فهرس الكتاب

فتح البارى لابن رجب - باب رفع الصوت بالنداء

باب
رفع الصوت بالنداء
وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانا سمحاً، وإلا فاعتزلنا.

قال وكيع: ثنا سفيان، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي، أن مؤذنا أذن فطرب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذن أذاناً سمحاً، وإلا فاعتزلنا.

وخرج الدارقطني هذا مرفوعاً من حديث ابن عباس، وإسناده لا يصح.

وروي عن ابن عمر، أنه قال لمؤذن: إني أبغضك في الله؛ إنك تبغي في أذانك.

يشير إلى أنه يتجاوز الحد المشروع بتمطيطه والتطريب فيه.

وفي رواية: أنه قال: إنك تختال في أذانك.

كأنه يشير إلى التفخيم في صوته والتشادق والتكبر.
وقال أحمد في التطريب في الأذان: هو محدث.

يعني: انه لم يكن على عهد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

والقول في الأذان بالتطريب كالقول في قراءة القرآن بالتلحين.
وكرهه مالك والشافعي - أيضا.

وقال إسحاق: هو بدعة -: نقله عنه إسحاق بن منصور.

ونقل عنه حرب، قال: التسميح احب إلي، فإن كان يؤذن باجر فإني أكرهه - يعني: التطريب -، وإن من كان بغير أجر، وكان أنشط للعامة فلا بأس.

وقد يستدل لذلك بقول ابن عمر: إني أبغضك في الله؛ إنك تحسن صوتك - يعني: في الأذان -؛ لأجل الدارهم.

وسنذكره فيما بعد – إن شاء الله.

قال البخاري - رحمه الله -:
[ قــ :593 ... غــ :609 ]
- ثنا عبد الله بن يوسف: أبنا مالك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة الأنصاري ثم المازني، عن أبيه، أنه أخبره، أن أبا سعيد الخدري قال له: إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فإذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس [ولا شيء] إلا شهد له يوم القيامة".

قال ابو سعيد: سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

كذا روى مالك هذا الحديث.

ورواه ابن عيينة، عن شيخه، فقال: عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة.

قال الشافعي: أصاب مالك في اسم الرجل، وأخطأ ابن عيينة فيما أرى.

وذكر الإمام أحمد هذا المعنى - أيضا.

وقد تقدم بهذا الإسناد في أوائل " كتاب الإيمان" حديث: " يوشك [أن يكون] خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال" - الحديث، وذكرنا الاختلاف في إسناده على مالك، وأنه سماه بعضهم عنه كما سماه ابن عيينة، والصحيح خلافه.

وروى هذا الحديث عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، كما رواه مالك، إلا أنه لم يرفعه.

وما تضمنه حديث أبي سعيد من سكنى البادية بالغنم فقد سبق القول فيه مستوفى في " كتاب الإيمان" عند الكلام على حديثه المشار اليه.

وما تضمنه من الأذان للصلاة بالبادية، فيأتي بسط القول فيه عند تبويب البخاري على " الأذان في السفر" - إن شاء الله.

أماالأمر برفع الصوت في الأذان، فإنما هو من قول أبي سعيد، واستدل له بقول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يسمع صوت المؤذن" –الحديث.

كذا رواه ابن عيينة صريحاً، وكذا ما قبله كله من قول أبي سعيد.

وقد روي نحوه عن أبي هريرة.

روى وكيع وأبو نعيم في " كتأبيهما": ثنا أبو العنيس سعيد بن كثير، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ارفع صوتك بالأذان؛ فإنه يشهد لك كل شيء سمعك.

لفظ وكيع، وخرجه عنه ابن شيبة.

ولفظ أبي نعيم، قال: من أذن فليسمع؛ فإنه يشهد له يوم القيامة ما انتهى إليه صوته من سمعه.

وخرجه ابن أبي شيبة بإسناده، عن الزبير بن عدي، عن رجل، عن ابن عمر، انه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان.
قال: نعم العمل عملك؛ يشهد لك كل شيء سمعك.

