فهرس الكتاب

شرح الزرقاني - بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ

رقم الحديث 966 حَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجَّاجِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ.


( فدية من حلق قبل أن ينحر)

( مالك عن عبد الكريم بن مالك الجزري) بفتح الجيم والزاي أبي سعيد مولى بني أمية الحراني وثقه الأئمة وقال ابن معين ثقة ثبت وحكى عنه أن حديثه عن عطاء ردي قال ابن معين عنى بذلك حديث عائشة كان صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يتوضأ قال وإذا روى الثقات عنه فأحاديثه مستقيمة وأنكر يحيى القطان حديثه عن عطاء في لحم البغل لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه توثيقًا قال أحمد ويحيى لا نبالي أن نسأل عمن روى عنه مالك وروى عنه أيضًا شعبة والسفيانان وقالا إنه ثقة ويقال أنه رأى أنس بن مالك مات سنة سبع وعشرين ومائة بحران ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) كذا ليحيى وأبي مصعب وابن بكير والقعنبي ومطرف والشافعي ومعن وسعيد بن عفير وعبد الله بن يوسف ومصعب ومحمد بن المبارك الصوري ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن وهو الصواب ومن أسقط مجاهدًا فقد أخطأ فإن عبد الكريم لم يلق ابن أبي ليلى ولا رآه وزعم الشافعي أن مالكًا هو الذي وهم في إسقاط مجاهد وذكر الطحاوي أن القعنبي رواه عن مالك بإثباته وكذا رواه عنه مكي بن إبراهيم قاله ابن عبد البر ( عن كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء ابن أمية البلوي حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه قصة الفدية وسكن الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمًا) بالحديبية ( فأذاه القمل في رأسه) وفي البخاري عنه وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً وفي رواية والقمل يتناثر على وجهي ولأحمد وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي فقال صلى الله عليه وسلم لقد أصابك بلاء وللطبراني إن هذا لأذى قلت شديد يا رسول الله ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو مقص أو نورة ( وقال صم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى { { ففدية من صيام } } كما بين قوله { { أو صدقة } } بقوله ( أو أطعم ستة مساكين) المراد بهم ما يشمل الفقراء ( مدين مدين) بالتكرير لإفادة عموم التثنية ( لكل إنسان) منهم وفي رواية الصحيحين لكل مسكين نصف صاع والصاع أربعة أمداد عند الأئمة الثلاثة والجمهور فهو موافق لرواية الصحيحين أيضًا أو تصدق بفرق بين ستة فإنه بفتحتين وتسكن الراء أيضًا مكيال يسع ستة عشر رطلاً ولأحمد نصف صاع طعام وفي رواية نصف صاع حنطة ولمسلم والطبراني نصف صاع تمر ولأبي داود نصف صاع زبيب وفي إسناده ابن إسحاق وليس بحجة في الأحكام إذا خالف والمحفوظ كما قال الحافظ رواية التمر لأنها لم يختلف فيها على راويها قال وعرف بذلك قوة قول من قال لا فرق بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع ( أو انسك) أي تقرب ( بشاة) تذبحها ( أي ذلك فعلت أجزأ عنك) صرح بذلك بعد التعبير بأو المفيدة للتخيير زيادة في البيان ( مالك عن حميد بن قيس) المكي الأعرج القاري وثقه ابن معين وابن سعد وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وأبو داود والنسائي وغيرهم كأحمد في رواية أبي طالب وقال في رواية ابنه ليس بالقوي لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه ( عن مجاهد أبي الحجاج) كنية مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير وفي العلم مات سنة إحدى أو اثنين أو ثلاث أو أربع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة وليحيى بن الحجاج وهو خطأ إذ لم يقل أحد أن اسم أبيه الحجاج فالصواب أبي بأداة الكنية ( عن) عبد الرحمن ( بن أبي ليلى) الأنصاري المدني ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين اختلف في سماعه من عمر مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين قيل إنه غرق ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) له وهو محرم معه بالحديبية والقمل يتناثر على وجهه ( لعلك آذاك هوامك) بشد الميم جمع هامة بشدها وهي الدابة والمراد بها هنا القمل كما في كثير من الروايات لأنها تطلق على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات والقمل ( فقلت نعم يا رسول الله) آذاني ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق) بكسر اللام ( رأسك) أزل شعره ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) مدين مدين لكل إنسان كما في الرواية السابقة ( أو انسك بشاة) أي تقرب بها وهذا دم تخيير استفيد من التعبير بأو المكررة قال ابن عباس ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار ومر في السابق أي ذلك فعلت أجزأ عنك ولأبي داود من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال له إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين وفي رواية للشيخين أو انسك ما تيسر ولهما أيضًا أتجد شاة قلت لا فنزلت هذه الآية { { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } قال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فنزلت في خاصة وهي لكم عامة واستشكل بأن الفاء تدل على الترتيب والآية وردت للتخيير وأجيب بأن التخيير إنما هو عند وجود الشاة أما عند عدمها فالتخيير بين أمرين لا بين الثلاثة وقال النووي ليس المراد أن الصوم لا يجزئ إلا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فإن وجده أخبره أنه مخير بين الثلاث وإن عدمه فهو مخير بين اثنين والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني) كان فاضلاً عالمًا بالقرآن عاملاً روى عنه جماعة من الأئمة وإدخاله البخاري في كتاب الضعفاء رده ابن عبد البر كما تقدم وقال قد وثقه ابن معين ولمالك عنه مرفوعًا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( أنه قال حدثني شيخ بسوق البرم) بضم الموحدة وفتح الراء جمع برمة وهي القدر من الحجر ( بالكوفة) قال ابن عبد البر يقولون إن هذا الشيخ عبد الرحمن بن أبي ليلى وهذا بعيد لأنه أشهر في التابعين من أن يقول فيه عطاء شيخ وأظن قائل ذلك لما عرف أنه كوفي وأنه الذي يروي الحديث عن كعب ظن أنه هو وقد روى هذا الحديث عبد الله بن معقل عن كعب وقد يكون هو الشيخ الذي ذكره عطاء فهو كوفي لا يبعد أن يلقاه عطاء وهو أشبه عندي انتهى ورواية ابن معقل وهو بالمهملة وكسر القاف في الصحيحين ( عن كعب بن عجرة أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية لمسلم زمن الحديبية ( وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي) وفي رواية قدر لي وفي رواية تحت برمة لي فبين أن القدر برمة ولا تنافي بين إضافته له تارة ولأصحابه أخرى كما هو ظاهر ( وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملاً) زاد أحمد حتى حاجبي وشاربي ( فأخذ بجبهتي ثم قال احلق هذا الشعر) وفي رواية لمسلم فدعا الحلاق فحلق رأسه ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) مدين مدين لكل إنسان ( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم) بقوله لي أتجد شاة قلت لا ( إنه ليس عندي ما أنسك به) فلم يأمرني به فلا يخالف الروايات الكثيرة أنه خيره بين الثلاثة لأن ذلك عند وجود الشاة فلما أخبره أنها ليست عنده خيره بين الصيام والإطعام وفي رواية لأبي داود فحلقت رأسي ونسكت وله وللطبراني وغيرهما من طرق تدور على نافع قال فحلق فأمره صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة وقد اختلف على نافع في الواسطة الذي بينه وبين كعب وعارضه ما هو أصح منه أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة قال الحافظ العراقي لفظ بقرة منكر شاذ ثم لا يعارض هذا ما في الصحيحين أنه سأله أتجد شاة قال لا لاحتمال أنه وجدها بعد ما أخبره أنه لا يجدها فنسك بها وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال فحلقت وصمت فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضًا باجتهاده وفي هذه الأحاديث أن السنة مبينة لمجمل القرآن لإطلاق الفدية فيه وتقييدها بالسنة وحرمة حلق الرأس عن المحرم والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع ووجوب الفدية على العامد بلا عذر فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى وأنها على التخيير عمدًا أو سهوًا أو لعذر وقال أبو حنيفة والشافعي لا يتخير العامد بل يتعين الدم ( قال مالك في فدية الأذى إن الأمر فيه أن أحدًا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية وأن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها وأنه يضع فديته حيثما شاء) بزيادة ما ( النسك أو الصيام أو الصدقة بمكة أو بغيرها من البلاد) زيادة إيضاح لقوله حيث شاء بخلاف جزاء الصيد لقوله تعالى { { هديًا بالغ الكعبة } } والإطلاق في آية { { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم مجملها في أحاديث كعب لم يقيد بمكة فدل ذلك على الإطلاق ( قال مالك لا يصلح للمحرم) أي يحرم عليه من الصلاح ضد الفساد وهو حرام ( أن ينتف من شعره شيء ولا يحلقه) يزيله بموسى أو مقص أو نورة ( ولا يقصره حتى يحل إلا أن يصيبه أذى في رأسه) كقمل وصداع ( فعليه فدية كما ذكره الله تعالى) بقوله { { فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة في نزلت الآية خاصة وهي لكم عامة وفي لفظ فأنزل الله في خاصة ثم كانت للمسلمين عامة وفي هذا دلالة لأصح قولي مالك إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( ولا يصلح له أن يقلم أظفاره) لأنه إزالة أذى أو ترفه ( ولا يقتل قملة) واحدة وأولى ما زاد ( ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض) قيد ( ولا من جلده) جسده ( ولا من ثوبه فإن طرحها المحرم من جلده أو من ثوبه فليطعم حفنة من طعام) أي ملء يد واحدة كما قاله في المدونة وإن كانت لغة ملء اليدين ( قال مالك من نتف شعرًا من أنفه أو من إبطه أو اطلى) بشد الطاء افتعل ( جسده بنورة) بضم النون حجر الكاس ثم غلبت على أخلاط تضاف إليه من زرنيخ وغيره يستعمل لإزالة الشعر ( أو يحلق عن شجة رأسه لضرورة أو يحلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيًا أو جاهلاً إن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية في ذلك كله ولا ينبغي له أن يحلق موضع المحاجم ومن جهل) وفي نسخة نسي ( فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمرة افتدى) لأنه ألقى التفث قبل التحلل وقد أمر كعب بالفدية في الحلق قبل محله لضرورته فكيف بالجاهل والناسي.



رقم الحديث 966 حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ، الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ، حَتَّى يَرْجِعَ.


( التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا.
( كَمَثَلِ الصَّائِمِ) نهاره ( الْقَائِمِ) ليله للصلاة ( الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ) بضم التاء، لا يضعف ولا ينكسر ( مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ) تطوعًا ومن كان كذلك فأجره مستمر، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حَتَّى يَرْجِعَ) من جهاده.
قال تعالى { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } } الآية ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو، حابس لها على من يقاتله.

قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائمًا مصليًا لا يفتر ليلاً ولا نهارًا ويحتمل أنه أراد التكثير.
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد.
قال الباجي: أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرّر الشرع من كثرته وعرف من عظمه.
قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد لأنّ الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى.
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المارّ ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد أو باعتبار أحوال المخاطبين كما مرّ مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة.

وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى وأما حديث ابن عباس مرفوعًا ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَكَفَّلَ اللَّهُ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة: تضمن الله وللبخاري: انتدب الله وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } } وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وعبر صلى الله عليه وسلم عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) الكفار عند الإطلاق شرعًا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول الله المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث.

( وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قال النووي: أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الإخبار للمجاهدين من عظيم الثواب.
قال: والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
( أَنْ يُدْخِلَهُ) إن استشهد ( الْجَنَّةَ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد: يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة.
وقال تعالى { { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } } قاله الباجي: وتبعه عياض وغيره دفعًا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص ( أَوْ يَرُدَّهُ) بالنصب عطفًا على يدخله وفي رواية الأويسي، أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ) خالص إن لم يغنم شيئًا ( أَوْ غَنِيمَةٍ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع.
وقال الكرماني: معناه أن المجاهد إما أن يستشهد أولاً.
والثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلوّ لا جمع.
وأجيب أيضًا بأن أو بمعنى الواو.
وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواته في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو.

وقال الحافظ: فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا انتهى وهذا الإشكال لابن دقيق العيد.
وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلخ.
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا، لم يرد الإشكال أيضًا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله: إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه، انتهى.

وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.
قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأوّل وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح: فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.
واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدّح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدّح بها وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً مع أن أهل بدر أفضل باتفاق، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم.
ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن ردّه إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد إلخ.

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلاً في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أوّل ما شرع كان عونًا على الدين وقوّة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها.
ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب.
ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدّح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك: لو فرض أنّ أجر البدري بلا غنيمة ستمائة، وأجر الأحدي مثلاً بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرًا من الأحدي.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أوّل غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عدّ ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخروية: فالدنيويتان السلامة والغنيمة.
والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعدّ الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابًا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معًا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالاً وتفصيلاً انتهى.

وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدني ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) بائع السمن ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ) زاد القعنبي لثلاثة ( لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي ثواب ( وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر فسكون، أي ساتر لفقره ولحاله ( وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) أي إثم، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أولاً ولا وهو الثاني ( فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعدها للجهاد ( فَأَطَالَ لَهَا) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح للرعي ( فِي مَرْجٍ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم: موضع كلأ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أَوْ رَوْضَةٍ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فَمَا أَصَابَتْ) أي أكلت وشربت ومشت ( فِي طِيَلِهَا) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام: حبلها الذي تربط به ويطوّل لها لترعى.
ويقال له: طول بالواو المفتوحة أيضًا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفًا عند البخاري: أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت ( أَوِ الرَّوْضَةِ) بالشك من الراوي كسابقه ( كَانَ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرًا لمعنى ما ( لَهُ حَسَنَاتٌ) يوم القيامة يجدها موفورة.

( وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما، شوطًا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كَانَتْ آثَارُهَا) بالمد والمثلثة، في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وَأَرْوَاثُهَا) بمثلثة، جمع روث أي: ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حَسَنَاتٍ لَهُ) أي لصاحبها يوم القيامة ( وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وسكونها ( فَشَرِبَتْ مِنْهُ) بغير قصد صاحبها ( وَ) الحال أنه ( لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( بِهِ) أي من ذلك النهر ( كَانَ ذَلِكَ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( لَهُ حَسَنَاتٍ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها.
وقال ابن المنير قيل: إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ) في الوجهين.

( وَ) القسم الثاني الذي هي له ستر، ( رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال: تغنيت بما رزقني الله تغنيًا وتغانيت تغانيًا واستغنيت استغناءً كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيًا عن سؤال الناس ( وَتَعَفُّفًا) عن مسألتهم.
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففًا وتكرمًا وتجملاً ( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } ( وَلَا فِي ظُهُورِهَا) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ) ساتر من المسكنة.

( وَ) الثالث الذي هي له وزر ( رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظمًا ( وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل: وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرًا وبطرًا ورياءً للناس ( وَنِوَاءً) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة.
وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدًا.
وقال البوني يروى، نوى بفتح النون وكسرها، ويروى نواء بالمد مصدر انتهى.
والظاهر أن الواو فيه وفيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تنفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال: اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب، وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو.
ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب.

( وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُُ } } إلى آخر السورة فقلت: ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي.
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ) بالبناء للمفعول ( عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله عليّ فيها ( إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ) لكل الخيرات والمسرات ( الْفَاذَّةُ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها قال أبو عبد الملك: يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى.
وقال ابن التين: المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها.
وقال ابن عبد البر: يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه، وأما الشر فتحت المشيئة قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل عليّ فيها شيء إلا إلخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } } واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قال: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقًا.

{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } } أي نملة صغيرة، وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء { { خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرّة من خير أو شر، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضًا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو من عمل صالحًا فلنفسه وقد اتفق العلماء على عموم آية فمن يعمل القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوّة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولاً من طرق عن زيد بن أسلم.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ) بن حزم ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك.
( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ) مرسل وصله الترمذي وحسنه من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) قال الباجي: أي أكثرهم ثوابًا وأرفعهم درجة.
قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رَجُلٌ آخِذٌ) اسم فاعل ( بِعِنَانِ) بكسر العين لجام ( فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي: يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبًا من ذلك راكبًا أو قائدًا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذًا بعنانه في كثير منها.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قال الحافظ: كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي.

( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) وفي رواية منزلة ( بَعْدَهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ) بضم المعجمة مصغرًا إشارة إلى قلتها ( يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما، لكن قال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعًا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم وغيره.
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عامًا قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عَنْ أَبِيهِ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عَنْ جَدِّهِ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء.
قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية.
( قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليلة العقبة.
وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( عَلَى السَّمْعِ) له بإجابة أقواله ( وَالطَّاعَةِ) له بفعل ما يقول.
قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) أي يسر المال وعسره ( وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( وَالْمَكْرَهِ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضًا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره ووقت الكراهية كذلك.
وقال ابن التين: الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل.
وقال الطيبي: أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا.

( وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ) أي الملك والإمارة ( أَهْلَهُ) قال الباجي: يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي: الثاني هو الصحيح ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقًا، وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك.
وفي البخاري زيادة: إلا أن تروا كفرًا بواحًا أي ظاهرًا باديًا انتهى.
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } } وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
أما أهل السنة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسنًا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك.

( وَأَنْ نَقُولَ) باللام ( أَوْ نَقُومَ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ) أي في نصرة دينه ( لَوْمَةَ لَائِمٍ) من الناس واللومة المرة من اللوم.
قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئًا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ } } كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه.

قال ابن عبد البر: هكذا روي هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء، واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطًا، أضربت عنه لأن الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه، فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامر ( بْنُ الْجَرَّاحِ) أحد العشرة ( إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) وللحاكم في المستدرك عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين { { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } إسناده صحيح مرسلاً، وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعًا.
قال الباجي: قيل إن وجه ذلك أنّه لما عرّف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولمّا نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني.
قال: وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) } } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { { وَصَابِرُوا } } الكفار فلا يكونوا أشد صبرًا منكم { { وَرَابِطُوا } } أقيموا على الجهاد { { وَاتَّقُوا اللَّهَ } } في جميع أحوالكم { { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } تفوزون بالجنة وتنجون من النار.



رقم الحديث 967 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ بِسُوقِ الْبُرَمِ بِالْكُوفَةِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَنْفُخُ تَحْتَ قِدْرٍ لِأَصْحَابِي وَقَدِ امْتَلَأَ رَأْسِي وَلِحْيَتِي قَمْلًا، فَأَخَذَ بِجَبْهَتِي، ثُمَّ قَالَ: احْلِقْ هَذَا الشَّعَرَ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَنْسُكُ بِه قَالَ مَالِكٌ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: إِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَنَّ أَحَدًا لَا يَفْتَدِي حَتَّى يَفْعَلَ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، وَإِنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ وُجُوبِهَا عَلَى صَاحِبِهَا.
وَأَنَّهُ يَضَعُ فِدْيَتَهُ حَيْثُ مَا شَاءَ.
النُّسُكَ، أَوِ الصِّيَامَ، أَوِ الصَّدَقَةَ بِمَكَّةَ، أَوْ بِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَصْلُحُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْتِفَ مِنْ شَعَرِهِ شَيْئًا، وَلَا يَحْلِقَهُ، وَلَا يُقَصِّرَهُ، حَتَّى يَحِلَّ.
إِلَّا أَنْ يُصِيبَهُ أَذًى فِي رَأْسِهِ.
فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ.
كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ، وَلَا يَقْتُلَ قَمْلَةً، وَلَا يَطْرَحَهَا مِنْ رَأْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ ثَوْبِهِ.
فَإِنْ طَرَحَهَا الْمُحْرِمُ مِنْ جِلْدِهِ أَوْ مِنْ ثَوْبِهِ، فَلْيُطْعِمْ حَفْنَةً مِنْ طَعَامٍ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ نَتَفَ شَعَرًا مِنْ أَنْفِهِ، أَوْ مِنْ إِبْطِهِ، أَوِ اطَّلَى جَسَدَهُ بِنُورَةٍ، أَوْ يَحْلِقُ عَنْ شَجَّةٍ فِي رَأْسِهِ لِضَرُورَةٍ، أَوْ يَحْلِقُ قَفَاهُ لِمَوْضِعِ الْمَحَاجِمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا: إِنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ.
وَمَنْ جَهِلَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ، افْتَدَى.


( فدية من حلق قبل أن ينحر)

