فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب ما جاء في الثوم الني والبصل والكراث

باب
ما جاء في الثوم النئ والبصل والكراث
وقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من أكل الثوم والبصل، من الجوع أو غيره، فلا يقربن مسجدنا) ) .

خرّج فيه: عن ابن عمر، وجابر، وأنسٍ:
فاما حديث ابن عمر:
فقال:

[ قــ :828 ... غــ :853 ]
- ثنا مسددٌ: ثنا يحيى، عن عبيد الله: حدثني نافعٌ، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال – في غزوة خيبر -: ( ( من أكل من هذه الشجرة –يعني: الثوم – فلا يقربن مسجدنا) ) .

وخَّرجه مسلم، ولفظه: ( ( فلا يقربن المساجد) ) .

وهذا صريحٌ بعموم المساجد، والسياق يدل عليه؛ فإنه لم يكن بخيبر مسجد بني للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنما كان يصلي بالناس في موضع نزوله منها.

وقد روي، أنه أتخذ بها مسجداً، والظاهر: أنه نصب احجاراً في مكان، فكان يصلي بالناس فيه، ثم قد نهى من أكل الثوم عن قربان موضع صلاتهم.
يدل عليه: ما خَّرجه مسلمٌ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: لم نعد أن فتحت خيبر، فوقعنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تلك البقلة الثوم، والناس جياعٌ، فاكلنا منها أكلاً شديداً، فوجد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الريح، فقال: ( ( من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربنا في المسجد) ) ، فقال الناس: حرمت، حرمت.
فبلغ ذلك
النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ( ( يأيها الناس، إنه ليس بي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها) ) .

وخرّج الإمام أحمد من حديث معقل بن يسار، قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسيرٍ له، فنزلنا في مكان كثير الثوم، وإن أناساً من المسلمين أصابوا منه، ثم جاءوا إلى المصلى يصلون مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنهاهم عنها، صم جاءوا بعد ذلك إلى المصلى، فوجد ريحها
منهم، فقال: ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا في مسجدنا) ) .

وأما حديث جابرٍ، فمن طريقين:
أحدهما:


[ قــ :89 ... غــ :854 ]
- حدثنا عبد الله بن محمد: ثنا أبو عاصمٍ: أنا ابن جريجٍ: أخبرني عطاءٌ، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من أكل من هذه الشجرة –يريد: الثوم – فلا يغشانا في مساجدنا) ) .

قلت: ما يعنى به؟ قال: ما أراه يعني إلا نيئه.

وقال مخلد بن يزيد، عن ابن جريجٍ: إلا نتنه.
وهذه الرواية –أيضاً - صريحة بعموم المساجد، والمسئول والمجيب لعله عطاءٌ وفي أبي عاصم.

( ( نيئه) ) ، بالهمز، ويقال بالتشديد بدون همزة، والمراد به: ما ليس بمطبوخٍ، فإنه قد ورد في المطبوخ رخصةٌ، لزوال بعض ريحه بالطبخ.

وقد قال عمر –رضي الله عنه – في خطبته -: إنكم تأكلون شجرتين، لا أراهما إلا خبيثتين، هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا وجد ريحها من الرجل في المسجد أمر به وأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخا.

خَّرجه مسلمٌ.

وخرّج أبو داود والنسائي من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن هاتين الشجرتين، وقال: ( ( من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) ) وقال: ( ( إن كنتم لابد آكلوهما، فاميتوهما طبخاً) ) .

قال: يعني: البصل والثوم.

وقال البخاري –فيما نقله عنه الترمذي في ( ( علله) ) -: حديثٌ حسنٌ.

وخرّج الطبراني معناه من حديث أنس، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال فيه: ( ( فإن كنتم لابد آكلوهما فاقتلوهما بالنار قتلاً) ) .
وخرّج أبو داود من حديث علي، قال: نهي عن أكل الثوم، إلا مطبوخاً.

خَّرجه الترمذي.

ثم خَّرجه - موقوفاً - عن علي، أنه كره أكله إلا مطبوخاً.

وخرّج ابن ماجه من حديث عقبة بن عامر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: ( ( لا تأكلوا البصل) ) ، ثم قال كلمة خفية: ( ( النئ) ) .

وأما رواية مخلد بن يزيد الحراني، عن ابن جريج، التي ذكرها البخاري –تعليقاً -، فمعناها: نتن ريحه، ولأجلها كره دخول المسجد لآكله.

وخرّج مسلم حديث جابر هذا من رواية يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، ولفظه: ( ( من أكل من هذه البقلة: الثوم) ) –وقال مرةٍ -: ( ( من أكل من البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى به بنو آدم) ) .

