فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ النُّحْلِ

رقم الحديث 1447 قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا.
فَعَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ.
فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ.
وَصَاحِبُ الْمَالِ غَائِبٌ.
قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ، حَتَّى يُحْسَبَ مَعَ الْمَالِ إِذَا اقْتَسَمَاهُ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِلْمُتَقَارِضَيْنِ أَنْ يَتَحَاسَبَا، وَيَتَفَاصَلَا وَالْمَالُ غَائِبٌ عَنْهُمَا، حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالُ فَيَسْتَوْفِي صَاحِبُ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا.
فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً.
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
فَطَلَبَهُ غُرَمَاؤُهُ، فَأَدْرَكُوهُ بِبَلَدٍ غَائِبٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ.
وَفِي يَدَيْهِ عَرْضٌ مُرَبَّحٌ بَيِّنٌ فَضْلُهُ.
فَأَرَادُوا أَنْ يُبَاعَ لَهُمُ الْعَرْضُ فَيَأْخُذُوا حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ، قَالَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ شَيْءٌ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ الْمَالِ فَيَأْخُذَ مَالَهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا.
فَتَجَرَ فِيهِ فَرَبِحَ.
ثُمَّ عَزَلَ رَأْسَ الْمَالِ، وَقَسَمَ الرِّبْحَ.
فَأَخَذَ حِصَّتَهُ، وَطَرَحَ حِصَّةَ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْمَالِ.
بِحَضْرَةِ شُهَدَاءَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ: لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّبْحِ إِلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ شَيْئًا رَدَّهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَاحِبُ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ، فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ حِصَّتُكَ مِنَ الرِّبْحِ، وَقَدْ أَخَذْتُ لِنَفْسِي مِثْلَهُ، وَرَأْسُ مَالِكَ وَافِرٌ عِنْدِي، قَالَ مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالُ كُلُّهُ، فَيُحَاسِبَهُ حَتَّى يَحْصُلَ رَأْسُ الْمَالِ.
وَيَعْلَمَ أَنَّهُ وَافِرٌ.
وَيَصِلَ إِلَيْهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَرُدُّ إِلَيْهِ الْمَالَ إِنْ شَاءَ، أَوْ يَحْبِسُهُ.
وَإِنَّمَا يَجِبُ حُضُورُ الْمَالِ، مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ قَدْ نَقَصَ فِيهِ.
فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ لَا يُنْزَعَ مِنْهُ وَأَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِهِ.



( المحاسبة في القراض)

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًا فعمل فيه فربح فأراد أن يأخذ حصته من الربح وصاحب المال غائب قال: لا ينبغي له أن يأخذ شيئًا إلا بحضرة صاحب المال وإن أخذ شيئًا فهو ضامن له حتى يحسب مع المال إذا اقتسماه) لأنه لا يجوز اتفاقًا أن يكون أحد مقاسمًا لنفسه عن نفسه ولا آخذًا لها ومعطيًا لها.

( قال مالك: لا يجوز للمتقارضين أن يتحاسبا ويتفاصلا والمال غائب عنهما حتى يحضر المال فيستوفي صاحب المال رأس ماله) عينًا أو سلعة إن اتفقا على ذلك حكاه ابن حبيب عن مالك يريد سلعة يجوز سلم رأس المال فيها ( ثم يقتسمان الربح على شرطهما) فيه.

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًا فاشترى به سلعة وقد كان عليه دين فطلبه غرماؤه فأدركوه ببلد غائب عن صاحب المال وفي يديه عرض مربح بين) ظاهر ( فضله) زيادته ( فأرادوا أن يباع لهم العرض فيأخذوا حصته من الربح فقال: لا يؤخذ من ربح القراض شيء حتى يحضر صاحب المال فيأخذ ماله ثم يقتسمان الربح على شرطهما) لأن العامل لا يملك حصته من الربح إلا بعد المقاسمة.

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًا فتجر فيه فربح ثم عزل رأس المال وقسم الربح فأخذ حصته وطرح) ألقى ( حصة صاحب المال في المال بحضرة شهود) وفي نسخة شهداء ( أشهدهم على ذلك قال: لا تجوز قسمة الربح إلا بحضرة صاحب المال وإن كان أخذ شيئًا ردّه حتى يستوفي صاحب المال رأس ماله ثم يقتسمان ما بقي بينهما من الربح على شرطهما) ولا ينفعه الإشهاد لأنه أشهد على ما لا يجوز له فعله فإن تجر فيه فحصة رب المال في ذلك الربح وهو قطعة من مال القراض.

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًَا فعمل فيه فجاءه فقال: هذه حصتك من الربح وقد أخذت لنفسي مثله ورأس مالك وافر عندي قال: لا أحب ذلك حتى يحضر المال كله فيحاسبه حتى يحصل رأس المال ويعلم أنه وافر) أي كامل ( ويصل إليه ثم يقتسمان الربح بينهما ثم يرد إليه المال) إن شاء ( أو يحبسه) يمنعه عنه ( وإنما يجب حضور المال مخافة أن يكون العامل قد نقص فيه فهو يحب أن لا ينزع منه وأن يقره في يده) يبقيه عنده لئلا يشاع عنه أنه نقص مال القراض فينفر من معاملته.



رقم الحديث 1447 حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَبَاهُ بَشِيرًا أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَارْتَجِعْهُ.


( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد الثقات الأثبات ( وعن محمد بن النعمان بن بشير) الأنصاري أبي سعيد التابعي الثقة ( أنهما حدثاه) أي ابن شهاب ( عن النعمان بن بشير) الخزرجي سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة صحابي وأبواه صحابيان هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد جعله من مسند بشير فشذ بذلك والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان ( أنه قال إن أباه بشير) بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس بضم الجيم وخفة اللام آخره مهملة الخزرجي البدري وشهد غيرها ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة ويقال إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار وقيل عاش إلى خلافة عمر وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة وعامر الشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم ( أتى به) ولمسلم من طريق الشعبي عن النعمان انطلق أبي يحملني ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولابن حبان فأخذ بيدي وأنا غلام وجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لضعف سنه أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل ( فقال إني نحلت) بفتح النون المهملة وإسكان اللام أي أعطيت ( ابني هذا) النعمان ( غلاما) لم يسم ( كان لي) وفي الصحيحين عن الشعبي عن النعمان أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال إني أعطيت ابني من عمرة عطية ولمسلم والنسائي سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة أي مطلها ولابن حبان حولين وجمع بأن المدة أزيد من سنة فجبر الكسر تارة وألغى أخرى قال ثم بدا له فوهبها لي فقالت له لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية للشيخين فقال ألك ولد سواه قال نعم قال ( أكل ولدك) بهمزة الاستفهام الاستخباري والنصب بقوله ( نحلته) أعطيته ( مثل هذا) ولمسلم أكلهم وهبت له مثل هذا ( قال لا) وفي رواية ابن القاسم في الموطأ للدارقطني عن مالك قال لا والله يا رسول الله وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري أما يونس ومعمر فقالا أكل بنيك وأما الليث وابن عيينة فقالا أكل ولدك قال الحافظ ولا منافاة بينهما لأن لفظ ولد يشمل الذكور والإناث وأما لفظ بنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب ولم يذكر ابن سعد لبشير ولدا غير النعمان وذكر له بنتا اسمها أبية بموحدة تصغير أبي ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجعه) بهمزة وصل مجزوم أمرا زاد في رواية للبخاري فرجع فرد عطيته أي الغلام وهو ما في أكثر الروايات عن النعمان ومثله في حديث جابر في مسلم وفي رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي أن النعمان خطب بالكوفة فقال إن والدي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل ما هو لي وأنها قالت أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قوله لا أشهد على جور وجمع ابن حبان بالحمل على واقعتين إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت عبدا قال الحافظ ولا بأس بجمعه لكن يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته حكم المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهده على العطية الثانية بعد قوله في الأولى له لا أشهد على جور وجوز ابن حبان أن بشيرا ظن نسخ الحكم وقال غيره إنه حمل الأمر على كراهة التنزيه أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة غالبا أكثر من ثمن العبد قال وظهر لي وجه في الجمع سليم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا وهبه الحديقة تطييبا لخاطرها ثم بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة به لكن خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت أشهد على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تريد تثبيت العطية وأمن رجوعه فيها ويكون مجيئه لإشهاده صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة وغاية ما فيها أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض أو كان النعمان يقص تارة بعض القصة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه وفي رواية للشيخين قال لا تشهدني على جور وفي أخرى لا أشهد على جور ولمسلم فقال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور وله أيضًا أشهد على هذا غيري وفي حديث جابر فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق وللنسائي وكره أن يشهد له ولمسلم اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر ولأحمد إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم فلا تشهدني على جور أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال نعم قال فلا إذا ولأبي داود إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك وللنسائي ألا سويت بينهم وله ولابن حبان سو بينهم واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد وتمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد كطاوس وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والبخاري وبعض المالكية والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة وعن أحمد تصح وعنه يجوز التفاضل لسبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين وقال أبو يوسف تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار واحتجوا أيضا بأنها مقدمة لواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فالمؤدي إليهما حرام والتفضيل يؤدي إليهما ثم اختلفوا في صفة التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات وقال غيرهم لا فرق بين الذكر والأنثى وفارق الإرث بأن الوارث راض بما فرض الله له بخلاف هذا وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم والهبة للأولاد أمر بها صلة للرحم وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه وإسناده حسن وقال الجمهور التسوية مستحبة فإن فضل بعضا صح وكره وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملا للأمر على الندب والنهي على التنزيه وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذا منعه فلا حجة فيه على منع التفضيل حكاه ابن عبد البر عن مالك وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهب له لما سألته أمه الهبة من بعض ماله وهذا يعلم منه بالقطع أنه كان له مال غيره ثانيها أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل فترك حكاه الطحاوي وأكثر طرق الحديث ينابذه ثالثها أن النعمان كان كبيرا ولم يقبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله ارتجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره فأمر برد العطية بعدما كانت في حكم المقبوض رابعها أن قوله فارتجعه دليل على الصحة إذ لو لم تصح الهبة ما صح الرجوع وإنما أمره به لأن الوالد له أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك لكن استحباب التسوية رجح على ذلك وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي يظهر أن معنى ارتجعه أي لا تمض الهبة ولا يلزم من ذلك تقدم صحتها خامسها أن قوله أشهد على هذا غيري إذن بالإشهاد عليه وإنما امتنع لأنه الإمام فكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه الشهادة وإنما شأنه الحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من أن الإمام ليس من شأنه الشهادة أن يمتنع من تحملها ولا من أدائها إذا وجبت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز وأما قوله إن أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ كما يدل عليه ألفاظ الحديث وبه صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء سادسها دل قوله ألا سويت بينهم على أن الأمر للاستحباب والنهي للتنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما وتلك الرواية وردت بعينها بصيغة الأمر حيث قال سو بينهم سابعها في مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية ثامنها التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة على أن الأمر للندب وتعقب بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل للوجوب وقد قال في آخر الرواية التي فيها التشبيه فلا إذا لكن في التمهيد يحتمل أنه أراد بقوله إلا على حق الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقا وقال غيره الجور الميل عن الاعتدال فالمكروه أيضا جور اهـ تاسعها عمل أبي بكر وعمر بعده صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأبو بكر نحل عائشة دون سائر ولده كما يأتي وعمر نحل ابنه عاصما دون سائر أولاده ذكره الطحاوي وغيره وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثله عن قصة عمر عاشرها انعقاد الإجماع على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فمن جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره ابن عبد البر أي عن الشافعي وغيره ولا يخفى ضعفه فإنه قياس مع وجود النص وزعم بعضهم أن معنى لا أشهد على جور أي لا أشهد على ميل الأب لبعض أولاده وفيه نظر ويرده قوله في الرواية لا أشهد إلا على حق وفيه أن للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وكذا للأم عند أكثر الفقهاء لكن قال مالك إنما ترجع الأم إذا كان الأب حيا ومحل رجوع الأب ما لم يداين الابن أو ينكح للهبة وقال الشافعي له الرجوع مطلقا وفيه ندب التألف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض وأن الإشهاد فيها مغن عن القبض وكراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع لا واجب وجواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة ليحكم بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض نوابه ومشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله ألك ولد غيره قال نعم قال أكل ولدك نحلته قال لا قال لا أشهد ففهم منه أنه لو قال نعم لشهد وأن للإمام التكلم في مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال قال ابن المنير وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه وتعقبه في المصابيح بأن إبطالها ارتفع به جور وقع في القصة فليس من سوء العاقبة في شيء والحديث أخرجه البخاري في الهبة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الوصايا عن يحيى كلاهما عن مالك به وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير عن) خالته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن أبا بكر الصديق) عبد الله بن عثمان ( كان نحلها) بفتحتين ( جاد) بفتح الجيم والدال المهملة الثقيلة ( عشرين وسقا) من نخله إذا جد أي قطع قاله عيسى فهو صفة للثمرة وقال ثابت يعني إن ذلك يجد منها قال الأصمعي هذه أرض جاد مائة وسق أي يجد ذلك منها فهو صفة للنخل التي وهبها ثمرتها يريد نخلا يجد منها عشرون ( من ماله) يحتمل أنه تأول حديث النعمان ببعض الوجوه التي تقدمت قاله الباجي ( بالغابة) بمعجمة وموحدة وصحف من قالها بتحتية موضع على بريد من المدينة في طريق الشام ووهم من قال من عوالي المدينة كان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب وغلط القائل أنها شجر لا مالك له بل لاحتطاب الناس ومنافعهم ( فلما حضرته الوفاة) أي أسبابها ( قال والله يا بنية) بتصغير الحنان والشفقة ( ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك) بكسر الكاف ( ولا أعز) أشق وأصعب ( علي فقرا بعدي منك) وفيه أن الغنى أحب إلى الفضلاء من الفقر ( وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه) بفتح الجيم والدال الأولى وإسكان الثانية قطعتيه ( واحتزتيه) بإسكان الحاء والزاي بينهما فوقية مفتوحة أي حزتيه ( كان لك) لأن الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة فإن وهب الثمرة على الكيل فلا تكون الحيازة إلا بالكيل بعد الجد ولذا قال جددتيه واحتزتيه قاله الباجي وقاله أبو عمر اتفق الخلفاء الأربع على أن الهبة لا تصح إلا مقبوضة وبه قال الأئمة الثلاثة وقال أحمد وأبو ثور تصح الهبة والصدقة بلا قبض وروي ذلك عن علي من وجه لا يصح ( وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك) عبد الرحمن ومحمد ( وأختاك) يريد من يرثه بالبنوة لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة وأبوه أبو قحافة وإن روي أنه رد سدسه على ولد أبي بكر ( فاقتسموه على كتاب الله قالت عائشة فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا) كناية عن شيء كثير أزيد مما وهبه لها ( لتركته) اتباعا للشرع وطلبا لرضاك ( إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال أبو بكر ذو) أي صاحبة ( بطن) بمعنى الكائنة في بطن حبيبة ( بنت خارجة) بن زيد بن أبي زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي صحابية بنت صحابي شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر ويقال أنه استشهد بأحد ( أراها) بضم الهمزة أظنها ( جارية) أنثى فلذا قلت أختاك فكان كما ظن رضي الله عنه سميت أم كلثوم قال ابن مزين قال بعض فقهائنا وذلك لرؤيا رآها أبو بكر ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد) بدون إضافة ( القاري) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة ( أن عمر بن الخطاب قال ما بال رجال ينحلون) بفتح أوله وثالثه يعطون ( أبناءهم نحلا) بضم فسكون عطية بلا عوض ( ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات هو) أي الأب ( قال) قرب موته ( هو لابني قد كنت أعطيته إياه) ليحرم باقي ورثته ولا يصح له ذلك لعدم الحوز في حياته ( من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون) بالتاء أي النحلة وبالياء الذي نحل ( إن مات لورثته فهو باطل) لأن الحيازة شرط في صحة الملك للهبة.