( مالك عن عبد الكريم بن مالك الجزري) بفتح الجيم والزاي أبي سعيد مولى بني أمية الحراني وثقه الأئمة وقال ابن معين ثقة ثبت وحكى عنه أن حديثه عن عطاء ردي قال ابن معين عنى بذلك حديث عائشة كان صلى الله عليه وسلم يقبلها ولا يتوضأ قال وإذا روى الثقات عنه فأحاديثه مستقيمة وأنكر يحيى القطان حديثه عن عطاء في لحم البغل لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه توثيقًا قال أحمد ويحيى لا نبالي أن نسأل عمن روى عنه مالك وروى عنه أيضًا شعبة والسفيانان وقالا إنه ثقة ويقال أنه رأى أنس بن مالك مات سنة سبع وعشرين ومائة بحران ( عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) كذا ليحيى وأبي مصعب وابن بكير والقعنبي ومطرف والشافعي ومعن وسعيد بن عفير وعبد الله بن يوسف ومصعب ومحمد بن المبارك الصوري ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن وهو الصواب ومن أسقط مجاهدًا فقد أخطأ فإن عبد الكريم لم يلق ابن أبي ليلى ولا رآه وزعم الشافعي أن مالكًا هو الذي وهم في إسقاط مجاهد وذكر الطحاوي أن القعنبي رواه عن مالك بإثباته وكذا رواه عنه مكي بن إبراهيم قاله ابن عبد البر ( عن كعب بن عجرة) بضم العين المهملة وسكون الجيم وفتح الراء ابن أمية البلوي حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه قصة الفدية وسكن الكوفة ومات بالمدينة سنة إحدى وخمسين ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمًا) بالحديبية ( فأذاه القمل في رأسه) وفي البخاري عنه وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً وفي رواية والقمل يتناثر على وجهي ولأحمد وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي فقال صلى الله عليه وسلم لقد أصابك بلاء وللطبراني إن هذا لأذى قلت شديد يا رسول الله ( فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه) أي يزيل شعره أعم من أن يكون بموسى أو مقص أو نورة ( وقال صم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى { { ففدية من صيام } } كما بين قوله { { أو صدقة } } بقوله ( أو أطعم ستة مساكين) المراد بهم ما يشمل الفقراء ( مدين مدين) بالتكرير لإفادة عموم التثنية ( لكل إنسان) منهم وفي رواية الصحيحين لكل مسكين نصف صاع والصاع أربعة أمداد عند الأئمة الثلاثة والجمهور فهو موافق لرواية الصحيحين أيضًا أو تصدق بفرق بين ستة فإنه بفتحتين وتسكن الراء أيضًا مكيال يسع ستة عشر رطلاً ولأحمد نصف صاع طعام وفي رواية نصف صاع حنطة ولمسلم والطبراني نصف صاع تمر ولأبي داود نصف صاع زبيب وفي إسناده ابن إسحاق وليس بحجة في الأحكام إذا خالف والمحفوظ كما قال الحافظ رواية التمر لأنها لم يختلف فيها على راويها قال وعرف بذلك قوة قول من قال لا فرق بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع ( أو انسك) أي تقرب ( بشاة) تذبحها ( أي ذلك فعلت أجزأ عنك) صرح بذلك بعد التعبير بأو المفيدة للتخيير زيادة في البيان ( مالك عن حميد بن قيس) المكي الأعرج القاري وثقه ابن معين وابن سعد وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وأبو داود والنسائي وغيرهم كأحمد في رواية أبي طالب وقال في رواية ابنه ليس بالقوي لكن احتج به الستة وكفى برواية مالك عنه ( عن مجاهد أبي الحجاج) كنية مجاهد بن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير وفي العلم مات سنة إحدى أو اثنين أو ثلاث أو أربع ومائة وله ثلاث وثمانون سنة وليحيى بن الحجاج وهو خطأ إذ لم يقل أحد أن اسم أبيه الحجاج فالصواب أبي بأداة الكنية ( عن) عبد الرحمن ( بن أبي ليلى) الأنصاري المدني ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين اختلف في سماعه من عمر مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين قيل إنه غرق ( عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) له وهو محرم معه بالحديبية والقمل يتناثر على وجهه ( لعلك آذاك هوامك) بشد الميم جمع هامة بشدها وهي الدابة والمراد بها هنا القمل كما في كثير من الروايات لأنها تطلق على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات والقمل ( فقلت نعم يا رسول الله) آذاني ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احلق) بكسر اللام ( رأسك) أزل شعره ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) مدين مدين لكل إنسان كما في الرواية السابقة ( أو انسك بشاة) أي تقرب بها وهذا دم تخيير استفيد من التعبير بأو المكررة قال ابن عباس ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار ومر في السابق أي ذلك فعلت أجزأ عنك ولأبي داود من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال له إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين وفي رواية للشيخين أو انسك ما تيسر ولهما أيضًا أتجد شاة قلت لا فنزلت هذه الآية { { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } قال فصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فنزلت في خاصة وهي لكم عامة واستشكل بأن الفاء تدل على الترتيب والآية وردت للتخيير وأجيب بأن التخيير إنما هو عند وجود الشاة أما عند عدمها فالتخيير بين أمرين لا بين الثلاثة وقال النووي ليس المراد أن الصوم لا يجزئ إلا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك فإن وجده أخبره أنه مخير بين الثلاث وإن عدمه فهو مخير بين اثنين والحديث رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به ( مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني) كان فاضلاً عالمًا بالقرآن عاملاً روى عنه جماعة من الأئمة وإدخاله البخاري في كتاب الضعفاء رده ابن عبد البر كما تقدم وقال قد وثقه ابن معين ولمالك عنه مرفوعًا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها ( أنه قال حدثني شيخ بسوق البرم) بضم الموحدة وفتح الراء جمع برمة وهي القدر من الحجر ( بالكوفة) قال ابن عبد البر يقولون إن هذا الشيخ عبد الرحمن بن أبي ليلى وهذا بعيد لأنه أشهر في التابعين من أن يقول فيه عطاء شيخ وأظن قائل ذلك لما عرف أنه كوفي وأنه الذي يروي الحديث عن كعب ظن أنه هو وقد روى هذا الحديث عبد الله بن معقل عن كعب وقد يكون هو الشيخ الذي ذكره عطاء فهو كوفي لا يبعد أن يلقاه عطاء وهو أشبه عندي انتهى ورواية ابن معقل وهو بالمهملة وكسر القاف في الصحيحين ( عن كعب بن عجرة أنه قال جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية لمسلم زمن الحديبية ( وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي) وفي رواية قدر لي وفي رواية تحت برمة لي فبين أن القدر برمة ولا تنافي بين إضافته له تارة ولأصحابه أخرى كما هو ظاهر ( وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملاً) زاد أحمد حتى حاجبي وشاربي ( فأخذ بجبهتي ثم قال احلق هذا الشعر) وفي رواية لمسلم فدعا الحلاق فحلق رأسه ( وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) مدين مدين لكل إنسان ( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم علم) بقوله لي أتجد شاة قلت لا ( إنه ليس عندي ما أنسك به) فلم يأمرني به فلا يخالف الروايات الكثيرة أنه خيره بين الثلاثة لأن ذلك عند وجود الشاة فلما أخبره أنها ليست عنده خيره بين الصيام والإطعام وفي رواية لأبي داود فحلقت رأسي ونسكت وله وللطبراني وغيرهما من طرق تدور على نافع قال فحلق فأمره صلى الله عليه وسلم أن يهدي بقرة وقد اختلف على نافع في الواسطة الذي بينه وبين كعب وعارضه ما هو أصح منه أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة قال الحافظ العراقي لفظ بقرة منكر شاذ ثم لا يعارض هذا ما في الصحيحين أنه سأله أتجد شاة قال لا لاحتمال أنه وجدها بعد ما أخبره أنه لا يجدها فنسك بها وأما ما أخرجه ابن عبد البر أنه قال فحلقت وصمت فإما أنها رواية شاذة أو أنه فعل الصوم أيضًا باجتهاده وفي هذه الأحاديث أن السنة مبينة لمجمل القرآن لإطلاق الفدية فيه وتقييدها بالسنة وحرمة حلق الرأس عن المحرم والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع ووجوب الفدية على العامد بلا عذر فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى وأنها على التخيير عمدًا أو سهوًا أو لعذر وقال أبو حنيفة والشافعي لا يتخير العامد بل يتعين الدم ( قال مالك في فدية الأذى إن الأمر فيه أن أحدًا لا يفتدي حتى يفعل ما يوجب عليه الفدية وأن الكفارة إنما تكون بعد وجوبها على صاحبها وأنه يضع فديته حيثما شاء) بزيادة ما ( النسك أو الصيام أو الصدقة بمكة أو بغيرها من البلاد) زيادة إيضاح لقوله حيث شاء بخلاف جزاء الصيد لقوله تعالى { { هديًا بالغ الكعبة } } والإطلاق في آية { { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } ولما بين النبي صلى الله عليه وسلم مجملها في أحاديث كعب لم يقيد بمكة فدل ذلك على الإطلاق ( قال مالك لا يصلح للمحرم) أي يحرم عليه من الصلاح ضد الفساد وهو حرام ( أن ينتف من شعره شيء ولا يحلقه) يزيله بموسى أو مقص أو نورة ( ولا يقصره حتى يحل إلا أن يصيبه أذى في رأسه) كقمل وصداع ( فعليه فدية كما ذكره الله تعالى) بقوله { { فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } } وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة في نزلت الآية خاصة وهي لكم عامة وفي لفظ فأنزل الله في خاصة ثم كانت للمسلمين عامة وفي هذا دلالة لأصح قولي مالك إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ( ولا يصلح له أن يقلم أظفاره) لأنه إزالة أذى أو ترفه ( ولا يقتل قملة) واحدة وأولى ما زاد ( ولا يطرحها من رأسه إلى الأرض) قيد ( ولا من جلده) جسده ( ولا من ثوبه فإن طرحها المحرم من جلده أو من ثوبه فليطعم حفنة من طعام) أي ملء يد واحدة كما قاله في المدونة وإن كانت لغة ملء اليدين ( قال مالك من نتف شعرًا من أنفه أو من إبطه أو اطلى) بشد الطاء افتعل ( جسده بنورة) بضم النون حجر الكاس ثم غلبت على أخلاط تضاف إليه من زرنيخ وغيره يستعمل لإزالة الشعر ( أو يحلق عن شجة رأسه لضرورة أو يحلق قفاه لموضع المحاجم وهو محرم ناسيًا أو جاهلاً إن فعل شيئًا من ذلك فعليه الفدية في ذلك كله ولا ينبغي له أن يحلق موضع المحاجم ومن جهل) وفي نسخة نسي ( فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمرة افتدى) لأنه ألقى التفث قبل التحلل وقد أمر كعب بالفدية في الحلق قبل محله لضرورته فكيف بالجاهل والناسي.



رقم الحديث 967 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ، أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ.
أَوْ يَرُدَّهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ.
مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ.


( التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا.
( كَمَثَلِ الصَّائِمِ) نهاره ( الْقَائِمِ) ليله للصلاة ( الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ) بضم التاء، لا يضعف ولا ينكسر ( مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ) تطوعًا ومن كان كذلك فأجره مستمر، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حَتَّى يَرْجِعَ) من جهاده.
قال تعالى { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } } الآية ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو، حابس لها على من يقاتله.

قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائمًا مصليًا لا يفتر ليلاً ولا نهارًا ويحتمل أنه أراد التكثير.
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد.
قال الباجي: أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرّر الشرع من كثرته وعرف من عظمه.
قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد لأنّ الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى.
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المارّ ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد أو باعتبار أحوال المخاطبين كما مرّ مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة.

وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى وأما حديث ابن عباس مرفوعًا ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَكَفَّلَ اللَّهُ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة: تضمن الله وللبخاري: انتدب الله وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } } وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وعبر صلى الله عليه وسلم عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) الكفار عند الإطلاق شرعًا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول الله المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث.

( وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قال النووي: أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الإخبار للمجاهدين من عظيم الثواب.
قال: والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
( أَنْ يُدْخِلَهُ) إن استشهد ( الْجَنَّةَ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد: يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة.
وقال تعالى { { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } } قاله الباجي: وتبعه عياض وغيره دفعًا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص ( أَوْ يَرُدَّهُ) بالنصب عطفًا على يدخله وفي رواية الأويسي، أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ) خالص إن لم يغنم شيئًا ( أَوْ غَنِيمَةٍ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع.
وقال الكرماني: معناه أن المجاهد إما أن يستشهد أولاً.
والثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلوّ لا جمع.
وأجيب أيضًا بأن أو بمعنى الواو.
وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواته في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو.

وقال الحافظ: فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا انتهى وهذا الإشكال لابن دقيق العيد.
وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلخ.
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا، لم يرد الإشكال أيضًا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله: إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه، انتهى.

وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.
قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأوّل وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح: فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.
واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدّح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدّح بها وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً مع أن أهل بدر أفضل باتفاق، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم.
ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن ردّه إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد إلخ.

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلاً في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أوّل ما شرع كان عونًا على الدين وقوّة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها.
ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب.
ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدّح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك: لو فرض أنّ أجر البدري بلا غنيمة ستمائة، وأجر الأحدي مثلاً بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرًا من الأحدي.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أوّل غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عدّ ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخروية: فالدنيويتان السلامة والغنيمة.
والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعدّ الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابًا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معًا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالاً وتفصيلاً انتهى.

وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدني ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) بائع السمن ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ) زاد القعنبي لثلاثة ( لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي ثواب ( وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر فسكون، أي ساتر لفقره ولحاله ( وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) أي إثم، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أولاً ولا وهو الثاني ( فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعدها للجهاد ( فَأَطَالَ لَهَا) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح للرعي ( فِي مَرْجٍ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم: موضع كلأ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أَوْ رَوْضَةٍ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فَمَا أَصَابَتْ) أي أكلت وشربت ومشت ( فِي طِيَلِهَا) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام: حبلها الذي تربط به ويطوّل لها لترعى.
ويقال له: طول بالواو المفتوحة أيضًا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفًا عند البخاري: أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت ( أَوِ الرَّوْضَةِ) بالشك من الراوي كسابقه ( كَانَ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرًا لمعنى ما ( لَهُ حَسَنَاتٌ) يوم القيامة يجدها موفورة.

( وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما، شوطًا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كَانَتْ آثَارُهَا) بالمد والمثلثة، في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وَأَرْوَاثُهَا) بمثلثة، جمع روث أي: ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حَسَنَاتٍ لَهُ) أي لصاحبها يوم القيامة ( وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وسكونها ( فَشَرِبَتْ مِنْهُ) بغير قصد صاحبها ( وَ) الحال أنه ( لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( بِهِ) أي من ذلك النهر ( كَانَ ذَلِكَ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( لَهُ حَسَنَاتٍ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها.
وقال ابن المنير قيل: إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ) في الوجهين.

( وَ) القسم الثاني الذي هي له ستر، ( رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال: تغنيت بما رزقني الله تغنيًا وتغانيت تغانيًا واستغنيت استغناءً كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيًا عن سؤال الناس ( وَتَعَفُّفًا) عن مسألتهم.
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففًا وتكرمًا وتجملاً ( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } ( وَلَا فِي ظُهُورِهَا) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ) ساتر من المسكنة.

( وَ) الثالث الذي هي له وزر ( رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظمًا ( وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل: وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرًا وبطرًا ورياءً للناس ( وَنِوَاءً) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة.
وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدًا.
وقال البوني يروى، نوى بفتح النون وكسرها، ويروى نواء بالمد مصدر انتهى.
والظاهر أن الواو فيه وفيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تنفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال: اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب، وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو.
ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب.

( وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُُ } } إلى آخر السورة فقلت: ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي.
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ) بالبناء للمفعول ( عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله عليّ فيها ( إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ) لكل الخيرات والمسرات ( الْفَاذَّةُ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها قال أبو عبد الملك: يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى.
وقال ابن التين: المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها.
وقال ابن عبد البر: يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه، وأما الشر فتحت المشيئة قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل عليّ فيها شيء إلا إلخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } } واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قال: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقًا.

{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } } أي نملة صغيرة، وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء { { خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرّة من خير أو شر، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضًا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو من عمل صالحًا فلنفسه وقد اتفق العلماء على عموم آية فمن يعمل القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوّة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولاً من طرق عن زيد بن أسلم.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ) بن حزم ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك.
( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ) مرسل وصله الترمذي وحسنه من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) قال الباجي: أي أكثرهم ثوابًا وأرفعهم درجة.
قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رَجُلٌ آخِذٌ) اسم فاعل ( بِعِنَانِ) بكسر العين لجام ( فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي: يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبًا من ذلك راكبًا أو قائدًا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذًا بعنانه في كثير منها.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قال الحافظ: كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي.

( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) وفي رواية منزلة ( بَعْدَهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ) بضم المعجمة مصغرًا إشارة إلى قلتها ( يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما، لكن قال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعًا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم وغيره.
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عامًا قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عَنْ أَبِيهِ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عَنْ جَدِّهِ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء.
قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية.
( قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليلة العقبة.
وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( عَلَى السَّمْعِ) له بإجابة أقواله ( وَالطَّاعَةِ) له بفعل ما يقول.
قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) أي يسر المال وعسره ( وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( وَالْمَكْرَهِ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضًا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره ووقت الكراهية كذلك.
وقال ابن التين: الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل.
وقال الطيبي: أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا.

( وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ) أي الملك والإمارة ( أَهْلَهُ) قال الباجي: يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي: الثاني هو الصحيح ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقًا، وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك.
وفي البخاري زيادة: إلا أن تروا كفرًا بواحًا أي ظاهرًا باديًا انتهى.
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } } وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
أما أهل السنة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسنًا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك.

( وَأَنْ نَقُولَ) باللام ( أَوْ نَقُومَ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ) أي في نصرة دينه ( لَوْمَةَ لَائِمٍ) من الناس واللومة المرة من اللوم.
قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئًا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ } } كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه.

قال ابن عبد البر: هكذا روي هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء، واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطًا، أضربت عنه لأن الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه، فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامر ( بْنُ الْجَرَّاحِ) أحد العشرة ( إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) وللحاكم في المستدرك عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين { { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } إسناده صحيح مرسلاً، وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعًا.
قال الباجي: قيل إن وجه ذلك أنّه لما عرّف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولمّا نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني.
قال: وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) } } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { { وَصَابِرُوا } } الكفار فلا يكونوا أشد صبرًا منكم { { وَرَابِطُوا } } أقيموا على الجهاد { { وَاتَّقُوا اللَّهَ } } في جميع أحوالكم { { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } تفوزون بالجنة وتنجون من النار.



رقم الحديث 968 وحَدَّثَنِي عَنْ مَالكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ.
يَطْلُبُهُ حَتَّى يُمْكِنَهُ يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ.


( مالك عن عبد الله بن دينار) المدني مولى ابن عمر ( أنه قال سمعت عبد الله بن عمر) بن الخطاب ( وهو يسأل عن الكنز) في قوله تعالى { { والذين يكنزون الذهب والفضة } }( ما هو فقال هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة) فما أديت منه فليس بكنز وعلى هذا التفسير جمهور العلماء وفقهاء الأمصار وقد رواه سفيان الثوري عن ابن دينار عن ابن عمر مرفوعًا أخرجه الطبراني والبيهقي وقال ليس بمحفوظ وروى ابن مردويه من طريق سويد بن عبد العزيز والبيهقي من رواية عبد الله بن نمير كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا كل ما أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض قال البيهقي ليس بمحفوظ والمشهور وقفه قال ابن عبد البر ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعًا إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك أخرجه الترمذي وقال حسن غريب وصححه الحاكم ولأبي داود عن أم سلمة كنت ألبس أوضاحًا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز فقال ما بلغ أن تؤدى زكاته فيزكي فليس بكنز صححه الحاكم وابن القطان وقال ابن عبد البر في سنده مقال وقال الزين العراقي سنده جيد وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس ما أدى زكاته فليس بكنز وللحاكم عن جابر مرفوعًا إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره ورواه عبد الرزاق موقوفًا ورجحه أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقد استدل له البخاري بقوله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة قال ابن بطال وغيره وجه الاستدلال أن الكنز المذموم هو المتوعد عليه الموجب لصاحبه النار لا مطلق الكنز الذي هو أعم من ذلك ومفهومه أن ما زاد فيه الصدقة وما أخرجت منه الصدقة لا وعيد على صاحبه فلا يسمى كنزًا وقال ابن رشد ما لا تجب فيه الزكاة لا يسمى كنزًا لأنه معفو عنه فما أخرجت زكاته كذلك لأنه عفي عنه بإخراج الواجب فيه فلا يسمى كنزًا قال أبو عمر لا أعلم خلافًا في تفسير الكنز بذلك إلا ما روي عن علي وأبي ذر والضحاك وأبي ذر وقوم من أهل الزهد أن في المال حقًا سوى الزكاة وجاءت آثار عن أبي ذر تدل على أن الكنز ما فضل عن القوت وسداد العيش وأن آية الوعيد نزلت في ذلك وعنه أيضًا أنها في منع الزكاة ( مالك عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح) ذكوان ( السمان) بائع السمن ( عن أبي هريرة أنه كان يقول) موقوفًا ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وتابعه زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا عند مسلم وساقه مطولاً وكذا رفعه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عند البخاري وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عند مسلم والقعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة عند النسائي وخالفهم عبد العزيز بن أبي سلمة فرواه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه النسائي ورجحه لكن قال ابن عبد البر رواية عبد العزيز خطأ بين في الإسناد لأنه لو كان عند ابن دينار عن ابن عمر ما رواه عن أبي صالح أصلاً قال الحافظ وفي هذا التعليل نظر وما المانع أن له فيه شيخين نعم الذي على طريقة أهل الحديث أن رواية عبد العزيز شاذة لأنه سلك طريق الجادة ومن عدل عنها دل على مزيد حفظه ( من كان عنده مال لم يؤد زكاته) وفي رواية البخاري من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته ( مثل) بضم الميم مبنيًا للمفعول أي صور ( له يوم القيامة) ماله الذي لم يؤد زكاته ( شجاعًا) بضم الشين والنصب مفعول ثان لمثل والضمير الذي فيه يرجع إلى مال وقد ناب عن المفعول الأول وقال الطيبي نصب لجريه مجرى المفعول الثاني أي صور ماله شجاعًا وقال الدماميني نصب على الحال وهو الحية الذكر وقيل الذي يقوم على ذنبه ويواثب الفارس والراجل وربما بلغت وجه الفارس تكون في الصحارى ( أقرع) برأسه بياض وكلما كثر سمه أبيض رأسه قاله ابن عبد البر وفي الفتح الأقرع الذي تقرع رأسه أي تمعط لكثرة سمه وفي كتاب أبي عبيد سمي أقرع لأن شعر رأسه يتمعط لجمعه السم فيه وتعقبه القزاز بأن الحية لا شعر برأسها فلعله يذهب جلد رأسه وفي تهذيب الأزهري سمي أقرع لأنه يفري السم ويجمعه في رأسه حتى تتمعط فروة رأسه قال ذو الرمة

فرى السم حتى انمار فروة رأسه
عن العظم صل فاتك اللسع مارده

( له زبيبتان) بفتح الزاي وموحدتين تثنية زبيبة وهما الزبدتان اللتان في الشدقين يقال تكلم فلان حتى زبب شدقاه أي خرج الزبد منهما وقيل هما النكتتان السوداوان فوق عينيه وهي علامة الحية الذكر المؤذي وقيل نقطتان يكتنفان فاه وقيل هما في حلقه بمنزلة زنمتي العنز وقيل لحمتان على رأسه مثل القرنين وقيل نابان يخرجان من فيه ( يطلبه حتى يمكنه) وللبخاري والنسائي فلا يزال يتبعه حتى يلقمه أصبعه ( يقول أنا كنزك) وللبخاري أقرع يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا { { ولا يحسبن الذين يبخلون } } الآية وفائدة هذا القول زيادة الحسرة في العذاب حتى لا ينفعه الندم وفيه نوع من التهكم ولابن حبان في حديث ثوبان يتبعه فيقول أنا كنزك الذي تركته بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيمضغها ثم يتبعه سائر جسده ولمسلم في حديث جابر يتبع صاحبه حيث ذهب وهو يفر منه فإذا رأى أنه لا بد له منه أدخل يده في فيه فجعل يقضمها كما يقضم الفعل وظاهر الحديث أن الله يصير نفس المال بهذه الصفة وفي حديث جابر عند مسلم مثل كما هنا قال القرطبي أي صور أو نصب وأقيم من قولهم مثل قائمًا أي منتصبًا أو ضمن مثل معنى التصيير أي صير ماله على هذه الصورة وقال عياض ظاهره أن الله خلق هذا الشجاع لعذابه ومعنى مثل نصب كقوله من سره أن يتمثل له الناس قيامًا أي ينتصبون وقد يكون معناه صور ماله على هذه الصورة كقوله أشد الناس عذابًا الممثلون أي المصورون ويشهد له رواية إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعًا ثم لا تنافي بين هذا وبين رواية مسلم مرفوعًا ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره لأنه يجتمع له الأمران جميعًا فحديث الباب يوافق الآية وهي { { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } } ورواية مسلم توافق الآية فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم لأنه جمع المال ولم يصرفه في حقه لتحصيل الجاه والتنعم بالمطاعم والملابس أو لأنه أعرض عن الفقير وولاه ظهره أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة لاشتمالها على الأعضاء الرئيسية وقيل المراد بها الجهات الأربع التي هي مقدم البدن ومؤخره وجنباه نسأل الله السلامة هذا وفي الحديث دلالة على أن المراد بالتطويق في الآية الحقيقة خلافًا لمن قال معناه سيطوقون الإثم وفي تلاوته صلى الله عليه وسلم لها كما صرح به في حديث ابن مسعود عند الحميدي والشافعي ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { { لا تحسبن } } الآية وللترمذي ثم قرأ مصداقه سيطوقون ما بخلوا به دلالة على أنها في مانعي الزكاة وهو قول أكثر علماء التفسير وقيل نزلت في اليهود الذين كتموا صفته صلى الله عليه وسلم وقيل فيمن له قرابة لا يصلهم قاله مسروق.



