فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الصلاة إلى العنزة

باب
الصلاة إلى العنزة
[ قــ :486 ... غــ :499 ]
- حدثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا عون بن أبي جحيفة، قال: سمعت أبي، قال: خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ، فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها.



[ قــ :487 ... غــ :500 ]
- حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، عن شعبة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال: سمعت انس بن مالك يقول: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام، ومعنا عكازة أو عصى أو عنزة، ومعنا إداوة، فإذا فرغ من حاجته ناولناه الإداوة.

( ( شاذان) ) ، هو: أسود بن عامر، وشاذان لقب له.

وحديث انس قد خرجه في ( ( كتاب الوضوء) ) ، في ( ( أبواب الاستنجاء) ) ، وذكرنا هناك فائدة حمل العنزة.

وظاهر تبويب البخاري يدل على التفريق بين العنزة والحربة، وأكثر العلماء فسروا العنزة بالحربة.

وقال أبو عبيد: العنزة عصا قدر نصف الرمح أو أكثر، لها سنان.
وقد خرج مسلم حديث ابن عمر الذي خرجه البخاري في الباب الماضي من حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له العنزة ويصلي إليها.

قال عبيد الله: وهي الحربة.

وقد فرق قوم بين العنزة والحربة، فعن الأصمعي قال: العنزة: ما دور نصله، والحربة: العريضة النصل.

وأشار بعضهم إلى عكس ذلك.

وصلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العنزة والحربة يستفاد منه: أن السترة يستحب أن يكون عرضها كعرض الرمح ونحوه، وطولها ذراع فما فوقه.

قال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ( ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي من مر وراء ذلك) ) .

وقال أنس وأبو هريرة بذلك في الطول.

وقال الأوزاعي: يجزئ السهم والسوط والسيف.

وقال عطاء: قدر مؤخرة الرحل يكون حالقها على وجه الأرض ذراعا.

وبه قال الثوري وأصحاب الرأي.

وقال مالك والشافعي: قدر عظم الذراع فصاعدا.

وقال قتادة: ذراعا وشبرا.

وقال الأوزاعي: يستر المصلي مثل مؤخرة الرحل، وبه قال الثوري.
انتهى.
وسئل أبو العالية عن السترة؟ فقال: طول الرحل، والعرض ما عرض أحب إلي.

وقال ابن عبد البر: قال مالك: أقل ما يجزئ المصلي في السترة غلظ الرمح، وكذلك السوط أن كان قائما، وارتفاعها: قدر عظم الذراع، هذا أقل ما يجزئ عنده، ولا تفسد عنده صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن كان ذلك مكروها له.

وقول الشافعي في ذلك كقول مالك.

وقال الثوري وأبو حنيفة: أقل السترة: قدر مؤخرة الرحل، ويكون ارتفاعها على ظهر الأرض ذراعا، وهو قول عطاء.

وقال قتادة: ذراع وشبر.

وقال الأوزاعي: قدر مؤخرة الرحل، ولم يحد ذراعا، ولا عظم ذراع، ولا غير ذلك، وقال: يجزئ السهم والسوط والسيف - يعني في الغلظ.
انتهى.

وفي ( ( تهذيب المدونة) ) للبرادعي المالكي: ويستره قدر مؤخرة الرحل، وهو نحو من عظم الذراع.
قال مالك: وإني لأحب أن يكون في جلة الرمح أو الحربة، وليس السوط بسترة.
انتهى.

وأما مذهب الشافعي وأصحابه، فيستحب عندهم أن يكون ارتفاع السترة قدر مؤخرة الرحل، واختلفوا في تقديرها، فالمشهور عندهم: إنها نحو ثلثي ذراع فصاعدا.
وقيل: ذراع، وأما عرضها فلا حد له عندهم، بل يكفي الغليظ والدقيق.

وأما مذهب أحمد وأصحابه، فنص أحمد على أن السترة قدر مؤخرة الرحل، وأن مؤخرة الرحل ذراع -: نقله عنه أكثر أصحابه.

ونقل ابن قاسم، عنه في قدر ما يستر المصلي، قال: قدر عظم الذراع من الأشياء، وهو كمؤخرة الرحل.

وهذا مثل قول من قدره بنحو ثلثي ذراع؛ لأن ذَلِكَ هُوَ طول عظم ذراع الإنسان.

وأما عرضها فلا حد له عند أصحابنا، إلا أنه كلما غلظ كان أولى.

وقال إسحاق: قدر مؤخرة الرحل ذراع.

وقد خرج البخاري حديث الصلاة إلى مؤخرة الرحل من حديث ابن عمر، وسيأتي قريبا - أن شاء الله.

وخرج مسلم من حديث سماك، عن موسى ابن طلحة، عن أبيه طلحة بن عبيد الله، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبالي بمن مر وراء ذلك) ) .

قال علي بن المديني: إسناده حسن.

وخرج مسلم - أيضا - من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلى؟ فقال: ( ( كمؤخرة الرحل) ) .
ومن حديث عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: ( ( إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل) ) .

