فهرس الكتاب

ذكر المصطفيات من عابدات لقين في طريق السياحة

ذكر المصطفيات من عابدات لقين في طريق السياحة 991 عابدة ذو النون المصري قال: بينا أنا سائر في البادية إذ رأيت امرأة متعبدة، فلما أن دنت مني سلمت علي فرددت عليها السلام، فقالت: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند حكيم لا يوجد مثله، فصاحت وقالت: ويحك كيف فارقته وهو أنيس الغرباء؟ فأوجع قلبي كلامها فبكيت، فقالت لي: مم بكاؤك؟ قلت: وقع الدواء على الداء، فأسرع في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: والصادق لا يبكي؟ قالت: لا، لأن البكاء راحة القلب وهذا نقص عند ذوي العقول يا بطال، قلت: علميني شيئاً ينفعني الله به.
قالت: ويحك ما أفادك الحكيم من الفوائد ما تستغني به عن طلب الزوائد؟ فقلت: إن رأيت أن تعلميني شيئاً فعلت، فقالت: اخدم مولاك شوقاً إلى لقائه.
فإن له يوماً يتجلى فيه لأوليائه وإنه تعالى سقاهم في الدنيا من محبته كأساً لا يظمئون بعدها أبداً، ثم أقبلت تبكي وتقول: سيدي إلى كم تدعني في دار لا أجد فيها من يساعدني على بلائي؟ ثم مضت وهي تقول: إذا كان داء العبد حب مليكه ... فمن دونه يرجو طبيباً مداوياً؟قلت: وقد رويت لنا هذه الحكاية بألفاظ أخر: أنبأ عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أنبأ أحمد بن علي بن ثابت قال: أنبأ القاضي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد البجلي قال: أنبأ جعفر بن محمد الخلدي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: سمعت ذا النون المصري قال: بينا أنا في بعض مسيري لقيتني امرأة فقالت لي: من أين أقبلت؟ قلت: رجل غريب.
فقالت لي: ويحك وهل توجد مع الله أحزان الغربة وهو مؤنس الغرباء ومعين الضعفاء؟ فبكيت، فقالت لي: ما يبكيك؟ قلت: وقع الدواء علي داء قد قرح فأسرع في نجاحه، قالت: إن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: والصادق لا يبكي؟ قالت: لا، قلت: ولم؟ قالت: إن البكاء راحة القلب وملجأ يلجأ إليه، وما كتم القلب شيئاً أحق من الشهيق والزفير، فإذا أسبلت الدمعة استراح القلب، وهذا ضعف عند الأولياء يا بطال، فبقيت متعجباً من كلامها، فقالت لي: ما لك؟ قلت: تعجباً من هذا الكلام.
قالت: وقد أنسيت القرحة التي سألت عنها؟ قلت: لا، علميني شيئاً ينفعني الله به.
قالت: وما أفاد الحكيم في مقامك هذا من الفوائد ما تستغني به عن طلب الزوائد؟ قلت لا، ما أنا بمستغن عن طلب الزوائد.
قالت: صدقت، أحبب ربك واشتق إليه فإن له يوماً يتجلى فيه على كرسي كرامته لأوليائه وأحبائه فيذيقهم من محبته كأساً لا يظمئون بعدها أبداً.
قال: ثم أخذت في البكاء والزفير والشهيق وهي تقول: سيدي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها أحداً يسعدني على البكاء أيام حياتي، ثم تركتني ومضت.
992 عابدة أخرى ذو النون قال رأيت امرأة بنحو أرض البجة.
قال: فناديتها.
فقالت: وما للرجال أن يكلموا النساء؟ لولا ضعف عقلك لرميتك بشيء، فقلت لها: بالله كيف تعرفين الزيادة؟ قالت: بتفقد الأحوال انصرف.
قال: فما ناطقتها بعد ذلك.
993 عابدة أخرى ذو النون بن إبراهيم قال: كنت في تيه بني إسرائيل ومعي صاحب لي، فرأيت امرأة عليها مدرعة من شعر وخمار من صوف، وفي كفها عكاز من حديد فقلت: السلام عليك ورحمة الله.
فقالت: وعليك السلام، ما للرجال وخطاب النساء عافاك الله؟ فقلت: أخوك ذو النون المصري.
فقالت: مرحباً حياك الله بالسلام.
قلت: ما تصنعين ها هنا؟ قالت: كلما أتيت إلى بلدة يعصى فيها الحبيب ضاق علي ذلك البلد، فأنا أطلب بقعة طاهرة أخر عليها ساجدة أناجيه بقلب ذاب من شدة الشوق إلى لقائه.
فقلت: ما سمعت أحداً يذكر الحبيب أحسن من ذكرك،فأي شيء المحبة؟ قالت: سبحان الله أنت الحكيم الواعظ وتسألني؟ أول المحبة يبعث على الكد الدائم، حتى إذا وصلت أرواحهم إلى أعلى الصفا جرعهم من محبته لذيذ الكؤوس، ثم صرخت وخرت مغشياً عليها فأفاقت وهي تقول: أحبك حبين حب الرضا ... وحب لأنك أهل لذاكا فأما الذي هو حب الرضا ... فذكر شغلت به عن سواكا وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك للحجب حتى أراكا فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا 994 عابدة أخرى ذو النون المصري قال: بينا أنا أسير في جبال أنطاكية فإذا أنا بجارية كأنها مجنونة وعليها جبة من صوف، فسلمت عليها فردت علي السلام، ثم قالت: ألست ذا النون المصري؟ قلت: عافاك الله كيف عرفتني؟ فقالت: عرفتك بمعرفة حب الحبيب، ثم قالت: أسألك عن مسألة، قلت: سلي، فقالت: أي شيء السخاء؟ قلت: البذل والعطاء.
قالت: هذا سخاء في الدنيا فما السخاء في الدين؟ قلت: المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
قالت: فإذا سارعت إلى طاعة الله فهو أن يطلع على قلبك وأنت لا تريد منه شيئاً، ويحك يا ذا النون إني أريد أن أطلب منه شهوة منذ عشرين سنة، فأستحيي منه مخافة أن أكون كأجير السوء، إذا عمل طلب الأجر، ولكن اعمل تعظيماً لهيبته وعز جلاله ومرت وتركتني.
995 عابدة أخرى ذو النون المصري قال بينما أنا أسير في تيه بني إسرائيل إذا أنا بجارية سوداء قد استلبها الوله من حب الرحمن، شاخصة ببصرها نحو السماء.
فقلت: السلام عليك يا أختاه فقالت: وعليك السلام يا ذا النون.
فقلت لها: من أين عرفتني يا جارية؟ فقالت: يا بطال إن الله عز وجل خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أدارها حول العرش، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، فعرفت روحي روحك في ذلك الجولان.
قلت: إني لأراك حكيمة، علميني شيئاً مما علمك الله عز وجل، فقالت: يا أبا الفيض ضع على جوارحك ميزان القسط حتى يذوب كل ما كان لغير الله، ويبقى القلب مصفى ليس فيه غير الرب عز وجل، فبعد ذلك يقيمك لي الباب ويوليك ولاية جديدة ويأمر الخزان لك بالطاعة.
فقلت: يا أختاه زيديني، فقالت: يا أبا الفيض خذ من نفسك لنفسك وأطع الله عز وجل إذا خلوت يجيبك إذا دعوت.