رقم الحديث 969 قَالَ مَالِكٌ: فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْبَسَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ، أَوْ يُقَصِّرَ شَعَرَهُ، أَوْ يَمَسَّ طِيبًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِيَسَارَةِ مُؤْنَةِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ.
قَالَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُرْخِصَ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ.
وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِدْيَةُ وَسُئِلَ مَالِكٌ: عَنِ الْفِدْيَةِ مِنَ الصِّيَامِ، أَوِ الصَّدَقَةِ، أَوِ النُّسُكِ، أَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ؟ وَمَا النُّسُكُ؟ وَكَمِ الطَّعَامُ؟ وَبِأَيِّ مُدٍّ هُوَ؟ وَكَمِ الصِّيَامُ؟ وَهَلْ يُؤَخِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَمْ يَفْعَلُهُ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، كَذَا أَوْ كَذَا فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ.
أَيَّ شَيْءٍ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَ.
قَالَ:.
وَأَمَّا النُّسُكُ فَشَاةٌ.
.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.
.
وَأَمَّا الطَّعَامُ فَيُطْعِمُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ.
لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ بِالْمُدِّ الْأَوَّلِ مُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَالِكٌ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِذَا رَمَى الْمُحْرِمُ شَيْئًا، فَأَصَابَ شَيْئًا مِنَ الصَّيْدِ لَمْ يُرِدْهُ، فَقَتَلَهُ: إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ.
وَكَذَلِكَ الْحَلَالُ يَرْمِي فِي الْحَرَمِ شَيْئًا، فَيُصِيبُ صَيْدًا لَمْ يُرِدْهُ، فَيَقْتُلُهُ: إِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ.
لِأَنَّ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةٍ، سَوَاءٌ قَالَ مَالِكٌ: فِي الْقَوْمِ يُصِيبُونَ الصَّيْدَ جَمِيعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ.
أَوْ فِي الْحَرَمِ.
قَالَ: أَرَى أَنَّ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ جَزَاءَهُ.
إِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْهَدْيِ، فَعَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ.
وَإِنْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالصِّيَامِ، كَانَ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمُ الصِّيَامُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ، الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ خَطَأً.
فَتَكُونُ كَفَّارَةُ ذَلِكَ عِتْقَ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ.
أَوْ صِيَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ رَمَى صَيْدًا أَوْ صَادَهُ بَعْدَ رَمْيِهِ الْجَمْرَةَ، وَحِلَاقِ رَأْسِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُفِضْ: إِنَّ عَلَيْهِ جَزَاءَ ذَلِكَ الصَّيْدِ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ { { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } } وَمَنْ لَمْ يُفِضْ فَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ مَسُّ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيمَا قَطَعَ مِنَ الشَّجَرِ فِي الْحَرَمِ شَيْءٌ.
وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا حَكَمَ عَلَيْهِ فِيهِ بِشَيْءٍ.
وَبِئْسَ مَا صَنَعَ قَالَ مَالِكٌ: فِي الَّذِي يَجْهَلُ، أَوْ يَنْسَى صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أَوْ يَمْرَضُ فِيهَا فَلَا يَصُومُهَا حَتَّى يَقْدَمَ بَلَدَهُ.
قَالَ: لِيُهْدِ إِنْ وَجَدَ هَدْيًا وَإِلَّا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَهْلِهِ، وَسَبْعَةً بَعْدَ ذَلِكَ.



( جامع الفدية)

( قال مالك فيمن أراد أن يلبس شيئًا من الثياب التي لا ينبغي) لا يجوز ( له أن يلبسها وهو محرم أو يقصر شعره أو يمس طيبًا من غير ضرورة ليسارة مؤنة الفدية عليه قال لا ينبغي لأحد أن يفعل ذلك) إذ لا يجوز لأحد أن يأتي الذنب ويكفر ( وإنما أرخص فيه للضرورة على أن من فعل ذلك الفدية) إلا أن ذا العذر لا يأثم وغيره آثم ( وسئل مالك عن الفدية من الصيام أو الصدقة أو النسك أصاحبه بالخيار في ذلك) ولو عامدًا بلا ضرورة ( وما النسك وكم الطعام وبأي مد هو) بالمد النبوي أم مد هشام ( وكم الصيام وهل يؤخر شيئًا من ذلك أم يفعله في فوره ذلك قال مالك كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا) بأو ( فصاحبه مخير في ذلك أي شيء أحب أن يفعل ذلك فعل) وقد جاء هذا عن ابن عباس قال ما كان في القرآن بأو فصاحبه بالخيار وقد خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبًا في الفدية رواه سفيان الثوري في تفسيره عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه ورواه ابن جرير عن عطاء وعكرمة ( قال وأما النسك فشاة) لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب أو انسك بشاة والمراد أنها تكفي في النسك فأعلى منها أولى في الكفاية من بقر أو إبل بدليل قوله في الرواية الأخرى أو انسك بما تيسر ( وأما الصيام فثلاثة أيام وأما الطعام فيطعم ستة مساكين لكل مسكين مدان) مبتدأ وخبر وفي نسخة مدين مفعول يطعم كما ورد ذلك في الحديث المار فهو بيان لمجمل الآية ( بالمد الأول مد النبي صلى الله عليه وسلم) وفي البخاري حدثنا منذر بن الوليد الجارودي قال حدثنا أبو قتيبة قال حدثنا مالك عن نافع قال كان ابن عمر يعطي زكاة رمضان بمد النبي صلى الله عليه وسلم المد الأول وفي كفارة اليمين بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتيبة قال لنا مالك مدنا أعظم من مدكم ولا نرى الفضل إلا في مد النبي صلى الله عليه وسلم وقال لنا مالك لو جاء أمير فضرب مدًا أصغر من مد النبي صلى الله عليه وسلم بأي شيء كنتم تعطون قلت كنا نعطي بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال أفلا ترى أن الأمر إنما يعود إلى مد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث من البخاري وهو غريب ما رواه عن مالك إلا أبو قتيبة وهو سلم بفتح المهملة وإسكان اللام ولا عنه إلا المنذر وقوله أفلا ترى إلخ معناه أنه إذا تعارضت الأمداد الثلاثة الأول والحادث وهو الهشامي وهو زائد عليه والثالث المفروض وقوعه وإن لم يقع وهو دون الأول كان الرجوع إلى الأول أولى لأنه الذي تحققت مشروعيته لنقل أهل المدينة له قرنًا بعد قرن وجيلاً بعد جيل وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا إلى قول مالك ( قال مالك وسمعت بعض أهل العلم يقول إذا رمى المحرم شيئًا فأصاب شيئًا من الصيد لم يرده) المحرم الرامي ( فقتله إن) بالكسر مقول القول ( عليه أن يفديه وكذلك الحلال يرمي في الحرم شيئًا فيصيب صيدًا لم يرده) الرامي ( فيقتله إن عليه أن يفديه لأن العمد والخطأ في ذلك بمنزلة سواء) في الفدية لأنه إتلاف والإتلاف مضمون في العمد والخطأ لكن العامد آثم بخلاف المخطئ وإليه ذهب الجمهور سلفًا وخلفًا كما دل عليه القرآن في العمد وإنه آثم بقوله ليذوق وبال أمره وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ أيضًا ( قال مالك في القوم يصيبون الصيد جميعًا وهم محرمون) بحج أو عمرة ( أو في الحرم) وهم حلال ( قال أرى أن على كل إنسان منهم جزاؤه إن) بالكسر استئناف ( حكم عليهم بالهدي فعلى كل إنسان منهم هدي وإن حكم عليهم بالصيام كان على كل إنسان منهم الصيام) ببدل ذلك أو إطعام فعلى كل منهم إطعام وكأنه تركه اكتفاء ( ومثل ذلك القوم يقتلون الرجل خطأ فتكون كفارة ذلك عتق رقبة على كل إنسان منهم أو صيام شهرين متتابعين على كل إنسان منهم) لعله أراد أن ذلك مثل قتل الخطأ فيكون استدل بالقياس ( قال مالك من رمى صيدًا أو صاده بعد رميه الجمرة وحلاق رأسه غير أنه لم يفض) لم يطف طواف الإفاضة ( إن عليه جزاء ذلك الصيد لأن الله تبارك وتعالى قال { { وإذا حللتم فاصطادوا } } ومن لم يفض) لم يحل الحل الأكبر ( فقد بقي عليه) من الممنوع ( مس الطيب والنساء) الأول كراهة والثاني تحريمًا كالصيد لأنه شرط في إباحته في الآية الإحلال ( قال مالك ليس على المحرم فيما قطع من الشجر في الحرم شيء) لا جزاء ولا غيره سوى الحرمة فيتوب إلى الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة فتح مكة لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة في روايات أخر ليس في شيء منها ذكر جزاء ولا غيره والكفارات لا يقاس عليها ( ولم يبلغنا أن أحدًا حكم عليه فيه بشيء وبئس ما صنع) لارتكاب الحرمة فعليه التوبة ( قال مالك في الذي يجهل أو ينسى صيام ثلاثة أيام في الحج أو يمرض فيها فلا يصومها حتى يقدم) بفتح الدال ( بلده قال ليهد إن وجد هديًا وإلا فليصم ثلاثة أيام في أهله وسبعة بعد ذلك) لأن الصيام بكل مكان سواء.



رقم الحديث 970 وحَدَّثَنِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا؟ رَجُلٌ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ، يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا بَعْدَهُ؟ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ.
يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.


( التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا.
( كَمَثَلِ الصَّائِمِ) نهاره ( الْقَائِمِ) ليله للصلاة ( الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ) بضم التاء، لا يضعف ولا ينكسر ( مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ) تطوعًا ومن كان كذلك فأجره مستمر، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حَتَّى يَرْجِعَ) من جهاده.
قال تعالى { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } } الآية ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو، حابس لها على من يقاتله.

قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائمًا مصليًا لا يفتر ليلاً ولا نهارًا ويحتمل أنه أراد التكثير.
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد.
قال الباجي: أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرّر الشرع من كثرته وعرف من عظمه.
قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد لأنّ الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى.
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المارّ ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد أو باعتبار أحوال المخاطبين كما مرّ مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة.

وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى وأما حديث ابن عباس مرفوعًا ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَكَفَّلَ اللَّهُ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة: تضمن الله وللبخاري: انتدب الله وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } } وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وعبر صلى الله عليه وسلم عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) الكفار عند الإطلاق شرعًا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول الله المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث.

( وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قال النووي: أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الإخبار للمجاهدين من عظيم الثواب.
قال: والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
( أَنْ يُدْخِلَهُ) إن استشهد ( الْجَنَّةَ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد: يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة.
وقال تعالى { { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } } قاله الباجي: وتبعه عياض وغيره دفعًا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص ( أَوْ يَرُدَّهُ) بالنصب عطفًا على يدخله وفي رواية الأويسي، أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ) خالص إن لم يغنم شيئًا ( أَوْ غَنِيمَةٍ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع.
وقال الكرماني: معناه أن المجاهد إما أن يستشهد أولاً.
والثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلوّ لا جمع.
وأجيب أيضًا بأن أو بمعنى الواو.
وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواته في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو.

وقال الحافظ: فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا انتهى وهذا الإشكال لابن دقيق العيد.
وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلخ.
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا، لم يرد الإشكال أيضًا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله: إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه، انتهى.

وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.
قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأوّل وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح: فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.
واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدّح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدّح بها وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً مع أن أهل بدر أفضل باتفاق، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم.
ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن ردّه إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد إلخ.

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلاً في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أوّل ما شرع كان عونًا على الدين وقوّة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها.
ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب.
ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدّح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك: لو فرض أنّ أجر البدري بلا غنيمة ستمائة، وأجر الأحدي مثلاً بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرًا من الأحدي.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أوّل غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عدّ ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخروية: فالدنيويتان السلامة والغنيمة.
والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعدّ الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابًا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معًا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالاً وتفصيلاً انتهى.

وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدني ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) بائع السمن ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ) زاد القعنبي لثلاثة ( لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي ثواب ( وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر فسكون، أي ساتر لفقره ولحاله ( وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) أي إثم، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أولاً ولا وهو الثاني ( فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعدها للجهاد ( فَأَطَالَ لَهَا) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح للرعي ( فِي مَرْجٍ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم: موضع كلأ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أَوْ رَوْضَةٍ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فَمَا أَصَابَتْ) أي أكلت وشربت ومشت ( فِي طِيَلِهَا) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام: حبلها الذي تربط به ويطوّل لها لترعى.
ويقال له: طول بالواو المفتوحة أيضًا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفًا عند البخاري: أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت ( أَوِ الرَّوْضَةِ) بالشك من الراوي كسابقه ( كَانَ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرًا لمعنى ما ( لَهُ حَسَنَاتٌ) يوم القيامة يجدها موفورة.

( وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما، شوطًا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كَانَتْ آثَارُهَا) بالمد والمثلثة، في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وَأَرْوَاثُهَا) بمثلثة، جمع روث أي: ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حَسَنَاتٍ لَهُ) أي لصاحبها يوم القيامة ( وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وسكونها ( فَشَرِبَتْ مِنْهُ) بغير قصد صاحبها ( وَ) الحال أنه ( لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( بِهِ) أي من ذلك النهر ( كَانَ ذَلِكَ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( لَهُ حَسَنَاتٍ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها.
وقال ابن المنير قيل: إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ) في الوجهين.

( وَ) القسم الثاني الذي هي له ستر، ( رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال: تغنيت بما رزقني الله تغنيًا وتغانيت تغانيًا واستغنيت استغناءً كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيًا عن سؤال الناس ( وَتَعَفُّفًا) عن مسألتهم.
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففًا وتكرمًا وتجملاً ( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } ( وَلَا فِي ظُهُورِهَا) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ) ساتر من المسكنة.

