فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب: متى يقوم الناس، إذا رأوا الإمام عند الإقامة

باب
متى يقوم للناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة
[ قــ :619 ... غــ :637 ]
- حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا هشام، قال: كتب إلي يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني) ) .

هذا رواه هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير مكاتبة، وقد رواه عن يحيى غير واحد: شيبان، وحجاج الصواف، وايوب، وأبان العطار، ومعمر، وغيرهم.

وخرجه البخاري من رواية شيبان، وخرجه مسلم من رواية حجاج ومعمر.

وفي رواية له من رواية شيبان ومعمر: ( ( حتى تروني قد خرجت) ) .

وقال أبو داود: لم يذكر: ( ( قد خرجت) ) إلا معمر.

وذكر البيهقي: أنها قد رويت عن حجاج – أيضا.

وخرجها ابن حبان في ( ( صحيحه) ) من رواية معمر، ولفظه: ( ( حتى تروني قد خرجت إليكم) ) .
وهذه اللفظة: يستدل بها على مراده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤيته: أن يخرج من بيته، فيراه من كان عند باب المسجد، ليس المراد: يراه كل من كان في المسجد.

وهذا كقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( لا تصوموا حتى تروا الهلال) ) ، ومعلوم أنه لو رآه واحد أو اثنان لاكتفي برؤيتهما، وصام الناس كلهم.

ويدل على هذا: ما خرجه مسلم من حديث الزهري، قال: اخبرني أبو سلمة، سمع ابا هريرة يقول: أقيمت الصلاة، فقمنا فعدلنا الصفوف قبل ان يخرج إلينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا قام في مصلاه قبل ان يكبر ذكر فانصرف - وذكر تمام الحديث.

ويحمل ذلك على قيامهم قبل ان يطلع على اهل المسجد من المسجد، لما علموا خروجه من بيته وتحققوه.

وخرج - أيضا - بهذا الإسناد، عن أبي هريرة، قال: إن كانت الصلاة تقام لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيأخذ الناس مصافهم قبل ان يقوم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقامه.

فهذه الرواية تصرح بأن الصفوف كانت تعدل قبل ان يبلغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مصلاه، ولكن كان قد خرج من بيته، ورآه من كان بقرب بيته.

وقد ذكر الدارقطني وغير واحد من الحفاظ أن هذا الحديث اختصره الوليد ابن مسلم من الحديث الذي قبله، فأتي به بهذا اللفظ.
فإن قيل: فقد خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت، فلا يقيم حتى يخرج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا خرج اقام الصلاة حين يراه.

فلو اكتفي برؤية واحد للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاكتفي برؤية بلال له، واكتفي بإقامة بلال في قيام الناس، فإنه كان لا يقيم حتى يرى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد خرج.

قيل: هذا إنما ورد في صلاة الظهر بالمدينة خاصة، وأمافي غيرها من الصلوات، فقد كان بلال يجيء إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بيته، فيؤذنه بالصلاة، فكان يفعل ذلك في صلاة الفجر، كما في حديث عائشة وابن عباس، وكان احياناً يفعله في السفر في غير الفجر، كما روى أبو جحيفة، أنه رأى بلالا أذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصلاة الظهر.

فالظاهر: ان بلالاً كان إذا اذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصلاة رجع، فأقام قبل خروج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيته، واكتفى بتأهبه للخروج [بإيذائه] له، فوقع النهي في قيام الناس إلى الصلاة قبل خروجه في مثل هذه الحالة.
والله اعلم.

وقد اختلف العلماء في الوقت الذي يقوم فيه الناس للصلاة.

فقال طائفة: يقومون إذا فرغ المؤذن من الاقامة، سواء خرج الإمام او لم يخرج.

وحكى ذلك بعض الشافعية عن أبي حنيفة والشافعي.

ورجع بعض متأخري الشافعية أنهم لا يقومون حتى يروه؛ لحديث أبي قتادة.

وحكى ابن المنذر، عن أبي حنيفة، انه إذالم يكن الإماممعهم كره ان يقوموا في الصف والإمام غائب عنهم.

