فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب من رجع القهقرى في صلاته، أو تقدم بأمر ينزل به

باب
من رجع القهقرى في الصلاة أو تقدم لأمر ينزل به
رواه سهل بن سعد، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

حديث سهل، قد سبق قريباً، وفيه رجوع أبي بكر القهقرى في صلاته، وتقدم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى مكانه.

[ قــ :1162 ... غــ :1205 ]
- حدثنا بشر بن محمد: ثنا عبد الله: قال يونس: قال الزهري: أخبرني أنس أن المسلمين بينا هم في الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، ففجأهم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفرف، فتبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه، وظن أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم المسلمون أن يفتتنوا، فرحا بالنبي حين راوه، فأشار بيده أن أتموا، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر، وتوفي ذلك اليوم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد تقدم حديث سهل بن سعد في صلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، وأنه كان يقوم عليه، ثم ينزل فيسجد في الأرض.

وقد سبق – أيضا – في ( ( أبواب صلاة الكسوف) ) من حديث ابن عباس، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مد يده في صلاة الكسوف، كأنه يتناول شيئا، ثم تكعكع أي: تأخره.

وخرج مسلم من حديث جابر، في صلاة الكسوف، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تأخر في
صلاته، فتأخرت الصفوف خلفه، حتى انتهى إلى النساء، ثم تقدم وتقدم الناس معه، حتى قام في مقامه.

وروى برد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: جئت ورسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في البيت، والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه، ووصفت الباب في القبلة.

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي – وهذا لفظه.

وقال: حسن غريب.

واستنكره أبو حاتم الرازي والجوزجاني؛ لتفرد برد به.
وبرد، شامي قدري، وثقه ابن معين.
وقال أحمد: صالح الحديث.

وقال أبو زرعة: لابأس به.
وقال أبو حاتم: كان صدوقاً.

وقد تقدم في ( ( باب: الركوع دون الصف) ) حديث أبي بكرة، أنه ركع دون الصف، وأنه مشى حتى دخل في الصف.

خرجه أبو داود بهذا اللفظ.

وتقدم فيه عن جماعة بأنهم فعلوا ذلك، منهم: زيد بن ثابت.

وروي عن أبي بكر الصديق، وعن خلق من التابعين، ومن بعدهم.

وعن سعيد بن جبير وعطاء، انهما رخصا في ان يركع قبل ان يصل إلى صفوف النساء، ثم يمشي 0
وكل هذا يدل على أن المشي اليسير في الصلاة لاتبطل به الصلاة، وإنه قول جمهور السلف.

وكذلك أبو برزة مشى في صلاته إلى فرسه لما انفلتت، فأخذها.

وخرج البخاري حديثه فيما بعد.

وقد قال أحمد: إذا فعل كفعل أبي برزة فصلاته جائزة.

وقال حرب: قلت لأحمد: يفتح الباب –يعني: في الصلاة – حيال القبلة؟ قالَ: في التطوع.

ولعله أراد أنه لايكره في التطوع خاصة، ويكره في الفريضة.

وأكثر أصحابنا على أن ذلك يرجع فيه إلى العرف، فما عد في العرف مشياً كثيراً أبطل، وما لم يعد كثيراً لم يبطل، وكذلك سائر الأعمال في الصلاة.

ومنهم من جعل الثلاث في حد الكثرة، فلم يعف إلاّ عن المرة والمرتين.

وللشافعية في الضربتين والخطوتين وجهان.

ومن الحنفية من قدر المشي المبطل بما جاوز محل السجود.

وما دلت السنة عليه، مع اتباع السلف فيه أولى.

قال أصحابنا: وإنما يبطل العمل الكثير إذا توالى، وما شك فيه لم يبطل؛ لأن الأصل دوام الصحة، فلا يزول بالشك في وجود المنافي.

وما تفرق من ذلك، وكان إذا جمع كثيراً لم يبطل؛ لأنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكرر منه حمل أمامة في صلاته ووضعها، وقد سبق حديث أمامة والكلام عليهِ بما فيهِ كفاية.

ومذهب الشافعية كمذهب أصحابنا في ذلك كله، في الرجوع إلى العرف على الصحيح عندهم، مع قولهم: إن الثلاث في حد الكثرة بغير خلاف، وفي الثنتين
وجهان.
وأصحابنا يخالفونهم في هذا خاصة، ويقولون: ما لم يكن المشي والضرب يسمى كثيراً عرفاً فهو غير مبطل.

وهذا كله في العامد، فأما الناسي والجاهل، فأكثر أصحابنا والشافعية أن عمله الكثير يبطل كعمده.

ومن الشافعية من قال: فيه وجهان، أصحهما: لايبطل، كالكلام.

وكذلك حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد، أنه لايبطل عمل الساهي وإن
كثر.

وقال: هي أصح.

واستدل بما فعله النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خبر ذي اليدين، حين سلم ساهياً، ثم لما ذكر بني على صلاته، وسيأتي الحديث في موضعه من الكتاب – إن شاء الله تعالى.