( وَ) الثالث الذي هي له وزر ( رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظمًا ( وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل: وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرًا وبطرًا ورياءً للناس ( وَنِوَاءً) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة.
وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدًا.
وقال البوني يروى، نوى بفتح النون وكسرها، ويروى نواء بالمد مصدر انتهى.
والظاهر أن الواو فيه وفيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تنفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال: اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب، وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو.
ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب.

( وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُُ } } إلى آخر السورة فقلت: ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي.
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ) بالبناء للمفعول ( عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله عليّ فيها ( إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ) لكل الخيرات والمسرات ( الْفَاذَّةُ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها قال أبو عبد الملك: يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى.
وقال ابن التين: المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها.
وقال ابن عبد البر: يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه، وأما الشر فتحت المشيئة قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل عليّ فيها شيء إلا إلخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } } واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قال: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقًا.

{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } } أي نملة صغيرة، وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء { { خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرّة من خير أو شر، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضًا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو من عمل صالحًا فلنفسه وقد اتفق العلماء على عموم آية فمن يعمل القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوّة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولاً من طرق عن زيد بن أسلم.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ) بن حزم ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك.
( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ) مرسل وصله الترمذي وحسنه من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) قال الباجي: أي أكثرهم ثوابًا وأرفعهم درجة.
قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رَجُلٌ آخِذٌ) اسم فاعل ( بِعِنَانِ) بكسر العين لجام ( فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي: يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبًا من ذلك راكبًا أو قائدًا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذًا بعنانه في كثير منها.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قال الحافظ: كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي.

( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) وفي رواية منزلة ( بَعْدَهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ) بضم المعجمة مصغرًا إشارة إلى قلتها ( يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما، لكن قال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعًا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم وغيره.
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عامًا قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عَنْ أَبِيهِ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عَنْ جَدِّهِ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء.
قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية.
( قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليلة العقبة.
وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( عَلَى السَّمْعِ) له بإجابة أقواله ( وَالطَّاعَةِ) له بفعل ما يقول.
قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) أي يسر المال وعسره ( وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( وَالْمَكْرَهِ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضًا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره ووقت الكراهية كذلك.
وقال ابن التين: الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل.
وقال الطيبي: أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا.

( وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ) أي الملك والإمارة ( أَهْلَهُ) قال الباجي: يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي: الثاني هو الصحيح ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقًا، وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك.
وفي البخاري زيادة: إلا أن تروا كفرًا بواحًا أي ظاهرًا باديًا انتهى.
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } } وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
أما أهل السنة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسنًا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك.

( وَأَنْ نَقُولَ) باللام ( أَوْ نَقُومَ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ) أي في نصرة دينه ( لَوْمَةَ لَائِمٍ) من الناس واللومة المرة من اللوم.
قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئًا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ } } كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه.

قال ابن عبد البر: هكذا روي هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء، واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطًا، أضربت عنه لأن الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه، فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامر ( بْنُ الْجَرَّاحِ) أحد العشرة ( إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) وللحاكم في المستدرك عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين { { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } إسناده صحيح مرسلاً، وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعًا.
قال الباجي: قيل إن وجه ذلك أنّه لما عرّف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولمّا نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني.
قال: وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) } } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { { وَصَابِرُوا } } الكفار فلا يكونوا أشد صبرًا منكم { { وَرَابِطُوا } } أقيموا على الجهاد { { وَاتَّقُوا اللَّهَ } } في جميع أحوالكم { { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } تفوزون بالجنة وتنجون من النار.



رقم الحديث 971 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ أَوْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.


( التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا.
( كَمَثَلِ الصَّائِمِ) نهاره ( الْقَائِمِ) ليله للصلاة ( الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ) بضم التاء، لا يضعف ولا ينكسر ( مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ) تطوعًا ومن كان كذلك فأجره مستمر، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حَتَّى يَرْجِعَ) من جهاده.
قال تعالى { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } } الآية ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو، حابس لها على من يقاتله.

قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائمًا مصليًا لا يفتر ليلاً ولا نهارًا ويحتمل أنه أراد التكثير.
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد.
قال الباجي: أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرّر الشرع من كثرته وعرف من عظمه.
قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد لأنّ الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى.
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المارّ ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد أو باعتبار أحوال المخاطبين كما مرّ مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة.

وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى وأما حديث ابن عباس مرفوعًا ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَكَفَّلَ اللَّهُ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة: تضمن الله وللبخاري: انتدب الله وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } } وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وعبر صلى الله عليه وسلم عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) الكفار عند الإطلاق شرعًا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول الله المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث.

( وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قال النووي: أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الإخبار للمجاهدين من عظيم الثواب.
قال: والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
( أَنْ يُدْخِلَهُ) إن استشهد ( الْجَنَّةَ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد: يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة.
وقال تعالى { { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } } قاله الباجي: وتبعه عياض وغيره دفعًا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص ( أَوْ يَرُدَّهُ) بالنصب عطفًا على يدخله وفي رواية الأويسي، أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ) خالص إن لم يغنم شيئًا ( أَوْ غَنِيمَةٍ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع.
وقال الكرماني: معناه أن المجاهد إما أن يستشهد أولاً.
والثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلوّ لا جمع.
وأجيب أيضًا بأن أو بمعنى الواو.
وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواته في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو.

وقال الحافظ: فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا انتهى وهذا الإشكال لابن دقيق العيد.
وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلخ.
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا، لم يرد الإشكال أيضًا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله: إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه، انتهى.

وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.
قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأوّل وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح: فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.
واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدّح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدّح بها وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً مع أن أهل بدر أفضل باتفاق، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم.
ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن ردّه إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد إلخ.

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلاً في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أوّل ما شرع كان عونًا على الدين وقوّة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها.
ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب.
ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدّح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك: لو فرض أنّ أجر البدري بلا غنيمة ستمائة، وأجر الأحدي مثلاً بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرًا من الأحدي.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أوّل غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عدّ ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخروية: فالدنيويتان السلامة والغنيمة.
والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعدّ الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابًا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معًا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالاً وتفصيلاً انتهى.

وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدني ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) بائع السمن ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ) زاد القعنبي لثلاثة ( لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي ثواب ( وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر فسكون، أي ساتر لفقره ولحاله ( وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) أي إثم، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أولاً ولا وهو الثاني ( فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعدها للجهاد ( فَأَطَالَ لَهَا) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح للرعي ( فِي مَرْجٍ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم: موضع كلأ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أَوْ رَوْضَةٍ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فَمَا أَصَابَتْ) أي أكلت وشربت ومشت ( فِي طِيَلِهَا) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام: حبلها الذي تربط به ويطوّل لها لترعى.
ويقال له: طول بالواو المفتوحة أيضًا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفًا عند البخاري: أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت ( أَوِ الرَّوْضَةِ) بالشك من الراوي كسابقه ( كَانَ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرًا لمعنى ما ( لَهُ حَسَنَاتٌ) يوم القيامة يجدها موفورة.

( وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما، شوطًا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كَانَتْ آثَارُهَا) بالمد والمثلثة، في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وَأَرْوَاثُهَا) بمثلثة، جمع روث أي: ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حَسَنَاتٍ لَهُ) أي لصاحبها يوم القيامة ( وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وسكونها ( فَشَرِبَتْ مِنْهُ) بغير قصد صاحبها ( وَ) الحال أنه ( لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( بِهِ) أي من ذلك النهر ( كَانَ ذَلِكَ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( لَهُ حَسَنَاتٍ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها.
وقال ابن المنير قيل: إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ) في الوجهين.

( وَ) القسم الثاني الذي هي له ستر، ( رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال: تغنيت بما رزقني الله تغنيًا وتغانيت تغانيًا واستغنيت استغناءً كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيًا عن سؤال الناس ( وَتَعَفُّفًا) عن مسألتهم.
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففًا وتكرمًا وتجملاً ( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } ( وَلَا فِي ظُهُورِهَا) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ) ساتر من المسكنة.

( وَ) الثالث الذي هي له وزر ( رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظمًا ( وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل: وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرًا وبطرًا ورياءً للناس ( وَنِوَاءً) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة.
وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدًا.
وقال البوني يروى، نوى بفتح النون وكسرها، ويروى نواء بالمد مصدر انتهى.
والظاهر أن الواو فيه وفيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تنفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال: اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب، وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو.
ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب.

( وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُُ } } إلى آخر السورة فقلت: ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي.
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ) بالبناء للمفعول ( عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله عليّ فيها ( إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ) لكل الخيرات والمسرات ( الْفَاذَّةُ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها قال أبو عبد الملك: يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى.
وقال ابن التين: المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها.
وقال ابن عبد البر: يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه، وأما الشر فتحت المشيئة قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل عليّ فيها شيء إلا إلخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } } واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قال: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقًا.

{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } } أي نملة صغيرة، وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء { { خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرّة من خير أو شر، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضًا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو من عمل صالحًا فلنفسه وقد اتفق العلماء على عموم آية فمن يعمل القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوّة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولاً من طرق عن زيد بن أسلم.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ) بن حزم ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك.
( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ) مرسل وصله الترمذي وحسنه من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) قال الباجي: أي أكثرهم ثوابًا وأرفعهم درجة.
قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رَجُلٌ آخِذٌ) اسم فاعل ( بِعِنَانِ) بكسر العين لجام ( فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي: يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبًا من ذلك راكبًا أو قائدًا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذًا بعنانه في كثير منها.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قال الحافظ: كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي.

( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) وفي رواية منزلة ( بَعْدَهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ) بضم المعجمة مصغرًا إشارة إلى قلتها ( يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما، لكن قال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعًا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم وغيره.
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عامًا قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عَنْ أَبِيهِ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عَنْ جَدِّهِ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء.
قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية.
( قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليلة العقبة.
وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( عَلَى السَّمْعِ) له بإجابة أقواله ( وَالطَّاعَةِ) له بفعل ما يقول.
قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) أي يسر المال وعسره ( وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( وَالْمَكْرَهِ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضًا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره ووقت الكراهية كذلك.
وقال ابن التين: الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل.
وقال الطيبي: أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا.

( وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ) أي الملك والإمارة ( أَهْلَهُ) قال الباجي: يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي: الثاني هو الصحيح ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقًا، وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك.
وفي البخاري زيادة: إلا أن تروا كفرًا بواحًا أي ظاهرًا باديًا انتهى.
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } } وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
أما أهل السنة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسنًا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك.

( وَأَنْ نَقُولَ) باللام ( أَوْ نَقُومَ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ) أي في نصرة دينه ( لَوْمَةَ لَائِمٍ) من الناس واللومة المرة من اللوم.
قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئًا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ } } كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه.

قال ابن عبد البر: هكذا روي هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء، واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطًا، أضربت عنه لأن الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه، فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامر ( بْنُ الْجَرَّاحِ) أحد العشرة ( إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) وللحاكم في المستدرك عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين { { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } إسناده صحيح مرسلاً، وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعًا.
قال الباجي: قيل إن وجه ذلك أنّه لما عرّف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولمّا نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني.
قال: وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) } } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { { وَصَابِرُوا } } الكفار فلا يكونوا أشد صبرًا منكم { { وَرَابِطُوا } } أقيموا على الجهاد { { وَاتَّقُوا اللَّهَ } } في جميع أحوالكم { { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } تفوزون بالجنة وتنجون من النار.