وممن روي عنه، انهم لا يقومون حتى يروا الامام: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب.

خرجه وكيع، عنهما.

واختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة:
فروى عن جماعة من أصحابه، أنهم لا يقومون حتى يروه؛ لحديث أبي قتادة، ولو علموا به، مثل ان يكون الإمام هو المؤذن، وقد اقام الصلاة في المنارة وهو نازل.

وروى عنه الاثرم وغيره: انهم يقومون قبل ان يروه إذا اقيمت الصلاة؛ لحديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم.

وروى عنه المروذي وغيره: انه وسع العمل بالحديثين جميعاً، فإن شاءوا قاموا قبل ان يروه، وأن شاءوا لم يقوموا حتى يروه.

ورجح بعض أصحابنا الرواية الأولى؛ لحديث أبي قتادة، وادعى انه ناسخ لحديث أبي هريرة؛ فإنه يدل على ان فعلهم لذلك كان سابقا، ثم نهي عنه.

وكذا ذكر البيهقي، لكن قال: إنما نهي عنه تخفيفاً عليهم، ورفقاً بهم، وهذا لا يمنع العمل به كالصائم في السفر ونحوه.

وروي عن أبي خالد الوالبي، قال: خرج الينا علي بن أبي طالب ونحن قيام، فقال: مالي أراكم سامدين – يعني: قياماً.

وسئل النخعي: أينتظرون الإمام قيأماأو قعوداً؟ قال: قعوداً.

وقال ابن بريدة في انتظارهم قياماً: هو السمود.

وكذا روي عن النخعي، انه كرهه، وقال: هو السمود.

وحكي مثله عن أبي حنيفة وإسحاق.

قال بعض أصحابنا: وروي عن أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، وداود، انه ان كان الإمام خارجاً من المسجد فلا تقوموا حتى تروه، وإن كان في المسجد فهو كالمشاهد؛ حملا للرؤية في الحديث على العمل، وكذا قال ابن بطة من أصحابنا.

وإن كان الإمام في المسجد، فهو مرئي للمصلين أو بعضهم، لكن هل يكتفي برؤيته قاعداً، أو لا بد من رؤيته قائماً متهيأ للصلاة؟ هذا محل نظر.
والمنصوص عن أحمد، انه إذا كان في المسجد فإن المأمومين يقومون إذا قال المؤذن: ( ( قد قامت الصلاة) ) ، وإن لم يقم الإمام.

والقيام للصلاة عند الإقامة متفق على استحبابه للإمام، إذا كان حاضراً في المسجد، وللمأمومين معه.

واختلفوا في موضع القيام من الاقامة على اقوال:
أحدها: انهم يقومون في ابتداء الاقامة، روي عن كثير من التابعين، منهم: عمر بن عبد العزيز، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وهو غريب عن أحمد.
إذا قال: ( ( قد قامت الصلاة) ) ، روي عن أنس بن مالك، والحسن بن علي، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والنخعي، وهو قول ابن المبارك، وزفر، وأحمد، وإسحاق.

والثالث: إذا قال: ( ( حي على الفلاح) ) ، وحكي عن أبي حنيفة، ومحمد.

والرابع: إذافرغت الاقامة، وحكي عن مالك، والشافعي.

وحكى ابن المنذر عن مالك، انه لم يوقت في ذلك شيئاً.

وقال الماوردي - من الشافعية -: إن كان شيخاً بطيء النهضة قام عند قوله: ( ( قد قامت الصلاة) ) ، وإن كان سريع النهضة قام بعد الفراغ؛ ليستووا قيأمافي وقت واحد.

فإن تأخر قيام الإمام عن فراغ الإقامة لعذر كما كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احيانا يناجي بعض أصحابه طويلا، فهل يتأخر قيام المأمومين إلى حين؟ الاظهر: نعم.

ويدل عليه ما خرجه البخاري - وسيأتي قريباً عن شاء الله -، عن أنس، قال: اقيمت الصلاة والنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يناجي رجلا في جانب المسجد، فما قام إلى الصلاة حتى نام القوم.

