فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة

باب
ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة
[ قــ :865 ... غــ :891 ]
- حدثنا أبو نعيمٍ ومحمد بن يوسف: ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن –هو: ابن هرمز -، عن أبي هريرة، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الفجر يوم الجمعة { آلم تنزيل} السجدة، { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .

هذا الحديث خرَّجه البخاري هاهنا، وفي ( ( سجود القرآن) ) .

في أحدهما: خرَّجه عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان –هو: الثوري.

وفي الآخر: عن أبي نعيمٍ، عن سفيان.

وفي رواية محمد بن يوسف زيادة: ذكر السجدة.

ففي بعض النسخ في هذا الباب: رواية محمد بن يوسف، وفي الآخر: رواية أبي نعيمٍ، وفي بعضها - في الموضعين: - عن محمد بن يوسف.

وإلاول: أصح.
والله أعلم.

وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في ( ( مستخرجه) ) : أن البخاري خرَّجه في هذا الباب، عن أبي نعيمٍ.
وقد رواه يحيى القطان، عن سفيان، فقال في حديثه: وفي الثانية { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] .

خرَّجه من طريقه إلاسماعيلي في ( ( صحيحه) ) .

والظاهر: أن ذلك وهمٌ منه.

وقد روي هذا الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية جماعةٍ من الصحابة، ولم يخرجه البخاري إلاّ من هذا الوجه.

وخرَّجه مسلم منه، ومن حديث ابن عباسٍ –أيضاً.

وقوله: ( ( كان يقرأ) ) يدل على تكرر ذلك منه، ومداومته عليه.

وقد روي، أنه كان يديم ذلك:
خرَّجه الطبراني من طريق عمروٍ بن قيس الملائي، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرا في صلاة الصبح يوم الجمعة { آلم تنزيل} السجدة و { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .

يديم ذلك.

ورواته كلهم ثقاتٌ، إلا أنه روي عن أبي إلاحوص مرسلاً.

وإرساله أصح عند البخاري وأبي حاتم والدارقطني.
وقد خرَّجه ابن ماجه من وجه أخر عن أبي الأحوص، عن عبد الله، موصولاً –أيضاً -، بدون ذكر المداومة.

وقد اختلف العلماء في قرءاة سورةٍ معينةٍ في صلاةٍ معينةٍ.

فكرهة طائفة، وحكي عن أبي حنيفة ومالك.

ولم يكرهه الأكثرون، بل استحبوا منه ما روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وممن استحب قراءة سورة { آلم} سورة السجدة و { هلْ أَتَى} في صلاة الفجر يوم الجمعة: الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو خيثمة وابن أبي شيبة وسليمان بن داود الهاشمي والجوزجاني وغيرهم من فقهاء الحديث.

وهذا هو المروي عن الصحابة، منهم: عليٌ وابن عباسٍ وأبو هريرة.

ثم اختلفوا: هل يستحب المداومة على ذلك في كل جمعةٍ؟
فقال بعضهم: لا يستحب ذلك، بل يستحب فعله أحياناً، وهو قول الثوري وأحمد –في المشهور عنه - وإسحاق.

وعللا بأنه يخشى من المداومة عليه اعتقاد الجهال وجوبه، وان صلاة الفجر يوم الجمعة فيها زيادة سجدة، أو أنها ثلاث ركعات، ونحو ذلك مما قد يتخيله بعض من هو مفرطٌ في الجهل.

وقال الأكثرون: بل يستحب المداومة عليه، وهو قول الشافعي، وسائر من سمينا قوله.

وهو ظاهر ما نقله اسماعيل بن سعيدٍ الشالنجي عن أحمد؛ فإنه قالَ: سألته عن القراءة في الفجر يوم الجمعة؟ فقال: نراه حسناً، أن تقرأ { آلم تنزيل} السجدة،
و { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] .

ورجحه بعض أصحابنا، وهو الأظهر.

وكان السلف يداومون:
قال الأعرج: كان مروان وأبو هريرة يقرءان في صلاة الصبح بـ { آلم تنزيل} سورة السجدة و { هلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [إلانسان:1] .

وقال الشعبي: ما شهدت ابن عباسٍ قرأ يوم الجمعة إلا { تنزيل} و { هلْ أَتَى} [الإنسان:1] .

خرَّجه ابن أبي شيبة.

واعتقاد فرضية ذلك بعيدٌ جداً، فلا يترك لأجله السنة الصحيحة، واتباع عمل الصحابة.

وكان كثيرٌ من السلف يرى أن السجدة مقصودةٌ قراءتها في فجر يوم الجمعة: قال سعيدٍ بن جبيرٍ: ما صليت خلف ابن عباسٍ يوم الجمعة الغداة إلا قرأ سورة فيها سجدةً.