وخرّج معناه من حديث أبي الزبير، عن جابر –أيضاً.

وخرّج مسلم –أيضاً - من حديث الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مسجدنا، ولا يؤذينا بريح الثوم) ) .

فدل هذا الحديث – مع الذي قبله – على أن علة المنع من قربان المسجد تأذى من يشهده من المؤمنين والملائكة بالرائحة الكريهة.

وفي عامة هذه الأحاديث: تسمية الثوم شجرةً.

قال الخطابي: فيه أنه جعل الثوم من جملة الشجر، والعامة انما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون غيره.

وعند العرب: أن كل ما بقيت له أرومة في الأرض تخلف ما قطع فهو شجر، وما لا أرومة له فهو نجمٌ، فالقطن شجرٌ، يبقى في كثير من البلدان سنين، وكذلك الباذنجان، فأما اليقطين والريحان ونحوهما فليس بشجر، فلو حلف رجل على شيء من الأشجار فالاعتبار من جهة الاسم والحقيقة على له ذكرت، وفي العرف ما تعارفه الناس.
انتهى.

وأما قوله تعالى: { وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} [الصافات:146] ، فلا يرد على ذكره؛ فإنها شجرة مقيدة بكونها من يقطين، وكلامه إنما هوَ في اطلاق اسم
الشجر.

وقد اختلف أصحابنا الفقهاء فيما يتكرر حمله من أصول الخضروات ونحوهما: هل هو ملتحق بالشجر، أو بالزرع؟ وفيه وجهان، ينبني عليهما مسائل متعددة، قد ذكرناها في ( ( كتاب القواعد في الفقه) ) .

الطريق الثاني:


[ قــ :830 ... غــ :855 ]
- ثنا سعيد بن عفير: ثنا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب: زعم عطاء، أن جابر بن عبد الله زعم، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا – أو قال: فلعتزل مسجدنا -، وليقعد في بيته) ) .

وأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بقدر فيه خضروات من بقول، فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: ( ( قربوها) ) –الي بعض أصحابه كان معه -، فلما رأه كره أكلها.
قال: ( ( كل، فإني أناجي من لا تناجي) ) .

وقال أحمد بن صالح، عن ابن وهب: ( ( أُتي بِبَدرٍ) ) .

قال ابن وهب: يعني: طبقاً فيه خضرواتٌ.

ولم يذكر الليث وأبو صفوان، عن يونس قصةَ القدرِ، فلا أدري: هو من قول الزهري، أو في الحديث؟
قالَ الخطابي: قول ابن شهاب: ( ( زعم عطاء، أن جابراً زعمَ) ) ليس على معنى التهمة لهما، ولكن لما كان أمراً مختلفاً فيه حكىعنهم بالزعم، وقد يستعمل فيما يختلف فيه كما يستعمل فيما يرتاب به، ويقال: في قولِ فلانٍ مزاعمٌ، إذا لميكن موثوقاً به.

وذكر: أن رواية ( ( القدر) ) تصحيفٌ، إنما الصواب ( ( ببدرٍ) ) وهو الطبق، كما قاله ابن وهب، وسمي بدراً لاستدارئه وحسن اتساقه، تشبيهاً بالقمر.

قال: وإن لم يكن ( ( القدر) ) تصحيفاً، فلعله كان مطبوخاً، ولذلك لم يكره أكله لأصحابه، ثم بين أن كراهته لا تبلغُ التحريمَ لقوله: ( ( أناجي من لا تناجي) ) ، يريد: الملك.
انتهى.

وخرج ابن جرير الطبري بإسناد فيه ضعفٌ من حديث أبي أيوب الأنصاري، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال –لما امتنعَ من أكل الطعام الذي أرسله إليه -: ( ( إن فيها هذه البقلةَ: الثومَ، وأنا رجلٌ أقربُ الناسَ وأناجيهم، فأكره أن يجدُوا مني ريحهُ، ولكن مُر أهلكَ أن يأكلوها) ) .

وهذه الرواية: تدلُ على أنه كره أكلها لكثرةِ مخالطتهِ للناس وتعليمهم القرآن والعلمَ، فيستفاد من ذلك: أن من كان على هذه الصفة، فإنه يكره ذلك من ذلك ما لا يكره لمن لم يكن مثلَ حاله.

ولكن؛ روى مالكٌ، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، قالَ: كانَ
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث من أجل أن الملائكة تأتيه، مِن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام.
وهذا مرسلٌ.

ولا ينافي التعليلُ بمناجاتِ الملك التعليلَ بمناجاةِ بني آدم، كما وردً تعليلٌ النهي عن قربانِ أكل الثومِ للمساجد بالعلتين جميعاً، كما سبق ذكرُه.