وخرج الإمام أحمد من رواية عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن
جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( يستر الرجل في صلاته السهم، وإذا صلى أحدكم فليستتر بسهم) ) .

وفي رواية له ـ أيضا ـ بهذا الإسناد: ( ( ليستتر أحدكم في صلاته، ولو بسهم) ) .

وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.

وخرج الحاكم ـ أيضا ـ من حديث أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال:
( ( يجزئ من السترة مؤخرة الرحل، ولو بدقة شعرة) ) .

وزعم أنه صحيح على شرطهما، وليس كذلك؛ فإن هذا تفرد برفعة محمد بن القاسم الأسدي، عن ثور بن يزيد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن يزيد بن جابر، عن أبي هريرة.
والأسدي، ضعيف جدا.

قال الدارقطني: غيره لا يرفعه ـ يعني: أنه يقفه على أبي هريرة.

وسئل ابن معين عن حديث أبي هريرة الموقوف.
فقال: هو مستقيم الإسناد.

وروى مسعر، عن الوليد بن أبي مالك، عن أبي عبيد الله، عن أبي هريرة: يجزئ المصلي مثل مؤخرة الرحل في مثل جلة السوط.

كذا رواه الحفاظ عن مسعر، وهو المحفوظ ـ: قَالَ الدارقطني وغيره.

وأبو عُبَيْدِ الله، هُوَ: مُسْلِم بْن مشكم صاحب معاذ -: قاله يعقوب بن سفيان [وابن ناجية] .

والوليد ومسلم شاميان ثقتان.

ورواه أبو هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن مسعر ـ فرفعه.

خرجه الإسماعيلي.

وأبو هشام ليس بالقوي.

وسنذكر ـ أن شاء الله ـ حديث الصلاة إلى العصا.

وهذا كله مما استدل به على مالك في قوله: إن ما كان دون عرض الرمح لا تحصل به سنة الاستتار.
وعن أبي العالية، قال: يستر المصلي كحرف القلم.

خرجه وكيع.

وأما إذا لم يجد ما يصلي إليه، إلا ما كان دون مؤخرة الرحل في الانتصاب، مثل حجر أو عصا لا يستطيع نصبها، فهل يضعها بين يديه ويصلي إليها، أم لا؟ فِيهِ قولان:
أحدهما: أنه يصلي إلى ذَلِكَ إذا لَمْ يجد غيره، وحكاه ابن المنذر عَن سَعِيد بن جبير والأوزاعي وأحمد، وَهُوَ قَوْلِ إسحاق –أيضا -.

وروى ابن أبي شيبة في ( ( كتابه) ) عن الشعبي ونافع بن جبير نحوه.

وقال طائفة من الشافعية: إذا لم يجد شيئا شاخصا بسط مصلى.

وروي عن أبي سعيد: كنا نستتر بالسهم والحجر في الصلاة.

ذكره ابن المنذر.

والثاني: تكره الصلاة إلى ذلك.

قال ابن المنذر: كره النخعي الصلاة إلى عصا يعرضها.

وقال الثوري: الخط أحب إلي من هذه الحجارة التي في الطريق إذا لم يكن ذراعا.

وحكى بعض من صنف في مذهب سفيان: أن سفيان سئل: هل يجزئ الحبل الممدود المعترض؟ قال: لا يغني من السترة.

وروى حرب بإسناده، عن النخعي، أنه سئل عن الرجل يصلي يستتر بحبل معترضا؟ قال: لو كان الحبل بالطول كان أحب إلي.

وهذا يدل على أن الصلاة إلى المستطيل أولى من الصلاة إلى المعترض عنده؛ لأن المستطيل أشبه بالسترة القائمة.

والأكثرون، كالأوزاعي والثوري وأحمد يرون أن المعترض أولى؛ ولهذا رجحوا في الخط أن يكون معترضا.

ولو صلى وبين يديه ما يمنع الاستطراق من نهر أو نحوه، فهل هو سترة؟
قالت طائفة: هو سترة، منهم الحسن والأوزاعي.

وروي ذلك عن ابن عمر بإسناد ضعيف.

خرجه كله حرب الكرماني.

وقال: سألت إسحاق عن ذلك، فقال: إذا كان نهرا تجري فيه السفن فلا يصلي، وإن لم يكن تجري فيه فهو أسهل.

يشير إسحاق إلى أنه إذا كان تجري فيه السفن فهو طويق مسلوك، فلا يصلي إليه بدون سترة تحول بينه وبينه.

وأيضا؛ فالصلاة إلى النهر الجاري مما يلهي المصلي؛ فإنه مما يستحسن النظر إليه، وقد سبق كراهة الصلاة إلى ما يلهي.

وقال سفيان: إذا صلى على حائط قدر ثلاثة أذرع أو نحو ذلك فأرجو أن يكون سترة ما لم يكن طريقا.

وسئل النخعي عن الصلاة على السطح، والناس يمرون بين يديه؟ قال: يتأخر حتى لا يراهم.

