فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ

رقم الحديث 701 حَدَّثَنِي زِيَادٌ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ.
وَجَدَ أَخْبِيَةً خِبَاءَ عَائِشَةَ، وَخِبَاءَ حَفْصَةَ، وَخِبَاءَ زَيْنَبَ، فَلَمَّا رَآهَا سَأَلَ عَنْهَا.
فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خِبَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آلْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ؟ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ وَسُئِلَ مَالِكٌ: عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِعُكُوفٍ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.
فَأَقَامَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ.
ثُمَّ مَرِضَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ.
أَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَشْرِ، إِذَا صَحَّ أَمْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ؟ وَفِي أَيِّ شَهْرٍ يَعْتَكِفُ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يَقْضِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ عُكُوفٍ إِذَا صَحَّ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الْعُكُوفَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَعْتَكِفْ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ رَمَضَانُ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ، وَالْمُتَطَوِّعُ فِي الِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الِاعْتِكَافُ، أَمْرُهُمَا وَاحِدٌ.
فِيمَا يَحِلُّ لَهُمَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا.
وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اعْتِكَافُهُ إِلَّا تَطَوُّعًا قَالَ مَالِكٌ: فِي الْمَرْأَةِ إِنَّهَا إِذَا اعْتَكَفَتْ ثُمَّ حَاضَتْ فِي اعْتِكَافِهَا، إِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهَا.
فَإِذَا طَهُرَتْ رَجَعَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ.
أَيَّةَ سَاعَةٍ طَهُرَتْ.
ثُمَّ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَجِبُ عَلَيْهَا صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
فَتَحِيضُ.
ثُمَّ تَطْهُرُ فَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِيَامِهَا.
وَلَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ.


( قضاء الاعتكاف)

( حدثنا زياد عن مالك عن ابن شهاب) قال ابن عبد البر هذا غلط وخطأ مفرط لا أدري هل هو من يحيى أم من زياد ولم يتابعه أحد عليه من رواة الموطأ ولا يعرف هذا الحديث لابن شهاب لا من حديث مالك ولا غيره وإنما الحديث لجميع رواة الموطأ مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري إلا أن منهم من يصله ( عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة) ومنهم من يرسله فلا يذكر عائشة ومنهم من يقطعه فلا يذكر عمرة انتهى وبه يتعقب قول فتح الباري إنه مرسل عن عمرة في الموطآت كلها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعتكف) في العشر الأواخر من رمضان كما في رواية لمسلم ولهما عن عائشة فكنت أضرب له خباء ( فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه) وهو الخباء ( وجد أخبية) ثلاثة وفي رواية للبخاري فلما انصرف من الغداة أبصر أربع قباب يعني قبة له وثلاثة للثلاثة ( خباء عائشة) بكسر الخاء المعجمة ثم موحدة ممدود أي خيمة من وبر أو صوف على عمودين أو ثلاثة ( وخباء حفصة) وفي رواية للبخاري فاستأذنته عائشة فأذن لها فسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت وله في أخرى فاستأذنته عائشة أن تعتكف فأذن لها فضربت قبة فسمعت بها حفصة فضربت قبة لتعتكف معه وهذا يشعر بأنها ضربتها بلا إذن وليس بمراد ففي رواية النسائي ثم استأذنته حفصة فأذن لها وظهر من رواية البخاري أن استئذانها كان على لسان عائشة ( وخباء زينب) بنت جحش وفي رواية للبخاري فلما رأته زينب ضربت لها خباء آخر وله في أخرى وسمعت بها زينب فضربت قبة أخرى وعند أبي عوانة فلما رأته زينب ضربت معهن وكانت امرأة غيورًا قال الحافظ ولم أقف في شيء من الطرق على أن زينب استأذنت وكأن هذا هو أحد ما بعث على الإنكار الآتي ووقع في رواية لمسلم وأبي داود فأمرت زينب بخبائها فضرب وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائها فضرب وهذا يقتضي تعميم الأزواج وليس بمراد لتفسيرها في الروايات الأخرى بالثلاثة وبين ذلك قوله أربع قباب وللنسائي إذا هو بأربعة أبنية ( فلما رآها سأل عنها فقيل له هذا خباء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آلبر) بهمزة استفهام ممدودة وبغير مد والنصب مفعول مقدم لقوله ( تقولون) أي تظنون والقول يطلق على الظن قال الأعشى