رقم الحديث 1448 قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَابْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَالِ: بِعْهَا،.

     وَقَالَ  الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ: لَا أَرَى وَجْهَ بَيْعٍ، فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، قَالَ: لَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصَرِ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ، فَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ بَيْعٍ بِيعَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ انْتِظَارٍ انْتُظِرَ بِهَا قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ، فَقَالَ: هُوَ عِنْدِي وَافِرٌ، فَلَمَّا آخَذَهُ بِهِ، قَالَ: قَدْ هَلَكَ عِنْدِي مِنْهُ كَذَا وَكَذَا لِمَالٍ يُسَمِّيهِ، وَإِنَّمَا.

قُلْتُ لَكَ ذَلِكَ لِكَيْ تَتْرُكَهُ عِنْدِي، قَالَ: لَا يَنْتَفِعُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ إِقْرَارِهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ فِي هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ .

     قَوْلُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ إِنْكَارُهُ قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ قَالَ: رَبِحْتُ فِي الْمَالِ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ: أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ وَرِبْحَهُ، فَقَالَ: مَا رَبِحْتُ فِيهِ شَيْئًا؟ وَمَا.

قُلْتُ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنْ تُقِرَّهُ فِي يَدِي، فَذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ، وَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ .

     قَوْلُهُ  وَصِدْقُهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا، فَقَالَ الْعَامِلُ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لِي الثُّلُثَيْنِ،.

     وَقَالَ  صَاحِبُ الْمَالِ: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ الثُّلُثَ، قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، الْيَمِينُ.
إِذَا كَانَ مَا قَالَ يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ.
وَكَانَ ذَلِكَ نَحْوًا مِمَّا يَتَقَارَضُ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَإِنْ جَاءَ بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ، لَيْسَ عَلَى مِثْلِهِ يَتَقَارَضُ النَّاسُ، لَمْ يُصَدَّقْ وَرُدَّ إِلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا مِائَةَ دِينَارٍ قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً.
ثُمَّ ذَهَبَ لِيَدْفَعَ إِلَى رَبِّ السِّلْعَةِ الْمِائَةَ دِينَارٍ.
فَوَجَدَهَا قَدْ سُرِقَتْ.
فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بِعِ السِّلْعَةَ.
فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ لِي، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ كَانَ عَلَيْكَ.
لِأَنَّكَ أَنْتَ ضَيَّعْتَ.
.

