فهرس الكتاب

ومن عقلاء المجانين بجبل اللكام

870 ومن عقلاء المجانين بجبل اللكام بلغنا عن ذي النون المصري قال: وصف لي رجل من أهل المعرفة في جبل اللكام، فقصدته فلقيني جماعة من المتعبدين فسألتهم عنه؟ فقالوا: يا ذا النون تسأل عن المجانين؟ فقلت: وما الذي رأيتم من جنونه؟ قالوا: نراه في أكثر أوقاته هائماً ساهياً يكلم فلا يجيب، ويتكلم فلا نفقه ما يقول، وينوح في أكثر أوقاته على نفسه ويبكي فقلت في نفسي: ما أحسن أوصاف هذا المجنون.
ثم قلت لهم: دلوني عليه.
فقالوا: إنه يأوي في الوادي الفلاني.
انطلقت إلى الوادي فأشرفت على واد وعر، فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا أنا بصوت محزون شج من وجد قلب وهو يقول:يا ذا الذي أنس الفؤاد بذكره ... أنت الذي ما إن سواه أريد تفنى الليالي والزمان بأسره ... وهواك غض في الفؤاد جديد قال ذو النون: فاتبعت الصوت فإذا أنا بفتى حسن الوجه حسن الصوت، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رسومها، نحيل قد اصفر واحترق وهو شبيه بالواله الحيران.
فسلمت عليه فرد السلام وبقي شاخصاً يقول: أعميت عيني عن الدنيا وزينتها ... فأنت والروح شيء غير مفترق إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق ... من أول الليل حتى مطلع الفلق وما تطابقت الأجفان عن سنة ... إلا رأيتك بين الجفن والحدق ثم قال: يا ذا النون ما لك وطلب المجانين؟ قلت: أومجنون أنت؟ قال: قد سميت به.
فقلت: مسألة؟ فقال: سل، قلت: أخبرني ما الذي حبب إليك الانفراد وقطعك عن المؤانسين وهيمك في الأودية؟ قال: حبي له هيمني، وشوقي إليه هيجني، ووجدي به أفردني.
ثم قال: يا ليت شعري يا فتى إلى متى تتركني مقلقلاً في محبتي؟ فقلت: أخبرني أين محل الحب منك؟ وأين مسكن الشوق فيك؟ فقال: مسكن الحب سواد الفؤاد.
قلت: فما الذي تجد في خلوتك؟ قال: الحق سبحانه.
قلت: كيف تجده؟ قال: بحيث لا حيث.
ثم قال: يا ذا النون أعجبك كلام المجانين؟ قلت: إي والله وأشجاني، ثم قلت له: ما صدق وجدانك للحق تعالى؟ فصرخ صرخة ارتج لها الجبل.
ثم قال: يا ذا النون هكذا موت الصادقين.
ثم سقط إلى الأرض ميتاً فتحيرت في أمره، لا أدري ما أصنع به، وإذا به قد غاب عني فلا أدري أين ذهب.