ورى وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: المؤذن يشهد له كل رطب ويابس سمعه.

ورواه غيره عن الأعمش، عن مجاهد - مرسلاً0، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

قال الدارقطني: هو أشبه.

قال: ورواه عمار بن رزيق، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.

قال: ورواه محمد بن عبيد الطنافسي وعمرو بن عبد الغفار، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي هريرة – مرفوعاً.

وقد خرجه الإمام أحمد من رواية عمار بن رزيق كما تقدم، ومن رواية زائدة عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عمر - مرفوعاً.

ورواه عبد الله بن بشر، عن الأعمش كرواية عمار بن رزيق.
وروي عن إسماعيل بن زكريا، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس - مرفوعاً.

قال الدارقطني في موضع من " علله": الصحيح: الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - مرفوعاً.

وهذا يخالف قوله في مسند أبي هريرة: إن إرساله أصح.

ورواه إبراهيم بن طهمان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر - موقوفاً.

ورواه حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة - مرفوعاً.

وروي مرفوعاً من وجه آخر: من رواية شعبة، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبي يحيى، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: " المؤذن يغفر له مد صوته، ويشهد له كل رطب ويابس".

خرجه أبو داود والنسائي.

وخرجه ابن ماجه، وعنده: " ويسغفر له كل رطب ويابس".

وخرجه ابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما".

وقال ابن حبان: ابو يحيى هو سمعان مولى أسلم، [حدثني] أبي يحيى.

وموسى بن أبي عثمان كوفي، أثنى عليه سفيان، ووصفه بالخير.
وقال أبو حاتم: شيخ.

وله طريق آخر: من رواية منصور بن المعتمر؛ واختلف عليه:
فرواه وهيب، عن منصور، عن يحيى بن عباد أبي هبيرة، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وسأل وهيب منصوراً، عن عطاء هذا، فقال: هو رجل.
قال: وليس ابن أبي رباح ولا ابن يسار.

وكذا رواه زائدة وفضيل بن عياض، عن منصور، عن ابن عباد، عن عطاء - رجل من أهل المدينة -، عن أبي هريرة - موقوفاً غير موفوعٍ.

وكذا رواه جرير، عن منصور، عن يحيى بن عباد، عن رجل من أهل المدينة، عن أبي هريرة - موقوفاً.

ورواه بعد الرزاق، عن معمر، عن منصور، عن عباد بن أنس، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وخرجه عنه الإمامان: أحمد وإسحاق في " مسنديهما".

قال أبو زرعة الرازي والدارقطني: حديث معمر وهم، والصحيح: حديث منصور.

قلت: ويشهد لقول منصور: أن أبا أسامة رواه عن الحسن بن الحكم، عن أبي هبيرة يحيى بن عباد، عن شيخ من الأنصار، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وخرجه عنه ابن أبي شيبة في " كتابه".

قال الدارقطني: الصحيح: قول زائدة وفضيل بن عياض وجرير، عن منصور.

يعين: الموقوف.
والله اعلم.

وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث قتادة، عن أبي إسحاق الكوفي، عن البراء بن عازب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " المؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه".
وأبو إسحاق هذا، قال أحمد: ما أظنه السبيعي.

وذكر الترمذي في " العلل" أنه لا يعرف لقتادة سماعاً من أبي إسحاق الكوفي.

وقوله: " لا يسمع مدى صوت المؤذن": المدى: الغاية حيث ينتهي الصوت.
وقوله: " كل رطب ويابس" يدل على أن الجمادات سواء كانت رطبة أو يابسة فإن لها سماعاً في الدنيا وشهادة في الآخرة.

فدل ذلك على صحة أشياء مختلف في بعضها:
منها: إدراك الجمادات ونطقها.

وقد أثبت ذلك جمهور السلف، سواء كانت رطبة أو يابسة، كما دل عليه قوله: { يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ، وقوله: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ? [الإسراء: 44] .

وخص الحسن التسبيح بما كان رطباً قبل ان ييبس.

والجمهور على خلافه.

