فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب الخطبة على المنبر

باب
الخطبة على المنبر
وقال أنس: خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر.

حديث أنس هذا: الظاهر أنه يريد به حديثه في دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاستسقاء يوم الجمعة على المنبر، وسيأتي في مواضع أخر من الكتاب – إن شاء الله سبحانه وتعالى.

فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:

[ قــ :890 ... غــ :917 ]
- نا قتيبة: نا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري الاسكندراني: نا أبو حازم بن دينار، أن رجالاً أتوا سهل بن سعدٍ الساعدي، وقد امتروا في المنبر: مم عوده؟ فسألوه عن ذَلِكَ، فقالَ: إني والله: لأعرف مما هوَ، ولقد رأيته أول يوم وضع، وأول يوم جلس عليهِ رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أرسل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى فلانة –امرأة قد سماها سهل -: ( ( مري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلمت الناس) ) ، فأمرته، فعملها من طرفاء الغابة، ثُمَّ جاء بها، فارسلت إلى
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فامر بها فوضعت هاهنا، ثُمَّ رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليها، وكبر وهو عليها، ثُمَّ ركع وهو عليها، ثُمَّ نزل القهقري فسجد في أصل المنبر ثُمَّ عاد، فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ( ( ياأيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي) ) .

قد خرّجه فيما تقدم من حديث ابن عيينة عن أبي حازم، وهذا السياق أتم.

وفي روايةٍ ابن عيينة: ( ( من أثل الغابة) ) ، و ( ( الأثل) ) و ( ( الطرفاء) ) : يشبه بعضه بعضاً.
و ( ( الغابة) ) : خارج المدينة مشهورة.

وخرّجه البخاري –أيضاً - مختصراً في ( ( أبواب المساجد) ) ، في ( ( باب: الاستعانة بالصناع والنجار في عمل المسجد والمنبر) ) من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، وذكرنا الاختلاف في رسم الذي عمل المنبر.

وخرّجه مسلم من حديث عبد العزيز بتمامه، وفي حديثه: أن المنبر كان ثلاث درجاتٍ.

وقد روي هذا الحديث عن سهل من وجه أخر، وفيه: حنين الخشبة.

خرّجه ابن سعدٍ في ( ( طبقاته) ) : ثنا أبو بكر بن أبي أويس: حدثني سليمان بن بلال، عن سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس، عن عباسٍ بن سهل بن سعدٍ، عن أبيه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم يوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين –قال: أراه كانت من دومة كانت في مصلاه -، فكأن يتكئ عليها، فقال له أصحابه: يا رسول الله، إن الناس قد كثروا، فلو أتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت نراك؟ فقال: ( ( ما شئتم) ) .

قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، فذهبت أنا وذلك النجار إلى الخانقين، فقطعنا هذا المنبر من أثله.
قال: فقام عليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحنت الخشبة، فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ( ( ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟) ) فأقبل الناس وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتاها، فوضع يده عليها، فسكنت، فامر بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدفنت تحت منبره – أو جعلت في السقف.

ورواه أبو إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر ابن أبي أويس، به.

وهذا إسنادٌ جيد، ورجاله كلهم يخرج لهم البخاري، الا سعدٍ بن سعيدٍ بن قيس –وهو: اخو يحيى بن سعيدٍ -؛ فإن البخاري استشهد به، وخَّرج له مسلم، وتكلم بعضهم في حفظه.





[ قــ :891 ... غــ :918 ]
- نا سعيدٍ بن أبي مريم: أنا محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرني يحيى بن سعيدٍ: أخبرني ابن أنس: سمع جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم اليه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فوضع يده
عليه.

قال سليمان، عن يحيى: أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس: سمع جابر بن
عبد الله.

روايةٍ سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيدٍ: قد أسندها البخاري في ( ( أعلام النبوة) ) .

والمقصود من ذكرها هاهنا: أن فيها تسمية ابن أنس الذي ابهم في روايةٍ محمد بن جعفر، وأنه حفص بن عبيد الله بن أنس.

والظاهر: أن البخاري أبهمه في روايةٍ محمد بن جعفر، لأن محمد بن جعفر سماه: ( ( عبيد الله بن حفص بن أنس) ) ، ووهم في ذلك -: قاله الدارقطني.

وقد خرّجه الإسماعيلي من طريق سعيدٍ بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن حفص بن عبيد الله بن أنس على الصواب.

وخرّجه من طريق يعقوب بن محمد: نا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق: ثنا
يحيى بن سعيدٍ: حدثني عبيد الله بن حفص بن أنس.
قال يعقوب: وإنما هو: حفص بن عبيد الله، ولكن هكذا ثنا.

وفي روايةٍ البخاري: التصريح بسماع حفص لهذا الحديث من جابر، وهذا يرد ما قاله أبو حاتم الرازي: إنه لا يدري: هل سمع من جابر، أم لا؟ قال: ولا يثبت له السماع إلا من جده أنس.

ورواه سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيدٍ بن المسيب، عن جابر، ووهم في قوله: ( ( سعيدٍ بن المسيب) ) -: قاله أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني.

و ( ( العشار) ) : النوق الحوامل، واحدتها: عشراء، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، فتسمى بذلك حتى تضع، وبعد أن تضع.

وقد خَّرج البخاري هذا الحديث في ( ( الأعلام) ) من روايةٍ عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر –نحوه.





[ قــ :89 ... غــ :919 ]
- نا آدم: نا ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: سمعت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر: ((من جاء إلى الجمعة فلغتسل)) .

والمقصود من هذا: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على المنبر، ويعلم الناس دينهم
عليه.
ولو جمعت الأحاديث التي فيها ذكر خطب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر وكلامه عليه لكانت كثيرة جدا، وكذلك احاديث اتخاذ المنبر كثيرةٌ –أيضاً.

