فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الأذان يوم الجمعة

باب
الأذان يوم الجمعة
[ قــ :885 ... غــ :912 ]
- حدثنا آدم: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء.

قال أبو عبد الله: الزوراء: موضع بالسوق بالمدينةِ.

الأذان يوم الجمعة قد ذكره الله تعالى في كتابه، وفي قوله { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد ذهب طائفةٌ من العلماء إلى وجوبه، وان قيل: أن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابن أبي موسى من أصحابنا، وقاله طائفةٌ من الشافعية –أيضاً.

وقد دل الحديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على المنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء.

ولهذا قال أكثرهم: أنه هو الأذان الذي يمنع البيع، ويوجب السعي إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواه.
وما ذكره ابن عبد البر عن طائفةٌ من أصحابهم، أن هذا الأذان الذي يمنع البيع، لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما أحدثه هشام بن عبد الملك، فقد بين ابن عبد البر أن هذا جهل من قائله، لعدم معرفته بالسنة والاثار.

فإن قال هذا الجاهل: أنه لم يكن أذان بالكلية في الجمعة، فقد باهت، ويكذبه قولُ الله عز وجل: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .

وإن زعم أن الأذان الذي كان في عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام، فقد أبطل، ويكذبه هذا الحديث واجتماع العلماء على ذلك.

وقوله في هذه الرواية: ( ( أوله إذا جلس الإمام على المنبر) ) ، معناه: أن هذا الأذان كان هو الأول، ثم تليه الإقامة، وتسمى: أذاناً، كما في الحديث المشهور: ( ( بين كل اذانين صلاةٌ) ) .

وخرّجه النسائي من روايةٍ المعتمر، عن أبيه، عن الزهري، ولفظه: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر يوم الجمعة، فاذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر، فلما زاد عثمان النداء الثالث صار هذا الثالث هو الأول، وصار الذي بين يدي الإمام هو الثاني.
وقد خَّرج أبو داود هذا الحديث من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن السائب، قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد، وأبي بكر وعمر.

ففي هذه الرواية: زيادة: أن هذا الأذان لم يكن في نفس المسجد، بل على بابه، بحيث يسمعه من كان في المسجد ومن كان خارج المسجد، ليترك أهل الأسواق البيع ويسرعوا إلى السعي إلى المسجد.

وقوله: ( ( فلما كان عثمان) ) –يريد: لما ولي عثمان – ( ( وكثر الناس في زمنه زاد النداء الثالث على الزوراء) ) ، وسماه: ثالثاً؛ لأن به صارت النداآت للجمعة ثلاثة، وإن كان هو أولها وقوعاً.

وخرّجه ابن ماجه، وعنده –بعد قوله: ( ( على دار في السوق، يقال لها:
الزوراء)
)
-: ( ( فاذا خَّرج أذن، وإذا نزل أقام) ) .

وهو من روايةٍ: ابن إسحاق، عن الزهري.

وروى الزهري، عن ابن المسيب: معنى حديثه عن السائب بن يزيد، غير أنه قال: ( ( فلما كان عثمان كثر الناس، فزاد الأذان الأول، واراد أن يتهيأ الناس للجمعة) ) .
خرّجه عبد الرزاق في ( ( كتابه) ) عن معمر، عنه.

وقد رواه إسماعيل بن يحيى التميمي – وهو ضعيف جداً -، عن مسعر، عن القاسم، عن ابن المسيب، عن أبي أيوب الأنصاري، قال ما كان الأذان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة إلا قدام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو على المنبر، فاذا نزل أقاموا الصلاة، فلما ولي عثمان أمر أن يؤذن على المنارة ليسمع الناس.

خرّجه الإسماعيلي في ( ( مسند مسعر) ) ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ.

قلت: والصحيح: المرسل.

وقد أنكر عطاءٍ الأذان الأول، وقال: إنما زاده الحجاج، قال: وإنما كان عثمان يدعو الناس دعاء.

خرّجه عبد الرزاق.

وقال عمرو بن دينار: إنما زاد عثمان الأذان بالمدينة، وأما مكة فأول من زاده الحجاج، قال: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حتى يجلس على المنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الجمعة.
خرّجه عبد الرزاق –أيضاً.

وروى مصعب بن سلام، عن هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر، قال: إنما كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد على المنبر أذن بلالٌ، فإذا فرغ النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خطبته اقام الصلاة، والاذان الأول بدعة.

وروى وكيع في ( ( كتابه) ) عن هشام بن الغاز، قال: سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة؟ فقالَ: قالَ ابن عمر: بدعةٌ، وكل بدعة ظلالة، وإن رآه الناس حسناً.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يكن في زمان النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أذانان: أذان حين يجلس على المنبر، وأذان حين تقام الصَّلاة.
قال: وهذا الأخير شيء أحدثه الناس بعد.

خرّجه ابن أبي حاتمٍ.

وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس، وإذا أذن المؤذن قام الإمام عى المنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر أذان وأقامة، وهذا الأذان الذي زادوه محدثٌ.

وقال الشافعي –فيما حكاه ابن عبد البر -: أحب إلي أن يكون الأذان يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر بين يديه، فإذا قعد أخذ المؤذن في الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، قال: وكان عطاءٍ ينكر أن يكون عثمان أحدث الأذان الثاني، وقال: إنما أحدثه معاوية.

قال الشافعي: وأيهما كان، فالأذان الذي كان على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو الذي ينهى الناس عنده عن البيع.

ولأصحابه في أذان الجمعة – على قولهم: الأذان سنة - وجهان:
أحدهما: أنه سنة –أيضاً.
أنه للجمعة خاصة فرض كفاية.

فعلى هذا: هل تسقط الكفاية بالأذان الأول، أو لا تسقط الا بالاذان بين يدي الإمام؟ على وجهين –أيضاً.

ومن أصحابنا من قال: يسقط الفرض بالأذان الأول، وفيه نظر.
والله أعلم.

وقال القاضي أبو يعلى: المستحب أن لا يؤذن الا أذان واحد، وهو بعد جلوس الإمام على المنبر، فإن أذن لها بعد الزوال وقبل جلوس الإمام جاز، ولم يكره.

ثم ذكر حديث السائب بن يزيد هذا.

ونقل حرب، عن إسحاق بن راهويه: أن الأذان الأول للجمعة محدث، احدثه عثمان، رأى أنه لا يسمعه إلا أن يزيد في المؤذنين، ليعلم الأبعدين ذلك، فصار سنة: لأن على الخلفاء النظر في مثل ذلك للناس.

وهذا يفهم منه أن ذلك راجع إلى رأي الإمام، فإن احتاج اليه لكثرة الناس فعله، وإلا فلا حاجة إليه.

* * *