أما الرحيل فدون بعد غد
فمتى تقول الدار تجمعنا

( بهن) أي ملتبسًا بهن وهو المفعول الثاني ليقولون والخطاب للحاضرين من الرجال والنساء وفي رواية آلبر يرون ( ثم انصرف فلم يعتكف) وفي رواية لمسلم فأمر بخبائه فقوض بضم القاف وكسر الواو ثقيلة فضاد معجمة أي نقض قال عياض قال صلى الله عليه وسلم هذا الكلام إنكارًا لفعلهن وقد كان أذن لبعضهن في ذلك وسبب إنكاره أنه خاف أن يكن غير مخلصات في الاعتكاف بل أردن القرب منه لغيرتهن عليه أو لغيرته عليهن فكره ملازمتهن المسجد مع أنه يجمع الناس وتحضره الأعراب والمنافقون وهن محتاجات إلى الخروج والدخول لما يعرض لهن فيبتذلن بذلك أو لأنه رآهن عنده في المسجد وهو في معتكفه فصار كأنه في منزله لحضوره مع أزواجه وذهب المهم من مقصود الاعتكاف وهو التخلي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك أو لأنهن ضيقن المسجد بأبنيتهن زاد الحافظ أو لما أذن لعائشة وحفصة أولا خشي توارد بقية النسوة على ذلك فيضيق المسجد على المصلين وفي رواية فترك الاعتكاف ذلك الشهر ( حتى اعتكف عشرًا من شوال) وفي رواية للبخاري فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال وفي رواية مسلم حتى اعتكف في العشر الأول من شوال وجمع الحافظ بأن المراد بقوله آخر العشر من شوال انتهاء اعتكافه قال الإسماعيلي فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن أول شوال هو يوم العيد وصومه حرام وتعقب بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني فلا دليل فيه لما قاله واستدل به المالكية على وجوب قضاء النفل لمن شرع فيه ثم أبطله وقال غيرهم يقضي ندبًا قال ابن عبد البر أدخل مالك هذا الحديث في قضاء الاعتكاف لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد عزم على الاعتكاف العشر الأواخر فلما رأى تنافس زوجاته في ذلك وخشي أن يدخل نياتهن داخلة انصرف ثم وفى لله بما نواه وفيه صحة اعتكاف النساء لإذنه صلى الله عليه وسلم لهن وإنما منعهن بعد ذلك لعارض ولولا ذلك لقطعت بأن اعتكافهن في المساجد لا يجوز وفيه أن المسجد شرط للاعتكاف لأن النساء شرع لهن الحجاب في البيوت فلو لم يكن المسجد شرطًا ما وقع ما ذكر من الإذن والمنع ولاكتفى لهن بالاعتكاف في مساجد بيوتهن وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن يحيى عن عمرة عن عائشة قال الحافظ وسقط عن عائشة في رواية النسفي والكشميهني وكذا هو في الموطآت كلها وأخرجه أبو نعيم في المستخرج عن عبد الله بن يوسف مرسلاً وجزم بأن البخاري أخرجه عنه موصولاً وقال الترمذي رواه مالك وغير واحد عن يحيى مرسلاً وقال الإسماعيلي تابع مالكًا على إرساله أنس بن عياض وحماد بن زيد على خلاف عنه زاد الدارقطني وعبد الوهاب الثقفي قال ورواه الناس عن يحيى موصولاً وأخرجه أبو نعيم عن عبيد الله بن نافع عن مالك موصولاً انتهى.
ومر التعقب على قوله مرسل في الموطآت كلها وكأنه اكتفى بهؤلاء فلم يراجع أبا عمر ( وسئل مالك عن رجل دخل المسجد لعكوف في العشر الأواخر من رمضان فأقام يومًا أو يومين ثم مرض) مرضًا يشق عليه فيه المكث في المسجد ( فخرج من المسجد أيجب عليه أن يعتكف ما بقي من العشر إذا صح أم لا يجب ذلك عليه وفي أي شهر يعتكف إن وجب ذلك عليه فقال مالك يقضي ما وجب عليه من عكوف) بنذره أو الدخول فيه ( إذا صح في رمضان أو غيره) لكن إن كان في رمضان فبأي وجه أفطر لزمه قضاؤه لأنه صار مع رمضان كالعبادة الواحدة وكذا إن وجب صوم الاعتكاف في غير رمضان وإن كان صوم الاعتكاف تطوعًا فأفطر ناسيًا قضى عند مالك في المدونة، وقال عبد الملك لا قضاء وأما المنذور غير المعين فلا خلاف في وجوب قضائه وبمعين فحكم رمضان فيه على ما مر وفي غيره واستغرقه المانع فلا قضاء على ظاهر المذهب وإن لم يستغرقه وكان في آخر الاعتكاف بعد التلبس به فظاهر المدونة عليه القضاء وقال سحنون لا قضاء قاله الباجي واستدل مالك لوجوب القضاء بقوله ( وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد العكوف في رمضان ثم رجع فلم يعتكف حتى إذا ذهب رمضان اعتكف عشرًا من شوال) هو الحديث الذي أسنده أولاً صحيحًا فمن هنا ونحوه يعلم أنه يطلق البلاغ على الصحيح ولذا قال الأئمة بلاغات مالك صحيحة ( والمتطوع في الاعتكاف والذي عليه الاعتكاف أمرهما واحد فيما يحل لهما ويحرم عليهما ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اعتكافه إلا تطوعًا) وقد قضاه لما قطعه للعذر فيفيد وجوب قضاء الاعتكاف التطوع لمن قطعه بعد الدخول فيه وقول بعضهم إنما قضاه استحبابًا لأنه لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال مدفوع فعدم النقل لا يستلزم عدم الفعل وقد يتأخرن عن شوال لعذر كحيض ( قال مالك في المرأة إنها إذا اعتكفت ثم حاضت في اعتكافها أنها ترجع إلى بيتها) وجوبًا لحرمة مكثها في المسجد بالحيض ( فإذا طهرت رجعت إلى المسجد أية ساعة طهرت ثم تبني على ما مضى من اعتكافها) قبل الحيض حتى تتم ما نوت أو نذرت ( ومثل ذلك المرأة يجب عليها صيام شهرين متتابعين) لكفارة قتل أو فطر في رمضان ( فتحيض ثم تطهر فتبني على ما مضى من صيامها ولا تؤخر ذلك) فإن أخرته استأنفت ( مالك عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت) أرسله هنا وقدمه موصولاً أول الكتاب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة ( قال مالك لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه) إذا ماتا معًا فإن مات أحدهما والآخر حي خرج وجوبًا وبطل اعتكافه ( ولا مع غيرها) فإن خرج بطل اعتكافه.