وقد خَّرج منها البخاري في ((دلائل النبوة)) من حديث ابن عمر، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى الجذع، فلما أتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه.

خرّجه عن محمد بن المثنى: نا يحيى بن كثير أبو غسان: نا أبو حفص –واسمه: عمر بن العلاء، أخو أبي عمرو بن العلاء -، قال: سمعت نافعاً، عن ابن عمر –
فذكره.

ثم قال:
وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر: أنا معاذ بن العلاء، عن نافع، عن ابن عمر – بهذا.

ورواه أبو عاصم، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ?.
انتهى.

وعبد الحميد هذا، قيل: أنه عبد بن حميد.

وقد خرّجه الترمذي عن أبي حفص الفلاس، عن عثمان بن عمر ويحيى ابن كثير –كلاهما -، عن معاذ بن العلاء، عن نافع.

وخرّجه البيهقي من روايةٍ عباسٍ الدوري، عن عثمان بن عمر، عن معاذ.

وكذا رواه غير واحدٍ عن عثمان بن عمر.

وخرّجه ابن حبان في ((صحيحه)) من روايةٍ أبي عبيدة الحداد، عن معاذ بن العلاء –أيضاً.

وكذا رواه وكيع ويحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان، عن معاذ بن العلاء.

وليس لأبي حفص عمر بن العلاء ذكر في غير روايةٍ البخاري المسندة، وقد قيل أنها وهم من محمد بن المثنى.
ولكن خرّجه أبو أحمد الحاكم من روايةٍ عبد الله بن رجاء الغذاني، عن أبي حفص بن العلاء –أيضاً.

وقد رواه يحيى بن سعيدٍ ومعتمر بن سليمان عن معاذ بن العلاء، وكنياه: ((أبا غسان)) .

قال أبو أحمد الحاكم: والله أعلم، أهما أخوان: أحدهما يسمى: عمر، والآخر: معاذ، وحدثا بحديث واحد؟ أو أحدهما محفوظ، والآخر غير محفوظ؟
وذكر: أن معاذ بن العلاء أخا أبي عمرو مشهورٌ، وأن أبا حفص لا يعرفه إلا في هاتين الروايتين.
قال: والله أعلم بصحة ذلك.
انتهى.

والصحيح في هذا الحديث: معاذ بن العلاء -: قاله أحمد والدارقطني وغيرهما.

وأما روايةٍ أبي عاصم، عن ابن أبي رواد التي علقها البخاري، فخرجها أبو
داود، ولفظ حديثه: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بدن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبراً يارسول الله، يجمع عظامك، أو يحمل عظامك؟ قالَ: ((بلى)) ، فاتخذ لهُ منبراً
مرقاتين.

ولم يزد على هذا.

وخرّجه البيهقي، وزاد: ((فاتخذ له مرقاتين - أو ثلاثة -، فجلس عليها.

قال: فصعد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحن جذع في المسجد كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب يستند
إليه، فنزل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاحتضنه، فقال شيئاً لا أدري ما هو؟ ثم صعد المنبر، وكانت اساطين المسجد جذوعاً، وسقائفه جرائد)) .

وعنده - في أوله -: ((لما أسن وثقل)) .

ورواه عامر بن مدرك، عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن تميم الداري –بنحوه، وفي حديثه: ((فصنع له منبراً مرقاتين، والثالثة مجلس النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائماً، فإذا عي قعد فاستراح، ثم قام فخطب –ووذكر الحديث.

ورواية أبي عاصم أصح.
ومن أغرب سياقات أحاديث اتخاذ المنبر: ما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جذع، إذ كان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتسمعهم؟ قالَ:
((نعم)) ، فصنع له ثلاث درجات التي على المنبر –ثم ذكر حنينه إليه وسكونه بمسحه بيده -، ثم قال: وكان إذا صلى صلى إليه، فلما هدم المسجد وغير اخذ ذلك الجذع أبي بن كعب، فكأن عنده حتى بلي وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً.

خرّجه الإمام أحمد.

وفي روايةٍ له: أن القائل: ((فلما هدم المسجد)) –إلى اخره، هو الطفيل بن أبي بن كعب.

وخرّجه ابن ماجه –بمعناه.

وخرّجه عبد الله بن الإمام أحمد في ((زيادات المسند)) ، وعنده: أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((أن تشأ غرستك في الجنة فياكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت حطباً)) فاختار الآخرة على الدنيا، فلما قبض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إلى أبي، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة.
وقد خرّجه الطبراني بنحو هذه الزيادة، بإسناد ضعيف، عن عائشة، وفيه: أن المنبر كان أربع مراقٍ.
وفي آخره: أن الجذع غار فذهبَ.

وفي ((مسند البزار)) ، بإسناد لا يصح، عن [ ... ] معاذ، عن النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالَ: ((إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وان اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم)) .

وقد أنكره أبو حاتم الرازي وغيره.

وقد قالَ بعض السلف: إن إبراهيم –عليهِ السلام – هوَ أول من خطب على المنابر.

والصحيح: أن المنبر كانَ ثلاث مراق، ولم يزل على ذَلِكَ في عهد خلفائه الراشدين، ثُمَّ زاد فيهِ معاوية.

وقد عد طائفةٌ من العلماء: تطويل المنابر من البدع المحدثة، منهم: ابن بطة من أصحابنا وغيره.

وقد روي في حديث مرفوع: أن ذَلِكَ من أشراط الساعة، ولا يثبت إسناده.

وكره بعض الشافعية المنبر الكبير جداً، إذا كانَ يضيق به المسجد.


* * *