فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها

باب
كراهية التعري في الصلاة وغيرها
[ قــ :360 ... غــ :364 ]
- حدثنا مطر بن الفضل: ثنا روح: ثنا زكريا بن إسحاق: ثنا عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يحدث، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينقل معهم الحجارة للكعبة وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: يا بن أخي، لو حللت إزارك فجعلته على منكبيك دون الحجارة.
قال: فحله، فجعله على منكبيه، فسقط مغشيا عليه، فما رئي بعد ذلك عريانا.

هذا الإسناد مصرح فيه بالسماع من أوله إلى آخره، وقد قيل: أنه من مراسيل الصحابة؛ فإن جابرا لم يحضر هذه القصة، وإنما سمعها من غيره، إما من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو من بعض أكابر أصحابه، فإن كان سمع ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهو متصل.

وقد اختلفوا في قول الصحابي: ( ( أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل كذا) ) ، هل يحمل على الاتصال، أم لا؟
والتحقيق: أنه أن حكى قصة أدركها بسنه، ويمكن أن يكون شهدها حملت على الاتصال، وإن حكى ما لم يدرك زمنه فهو مرسل لذلك.
والله أعلم.

وبناء الكعبة حين نقل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع قريش الحجارة لم يدركه جابر، فإن ذلك كان قبل البعثة بمدة، وقد قيل: أن عمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان حينئذ خمس عشرة سنة.

قال معمر، عن الزهري: كان ذلك حين بلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحلم.

وأما سقوطه مغشيا عليه، فقيل: من شدة حيائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من تعريه؛ فإنه كان مجبولا على أجمل الأخلاق وأكملها منذ نشأ، ومن أعظمها شدة الحياء.

وقيل: بل كان لا مر شاهده وراءه، أو لنداء سمعه عن التعري.

وقد خرج البخاري هذا الحديث في ( ( باب: بنيان الكعبة) ) من ( ( كتاب: بدء الخلق) ) من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، وفيه: قال.
فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق، فقال: ( ( إزاري، إزاري) ) ، فشد عليه إزاره.

وقد روى الأزرقي في ( ( كتاب: أخبار مكة) ) .
ثنا جدي: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، قال: جلس رجال من قريش في المسجد الحرام، فيهم حويطب بن عبد العزى ومخرمة بن نوفل، فتذاكروا بنيان قريش الكعبة - فذكر حديثا طويلا في ذلك -، وفيه: فنقلوا الحجارة، ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ غلام لم ينزل عليه الوحي، ينقل معهم الحجارة على رقبته، فبينا هو ينقلها إذ انكشف نمرة كانت عليه، فنودي: يا محمد، عورتك، وذلك أول ما نودي - والله أعلم -، فما رئيت لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عورة بعد ذلك، ولبج برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفزع حين نودي، فأخذ العباس بن عبد المطلب فضمه إليه، وقال: لو جعلت لنا بعض نمرتك على عاتقك تقيك الحجارة، فقال: ( ( ما أصابني هذا إلا من التعري) ) فشد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إزاره، وجعل ينقل معهم - وذكر بقية الحديث.

وقال - أيضا -: ثنا جدي وإبراهيم بن محمد الشافعي، قالا: ثنا ابن خالد، عن ابن خثيم، قال: كان رسول الله غلاما حيث هدمت الكعبة، فكان ينقل الحجارة، فوضع على ظهره إزاره يتقي به فلبج به، فاخذ العباس فضمه إليه، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إني نهيت أن أتعرى) ) .

يقال: لبج بفلان، ولبط به، إذا صرع، وهو معنى ما في حديث جابر:
( ( فسقط مغشيا عليه) ) .

وروى الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق: ابنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي
الطفيل، وذكر بناء الكعبة في الجاهلية، قال: فهدمتها قريش، وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي، تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا.
فبينا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة، فضاقت عليه النمرة، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة،، فنودي: يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد
ذلك.

وروى ابن سعد بإسناد ضعيف، عن ابن عباس، قال: أول شئ رأى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من النبوة أن قيل له: استتر، وهو غلام، فما رئيت عورته من يومئذ.

ويروى بإسناد أجود منه، عن السماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( نهيت أن امشي عريانا) ) ، [قلت: اكتمها الناس مخافة أن يقولوا: مجنون] .

وبعض رواته لم يذكر في إسناده: ( ( العباس) ) .
وخرج البزار من حديث مسلم الملائي - وفيه ضعف -، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل من وراء الحجرات، وما رئي عورته قط.

وقال لا نعلم روي من وجه متصل بإسناد أحسن من هذا.

وفي ( ( صحيح مسلم) ) عن المسور بن مخرمة، قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل، وعلي إزار، فانحل إزاري ومعي الحجر، فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضع، فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ارجع إلى ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة) ) .

وفي ( ( مسند الإمام أحمد) ) بإسناد جيد، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، أنه مر وصاحب له بأيمن وفتية من قريش قد خلعوا أزرهم، فجعلوها مخاريق يجتلدون بها وهم عراة، قال: فلما مررنا بهم قالوا: أن هؤلاء لقسيسون، فدعوهم أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خرج عليهم، فلما أبصروه تبددوا، فرجع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مغضبا حتى دخل، وكنت أنا وراء الحجرة، فاسمعه يقول: ( ( سبحان الله، لا من الله استحيوا، ولا من رسوله استتروا) ) ، وأم ايمن عنده تقول: أستغفر لهم يا رسول الله، فبلأي ما أستغفر لهم.

وقوله: فبلأي: أي بشدة، ومنه اللأواء، والمعنى: أنه أستغفر لهم بعد شدة امتناعه من ذَلِكَ.

وخرج الأمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبن ماجه والترمذي ـ وحسنه ـ من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منهن وما نذر؟ قال: ( ( أحفظ عورتك إلا من زوجتك، وما ملكت يمينك) ) ، فقال: الرجل يكون مع الرجل؟ قال: ( ( أن استطعت أن لا يراها أحد فأفعل) ) ، قلت: فالرجل يكون خاليا؟ قال: ( ( فالله أحق أن يستحيا منه) ) .

وقد ذكره البخاري في موضع آخر من ( ( كتابه) ) هذا تعليق مختصر، فقال: وقال بهز، عن أبيه، عن جده.

وقد اجمع العلماء على وجوب ستر العورة بين الناس عن أبصار الناظرين، واختلفوا في وجوب سترها في الخلوة، على قولين، هما وجهان لأصحابنا وأصحاب الشافعي، ويجوز كشفها للحاجة إليه بقدرها بغير خلاف، وقد سبق في ( ( كتاب: الغسل) ) ذكر بعض ذلك.