باب
إذا دعت الأم ولدها في الصلاة
[ قــ :116 ... غــ :106 ]
- وقال الليث: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز، قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( نادت امرأة ابنها وهو في صومعته، فقالت: ياجريج.
فقال: اللهم أمي وصلاتي.
فقالت: ياجريج.
قال: اللهم أمي وصلاتي.
قالت: ياجريج.
قال: اللهم أمي وصلاتي.
قالت: اللهم [لا] يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته.
قالَ: جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي؟ قالَ: يابابوس من أبوك؟ قال: راعي الغنم)
)
.

هكذا ذكره هاهنا تعليقاً، من رواية الأعرج، عن أبي هريرة.

وقد خرجه في آخر ( ( الغصب) ) ، وفي ( ( أخبار بني إسرائيل) ) مسنداً، من رواية جرير بن حازم، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة – بتمامه.
و ( ( المياميس) ) : جمع مومسة، وهي البغي، وتجمع على مياميس -: قاله أبو
زيد.

وهكذا في جميع روايات البخاري.

وقيل: إنما تجمع على ( ( مواميس) ) – بالواو –؛ لأن الكلمة من ذوات الواو.

ورواه بعضهم ( ( المأميس) ) – بالهمزة.

و ( ( البابوس) ) هو الصغير الرضيع من بني آدم، وهو الصغير من أولاد الإبل – أيضا.

وقيل: إنه اسم لذلك المولود، وهو بعيد.

وفي الحديث: دليل على تقديم الوالدة على صلاة التطوع، وأنها إذا دعت ولدها في الصلاة فإنه يقطع صلاته ويجيبها.

قال حميد بن زنجويه في ( ( كتاب الأدب) ) : نا الحسن بن الوليد: نا ابن أبي
ذئب، عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا دعاك أبواك وأنت تصلي فأجب أمك ولا تجب أباك) ) .

وبإسناد، عن شبيب بن يزيد، قال: مكتوب في التوراة: إذا دعتك أمك وأنت تصلي، فقل: لبيك، فإذا دعاك أبوك، فقل: سبحان الله.

ومرسل ابن المنكدر، قد رواه يزيد بن هارون، عن ابن أبي ذئب، عن ابن المنكدر – فذكره.

فتبين أنه لم يسمعه ابن أبي ذئب من ابن المنكدر.

وقال حرب: قيل لأحمد: الحديث الذي جاء: ( ( إذا دعاك أبوك وأنت في الصلاة فأجبه) ) ؟ فرأيته يضعف الحديث.

وقال الأوزاعي، عن مكحول: إذا دعتك أمك وأنت في الصَّلاة فأجب أمك، ولا تجب أباك.

قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: في المكتوبة يجيبها؟ قالَ: نعم، وهل وجه إلاّ ذَلِكَ؟ ثُمَّ قالَ: يؤذنها في المكتوبه بتسبيحة، وفي التطوع يؤذنها بتلبية.

ووجه التفريق بينهما: أن الأم برها آكد من بر الأب؛ ولهذا وصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببرها ثلاث مرات، ثم وصى ببر الأب بعده.

قال الحسن: للأم ثلثا البر.

وقد روي، عنه في رجل حلف عليه أبوه بكلام، وحلف عليه أمه بخلافه؟ قالَ: يطيع أمه.

وقال عطاء، في رجل أقسمت عليه أمه أن لا يصلي إلاّ الفريضة، ولا يصوم إلاّرمضان؟ قالَ: يطيعها.

وإنما قدم طاعتها على التطوع؛ لأن طاعتها واجبة، وهذا يشترك فيهِ الوالدان.

وقد سوى أصحابنا بينهما في إجابتهما في الصَّلاة، وقالوا: لاتجب إجابتهما
فيها، وتبطل الصَّلاة.

لكن إذا كان في نفل خرج وأجابهما، بخلاف إجابة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة لمن دعاه؛ فإنها كانت واجبة -: نص عليهِ أحمد، وقال: لاتبطل بها الصَّلاة.

وكذلك قاله إسحاق بن راهويه، وذكر أن ذلك من خصائص النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليست لأحد بعده.

وكذلك هو الصحيح من مذهب الشافعي وأصحابه.

واستدلوا بأن المصلي يقول في صلاته: ( ( السلام عليك أيها النبي) ) ، ولو خاطب بذلك غيره لبطلت صلاته.

ولو قيل بوجوب إجابة الأم في الصلاة، وأنها لاتبطل بها الصلاة، لم يبعد، وهو ظاهر قول مكحول والأوزاعي، كما سبق.

وكذا قال الأوزاعي في تحذير الضرير والصبي في الصلاة من الوقوع في بئر ونحوها: أنه لاباس به.

وفي الحديث: دليل على استجابة دعاء الأم على ولدها.

قال بعض السلف: يستجاب دعاؤها عليه، وإن كانت ظالمة.

وفي حديث أبي هريرة المرفوع: ( ( ثلاث دعوات تستجاب، لاشك فيهن) ) – فذكر منها: ( ( ودعوة الوالدين على ولدهما) ) .

وعن ابن مسعود، قال: ثلاث لاترد دعوتهم: الوالد، والمظلوم، والمسافر.