فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: المرأة وحدها تكون صفا

باب
المَرأَةِ تكونُ وَحْدَهَا صَفاً
[ قــ :706 ... غــ :727 ]
- حدثنا عبد الله بنِ محمد: ثنا سفيان، عَن إسحاق، عَن أنس بنِ مالك، قالَ: صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمي خلفنا: أم سليمٍ.

دل هَذا الحديث على أن المرأة إذا صلت معَ الرجال، ولم تجد امرأةً تقف معها قامت وحدها صفاً خلف الرجالِ.

وهذا لا اختلاف فيهِ بين العلماء؛ فإنها منهيةٌ أن تصف معَ الرجال، وقد كانت صفوفُ النساء خلف الرجال في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه الراشدين، ولهذا قالَ ابن مسعود: أخروهنَّ مِن حيث أخرهنَّ الله.

خرجه وكيعٌ وغيرهُ.

ولا يعلم في هَذا خلاف بين العلماء، إلا أنَّهُ روي عَن أبي الدرداء، أن الجارية التي لَم تحضِ تقف معَ الرجال في الصف.

فأما إن وجدت امرأةً تقفُ معها، ثُمَّ وقفت وحدها، فهل تصح صلاتها
حينئذٍ؟ فيهِ لأصحابنا وجهان.

أحدهما: لا تصحُّ، وَهوَ ظاهر كلام أبي بكرٍ الأثرم، وقول القاضي أبي يعلى في ( ( تعليقه) ) وصاحب ( ( المحرر) ) ، إلحاقاً للمرأة بالرجل، معَ القدرة على المصافّةِ.
تصحُّ، وَهوَ قول صاحب ( ( الكافي) ) أبي محمد المقدسي، وَهوَ ظاهر تبويب البخاري؛ لأن المرأةَ تكون وحدها صفاً، ولا تحتاج إلى مِن يصافّها، وكذا قالَ الإمام أحمد في رواية حربٍ: المرأة وحدها صفٌ.

وقد استدل طائفة مِن العلماء بصلاة المرأة وحدها على صحة صلاة الرجل
النفل، وهذا جمعُ بين ما فرقت السنة بينهُ؛ فإن السنة دلت على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصفوف، ونهت الرجل عَن ذَلِكَ، فأمرتهُ بالإعادة، على ما يأتي ذكرهُ في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وأقرب مِن هَذا: قولُ مِن قالَ: إن صلاةَ الرجلِ خلف الصفوف وحده إذا تعذَرَ عليهِ مِن يصافه تصحُّ إلحاقاً لها بصلاة المرأة وحدها، إذا لَم تجد مِن يصافها، كَما قالَه بعض المتأخرين مِن أصحابنا، ولكن المذهب خلافهُ.

واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أن الإمام إذا كانَ خلفهُ رجلانِ أو صبيان قاما خلفه، وهذا قول جمهور العلماء.

وكان ابن مسعود يرى ان الاثنين يقومان معَ الإمام عَن يمينه وشماله.

خرجه مسلم بإسناده عَنهُ.
وخرجه أبو داود والنسائي، عنه - مرفوعاً.

وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعهُ.

فَمِن العلماء مِن قالَ: نُسخ ذَلِكَ؛ لأن ابن مسعودٍ قرنه بالتطبيق في حديث واحد، والتطبيق منسوخٌ، فكذلك القيام.

ومنهم مِن تأوَّله على أنَّهُ فعله لضيقِ المكان، رويَ ذَلِكَ عَن ابن سيرين.

وفيه نظرٌ.

ومنهم من تأوَّلهُ على ابن مسعودٍ فعل ذَلِكَ بعلقمة والأسود حيث فاتتهم الجمعةُ، وقصد إخفاء الجماعة للظهر يومَ الجمعةِ، وعلى ذَلِكَ حملهُ الإمام أحمد في رواية إسحاق بنِ هانئ، وفعله - أيضاً - معَ صاحبين لَهُ في مسجدٍ مِن المساجد.

ومنهم مِن تأوله على أن علقمة كانَ غلاماً، فلم يرَ ابن مسعودٍ للأسود أن يصافه في الفريضة، وعلى ذَلِكَ حمله الإمام أحمد في رواية أخرى عَنهُ، نقلها عَنهُ ابنه
عبد الله والميموني وغيرهما.

وحمل أحمد حديث أنسٍ هَذا في مصافته لليتيم على أن الصلاةَ كانت نفلاً، والرجلُ يجوز لَهُ أن يصافف الصبيَّ في النفل خاصة.
وقد خرج هَذا الحديث أبو داود مِن حديث ثابتٍ، عَن أنسٍ، وفيه: فصلى بنا ركعتين تطوعاً.

وقد سبق الكلامُ عليهِ مستوفىً في ( ( باب: الصلاة على الحصير) ) .

وقال الإمام أحمد - مرة أخرى -: قلبي لا يجسر على حديث إسحاق، عَن أنسٍ؛ لأن حديث موسى خلافهُ، ليسَ فيهِ ذكر اليتيمِ.

قالَ أبو حفصٍ البرمكيُّ مِن أصحابنا: حديث إسحاق الذِي فيهِ ذكر اليتيمِ.

وحديث موسى خرجه مسلمٌ مِن طريق شعبةَ، عَن عبد الله بنِ المختار: سمع موسى بنِ أنس يحدث، عَن أنس بنِ مالكٍ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى به وبأمه - أو خالته - قالَ: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأةَ خلفَنا.