ونومهم يدل على انهم كانوا جلوسا؛ إذ لو كانوا قيأماينتظرون الصلاة كان ابعد لنومهم.

وروى حجاج بن فروخ، عن العوام بن حوشب، عن ابن أبي أوفى، قال: كان بلال إذا قال: قد قامت الصلاة، نهض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

حجاج، واسطي، قال أحمد يحيى: لا نعرفه.
وقال يحيى - أيضا -: ليس بشيء.
وقال أبو حاتم: مجهول وضعفَهٌ النسائي، وقال الدارقطني: متروك.

وذكر هذا الحديث لأحمد فأنكره، وقال: العوام لم يلق ابن أبي اوفى.
هذا في القيام المبتدأ للصلاة ممن كان جالساً، فأمامن دخل المسجد امأماكان او مأموماً، والمؤذن يقيم الصلاة، فهل يجلس ليبتدئ القيام أمابعد الفراغ أو عند قوله: ( ( قد قامت الصلاة) ) ، أم يستمر قائماً؟ فيه قولان:
أحدهما: انه يجلس ليقوم إلى الصلاة في موضع القيام المشروع، وكذلك كان الإمامأحمد يفعل -: نقله عنه ابن منصور، وقاله طائفة من الشافعية، منهم: أبو عاصم العبادي.

وفيه حديث مرسل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاء وبلال في الإقامة، فقعد
خرجه الخلال.

والقول الثاني: انه يستمر قائما ولا يجلس -: قاله طائفة من الشافعية، منهم: البغوي وغيره؛ لئلا يدخل في النهي عن القيام للصلاة قبل رؤية الإمام؛ لان النهي إنما يتناول القيام المبتدأ، وهذا لم يبتدئ القيام، بل استمر عليه.

ويتخرج لأحمد مثل هذا؛ انه فرق بين القيام المبتدأ والمستمر في القيام للجنازة، فحمل النهي عن القيام المبتدأ لمن كان جالساً، فأمامن تبعها فإنه يستمر قائماً، ولا يجلس حتى توضع بالارض، ولم ير هذا القيام المستمر داخلاً في القيام للجنازة المنهي عنه، وجمع بذلك بين الحديثين.

وقد يفرق بينهما: بأن في الجنازة حديثين مختلفين، فجمع بينهما بالتفريق بين القيام المبتدأ والمستمر، وأمافي النهي عن القيام قبل رؤية الإمام فليس فيه حديث يعارضه، بل مرسل ابن أبي ليلى يوافقه، فلذلك سوى فيه بين القيام المبتدأ والمستمر.
والله أعلم.

وأماإن خرج الإمام إلى المسجد، ورآه المأمومون قبل إقامة الصلاة، فلا خلاف انهم لا يقومون للصلاة برؤيته.

وخرج البيهقي من رواية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج: اخبرني موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج بعد النداء إلى المسجد، فإذا رأى أهل المجلس قليلا جلس حتى يرى منهم جماعة، ثم يصلي، وكان إذا خرج فرأى جماعة أقام الصلاة.

وقال: وحدثني موسى بن عقبة - أيضا -، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم الزرقي، عن علي بن أبي طالب، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –مثل هذا الحديث.

وخرجه أبو داود من رواية أبي عاصم، عن ابن جريج بالإسنادين - أيضا -، لكن لفظه: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلاً جلس، ثم صلى، وإذارآهم جماعة صلى.

وخرجه الإسماعيلي في ( ( مسند علي) ) من طريق أبي عاصم، عن ابن جريج بالإسنادين – أيضا -، ولفظ حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل المسجد فرأى جماعة أقام الصلاة، وإن رآهم قليلاً جلس.

وخرجه من طريق عبد المجيد - أيضا - بنحو رواية البيهقي، وفي آخره: يعني: أمر المؤذن، فأقام.

وأشار إلى أنه إنما يعرف بهذا الإسناد عن علي القيام للجنازة ثم الجلوس قال: ولعل هذا أن يكون [خبراً] آخر.
والله أعلم.