وقد ذكر البخاري: أن قصة إتيانه بقدرٍ أو بدرٍ لم يذكرها في هذا إلا ابن وهبٍ عن يونسَ، وأن الليث بن سعدٍ وأبا صفوان –وهو: عبدُ الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان –رويا عن يونس أول الحديث دون هذه القصةِ الآخرة، وأن ذلك يوجب التوقفَ في أن هذه القصةَ: هل هي من تمام حديثِ جابرٍ، أو مدرجةٌ من كلامِ الزهري؛ فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث، ثم يدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه.

وقد خرّج البخاري في ( ( الأطعمةِ) ) الحديث من رواية أبي صفوان، عن يونس، مقتصراً على أول الحديثِ.

وخرّج البخاري في ( ( الأطعمةِ) ) الحديثَ عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، وفي حديثه: ( ( ببدر) ) ، وذكر مخالفة سعيد بن عفيرٍ له، وأنه قال: ( ( بقدرٍ) ) .
وأما حديث أنسٍ:
فقال:



[ قــ :83 ... غــ :856 ]
- حدثنا أبو معمرٍ: ثنا عبدُ الوارثِ، عن عبد العزيز، قال: سأل رجلٌ أنساً: ما سمعتَ نبيَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثوم؟ فقال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا، ولا يصلين معنا) ) .

وخَّرجه في موضع آخر، وقال: ( ( فلا يقرَبنَّ مسجدنا) ) .

وفي النهي لمن أكلهما عن قربان الناس: دليلٌ على أنه يكره له أن يغشى الناس حتى يذهب ريحها، ولكن حضوره مجامع الناسِ للصلاةِ والذكر ومجالسته لأهل العلمِ والدين أشد كراهةً من حضوره الأسواق ومجالسته الفساق.

ولهذا في حديث جابر المتقدم: ( ( وليقعد في بيته) ) .

وفي ( ( صحيح مسلمٍ) ) من حديث أبي سعيدٍ الخدريَ، أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على زراعة بصل هو وأصحابه، فنزلَ ناسٌ منهم، فأكلوا منه، ولم يأكل اخرون، فرحنا إليهِ، فدعا الذين لم يأكلوا البصلَ، وأخر الاخرينَ، حتى ذهب ريحها.
وقد روي عن عمرَ، أنه قال: من أكل البصل والكراث فلا يأكله عند قراءة القرآن، ولا عند حضورِ المساجد.

خرّجه عثمان الدارمي في ( ( كتاب الأطعمةِ) ) .

ومن أغرب ما روي في هذا الباب: ما خَّرجه أبو داود وابن حبان في
( ( صحيحه) ) من حديث حذيفةَ –بالشكَّ في رفعه -: ( ( من أكل منهذه البقلة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا ثلاثاً) ) .

وهذا مشكوك في رفعه.

وقدرواه جماعةٌ من الثقات، فوقفوه على حذيفة بغير شك، وهو الأظهر والله أعلم.

ويحتمل أن في الكلام حذفاً، تقديره: قالها ثلاثاً.
يعني: أنه اعاد هذه الكلمة ثلاث مراتٍ.

وقد دلت أحاديث هذا الباب على أن أكل الثوم غير محرمٍ في الجملة، وإنما ينهى من أكله عن دخولِ المسجدِ حتى يذهبَ ريحه، وعلى هذا جمهور العلماءِ.

وذهب إلى تحريمِ أكله طائفةٌ قليلةٌ من أهل الظاهرِ.
وروي عن بعض المتقدمين –أيضاً -، والنصوصُ الصحيحةُ صريحةٌ برد هذا الكلامِ.
وأما كراهةٌ أكل ذلك، فمن العلماء من كره أكله نيئاً حتى يُطبخ، منهم: عمر وابن عمر والنخعي، وهو قول أحمد، وقال: الثوم أشدُّ.

وروي عنه روايةٌ، أنه قال: لا أحب أكل الثوم خاصة، وإن طبخ، لأنه لا يذهب ريحه إذا طبخ، قال: وإن أكله من علةٍ فلا بأس، وقال: الذي يأكلها يتجنب المسجد، وكل ما له ريحٌ، مثلُ البصلِ والثومِ والكراثِ والفجلِ فإنما أكرهه لمكانِ الصلاةِ.

وسئل عن أكل ذلك بالليلِ؟ فقال: أليس يتأذى به الملكُ.

وظاهرُ هذا: يدل على كراهةِ أكل ما له ريحٌ كريهةٌ، وان كان وحده.