رقم الحديث 702 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنِ الرَّجُلِ يَعْتَكِفُ هَلْ يَدْخُلُ لِحَاجَتِهِ تَحْتَ سَقْفٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ، وَلَا أُرَاهُ كُرِهَ الْاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا، إِلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، إِلَى الْجُمُعَةِ أَوْ يَدَعَهَا.
فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا لَا يُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ إِتْيَانُ الْجُمُعَةِ فِي مَسْجِدٍ سِوَاهُ، فَإِنِّي لَا أَرَى بَأْسًا بِالْاعْتِكَافِ فِيهِ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: { { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } } فَعَمَّ اللَّهُ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْهَا قَالَ مَالِكٌ: فَمِنْ هُنَالِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي لَا يُجَمَّعُ فِيهَا الْجُمُعَةُ.
إِذَا كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي تُجَمَّعُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَبِيتُ الْمُعْتَكِفُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ.
وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَضْرِبُ بِنَاءً يَبِيتُ فِيهِ.
إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ.
أَوْ فِي رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ الْمَسْجِدِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اعْتَكَفَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ.
وَلَا يَعْتَكِفُ فَوْقَ ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، وَلَا فِي الْمَنَارِ يَعْنِي الصَّوْمَعَةَ وقَالَ مَالِكٌ: يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ، قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا، حَتَّى يَسْتَقْبِلَ بِاعْتِكَافِهِ أَوَّلَ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهَا، وَالْمُعْتَكِفُ مُشْتَغِلٌ بِاعْتِكَافِهِ.
لَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنَ التِّجَارَاتِ، أَوْ غَيْرِهَا.
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْمُرَ الْمُعْتَكِفُ بِبِعْضِ حَاجَتِهِ بِضَيْعَتِهِ، وَمَصْلَحَةِ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِبَيْعِ مَالِهِ.
أَوْ بِشَيْءٍ لَا يَشْغَلُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا كَانَ خَفِيفًا، أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ مَنْ يَكْفِيهِ إِيَّاهُ قَالَ مَالِكٌ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ فِي الْاعْتِكَافِ شَرْطًا، وَإِنَّمَا الْاعْتِكَافُ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ مِثْلُ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ.
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ.
مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً.
فَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِمَا مَضَى مِنَ السُّنَّةِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا مَضَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
لَا مِنْ شَرْطٍ يَشْتَرِطُهُ وَلَا يَبْتَدِعُهُ، وَقَدِ اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ سُنَّةَ الِاعْتِكَافِ قَالَ مَالِكٌ: وَالِاعْتِكَافُ وَالْجِوَارُ سَوَاءٌ.
وَالِاعْتِكَافُ لِلْقَرَوِيِّ وَالْبَدَوِيِّ سَوَاءٌ.