     وَقَالَ  الْمُقَارَضُ: بَلْ عَلَيْكَ وَفَاءُ حَقِّ هَذَا، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا بِمَالِكَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْمُشْتَرِيَ أَدَاءُ ثَمَنِهَا إِلَى الْبَائِعِ، وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ الْقِرَاضِ: إِنْ شِئْتَ فَأَدِّ الْمِائَةَ الدِّينَارِ إِلَى الْمُقَارَضِ، وَالسِّلْعَةُ بَيْنَكُمَا.
وَتَكُونُ قِرَاضًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمِائَةُ الْأُولَى.
وَإِنْ شِئْتَ فَابْرَأْ مِنَ السِّلْعَةِ، فَإِنْ دَفَعَ الْمِائَةَ دِينَارٍ إِلَى الْعَامِلِ كَانَتْ قِرَاضًا عَلَى سُنَّةِ الْقِرَاضِ الْأَوَّلِ.
وَإِنْ أَبَى كَانَتِ السِّلْعَةُ لِلْعَامِلِ وَكَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا قَالَ مَالِكٌ: فِي الْمُتَقَارِضَيْنِ إِذَا تَفَاصَلَا فَبَقِيَ بِيَدِ الْعَامِلِ مِنَ الْمَتَاعِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ خَلَقُ الْقِرْبَةِ أَوْ خَلَقُ الثَّوْبِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَافِهًا، لَا خَطْبَ لَهُ، فَهُوَ لِلْعَامِلِ.
وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا أَفْتَى بِرَدِّ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يُرَدُّ، مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ اسْمٌ مِثْلُ الدَّابَّةِ أَوِ الْجَمَلِ أَوِ الشَّاذَكُونَةِ.
أَوْ أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ ثَمَنٌ.
فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا.
إِلَّا أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبَهُ مِنْ ذَلِكَ.



( جامع ما جاء في القراض)

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًا فابتاع به سلعة فقال له صاحب المال: بعها وقال الذي أخذ المال: لا أرى وجه بيع) للكساد في تلك السلعة ( فاختلفا في ذلك قال: لا ينظر إلى قول واحد منهما ويسأل عن ذلك أهل المعرفة والبصر) بفتحتين الخبرة ( بتلك السلعة فإن رأوا وجه بيع بيعت عليهما وإن رأوا وجه انتظار انتظر بها) لأن القراض قد لزم بالشراء والعمل فليس لهما الانفكاك منه إلا على الوجه المعهود ولذا لو كان المال دينًا داين به العامل بإذن رب المال ثم أراد أحدهما تعجيل بيعه فالقول قول الآبي منهما لأنه المعهود من التجارة.
وقال الكوفيون والشافعي: تباع السلعة في الوقت لأن لكل واحد منهما عنده نقض القراض عند العمل وبعده لأنه عقد غير لازم.

( قال مالك في رجل أخذ من رجل مالاً قراضًا فعمل فيه ثم سأله صاحب المال عن ماله فقال: هو عندي وافر) أي كامل ( فلما آخذه به قال: قد هلك عندي منه كذا وكذا لمال يسميه وإنما قلت لك ذلك لكي تتركه عندي قال: لا ينتفع بإنكاره بعد إقراره أنه عنده ويؤخذ بإقراره على نفسه) ولا خلاف في هذا وقد أجمعوا على أن الرجوع في حقوق الناس بعد الإقرار لا ينفع الراجع ( إلا أن يأتي في هلاك ذلك المال بأمر يعرف به قوله) فيصدق في دعوى الهلاك ( فإن لم يأت بأمر معروف أخذ بإقراره ولم ينفعه إنكاره) بل يكون ندمًا ( وكذلك أيضًا لو قال: ربحت في المال كذا وكذا فسأله رب المال أن يدفع إليه ماله وربحه فقال: ما ربحت فيه شيئًا وما قلت ذلك إلا لأن تقره في يدي فذلك لا ينفعه ويؤخذ بما أقر به إلا أن يأتي بأمر يعرف به قوله وصدقه) كاشتهار بوار ما اتجر فيه بين الناس ( فلا يلزمه ذلك) لظهور صدقه.

( قال مالك في رجل دفع إلى رجل مالاً قراضًا فربح فيه ربحًا فقال العامل قارضتك على أن لي الثلثين وقال صاحب المال: قارضتك على أن لك الثلث قال مالك: القول قول العامل وعليه في ذلك اليمين إذا كان ما قال يشبه قراض مثله وكان ذلك نحوًا مما يتقارض عليه الناس) بيان للشبه وكذا إن أشبه قول كل واحد منهما القول للعامل بيمينه وإن أشبه صاحب المال وحده فالقول قوله بيمينه ( وإن) لم يشبه العامل بأن ( جاء بأمر يستنكر ليس على مثله يتقارض الناس لم يصدق ورد إلى قراض مثله) وكذا إن لم يشبه واحدًا منهما يردان إلى قراض المثل بعد إيمانهما.

