرفون من كلامه شيئاً؟ قالوا: نعم، كلمة واحدة كان يغني بها إذا ضجر: إذا بك لم أجن يا حبيبي فبمن؟ قال سالم: فقلت عمي والله عليكم.
877 عباس المجنون عن ابن المبارك قال: صعدت جبل لبنان فإذا برجل عليه جبة صوف مفتقة الأكمام، عليها مكتوب، لا تباع ولا تشترى، قد ائتزر بمئزر الخشوع، واتشح برداء القنوع.
فلما رآني اختفى وراء شجرة.
فناشدته بالله فظهر فقلت: إنكم معاشر العباد تصبرون على الوحدة، وتقاسون هذه القفار الموحشة، فضحك ووضع كمه على رأسه وأنشأ يقول: يا حبيب القلوب من لي سواكا ... ارحم اليوم مذنباً قد أتاكا أنت سؤلي ومنيتي وسروري ... قد أبى القلب أن يحب سواكا ليس سؤلي من الجنان نعيم ... غير أني أريدها لأراكا قال: ثم غاب عني فتعاهدت ذلك الموضع سنة لأقع عليه فلم أره.
فلقيني غلام أبي سليمان الداراني فسألته عنه وأعطيته صفته فبكى وقال: واشوقاه إلى نظرة أخرى منه.
فقلت: من هو؟ قال: ذاك عباس المجنون، يأكل في كل شهر أكلتين من ثمار الشجر ونبات الأرض، يتعبد منذ ستين سنة.