وعن ابن عوان، قال: كانوا يقرءون يوم الجمعة سورة فيها سجدةٌ، قال: فسألت محمداً –يعني: ابن سيرين -، فقال: لا أعلم به بأساً.

وعن النخعي، أنه صلى بهم يوم جمعة الفجر، فقرأ بـ { كهيعص} [مريم:1] .

خرج ذلك ابن أبي شيبة في ( ( كتابه) ) .

ونقل حربٌ، عن إسحاق، قال: لا بأس أن يقرأ الإمام في المكتوبة سورة فيها سجدةٌ، وأحب السور الينا { آلم تزيل} السجدة، { هلْ أَتَى} [إلانسان:1] ، ويقرأ بهما في الجمعة، ولابد منهما في كل جمعة، وان أدمنهما جاز.

وهذا يدل على أنه يستحب قراءةٌ فيها سجدةٌ، وافضلها { آلم تنزيل} .

وروى أبو بكرٍ بن أبي داود باسناده، عن ابن عباسٍ، قال: غدوت على
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم جمعة في صلاة الفجر، فقرأ في الركعة الأخيرة سورةً من المئين فيها سجدةٌ، فسجد فيها.

وقد روي عن أحمد ما يشهد لهذا –أيضاً -، وأن السجدة مقصودة في صلاة الفجر يوم الجمعة؛ فإن أبا جعفر الوراق روى، أن أحمد صلى بهم الفجر بوم الجمعة، فنسي قراءة آية السجدة، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو.

قال القاضي أبو يعلى: إنما سجد للسهو، لأن هذه السجدة من سنن الصلاة، بخلاف بقية السجداًت في الصلاة؛ فإنها من سنن القراءة.

وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا والشافعية: أن تعمد قراءة سورة سجدة غير { آلم تنزيل} في فجر الجمعة بدعةٌ، وقد تبين أن الأمر بخلاف ذلك.

وقدصلى الإمام أحمد صلاة الفجر يوم الجمعة بـ { آلم} السجدة، وسورة
{ عبس} ، وهذا يدل –أيضاً - على أن ابدال { هلْ أَتَى} بغيرها غير مكروه.

وفي هذه الصلاة نسي قراءة السجدة، وسجد سجدتي السهو، وهو يدل على أن من نسي أن يسجد في صلاته للتلاوة لم يعد السجود بعد فراغه من الصلاة، وقد صرح به أصحابنا.

قال القاضي أبو يعلى في ( ( الجامع الكبير) ) : ظاهره: أن من نسي سجود التلاوة سجد للسهو، كما إذا نسي دعاء القنوت.

قال: ولا يلزم على هذا بقية سجود التلاوة في غير صلاة؛ لأنه يحتمل أن يقال فيه مثل ذلك، ويحتمل أن يفرق بينهما، بأن الحث والترغيب وجد في هذه السجدة اكثر، وهو مداومة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقراءتها.
انتهى ما ذكره.

والتحقيق في الفرق: ما ذكره في موضعٍ آخر: أن السجدة في فجر يوم الجمعة من سنن الصلاة، فهي كقنوت الوتر، وفي غيرها من سنن القراءة التي لا تختص بالصلاة.
وممن قال: إن من نسي السجود للتلاوة في صلاته سجد للسهو إذا قضى صلاته: حمادٌ وابن جريجٍ -: ذكره عبد الرزاق عنهما في ( ( كتابه) ) ، ولم يفرق بين سجدة يوم الجمعة وغيرها، ويحتمل أن مذهبهما وجوب سجود التلاوة، فيجبره إذا نسيه بسجود السهو.

ومذهب مالكٍ: أن نسي سجودها في الركعة الأولى من النافلة حتَّى يرفع رأسه من ركوعه، قالَ: فأحب الي أن يقرأها في الثانية، ويسجدها، ولا يفعل ذَلِكَ في الفريضة، وإن ذكرها وهو راكعٌ في الثانية من النافلة تمادى، ولا شيء عليهِ، إلا أن يدخل في نافلة اخرى، فإذا قام قرأها وسجد.

ذكره في ( ( تهذيب المدونة) ) ، ولم يذكر لذلك سجود سهوٍ.

وعند أصحاب الشافعي: إذا نسي سجود التلاوة حتَّى سلم، فإن لم يطل الفصل سجد للتلاوة بعد سلامه، وان طال ففي قضاء السجود لهم قولان.

وأما من أوجب السجود للتلاوة، فقالَ سفيان فيمن قرأ سجدةً، فركع ناسياً، فذكر في آخر صلاته: سجدها، ثُمَّ ركع.

* * *