ذِكْرِ الِاعْتِكَافِ

(مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة) كذا للجمهور، ولابن مهدي وجماعة مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة لم يذكروا عمرة كأكثر أصحاب الزهري قاله ابن عبد البر: ورواه أبو مصعب وغير واحد عن مالك عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة قال الترمذي: وهو الصحيح وكذا أخرجه الأئمة الستة من طريق الليث عن الزهري عن عروة كلاهما عن عائشة قال الحافظ: جمع بينهما الليث ورواه يونس والأوزاعي عن الزهري عن عروة وحده ومالك عنه عن عروة عن عمرة قال أبو داود وغيره: لم يتابع عليه وذكر البخاري أن عبيد الله بن عمر تابعه والدارقطني أن أبا أويس تابعه واتفقوا على أن الصواب قول الليث وأن الباقين اختصروا ذكر عمرة وأن ذكرها في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد وقد رواه بعضهم عنه فوافق الليث أخرجه النسائي وله أصل من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصحيح وهو عند النسائي من طريق تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة (زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني) يقرّب (إليَّ رأسه فأرجله) أمشط شعره وأنظفه وأحسنه فهو من مجاز الحذف لأن الترجيل للشعر لا للرأس أو من إطلاق اسم المحل على الحال.

قال ابن عبد البر: الترجيل أن يبل الشعر ثم يمشط وفيه أن إخراج البعض لا يجري مجرى الكل زاد في رواية وأنا حائض، وفيه أن الحائض طاهرة وأن يدي المرأة ليستا بعورة إذ لو كانا عورة ما باشرته بهما في اعتكافه لقوله تعالى: { { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } } انتهى.
وقال الباجي: فيه إباحة تناول المرأة رأس زوجها وترجيله ولمس جلده بغير لذة وإنما يمنع مباشرتها بلذة.

(وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) أي البول والغائط كما فسرهما الزهري واتفق على استثنائهما، قال الباجي: ويجري مجرى ذلك طهارة الحدث وغسل الجنابة والجمعة مما تدعو إليه الضرورة ولا يفعل في المسجد أما الأكل فيباح فيه فإن خرج بطل اعتكافه خلافًا لبعض الشافعية وهذا الحديث رواه مسلم عن يحيى عن مالك به كرواية الجمهور.

(مالك عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية (أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف) لأن الوقوف من معنى العيادة ولا تجوز كحضور جنازة وطلب دين واستيفاء حدّ وجب له فإن فعل بطل اعتكافه فإن كان الحدّ أو الدين عليه فأخرج لذلك كرهًا بطل عند ابن القاسم لأن سببه من جهته ولابن نافع عن مالك لا يبطل قاله الباجي.