وخرج مسلم - أيضاً - مِن طريق سليمانِ بنِ المغيرةِ، عَن ثابت، عَن أنسٍ، قالَ: دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علينا، وما هوَ إلا أنا وأمِّي وأُمُّ حَرامٍ خالتي، فقالَ: ( ( قوموا فلأُصلِّي بكم) ) في غير وقت صلاةٍ، فصلى بنا، فقالَ رجل لثابت: أين جعل أنساً
منهُ؟ قالَ: جعله عَن يمينه.

وخرجه أبو داود مِن طريق حماد بنِ سلمة، عَن ثابتٍ، وقال فيهِ: فأقامني عَن يمينه وأمَّ حرامٍ خلفنا.

وفي رواية لَهُ: قالَ ثابت: لا أعلمه إلا قالَ: أقامني عَن يمينه.
وقد رجَّح الدارقطنيُّ وغيرهُ وقفَ الحديثِ على أنسٍ، وأنه هوَ الذِي أقام ثابتاً عَن يمينه.

وفي الجملة؛ فللعلماء في هَذهِ الأحاديث، عَن أنسٍ مسلكان:
أحدهم: تعارُضُهُما، وترجيح رواية موسى بنِ أنسٍ عَنهُ؛ لموافقتِهِ لحديث ابن عباسٍ وغيرهِ.
أنهما قضيَّتان متغايرتانِ، وَهوَ مسلكُ ابن حبان وغيره.

وأجاز أحمد مصافة الرجل للصبيِّ في النفل دونَ الفرض، كَما قال ذَلِكَ في إمامته بالرجال في إحدى الروايتين عَنهُ.

ومن أصحابنا مِن قالَ: يصحّ مصافته في الفرض والنفلِ.

ومنهم مِن قالَ: لا يصحُّ فيهما وحمل كلام أحمد على أن النفل يصحُّ فيهِ صلاةُ الفذِّ خلف الصفوفِ.
وهذا بعيدٌ.

واستدل بعضُ مِن يرى صحةَ صلاةِ الفذِّ بمصافةِ أنسٍ لليتيم، ذكره الترمذي في ( ( جامعه) ) ، ثُمَّ ردَّهُ.
بأنهُ لو كانَ الصبيُّ لا صلاةَ لَهُ لأقام أنساً عَن يمينه.

ويحتمل - أيضاً - أن يكون أنسٌ حينئذٍ كانَ صبياً لم يبلغِ الحلمَ، أو أن الذِي صلى معه كانَ بالغاً، وسمى يتيماً تعريفاً لَهُ بما كانَ عليهِ، كَما يُقال: أبو الأسودِ يتيمٌ عروةَ.

وأكثر العلماء على أن الرجل يصحُّ أن يصافَّ الصبيَّ، وَهوَ قولُ الثوريِّ.

وقالَ الأوزاعي: إن كانَ الصبِّيان ممن نَبتَ صفَ الرجلُ والصبيان خلف الإمام، وإن كانَ ممن لا نبت قامَ الرجلُ عَن يمين إمامهِ.

وقال حرب: سألت إسحاق عَن رجلٍ صلَّى وحضره رجلٌ وغلامٌ ابنُ ستِّ سنينَ، كيف يقيمهما؟ قالَ: يقيمهما خلفه: قلت يُقيمهما جميعاً عَن يمينه؟ فلم يرخص فيهِ، وذكر حديث أنسٍ: صليت أنا ويتيمٌ لنا خلفَ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد تقدم عَن الحسن، أن مِن صلَّى معه رجلٌ وامرأةٌ قام الرجل خلفه والمرأةُ خلفهما.

وَهوَ مخالفٌ لرواية موسى بنِ أنسٍ وثابتٍ، عَن أنسٍ.

وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الرجل يقوم عَن يمين الإمام، والمرأة خلفه، فعلى قول الحسن إذا كانَ معَ الرجل صبيٌّ، فلا إشكال عنده في مصافة الرجل.

واستدل - أيضاً - بحديث أنسٍ هَذا على أنَّ الصبي يقوم في صفِّ الرجال مِن غير كراهةٍ، قَد رُويت كراهته عن عمر بنِ الخطاب وأُبي بنِ كعبٍ، وكانا يُخرجان الصبيان مِن صفوف الرجال، وَهوَ قولُ الثوري وأحمد.

وأجاب أحمد عَن حديث أنسٍ هَذا في إقامةِ اليتيم معَ أنسٍ، بأنَّهُ كانَ في التطوع.
ويُجاب عَنهُ - أيضاً - بأنَّ الكراهة إنما هي حيث كانَ هناك رجالٌ يملئون
الصفَّ، فيمنع الصبيُّ، ويخرج منهُ ليقوم مقامه رجلٌ، فَهوَ أولى بالصفِّ منهُ، فأما في حديث أنسٍ، فإنما هوَ ويتيمٌ واحدٌ في بيت، فلم يكن مقام اليتيم مانعاً للرجالِ مِن الصلاةِ في الصفِّ مكانه.

وعلى تقدير أن يكون أنسٌ صبياً إذ ذاكَ لَم يبلغِ الحلمَ، فَقد كانا جميعاُ صبيين.
والله - سبحانه وتعالى - أعلم.