رقم الحديث 972 وَحَدَّثَنِي عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَمَّا بَعْدُ.
فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ، يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا.
وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ.
وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } }


( التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ)

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) بكسر الزاي وخفة النون عبد الله بن ذكوان ( عَنِ الْأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هرمز ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) زاد البخاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا والله أعلم بمن يجاهد في سبيله أي يعقد نيته إن كانت خالصة لإعلاء كلمته فذلك المجاهد في سبيله وإن كان في نيته حب المال والدنيا واكتساب الذكر فقد أشرك مع سبيل الله الدنيا.
( كَمَثَلِ الصَّائِمِ) نهاره ( الْقَائِمِ) ليله للصلاة ( الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ) بضم التاء، لا يضعف ولا ينكسر ( مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ) تطوعًا ومن كان كذلك فأجره مستمر، فكذلك المجاهد لا تضيع ساعة من ساعاته بلا ثواب ( حَتَّى يَرْجِعَ) من جهاده.
قال تعالى { { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ } } الآية ومثله بالصائم القائم لأنه ممسك لنفسه عن الأكل والشرب والنوم واللذات والمجاهد ممسك لها على محاربة العدو، حابس لها على من يقاتله.

قال البوني: يحتمل أنه ضرب ذلك مثلاً وإن كان أحد لا يستطيع كونه قائمًا مصليًا لا يفتر ليلاً ولا نهارًا ويحتمل أنه أراد التكثير.
ولمسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله زاد النسائي من هذا الوجه الخاشع الراكع الساجد.
قال الباجي: أحال ثواب الجهاد على الصائم القائم وإن كنا لا نعرف مقداره لما قرّر الشرع من كثرته وعرف من عظمه.
قال عياض: هذا تفخيم عظيم للجهاد لأنّ الصيام وغيره مما ذكر من الفضائل قد عدلها كلها الجهاد حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة تعدل أجر المواظب على الصلاة وغيرها وفيه أن الفضائل لا تدرك القياس وإنما هي إحسان من الله لمن شاءه انتهى.
ثم لا معارضة بين هذا وبين الخبر المارّ ألا أنبئكم بخير أعمالكم إلى أن قال ذكر الله إما لأن المراد الذكر الكامل وهو ما اجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالشكر واستحضار عظمة الرب وهذا لا يعدله شيء وفضل الجهاد وغيره إنما هو بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد أو باعتبار أحوال المخاطبين كما مرّ مع مزيد حسن في باب ذكر الله من أواخر الصلاة.

وقال ابن دقيق العيد: القياس يقتضي أن الجهاد أفضل الأعمال التي هي وسائل لأن الجهاد وسيلة إلى إعلان الدين ونشره وإخماد الكفر ودحضه ففضله بحسب فضل ذلك انتهى وأما حديث ابن عباس مرفوعًا ما العمل في أيام أفضل منها في هذه الأيام يعني أيام عشر ذي الحجة قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله قال: ولا الجهاد فيحتمل أن يخص به عموم حديث الباب أو أنه مخصوص بمن خرج قاصدًا المخاطرة بنفسه وماله فأصيب.

( مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَكَفَّلَ اللَّهُ) ولمسلم من رواية أبي زرعة عن أبي هريرة: تضمن الله وللبخاري: انتدب الله وكلها بمعنى واحد ومحصله تحقيق الوعد المذكور في قوله تعالى { { إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ } } وذلك التحقيق على وجه الفضل منه سبحانه وتعالى وعبر صلى الله عليه وسلم عن تفضله تعالى بالثواب بلفظ الضمان ونحوه مما جرت به عادة المخاطبين فيما تطمئن به نفوسهم ( لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ) الكفار عند الإطلاق شرعًا وإن كانت جميع أعمال البر في سبيله ( لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ) ولأحمد والنسائي برجال ثقات عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي ابتغاء مرضاتي ضمنت إن رجعته أن أرجعه بما أصاب من أجر أو غنيمة الحديث وأخرجه الترمذي وصححه من حديث عبادة يقول الله المجاهد في سبيلي هو عليّ ضامن إن رجعته رجعته بأجر أو غنيمة الحديث.

( وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ) قال النووي: أي كلمة الشهادتين وقيل تصديق كلام الله تعالى في الإخبار للمجاهدين من عظيم الثواب.
قال: والمعنى لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
( أَنْ يُدْخِلَهُ) إن استشهد ( الْجَنَّةَ) بلا حساب ولا عذاب ولا مؤاخذة بذنب فتكون الشهادة مكفرة لذنوبه كما في الحديث الصحيح أو المراد: يدخله الجنة ساعة موته كما ورد أن أرواح الشهداء تسرح في الجنة.
وقال تعالى { { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } } قاله الباجي: وتبعه عياض وغيره دفعًا لإيراد من قال ظاهر الحديث التسوية بين الشهيد والراجع سالمًا لأن حصول الأجر يستلزم دخول الجنة ومحصل الجواب أن المراد بدخول الجنة دخول خاص ( أَوْ يَرُدَّهُ) بالنصب عطفًا على يدخله وفي رواية الأويسي، أو يرجعه بفتح أوله والنصب ( إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ) خالص إن لم يغنم شيئًا ( أَوْ غَنِيمَةٍ) مع أجر وكأنه سكت عنه لنقصه بالنسبة إلى الأجر الذي بلا غنيمة والحامل على التأويل أن ظاهر الحديث أنه إذا غنم لا أجر له وليس بمراد لأن القواعد تقتضي أنه عند عدم الغنيمة أفضل منه وأتم أجرًا عند وجودها، فالحديث صريح في عدم الحرمان لا في نفي الجمع.
وقال الكرماني: معناه أن المجاهد إما أن يستشهد أولاً.
والثاني: لا ينفك من أجر أو غنيمة مع إمكان اجتماعهما فالقضية مانعة خلوّ لا جمع.
وأجيب أيضًا بأن أو بمعنى الواو.
وبه جزم ابن عبد البر والقرطبي ورجحه التوربشتي، وقد وقع بالواو ليحيى بن بكير في الموطأ لكن في رواية ابن بكير عن مالك مقال ولم يختلف رواته في أنها بأو وكذا لمسلم عن يحيى عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد بالواو ولكن رواه جعفر الفريابي وجماعة عن يحيى بأو وللنسائي من طريق سعيد بن المسيب ومن طريق عطاء بن مينا عن أبي هريرة وأبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة بالواو.

وقال الحافظ: فإن كانت هذه الروايات محفوظة تعين أن أو بمعنى الواو كما هو مذهب نحاة الكوفيين لكن فيه إشكال صعب لاقتضائه من حيث المعنى وقوع الضمان بمجموع الأمرين لكل من رجع وقد لا يتفق ذلك فإن كثيرًا من الغزاة يرجع بلا غنيمة فما فر منه مدعى أنها بمعنى الواو وقع في نظيره لأنه لا يلزم على ظاهرها إن رجع بغنيمة رجع بلا أجر كما يلزم على أنها بمعنى الواو أن كل غاز يجمع له بين الأجر والغنيمة معًا انتهى وهذا الإشكال لابن دقيق العيد.
وأجاب الدماميني بأنه إنما يرد إذا كان القائل إنها للتقسيم قد فسر المراد بما ذكره هو من قوله فله الأجر إن فاتته الغنيمة إلخ.
وأما إن سكت عنه فلا يتجه الإشكال إذ يحتمل أن التقدير أن يرجعه سالمًا مع أجر وحده أو غنيمة وأجر كما مر والتقسيم بهذا الاعتبار صحيح والإشكال ساقط مع أنه لو سلم أن القائل بأنها للتقسيم صرح بأن المراد فله الأجر إن فاتته الغنيمة وإن حصلت فلا، لم يرد الإشكال أيضًا لاحتمال أن تنكير أجر لتعظيمه ويراد به الأجر الكامل فيكون معنى قوله: إن فاتته الغنيمة الأجر الكامل، وإن حصلت فلا يحصل له هذا الأجر المخصوص وهو الكامل فلا يلزم انتفاء مطلق الأجر عنه، انتهى.

وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم.
قال الحافظ وهذا يؤيد التأويل الأوّل وأن الذي يغنم يرجع بأجر لكنه أنقص من أجر من لم يغنم فتكون الغنيمة في مقابلة جزء من أجزاء الغزو فإذا قوبل أجر الغانم بما حصل له من الدنيا وتمتعه به بأجر من لم يغنم مع اشتراكهما في التعب والمشقة كان أجر من غنم دون أجر من لم يغنم وهذا موافق لقول خباب في الحديث الصحيح: فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا.
واستشكل نقص ثواب المجاهد بأخذ الغنيمة بمخالفته لما دل عليه أكثر الأحاديث واشتهر من تمدّح النبي صلى الله عليه وسلم بحل الغنيمة وجعلها من فضائل أمته فلو نقصت الأجر ما وقع التمدّح بها وأيضًا فإن ذلك يستلزم أن أجر أهل بدر أنقص من أجر أهل أحد مثلاً مع أن أهل بدر أفضل باتفاق، ذكر هذا الاستشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب بضعف حديث ابن عمر ولأنه من رواية حميد بن هانئ وليس بمشهور وهذا مردود لأنه احتج به مسلم.
ووثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد، ومنهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها وظهور فساد هذا الوجه يغني عن ردّه إذ لو كان كذلك لم يبق لهم ثلث أجر ولا أقل منه ومنهم من حمله على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضًا وفيه نظر لأن الحديث صرح بأن هذا القسم راجع إلى من أخلص لقوله لا يخرجه إلا الجهاد إلخ.

وقال عياض: الوجه عندي إجراء الحديثين على ظاهرهما واستعمالهما على وجههما ولم يجب عن الإشكال المتعلق بأهل بدر.
وقال ابن دقيق العيد: لا تعارض بين الحديثين بل الحكم فيهما جار على القياس لأن الأجور تتفاوت بحسب زيادة المشقة لأن لها دخلاً في الأجر وإنما المشكل العمل المتصل بأخذ الغنائم يعني فلو نقصت الأجر لما كان السلف الصالح يثابرون عليها فيمكن أن يجاب بأن أخذها من جهة تقديم بعض المصالح الجزئية على بعض لأن أخذها أوّل ما شرع كان عونًا على الدين وقوّة لضعفاء المسلمين وهي مصلحة عظيمة يغتفر لها نقص الأجر من حيث هو.
وأما الجواب عن استشكال ذلك بحال أهل بدر فالذي ينبغي أن التقابل بين كمال الأجر ونقصه لمن يغزو بنفسه إذا لم يغنم أو يغزو فيغنم فغايته أن حال أهل بدر مثلاً عند عدم الغنيمة أفضل منه عند وجودها.
ولا ينفي ذلك أن حالهم هم أفضل من حال غيرهم من جهة أخرى، ولم يرد فيهم نص أنهم لو لم يغنموا كان أجرهم بحاله من غير زيادة، ولا يلزم من كونهم مغفورًا لهم وأنهم أفضل المجاهدين أن لا يكون وراءهم مرتبة أخرى.

وأما الاعتراض بحل الغنائم فلا يرد إذ لا يلزم من الحل وفاء الأجر لكل غاز والمباح في الأصل لا يستلزم الثواب بنفسه لكن ثبت أن أخذ الغنيمة وسلبها من الكفار يحصل الثواب.
ومع ذلك فصحة ثبوت الفضل في أخذها وصحة التمدّح به لا يلزم منه أن كل غاز يحصل له من أجر غزاته نظير من لم يغنم شيئًا البتة.
قلت: والذي مثل بأهل بدر أراد التهويل وإلا فالأمر على ما تقرر آخرًا بأنه لا يلزم من كونهم مع أخذ الغنيمة أنقص أجرًا عما لو لم يحصل لهم غنيمة أن يكونوا في حال أخذها مفضولين بالنسبة إلى من بعدهم كمن شهد أحدًا لكونهم لم يغنموا شيئًا بل أجر البدري في الأصل أضعاف أجر من بعده، مثال ذلك: لو فرض أنّ أجر البدري بلا غنيمة ستمائة، وأجر الأحدي مثلاً بلا غنيمة مائة فإذا نسبنا ذلك باعتبار حديث ابن عمر وكان للبدري لأخذه الغنيمة مائتان وهي ثلث الستمائة فيكون أكثر أجرًا من الأحدي.
وإنما امتاز أهل بدر بذلك لأنها أوّل غزوة شهدها النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار، وكانت مبدأ اشتهار الإسلام وقوة أهله، فكان لمن شهدها مثل أجر من شهد المغازي التي بعدها جميعًا فصارت لا يوازيها شيء في الفضل واختار ابن عبد البر أن المراد بنقص أجر من غنم أن الذي لا يغنم يزداد أجره لحزنه على ما فاته من الغنيمة كما يؤجر من أصيب بماله فكأن الأجر لما نقص عن المضاعفة بسبب الغنيمة عدّ ذلك كالنقص من أصل الأجر ولا يخفى مباينة هذا التأويل لحديث عبد الله بن عمرو وذكر بعضهم فيه حكمة لطيفة بالغة وذلك أن الله أعدّ للمجاهدين ثلاث كرامات دنيويتان وأخروية: فالدنيويتان السلامة والغنيمة.
والأخروية دخول الجنة فإذا رجع سالمًا غانمًا فقد حصل له ثلثًا ما أعدّ الله وبقي له الثلث وإن رجع بلا غنيمة عوضه الله عن ذلك ثوابًا في مقابلة ما فاته فكأن معنى الحديث أن يقال للمجاهد إذا فاتك شيء من أجر الدنيا عوضتك عنه ثوابًا وأما الثواب المختص بالجهاد فحاصل للفريقين معًا وغاية ما فيه غير النعمتين الدنيويتين الجنة وإنما هي بفضل الله وفيه استعمال التمثيل في الأحكام وإن الأعمال الصالحة لا تستلزم الثواب لأعيانها وإنما يحصل بالنية الخالصة إجمالاً وتفصيلاً انتهى.