(قال مالك: لا يأتي المعتكف حاجته ولا يخرج لها) من المسجد (ولا يعين أحدًا إلا أن يخرج لحاجة الإنسان) ونحوها كغسل وجب أو لجمعة أو عيد أو حر أصابه فيجوز له قص ظفره أو شاربه أو هما ونتف إبط وإزالة عانة تبعًا لخروجه للحاجة ونحوها ولا يخرج لذلك استقلالاً (ولو كان خارجًا لحاجة أحد لكان أحق) بالنصب والرفع (ما يخرج إليه عيادة المريض) بالنصب والرفع (والصلاة على الجنائز واتباعها) مع أنه لا يخرج لذلك لقول عائشة السنة على المعتكف أن لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بدّ له منه رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عنها.
وقال أبو داود: غير عبد الرحمن لا يقول فيه السنة وجزم الدارقطني بأن الذي من قولها لا يخرج إلا لحاجة وما عداه ممن دونها، وجاء عن علي والنخعي والحسن البصري إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضًا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه وبه.

(قال مالك لا يكون المعتكف معتكفًا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف من عيادة المريض والصلاة على الجنائز) ولو أبويه إذا ماتا معًا (ودخول البيوت إلا لحاجة الإنسان) ثم تارة تجب العيادة والخروج للجنازة وذلك إذا مرض أو مات أحد أبويه والآخر حي ويبطل اعتكافه وتارة يحرم الخروج إذا ماتا معًا.

(مالك أنه سأل ابن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف فقال: نعم لا بأس بذلك) وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وقال جماعة إن دخل تحته بطل.

(مالك: الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه) بالتشديد يصلى فيه الجمعة (ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة) وجوبًا ويبطل اعتكافه على المشهور (أو يدعها) فيحرم عليه وفي بطلان اعتكافه قولان (فإن كان) المسجد الذي اعتكف فيه (مسجدًا لا يجمع فيه الجمعة) وهو مباح لعموم الناس (ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة في مسجد سواه) لانقضاء مدة اعتكافه قبل مجيء الجمعة (فإني لا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال: ( { { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } } فعم الله المساجد كلها ولم يخص شيئًا منها) وهذا تصريح من الإمام بالقول بالعموم والتعلق به ودلت الآية على أن شرط الاعتكاف المسجد لأنه لو صح في غيره لم يختص تحريم المباشرة به لأن الجماع مناف للاعتكاف إجماعًا فعلم من ذكر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها وحكى ابن المنذر الإجماع على أن المراد بالمباشرة الجماع وروى ابن جرير وغيره عن قتادة في سبب نزولها كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامعها إن شاء.

(قال مالك فمن هنالك جاز له أن يعتكف في المساجد التي لا يجمع فيها الجمعة إذا كان لا يجب عليه أن يخرج منه إلى المسجد الذي يجمع فيه الجمعة) لانقضاء ما نواه من الاعتكاف قبل مجيئها.
وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان، وأجاز الحنفية للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان المعدّ للصلاة فيه وفي وجه للشافعية وقول للمالكية يجوز للرجال والنساء لأن التطوّع في البيوت أفضل، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات وخصه أبو يوسف بالواجب وأما النفل ففي كل مسجد وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة فاستحبه له الشافعي في الجامع وشرطه مالك لانقطاع الاعتكاف عندهما بالجمعة، وخصه طائفة كالزهري بالجامع مطلقًا وحذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجد مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة.

(قال مالك ولا يبيت المعتكف إلا في المسجد الذي اعتكف فيه إلا أن يكون خباؤه) بكسر الخاء المعجمة وموحدة خيمته (في رحبة من رحاب المسجد) وهي صحته وأما خارجه فلا يجوز الاعتكاف فيه قاله الباجي (ولم أسمع أن المعتكف يضرب بناء يبيت فيه إلا في المسجد أو في رحبة من رحاب المسجد ومما يدل على أنه لا يبيت إلا في المسجد قول عائشة) الذي رواه أوّلاً (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) فحصرها في الحاجة دال على أن بياته كان في المسجد (ولا يعتكف فوق ظهر المسجد) لأنه ليس منه ولذا لا تصلى فيه الجمعة فلا يعتكف فيه (ولا في المنار) العلم الذي يهتدى به أطلقه على المنارة التي يؤذن عليها بجامع الاهتداء فلذا قال (يعني الصومعة) لأنها موضع متخذ لغير الصلاة كبيت الحصر والقناديل ولها اسم تختص به عن المسجد.