وقد روي عن سعد بن أبي وقاصٍ، أنه كان إذا اراد أن ياكل الثوم بدا –يعني: خرج إلى البادية.

وعن عكرمة، قال: كنا نأكله ونخرجُ من الكعبةِ.

خَّرجه ابن جريرٍ الطبريُ.

ولو أكله، ثم دخل المسجد كُره له ذلكَ.

وظاهر كلامِ أحمد: أنه يحرمُ، فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إن أكل وحضر المسجدَ أثمَ.

وهو قولَ ابن جرير – أيضاً - وأهل الظاهر وغيرهم.

قال ابنُ جرير: وإذا وجد منه ريحةً في المسجد، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك، فإن خالف وعاد، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة.
واستدل بحديث عمر –رضي الله عنه -، وقد سبق ذكره.

وقد استدل قومٌ من العلماء بأحاديث هذا الباب على أن حضور الجماعة في المساجد ليست فرضاً؛ لأنها لو كانت فرضاً لم يرخص في أكل الثوم وينهى من أكله عن حضور المسجد، وجعلوا أكل هذهِ البقولِ التي لها ريحٌ خبيثةٌ عذراً يبيح ترك الجماعةِ.

ورد عليهم آخرون:
قال الخطابي: قد توهم هذا بعضُ الناس؛ قال: وإنما هو – يعني: النهي عن دخول المسجد – توبيخٌ له وعقوبةٌ على فعله إذ حرم فضيلة الجماعةَ.

ونقل ابن منصورٍ، عن إسحاق، قال: إن أكل الثوم من علةٍ حادثةٍ به فإن ذلك مباح، وان لم يكن علة لا يسعه أكله، لكي لا يترك الجماعةَ.

وهذا مجمولٌ على ما إذا أكله بقربِ حضورٍ الصلاة ويعلم [ ... ] فريضة.

ودخولُ المسجد مع بقاء ريح الثوم محرمٌ، وهو قولُ طائفةٍ من أصحابنا وابن جرير وغيرهم من العلماء.

ويشهدُ لهذا: أن الخمر قبل أن تحرم بالكلية كانت محرمة عند حضور الصلاةِ، كيلا يمنع من الصلاةِ، حيث كان الله قد انزل فيها { لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فكان منادي النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينادي: ( ( لا يقرب الصلاة سكرانٌ) ) .
وفي ضمن ذلك، النهي عن السكر بقرب وقت الصلاة، ثم حرمت بعد ذلك على الإطلاق بالآية التي في سورة المائدة.

وقد تقدم نص أحمد بإنه قال: أكرهه في وقت الصلاة، لمكانِ المسجدِ.

وهذا يحتملُ كراهة التنزيه، وكراهة التحريم.

وروى ابن وهب، عن مالك، أنه سئل عن أكل الثوم يوم الجمعة؟ فقال: بئسما صنع حين أكل الثوم وهو ممن يجب عليه حضورُ الجمعة.

وقد ذكرنا: أن هذ الحكم يتعدى إلى كل مأكول له رائحةٌ كريهةٌ، كالفجل وغيره، وأن أحمد نص عليه.

وكذلك قال مالكٌ: الكراثُ كالثوم، إذا وجدت ريحهما يؤذي.

وألحق أصحاب مالكٍ به: كل من له رائحةٌ كريهةٌ يتأذى بها، كالحراث والحوات.

وفيه نظر، فإن هذا أثر عملٍ مباحٍ، وصاحبه مخحتاج اليه، فينبغي أن يؤمر إذا شهد الصلاة في جماعته بالغسل وإزالة ما يتأذى برائحته منه، كما أمر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان يشهد الجمعة من الأنصار الذين كانوا يعملون في نخلهم ويلبسون الصوف ويفوح ريحهم بالغسل، وأمرهم بشهود الجمعة في ثوبين غير ثوبي المهنة.
وذكر ابن عبد البر عن بعض شيوخه، أنه ألحق بأكل الثوم من كان أهل المسجد يتأذون بشهوده معهم من اذاه لهم بلسانه ويده، لسفهه عليهم وإضراره بهم، وأنه يمنع من دخول المسجد ما دام كذلك، وهذا حسنٌ.

وكذلك يمنعُ المجذومُ من مخالطة الناس في مساجدهم وغيره؛ لما روي من الامر بالفرار منه.
والله أعلمَ.
وفي ( ( تهذيب المدونةِ) ) : ويقامُ الذي يقعدُ في المساجد يوم الخميس وغيره لقراءة القرآن.

ولعلَ مراده: إذا كان يقرأ جهراً، ويحصلُ بقراءته أذى لأهلِ المسجدِ، ويشوش عليهم.
والله أعلم.

* * *