( قال مالك في رجل أعطى رجلاً مائة دينار قراضًا فاشترى بها سلعة ثم ذهب ليدفع إلى رب السلعة المائة دينار فوجدها قد سرقت فقال رب المال بع السلعة فإن كان فيها فضل كان لي وإن كان فيها نقصان كان عليك لأنك أنت ضيعت وقال المقارض) بالفتح ( بل عليك وفاء حق هذا) لأني ( إنما اشتريتها بمالك الذي أعطيتني قال مالك: يلزم العامل المشتري أداء ثمنها إلى البائع) لأنه الذي تولى الشراء منه ( ويقال لصاحب المال القراض) بالخفض بدل ( إن شئت فأدّ المائة الدينار إلى المقارض) بالفتح ( والسلعة بينكما أو تكون قراضًا على ما كانت عليه المائة الأولى وإن شئت فابرأ من السلعة) وتكون خسارة المائة عليك ( فإن دفع المائة الدينار إلى العامل كانت قراضًا على سنة القراض الأول) أي طريقته على ما شرطا من الربح ( وإن أبى) امتنع ( كانت السلعة للعامل وكان عليه ثمنها) وتمت خسارة المائة على رب المال ( قال مالك في المتقارضين: إذا تفاصلا فبقي بيد العامل من المتاع الذي يعمل فيه خلق) بفتح المعجمة واللام، أي بالي ( القربة أو خلق الثوب أو ما أشبه ذلك) كالغرارة والإداوة ( قال مالك: كل شيء من ذلك كان تافهًا) بالفوقية والفاء، أي قليلاً ( لا خطب) لا شأن ( له فهو للعامل ولم أسمع أحدًا أفتى بردّ ذلك) لأنه مما لا يلتفت إليه غالبًا خصوصًا من رب المال لا سيما إذا ربح ( وإنما يردّ من ذلك الشيء الذي له ثمن وإن كان شيئًا له اسم مثل الدابة أو الجمل أو الشاذكونة) بشين وذال معجمتين مفتوحتين وضم الكاف ثياب، غلاظ مضربة تعمل باليمن ( أو أشباه ذلك مما له ثمن فإني أرى أن يرد ما بقي عنده من هذا إلا أن يتحلل صاحبه من ذلك) ووافقه الليث، وقال أبو حنيفة والشافعي: يرد قليل ذلك وكثيره واحتج له بعضهم بقوله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا.
ولا حجة فيه كما لا يخفى والله تعالى أعلم.



رقم الحديث 1448 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ.
وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ، وَأُخْتَاكِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ، فَمَنِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ، أُرَاهَا جَارِيَةً.


( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد الثقات الأثبات ( وعن محمد بن النعمان بن بشير) الأنصاري أبي سعيد التابعي الثقة ( أنهما حدثاه) أي ابن شهاب ( عن النعمان بن بشير) الخزرجي سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة صحابي وأبواه صحابيان هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد جعله من مسند بشير فشذ بذلك والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان ( أنه قال إن أباه بشير) بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس بضم الجيم وخفة اللام آخره مهملة الخزرجي البدري وشهد غيرها ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة ويقال إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار وقيل عاش إلى خلافة عمر وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة وعامر الشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم ( أتى به) ولمسلم من طريق الشعبي عن النعمان انطلق أبي يحملني ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولابن حبان فأخذ بيدي وأنا غلام وجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لضعف سنه أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل ( فقال إني نحلت) بفتح النون المهملة وإسكان اللام أي أعطيت ( ابني هذا) النعمان ( غلاما) لم يسم ( كان لي) وفي الصحيحين عن الشعبي عن النعمان أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال إني أعطيت ابني من عمرة عطية ولمسلم والنسائي سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة أي مطلها ولابن حبان حولين وجمع بأن المدة أزيد من سنة فجبر الكسر تارة وألغى أخرى قال ثم بدا له فوهبها لي فقالت له لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية للشيخين فقال ألك ولد سواه قال نعم قال ( أكل ولدك) بهمزة الاستفهام الاستخباري والنصب بقوله ( نحلته) أعطيته ( مثل هذا) ولمسلم أكلهم وهبت له مثل هذا ( قال لا) وفي رواية ابن القاسم في الموطأ للدارقطني عن مالك قال لا والله يا رسول الله وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري أما يونس ومعمر فقالا أكل بنيك وأما الليث وابن عيينة فقالا أكل ولدك قال الحافظ ولا منافاة بينهما لأن لفظ ولد يشمل الذكور والإناث وأما لفظ بنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب ولم يذكر ابن سعد لبشير ولدا غير النعمان وذكر له بنتا اسمها أبية بموحدة تصغير أبي ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجعه) بهمزة وصل مجزوم أمرا زاد في رواية للبخاري فرجع فرد عطيته أي الغلام وهو ما في أكثر الروايات عن النعمان ومثله في حديث جابر في مسلم وفي رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي أن النعمان خطب بالكوفة فقال إن والدي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل ما هو لي وأنها قالت أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قوله لا أشهد على جور وجمع ابن حبان بالحمل على واقعتين إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت عبدا قال الحافظ ولا بأس بجمعه لكن يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته حكم المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهده على العطية الثانية بعد قوله في الأولى له لا أشهد على جور وجوز ابن حبان أن بشيرا ظن نسخ الحكم وقال غيره إنه حمل الأمر على كراهة التنزيه أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة غالبا أكثر من ثمن العبد قال وظهر لي وجه في الجمع سليم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا وهبه الحديقة تطييبا لخاطرها ثم بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة به لكن خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت أشهد على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تريد تثبيت العطية وأمن رجوعه فيها ويكون مجيئه لإشهاده صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة وغاية ما فيها أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض أو كان النعمان يقص تارة بعض القصة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه وفي رواية للشيخين قال لا تشهدني على جور وفي أخرى لا أشهد على جور ولمسلم فقال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور وله أيضًا أشهد على هذا غيري وفي حديث جابر فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق وللنسائي وكره أن يشهد له ولمسلم اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر ولأحمد إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم فلا تشهدني على جور أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال نعم قال فلا إذا ولأبي داود إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك وللنسائي ألا سويت بينهم وله ولابن حبان سو بينهم واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد وتمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد كطاوس وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والبخاري وبعض المالكية والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة وعن أحمد تصح وعنه يجوز التفاضل لسبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين وقال أبو يوسف تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار واحتجوا أيضا بأنها مقدمة لواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فالمؤدي إليهما حرام والتفضيل يؤدي إليهما ثم اختلفوا في صفة التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات وقال غيرهم لا فرق بين الذكر والأنثى وفارق الإرث بأن الوارث راض بما فرض الله له بخلاف هذا وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم والهبة للأولاد أمر بها صلة للرحم وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه وإسناده حسن وقال الجمهور التسوية مستحبة فإن فضل بعضا صح وكره وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملا للأمر على الندب والنهي على التنزيه وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذا منعه فلا حجة فيه على منع التفضيل حكاه ابن عبد البر عن مالك وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهب له لما سألته أمه الهبة من بعض ماله وهذا يعلم منه بالقطع أنه كان له مال غيره ثانيها أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل فترك حكاه الطحاوي وأكثر طرق الحديث ينابذه ثالثها أن النعمان كان كبيرا ولم يقبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله ارتجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره فأمر برد العطية بعدما كانت في حكم المقبوض رابعها أن قوله فارتجعه دليل على الصحة إذ لو لم تصح الهبة ما صح الرجوع وإنما أمره به لأن الوالد له أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك لكن استحباب التسوية رجح على ذلك وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي يظهر أن معنى ارتجعه أي لا تمض الهبة ولا يلزم من ذلك تقدم صحتها خامسها أن قوله أشهد على هذا غيري إذن بالإشهاد عليه وإنما امتنع لأنه الإمام فكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه الشهادة وإنما شأنه الحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من أن الإمام ليس من شأنه الشهادة أن يمتنع من تحملها ولا من أدائها إذا وجبت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز وأما قوله إن أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ كما يدل عليه ألفاظ الحديث وبه صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء سادسها دل قوله ألا سويت بينهم على أن الأمر للاستحباب والنهي للتنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما وتلك الرواية وردت بعينها بصيغة الأمر حيث قال سو بينهم سابعها في مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية ثامنها التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة على أن الأمر للندب وتعقب بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل للوجوب وقد قال في آخر الرواية التي فيها التشبيه فلا إذا لكن في التمهيد يحتمل أنه أراد بقوله إلا على حق الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقا وقال غيره الجور الميل عن الاعتدال فالمكروه أيضا جور اهـ تاسعها عمل أبي بكر وعمر بعده صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأبو بكر نحل عائشة دون سائر ولده كما يأتي وعمر نحل ابنه عاصما دون سائر أولاده ذكره الطحاوي وغيره وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثله عن قصة عمر عاشرها انعقاد الإجماع على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فمن جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره ابن عبد البر أي عن الشافعي وغيره ولا يخفى ضعفه فإنه قياس مع وجود النص وزعم بعضهم أن معنى لا أشهد على جور أي لا أشهد على ميل الأب لبعض أولاده وفيه نظر ويرده قوله في الرواية لا أشهد إلا على حق وفيه أن للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وكذا للأم عند أكثر الفقهاء لكن قال مالك إنما ترجع الأم إذا كان الأب حيا ومحل رجوع الأب ما لم يداين الابن أو ينكح للهبة وقال الشافعي له الرجوع مطلقا وفيه ندب التألف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض وأن الإشهاد فيها مغن عن القبض وكراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع لا واجب وجواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة ليحكم بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض نوابه ومشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله ألك ولد غيره قال نعم قال أكل ولدك نحلته قال لا قال لا أشهد ففهم منه أنه لو قال نعم لشهد وأن للإمام التكلم في مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال قال ابن المنير وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه وتعقبه في المصابيح بأن إبطالها ارتفع به جور وقع في القصة فليس من سوء العاقبة في شيء والحديث أخرجه البخاري في الهبة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الوصايا عن يحيى كلاهما عن مالك به وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير عن) خالته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن أبا بكر الصديق) عبد الله بن عثمان ( كان نحلها) بفتحتين ( جاد) بفتح الجيم والدال المهملة الثقيلة ( عشرين وسقا) من نخله إذا جد أي قطع قاله عيسى فهو صفة للثمرة وقال ثابت يعني إن ذلك يجد منها قال الأصمعي هذه أرض جاد مائة وسق أي يجد ذلك منها فهو صفة للنخل التي وهبها ثمرتها يريد نخلا يجد منها عشرون ( من ماله) يحتمل أنه تأول حديث النعمان ببعض الوجوه التي تقدمت قاله الباجي ( بالغابة) بمعجمة وموحدة وصحف من قالها بتحتية موضع على بريد من المدينة في طريق الشام ووهم من قال من عوالي المدينة كان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب وغلط القائل أنها شجر لا مالك له بل لاحتطاب الناس ومنافعهم ( فلما حضرته الوفاة) أي أسبابها ( قال والله يا بنية) بتصغير الحنان والشفقة ( ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك) بكسر الكاف ( ولا أعز) أشق وأصعب ( علي فقرا بعدي منك) وفيه أن الغنى أحب إلى الفضلاء من الفقر ( وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه) بفتح الجيم والدال الأولى وإسكان الثانية قطعتيه ( واحتزتيه) بإسكان الحاء والزاي بينهما فوقية مفتوحة أي حزتيه ( كان لك) لأن الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة فإن وهب الثمرة على الكيل فلا تكون الحيازة إلا بالكيل بعد الجد ولذا قال جددتيه واحتزتيه قاله الباجي وقاله أبو عمر اتفق الخلفاء الأربع على أن الهبة لا تصح إلا مقبوضة وبه قال الأئمة الثلاثة وقال أحمد وأبو ثور تصح الهبة والصدقة بلا قبض وروي ذلك عن علي من وجه لا يصح ( وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك) عبد الرحمن ومحمد ( وأختاك) يريد من يرثه بالبنوة لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة وأبوه أبو قحافة وإن روي أنه رد سدسه على ولد أبي بكر ( فاقتسموه على كتاب الله قالت عائشة فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا) كناية عن شيء كثير أزيد مما وهبه لها ( لتركته) اتباعا للشرع وطلبا لرضاك ( إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال أبو بكر ذو) أي صاحبة ( بطن) بمعنى الكائنة في بطن حبيبة ( بنت خارجة) بن زيد بن أبي زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي صحابية بنت صحابي شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر ويقال أنه استشهد بأحد ( أراها) بضم الهمزة أظنها ( جارية) أنثى فلذا قلت أختاك فكان كما ظن رضي الله عنه سميت أم كلثوم قال ابن مزين قال بعض فقهائنا وذلك لرؤيا رآها أبو بكر ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد) بدون إضافة ( القاري) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة ( أن عمر بن الخطاب قال ما بال رجال ينحلون) بفتح أوله وثالثه يعطون ( أبناءهم نحلا) بضم فسكون عطية بلا عوض ( ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات هو) أي الأب ( قال) قرب موته ( هو لابني قد كنت أعطيته إياه) ليحرم باقي ورثته ولا يصح له ذلك لعدم الحوز في حياته ( من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون) بالتاء أي النحلة وبالياء الذي نحل ( إن مات لورثته فهو باطل) لأن الحيازة شرط في صحة الملك للهبة.