(وقال مالك يدخل المعتكف المكان الذي يريد أن يعتكف فيه قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أن يعتكف فيها حتى) أي لأجل أن (يستقبل باعتكافه أول الليلة التي يريد أن يعتكف فيها) استحبابًا فإن دخل قبل الفجر في وقت يجوز له نية الصوم أجزأه لأنّ الليلة تبع إذ الاعتكاف إنما يكون بصوم، وليس الليل بزمانه وبهذا قال باقي الأئمة وطائفة، وقال الأوزاعي والليث والثوري: يدخل بعد صلاة الصبح لظاهر حديث الصحيحين عن عائشة كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله وأجاب الجمهور بأنه دخل من أوّل الليل ولكن إنما تخلى بنفسه في المكان الذي أعدّه لاعتكافه بعد صلاة الصبح.

(والمعتكف مشتغل باعتكافه لا يعرض لغيره مما يشتغل به من التجارات) ويجوز ما خف من بيع وشراء (أو غيرها) كقيامه لرجل يهنيه أو يعزيه أو شهود عقد نكاح يقوم له من مكانه واشتغال بعلم وكتابة (ولا بأس بأن يأمر المعتكف بضيعته ومصلحة أهله وأن يأمر ببيع ماله أو) يأمر (بشيء لا يشغله في نفسه فلا بأس بذلك إذا كان خفيفًا أن يأمر بذلك من يكفيه إياه) إذ المدار على عدم اشتغاله عما هو فيه والأمر بما خف لا يشغله.

(قال مالك لم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا) يخرجه عن سنته كمن شرط أنه متى أراد الخروج منه كان له ذلك فإنه لا ينفعه (وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال) المتصلة (مثل الصلاة والصيام والحج وما أشبه ذلك من الأعمال) وهي العمرة والطواف والائتمام (ما كان من ذلك فريضة أو نافلة) أي لا فرق بينهما (فمن دخل في شيء من ذلك فإنما يعمل بما مضى من السنة) فيجب عليه إتمامه ولا ينفعه شرط الخروج (وليس له أن يحدث في ذلك غير ما مضى عليه المسلمون لا من شرط يشترطه) أي لسببه أو لأجله قبل دخوله (ولا يبتدعه) يحدثه بعد الدخول (وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنة الاعتكاف) عنه فلم ينقل أحد الشرط في الاعتكاف، وقد أجمعوا على أن الصيام والصلاة لا شرط فيهما، وفي الحج خلاف وكذا الاعتكاف فقال جماعة: لا يجوز ولا ينفعه شرطه وقال الشافعي والثوري وإسحاق: إن شرط في ابتداء اعتكافه إن عرض له أمر خرج جاز وهو رواية عن أحمد وعن إسحاق أيضًا يجوز في التطوع لا الواجب.
وفي المنتقى: من نذر اعتكافًا وشرط الخروج منه متى أراد لم يلزمه لأنه نذر اعتكافًا غير شرعي فإن دخل لزمه وبطل الشرط، وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج لعيادة وشهود جنازة وغيرهما من حوائجه وهذا مبني على أصلين أحدهما أن القربة إذا دخل فيها لزمت بالدخول والثاني أنه لا يصح اعتكاف أقل من يوم لأن شرطه الصوم وأجمعوا على أنه لا يتبعض، وقال بعض الحنفية: يصح اعتكاف ساعة.

(قال مالك: والاعتكاف والجوار) بكسر الجيم (سواء) لما في بعض طرق حديث عائشة كان يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض.

قال الباجي: يريد مالك الجوار الذي بمعنى الاعتكاف في التتابع، وأما الجوار الذي يفعله أهل مكة فإنما هو لزوم المسجد بالنهار والانقلاب بالليل، وذلك لا يمنع شيئًا وله الخروج في حوائجه ووطء أهله متى شاء وغير ذلك (والاعتكاف للقروي والبدوي سواء) في الأحكام.