ونقل الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز مثل قول النخعي.

قال الوليد: وقال مالك: إن كان ارتفاع السطح مثل مؤخرة الرحل فأكثر من ذلك فصل.

وأما الخط في الأرض إذا لم يجد ما يستتر به ففيه قولان:
أحدهما: أنه يحصل به الاستتار - أيضا -، وهو قول أبي هريرة، وعطاء، وسعيد بن جبير، والأوزاعي، والثوري، والشافعي في أحد قوليه - ورجحه كثير من أصحابه أو أكثرهم - وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور.

والثاني: أنه ليس بسترة، وهو قول مالك، والنخعي، والليث، وأبي حنيفة، والشافعي في الجديد.

وقال مالك: الخط باطل.

واستدل من قال بالخط بما روى إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد عمرو بن حريث العذري، عن جده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد عصا فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر بين يديه) ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان في ( ( صحيحه) ) .

وحكي عن ابن المديني أنه صححه.

وحكى ابن عبد البر عن أحمد وعلي بن المديني أنهما صححاه.

وأحمد لم يعرف عنه التصريح بصحته، إنما مذهبه العمل بالخط، وقد يكون اعتمد على الآثار الموقوفة لا على الحديث المرفوع.

فإنه قال في رواية ابن القاسم: الحديث في الخط ضعيف.

وكان الشافعي يقول بالخط، ثم توقف فيه، وقال: إلا أن يكون فيه حديث يثبت.

وهذا يدل على أنه توقف في ثبوته.

وقال ابن عيينة لم نجد شيئا نشد به هذا الحديث، ولم يجئ إلا من هذا الوجه.

وذكر أن هذا الشيخ الذي روى عنه إسماعيل بن أمية سئل عنه فخلط فيه.

ذكر ذلك أبو داود في ( ( سننه) ) بإسناده عن ابن عيينة.

وقد اختلف على إسماعيل في تسمية شيخه، وفيمن رواه عنه شيخه:
فقيل: عنه كما ذكرنا.

وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث.

وقيل: عنه، عن أبي عمرو بن حريث.

وأما الاختلاف فيمن رواه عنه شيخه.

فقيل: عن إسماعيل، عن شيخه هذا - على اختلاف في تسميته كما تقدم -، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن جده، عن أبي هريرة.

وقيل: عنه، عن أبيه، عن أبي هريرة.

وقيل: عنه، عن شيخه هذا، عن أبي هريرة - بغير واسطة بينهما.

وقال أبو زرعة: الصحيح: عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة.

ونقل الغلابي في ( ( تاريخه) ) عن يحيى بن معين، أنه قال: الصحيح: إسماعيل بن أمية، عن جده حريث - وهو: أبو أمية، وهو من عذرة.
قال: ومن قال فيه: عمرو بن حريث فقد أخطأ.

وهذا الكلام يفيد شيئين:
أحدهما: أن إسماعيل بن أمية هذا هو ابن حريث، وهو يروي هذا الحديث عن جده حريث العذري، عن أبي هريرة.

وكذا رواه عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل، عن حريث بن عمار عن أبي هريرة.

والثاني: أن إسماعيل هذا ليس هو ابن أمية القرشي المشهور، بل هو: ابن أمية بن حريث العذري.

وهذا غريب جدا، ولا أعلم أحدا ذكر إسماعيل هذا، وهذا الحديث قد رواه الأعيان عن إسماعيل، منهم: الثوري وابن جريج وابن عيينة، وإنما يروي هؤلاء عن إسماعيل بن أمية الأموي المكي الثقة المشهور، ويمتنع أن يوري هؤلاء كلهم عن رجل لا يعرف، ولا يذكر اسمه في تاريخ ولا غيره.

ولكن هذا الرجل الذي روى عنه إسماعيل وأبوه وجده قد قيل: إنهم مجهولون.

وقد اختلف - أيضا - في رفع هذا الحديث ووقفه على أبي هريرة، لكن الأكثرون رفعوه.

وقال الدارقطني: رفعه عن إسماعيل بن أمية صحيح.

وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر:
روى وكيع في ( ( كتابه) ) ، عن أبي مالك، عن أيوب بن موسى، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: إذا صلى أحدكم فلم يجد ما يستره فليخط خطا.
وقد روي عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن أبي سلمة - مرفوعا.

وقيل: عن الأوزاعي، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفا.

قال الدارقطني: والحديث لا يثبت.

قلت: وقد روي في الخط بين يدي المصلي حديث مرفوع من حديث انس.

خرجه حمزة السهمي في ( ( تاريخ إستراباذ) ) .

وإسناده مجهول ساقط بمرة.

واختلف القائلون بالخط: هل يخط طولا، أو عرضا كالهلال؟ على قولين:
قال عطاء والثوري وأحمد وإسحاق: يكون عرضا.

وقال عمرو بن قيس وغيره: يكون طولا.

وأجازه أحمد على كل حال، ولكن المعترض عنده أولى،