وأمامن قال: تسبيحها: دلالاتها على صانعها بلسان الحال، فقول ضعيف جداً، والأدلة الكثيرة تبطله.

ومنها: أن الجمادات [000] يوم القيامة.

وقد دل على ذلك حديث عبد الله بن أنيس في سؤال الحجر والعود.

والحديث الصحيح: أن الغال يأتي بما غل من بقر وغنم وصامت ورقاع تخفق.
وأن مانع الزكاة يجعل له ماله صفائح يكوى به.

كما دل عليه قوله: { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] .

وأماقوله في الحديث الآخر: " يغفر له مدى صوته".
فقيل: معناه: لو كانت ذنوبه أجسأمالغفر له منها قدر ما يملأ المسافة التي بينه وبين منتهى صوته.

وقيل: معناه: تمد له الرحمة بقدر مد الأذان.

وقال الخطأبي: معناه أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت.

ورفع الصوت بالأذان مستحب؛ ولهذا قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن زيد لما رأى الأذان في منامه: " ألقه على بلال؛ فإنه اندى صوتاً منك".

خرجه أبو داود وغيره.

والمؤذن، أماأن يؤذن لنفسه، أو يؤذن للجماعة؛ فإن أذن للجماعة فلا يحصل الإتيان بالأذان المشروع في حقهم حتى يسمعهم.

قال الإمام أحمد في رواية حنبل، في رجل ضعيف الصوت، لا يرفع صوته ولا يخرج من المسجد، فإذا كان يسمع اهل المسجد والجيران فلا بأس.

قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا، أنه إذا لم يسمع الجيران لم يصب سنة الأذان؛ لأن القصد ومن الأذان الإعلام، فإذا لم يسمع الجيران لم يوجد المقصود.

فأماكمال السنة فهو: أن يرفع صوته نهاية جهده، ولا يزيد على ذلك حتى يخشى على نفسه ضرراً.

قال أحمد في رواية حنبل: يرفع صوته ما استطاع.

وقال الميموني: رأيت أحمد وهو يؤذن، صوتا بين الصوتين، وكان إلى خفض الصوت أقرب.

قال القاضي: ظاهر هذا، أنه لا يرفع صوته رفعاً يخرجه عن طبعه.

ومن الأصحاب من جعل هذه رواية ثانية؛ بأن التوسط في رفع الصوت أفضل.

وفي " المراسيل" لأبي داود، عن ابن سيرين، أن بلالاً جعل اصبعيه في أذنيه في بعض أذانه، أو في إقامته، بصوت ليس بالرفيع ولا بالوضيع.

ومتى خافت ببعضه فهو كمخافتته بكله عند أصحابنا.

وإن كان يؤذن لنفسه فله أن يسر به؛ لأنه لا يعلم غيره.

وقال أصحاب الشافعي: يستحب له أن يرفع صوته ما أمكنه، بحيث لا يلحقه ضرر، فإن أسر به لم يصح على الصحيح عندهم.

ولهم وجه: أنه يصح، كما لو أسر بالقراءة في صلاة الجهر.
ووجه ثالث: يصح إن سر بعضه خاصة، ونص عليه الشافعي في [مكان] .

قال الماوردي منهم: لو سمع واحداً من الجماعة أجزأه؛ لأن الجماعة تحصل بهما.

وأمامن يؤذن لنفسه، فيجزئه أن يسمع نفسه على الصحيح عندهم.
وقيل: يشترط إسماع من عنده.
والمذهب: الأول.

ومتى رفع صوته رفعاً يخشى على نفسه الضرر منه كره.

وقد قال عمر لأبي محذورة لما سمعه يؤذن بمكة: أماخشيت أن ينشق مريطاؤك؟
ذكره أبو عبيد وغيره.

والمريطاء: بالمد والقصر.

قال أبو عبيد: والمحفوظ: المد.
قال: وهو قول الأصمعي.
قال: وقال الأحمر: هي مقصورة.
قال: وقال أبو عمرو: تمد وتقصر.

وهي ما بين السرة والعانة -: قاله أبو عبيد والأكثرون.

وقيل: ما بين الصدر والعانة.