رقم الحديث 1449 وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ، عنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نُحْلًا، ثُمَّ يُمْسِكُونَهَا فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ، قَالَ: مَا لِي بِيَدِي لَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ هُوَ، قَالَ: هُوَ لِابْنِي قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ.
مَنْ نَحَلَ نِحْلَةً، فَلَمْ يَحُزْهَا الَّذِي نُحِلَهَا، حَتَّى يَكُونَ إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ، فَهِيَ بَاطِلٌ.


( مالك عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد) بضم الحاء ( ابن عبد الرحمن بن عوف) القرشي الزهري أحد الثقات الأثبات ( وعن محمد بن النعمان بن بشير) الأنصاري أبي سعيد التابعي الثقة ( أنهما حدثاه) أي ابن شهاب ( عن النعمان بن بشير) الخزرجي سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة صحابي وأبواه صحابيان هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد جعله من مسند بشير فشذ بذلك والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان ( أنه قال إن أباه بشير) بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس بضم الجيم وخفة اللام آخره مهملة الخزرجي البدري وشهد غيرها ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة ويقال إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار وقيل عاش إلى خلافة عمر وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة وعامر الشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه وغيرهم ( أتى به) ولمسلم من طريق الشعبي عن النعمان انطلق أبي يحملني ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولابن حبان فأخذ بيدي وأنا غلام وجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لضعف سنه أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل ( فقال إني نحلت) بفتح النون المهملة وإسكان اللام أي أعطيت ( ابني هذا) النعمان ( غلاما) لم يسم ( كان لي) وفي الصحيحين عن الشعبي عن النعمان أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال إني أعطيت ابني من عمرة عطية ولمسلم والنسائي سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة أي مطلها ولابن حبان حولين وجمع بأن المدة أزيد من سنة فجبر الكسر تارة وألغى أخرى قال ثم بدا له فوهبها لي فقالت له لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية للشيخين فقال ألك ولد سواه قال نعم قال ( أكل ولدك) بهمزة الاستفهام الاستخباري والنصب بقوله ( نحلته) أعطيته ( مثل هذا) ولمسلم أكلهم وهبت له مثل هذا ( قال لا) وفي رواية ابن القاسم في الموطأ للدارقطني عن مالك قال لا والله يا رسول الله وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري أما يونس ومعمر فقالا أكل بنيك وأما الليث وابن عيينة فقالا أكل ولدك قال الحافظ ولا منافاة بينهما لأن لفظ ولد يشمل الذكور والإناث وأما لفظ بنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب ولم يذكر ابن سعد لبشير ولدا غير النعمان وذكر له بنتا اسمها أبية بموحدة تصغير أبي ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجعه) بهمزة وصل مجزوم أمرا زاد في رواية للبخاري فرجع فرد عطيته أي الغلام وهو ما في أكثر الروايات عن النعمان ومثله في حديث جابر في مسلم وفي رواية لابن حبان والطبراني عن الشعبي أن النعمان خطب بالكوفة فقال إن والدي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل ما هو لي وأنها قالت أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قوله لا أشهد على جور وجمع ابن حبان بالحمل على واقعتين إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت عبدا قال الحافظ ولا بأس بجمعه لكن يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته حكم المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهده على العطية الثانية بعد قوله في الأولى له لا أشهد على جور وجوز ابن حبان أن بشيرا ظن نسخ الحكم وقال غيره إنه حمل الأمر على كراهة التنزيه أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد لأن ثمن الحديقة غالبا أكثر من ثمن العبد قال وظهر لي وجه في الجمع سليم من هذا الخدش ولا يحتاج إلى جوابه وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا وهبه الحديقة تطييبا لخاطرها ثم بدا له فارتجعها لأنه لم يقبضها منه أحد غيره فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ورضيت عمرة به لكن خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت أشهد على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم تريد تثبيت العطية وأمن رجوعه فيها ويكون مجيئه لإشهاده صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة وغاية ما فيها أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض أو كان النعمان يقص تارة بعض القصة ويقص بعضها أخرى فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه وفي رواية للشيخين قال لا تشهدني على جور وفي أخرى لا أشهد على جور ولمسلم فقال فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور وله أيضًا أشهد على هذا غيري وفي حديث جابر فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق وللنسائي وكره أن يشهد له ولمسلم اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر ولأحمد إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم فلا تشهدني على جور أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء قال نعم قال فلا إذا ولأبي داود إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك وللنسائي ألا سويت بينهم وله ولابن حبان سو بينهم واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد وتمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد كطاوس وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والبخاري وبعض المالكية والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة وعن أحمد تصح وعنه يجوز التفاضل لسبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين وقال أبو يوسف تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار واحتجوا أيضا بأنها مقدمة لواجب لأن قطع الرحم والعقوق محرمان فالمؤدي إليهما حرام والتفضيل يؤدي إليهما ثم اختلفوا في صفة التسوية فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات وقال غيرهم لا فرق بين الذكر والأنثى وفارق الإرث بأن الوارث راض بما فرض الله له بخلاف هذا وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم والهبة للأولاد أمر بها صلة للرحم وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه سووا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه وإسناده حسن وقال الجمهور التسوية مستحبة فإن فضل بعضا صح وكره وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملا للأمر على الندب والنهي على التنزيه وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذا منعه فلا حجة فيه على منع التفضيل حكاه ابن عبد البر عن مالك وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهب له لما سألته أمه الهبة من بعض ماله وهذا يعلم منه بالقطع أنه كان له مال غيره ثانيها أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل فترك حكاه الطحاوي وأكثر طرق الحديث ينابذه ثالثها أن النعمان كان كبيرا ولم يقبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله ارتجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تظافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره فأمر برد العطية بعدما كانت في حكم المقبوض رابعها أن قوله فارتجعه دليل على الصحة إذ لو لم تصح الهبة ما صح الرجوع وإنما أمره به لأن الوالد له أن يرجع فيما وهبه لولده وإن كان الأفضل خلاف ذلك لكن استحباب التسوية رجح على ذلك وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي يظهر أن معنى ارتجعه أي لا تمض الهبة ولا يلزم من ذلك تقدم صحتها خامسها أن قوله أشهد على هذا غيري إذن بالإشهاد عليه وإنما امتنع لأنه الإمام فكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه الشهادة وإنما شأنه الحكم حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من أن الإمام ليس من شأنه الشهادة أن يمتنع من تحملها ولا من أدائها إذا وجبت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز وأما قوله إن أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ كما يدل عليه ألفاظ الحديث وبه صرح الجمهور في هذا الموضع وقال ابن حبان قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء سادسها دل قوله ألا سويت بينهم على أن الأمر للاستحباب والنهي للتنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما وتلك الرواية وردت بعينها بصيغة الأمر حيث قال سو بينهم سابعها في مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية ثامنها التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة على أن الأمر للندب وتعقب بأن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق يدل للوجوب وقد قال في آخر الرواية التي فيها التشبيه فلا إذا لكن في التمهيد يحتمل أنه أراد بقوله إلا على حق الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقا وقال غيره الجور الميل عن الاعتدال فالمكروه أيضا جور اهـ تاسعها عمل أبي بكر وعمر بعده صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأبو بكر نحل عائشة دون سائر ولده كما يأتي وعمر نحل ابنه عاصما دون سائر أولاده ذكره الطحاوي وغيره وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثله عن قصة عمر عاشرها انعقاد الإجماع على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فمن جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره ابن عبد البر أي عن الشافعي وغيره ولا يخفى ضعفه فإنه قياس مع وجود النص وزعم بعضهم أن معنى لا أشهد على جور أي لا أشهد على ميل الأب لبعض أولاده وفيه نظر ويرده قوله في الرواية لا أشهد إلا على حق وفيه أن للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وكذا للأم عند أكثر الفقهاء لكن قال مالك إنما ترجع الأم إذا كان الأب حيا ومحل رجوع الأب ما لم يداين الابن أو ينكح للهبة وقال الشافعي له الرجوع مطلقا وفيه ندب التألف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض وأن الإشهاد فيها مغن عن القبض وكراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح وأن الإشهاد في الهبة مشروع لا واجب وجواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة ليحكم بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض نوابه ومشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال لقوله ألك ولد غيره قال نعم قال أكل ولدك نحلته قال لا قال لا أشهد ففهم منه أنه لو قال نعم لشهد وأن للإمام التكلم في مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال قال ابن المنير وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه وتعقبه في المصابيح بأن إبطالها ارتفع به جور وقع في القصة فليس من سوء العاقبة في شيء والحديث أخرجه البخاري في الهبة عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الوصايا عن يحيى كلاهما عن مالك به وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما ( مالك عن ابن شهاب) الزهري ( عن عروة بن الزبير عن) خالته ( عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت إن أبا بكر الصديق) عبد الله بن عثمان ( كان نحلها) بفتحتين ( جاد) بفتح الجيم والدال المهملة الثقيلة ( عشرين وسقا) من نخله إذا جد أي قطع قاله عيسى فهو صفة للثمرة وقال ثابت يعني إن ذلك يجد منها قال الأصمعي هذه أرض جاد مائة وسق أي يجد ذلك منها فهو صفة للنخل التي وهبها ثمرتها يريد نخلا يجد منها عشرون ( من ماله) يحتمل أنه تأول حديث النعمان ببعض الوجوه التي تقدمت قاله الباجي ( بالغابة) بمعجمة وموحدة وصحف من قالها بتحتية موضع على بريد من المدينة في طريق الشام ووهم من قال من عوالي المدينة كان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب وغلط القائل أنها شجر لا مالك له بل لاحتطاب الناس ومنافعهم ( فلما حضرته الوفاة) أي أسبابها ( قال والله يا بنية) بتصغير الحنان والشفقة ( ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك) بكسر الكاف ( ولا أعز) أشق وأصعب ( علي فقرا بعدي منك) وفيه أن الغنى أحب إلى الفضلاء من الفقر ( وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه) بفتح الجيم والدال الأولى وإسكان الثانية قطعتيه ( واحتزتيه) بإسكان الحاء والزاي بينهما فوقية مفتوحة أي حزتيه ( كان لك) لأن الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة فإن وهب الثمرة على الكيل فلا تكون الحيازة إلا بالكيل بعد الجد ولذا قال جددتيه واحتزتيه قاله الباجي وقاله أبو عمر اتفق الخلفاء الأربع على أن الهبة لا تصح إلا مقبوضة وبه قال الأئمة الثلاثة وقال أحمد وأبو ثور تصح الهبة والصدقة بلا قبض وروي ذلك عن علي من وجه لا يصح ( وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك) عبد الرحمن ومحمد ( وأختاك) يريد من يرثه بالبنوة لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة وأبوه أبو قحافة وإن روي أنه رد سدسه على ولد أبي بكر ( فاقتسموه على كتاب الله قالت عائشة فقلت يا أبت والله لو كان كذا وكذا) كناية عن شيء كثير أزيد مما وهبه لها ( لتركته) اتباعا للشرع وطلبا لرضاك ( إنما هي أسماء فمن الأخرى فقال أبو بكر ذو) أي صاحبة ( بطن) بمعنى الكائنة في بطن حبيبة ( بنت خارجة) بن زيد بن أبي زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي صحابية بنت صحابي شهد بدرًا وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي بكر ويقال أنه استشهد بأحد ( أراها) بضم الهمزة أظنها ( جارية) أنثى فلذا قلت أختاك فكان كما ظن رضي الله عنه سميت أم كلثوم قال ابن مزين قال بعض فقهائنا وذلك لرؤيا رآها أبو بكر ( مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد) بدون إضافة ( القاري) بشد الياء نسبة إلى القارة بطن من خزيمة ( أن عمر بن الخطاب قال ما بال رجال ينحلون) بفتح أوله وثالثه يعطون ( أبناءهم نحلا) بضم فسكون عطية بلا عوض ( ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات هو) أي الأب ( قال) قرب موته ( هو لابني قد كنت أعطيته إياه) ليحرم باقي ورثته ولا يصح له ذلك لعدم الحوز في حياته ( من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون) بالتاء أي النحلة وبالياء الذي نحل ( إن مات لورثته فهو باطل) لأن الحيازة شرط في صحة الملك للهبة.