وأخرجه البخاري في الخمس عن إسماعيل وفي التوحيد عنه وعن عبد الله بن يوسف كلاهما عن مالك به، وتابعه المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عند مسلم.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدوي مولاهم المدني ( عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان ( السَّمَّانِ) بائع السمن ( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْلُ) زاد القعنبي لثلاثة ( لِرَجُلٍ أَجْرٌ) أي ثواب ( وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ) بكسر فسكون، أي ساتر لفقره ولحاله ( وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) أي إثم، ووجه الحصر في الثلاثة أن الذي يقتنيها إما لركوب أو تجارة وكل منهما إما أن يقترن به فعل طاعة وهو الأول أو معصية وهو الأخير أولاً ولا وهو الثاني ( فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أعدها للجهاد ( فَأَطَالَ لَهَا) الحبل الذي ربطها فيه حتى تسرح للرعي ( فِي مَرْجٍ) بفتح الميم وإسكان الراء وجيم: موضع كلأ، وأكثر ما يطلق في الموضع المطمئن ( أَوْ رَوْضَةٍ) بالشك من الراوي وأكثر ما يطلق الروضة في الموضع المرتفع ( فَمَا أَصَابَتْ) أي أكلت وشربت ومشت ( فِي طِيَلِهَا) بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية فلام: حبلها الذي تربط به ويطوّل لها لترعى.
ويقال له: طول بالواو المفتوحة أيضًا ولم يأت به رواية هنا كما زعم بعضهم إنما ورد في حديث أبي هريرة موقوفًا عند البخاري: أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ( ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ) الأرض الواسعة ذات كلأ يرعى فيه سمي به لأنها تمرج فيه أي تسرح وتجيء وتذهب كيف شاءت ( أَوِ الرَّوْضَةِ) بالشك من الراوي كسابقه ( كَانَ) ما أصابته وفي نسخة كانت بالتأنيث نظرًا لمعنى ما ( لَهُ حَسَنَاتٌ) يوم القيامة يجدها موفورة.

( وَلَوْ أَنَّهَا قُطِعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ) بفتح الفوقية وشد النون جرت بنشاط ( شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ) بفتح المعجمة والراء والفاء فيهما، شوطًا أو شوطين سمي به لأن العالي يشرف على ما يتوجه إليه والشرف العالي من الأرض فبعدت عن الموضع الذي ربطها فيه ورعت في غيره ( كَانَتْ آثَارُهَا) بالمد والمثلثة، في الأرض بحوافرها عند خطواته ( وَأَرْوَاثُهَا) بمثلثة، جمع روث أي: ثوابها لا أنها بعينها توزن ( حَسَنَاتٍ لَهُ) أي لصاحبها يوم القيامة ( وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ) بفتح الهاء وسكونها ( فَشَرِبَتْ مِنْهُ) بغير قصد صاحبها ( وَ) الحال أنه ( لَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ) بحذف المفعول وللقعنبي أن يسقيها ( بِهِ) أي من ذلك النهر ( كَانَ ذَلِكَ) أي شربها وإرادته أن يسقيها بغيره ( لَهُ حَسَنَاتٍ) يوم القيامة وفيه أن الإنسان يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة إذا قصد أجرها وإن لم يقصد تلك بعينها.
وقال ابن المنير قيل: إنما أجر لأن ذلك وقت لا ينتفع بشربها فيه فيغتم صاحبها بذلك فيؤجر وقيل إن المراد حيث تشرب من ماء الغير بغير إذنه فيغتم صاحبها فيؤجر وكل ذلك عدول عن القصد ( فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ) في الوجهين.

( وَ) القسم الثاني الذي هي له ستر، ( رَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا) بفتح الفوقية والمعجمة وكسر النون الثقيلة وتحتية أي استغناء عن الناس يقال: تغنيت بما رزقني الله تغنيًا وتغانيت تغانيًا واستغنيت استغناءً كلها بمعنى والمعنى أنه يطلب بنتاجها أو بما حصل من أجرتها ممن يركبها ونحو ذلك تغنيًا عن سؤال الناس ( وَتَعَفُّفًا) عن مسألتهم.
وفي رواية سهيل عن أبيه عند مسلم، وأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تعففًا وتكرمًا وتجملاً ( وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا) بلا حساب إليها والقيام بفعلها والشفقة عليها في ركوبها وخص رقابها بالذكر لأنها تستعار كثيرًا في الحقوق اللازمة كقوله تعالى { { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } } ( وَلَا فِي ظُهُورِهَا) بإطراق فحلها والحمل عليها في سبيل الله أو لا يحملها ما لا تطيقه ونحو ذلك هذا قول من لم يوجب الزكاة في الخيل وهم الجمهور وقيل المراد بالحق الزكاة وهو قول حماد وأبي حنيفة وخالفه صاحباه قال أبو عمر لا أعلم أحدًا سبقه إلى ذلك ولا حجة له في الحديث لطروق الاحتمال ( فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ) ساتر من المسكنة.

( وَ) الثالث الذي هي له وزر ( رَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا) بالنصب للتعليل أي لأجل الفخر أي تعاظمًا ( وَرِيَاءً) أي إظهارًا للطاعة والباطن بخلافه وفي رواية سهيل: وأما الذي هي عليه وزر فالذي يأخذها أشرًا وبطرًا ورياءً للناس ( وَنِوَاءً) بكسر النون والمد أي مناوأة وعداوة ( لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) قال الخليل: ناوأت الرجل ناهضته بالعداوة.
وحكى عياض فتح النون والقصر وحكاه الإسماعيلي عن رواية أبي أويس فإن ثبت فمعناه بعدًا.
وقال البوني يروى، نوى بفتح النون وكسرها، ويروى نواء بالمد مصدر انتهى.
والظاهر أن الواو فيه وفيما قبله بمعنى أو لأن هذه الأشياء قد تنفرد في الأشخاص وكل واحد منهما مذموم على حدته وفيه بيان فضل الخيل وأنها إنما تكون في نواصيها الخير والبركة إذا اتخذت في طاعة أو مباح وإلا فهي مذمومة كما قال ( فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ) أي إثم وقد فهم بعض الشراح من الحديث الحصر في الثالثة فقال: اتخاذ الخيل يخرج عن أن يكون مطلوبًا أو مباحًا أو ممنوعًا فدخل في المطلوب الواجب والمندوب، وفي الممنوع المكروه والحرام بحسب اختلاف المقاصد واعترض بأن المباح لم يذكر في الحديث لأن القسم الثاني الذي يتخيل فيه ذلك قيد بقوله ولم ينس حق الله فيها فيلحق بالمندوب والسر فيه أنه صلى الله عليه وسلم غالبًا إنما يعتني بذكر ما فيه حض أو منع أما المباح الصرف فيسكت عنه لما علم أن سكوته عنه عفو.
ويمكن أن يقال القسم الثاني هو في الأصل مباح إلا أنه ربما ارتقى إلى الندب بالقصد بخلاف القسم الأول فإنه من ابتدائه مطلوب.

( وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحُمُرِ) بضمتين هل لها حكم الخيل أو عن زكاتها وبه جزم الخطابي قال الحافظ: لم أقف على تسمية السائل صريحًا ويحتمل أنه صعصعة بن ناجية عم الفرزدق لقوله: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُُ } } إلى آخر السورة فقلت: ما أبالي أن لا أسمع غيرها حسبي.
رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم وجزم في المقدمة بهذا الاحتمال ( فَقَالَ لَمْ يُنْزَلْ) بالبناء للمفعول ( عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ) منصوص وفي رواية ما أنزل الله عليّ فيها ( إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْجَامِعَةُ) لكل الخيرات والمسرات ( الْفَاذَّةُ) بالفاء وشد المعجمة سماها جامعة لشمولها الأنواع من طاعة ومعصية وفاذة لانفرادها في معناها قال أبو عبد الملك: يحتمل أنه أراد لم يتكرر مثلها في القرآن بلفظها ويحتمل أنها نزلت وحدها والفاذ هو المنفرد انتهى.
وقال ابن التين: المراد أن الآية دلت على أن من عمل في اقتناء الحمير طاعة رأى ثواب ذلك وإن عمل معصية رأى عقابها.
وقال ابن عبد البر: يعني أنها منفردة في عموم الخير والشر والآية أعم منها لأنها تعم كل خير وشر، فأما الخير فلا خلاف أن المؤمن يراه في القيامة ويثاب عليه، وأما الشر فتحت المشيئة قال وفيه أن ما قاله في الخيل كان بوحي لقوله في الحمر لم ينزل عليّ فيها شيء إلا إلخ وهذا يعضد قول من قال أنه كان لا يتكلم إلا بوحي وتلا { { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } } واحتج بحديث أوتيت الكتاب ومثله معه وبقول عبد الله بن عمرو: يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قال: في الرضا والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول إلا حقًا.

{ { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } } أي نملة صغيرة، وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء { { خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } قال ابن بطال: فيه تعليم الاستنباط والقياس لأنه شبه ما لم يذكر الله حكمه في كتابه وهي الحمر بما ذكره من يعمل مثقال ذرّة من خير أو شر، وهذا نفس القياس الذي ينكره من لا فهم عنده وتعقبه ابن المنير بأنه ليس من القياس في شيء، وإنما هو استدلال بالعموم وإثبات لصيغته خلافًا لمن أنكر أو وقف وفيه تحقيق لإثبات العمل بظواهر العموم وأنها ملزمة حتى يدل التخصيص وإشارة إلى الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر وأن الظاهر دون المنصوص في الدلالة وهو حجة أيضًا في عموم النكرة الواقعة في سياق الشرط نحو من عمل صالحًا فلنفسه وقد اتفق العلماء على عموم آية فمن يعمل القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال ابن مسعود: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } } الحديث أخرجه البخاري في المساقاة عن عبد الله بن يوسف وفي الجهاد وعلامات النبوّة عن القعنبي وفي التفسير وفي الاعتصام عن إسماعيل الثلاثة عن مالك به ورواه مسلم في الزكاة مطولاً من طرق عن زيد بن أسلم.

( مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ) بن حزم ( الْأَنْصَارِيِّ) أبي طوالة بضم المهملة المدني قاضيها لعمر بن عبد العزيز مات سنة أربع وثلاثين ومائة ويقال بعد ذلك.
( عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ) مرسل وصله الترمذي وحسنه من طريق بكير بن الأشج والنسائي وابن حبان من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن كلاهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) قال الباجي: أي أكثرهم ثوابًا وأرفعهم درجة.
قال عياض: وهذا عام مخصوص وتقديره من خير الناس وإلا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع والسنن وقادوهم إلى الخير أفضل وكذا الصديقون كما جاءت به الأحاديث ويؤيده أن في رواية للنسائي أن من خير الناس رجلاً عمل في سبيل الله على ظهر فرسه بمن التي للتبعيض ( رَجُلٌ آخِذٌ) اسم فاعل ( بِعِنَانِ) بكسر العين لجام ( فَرَسِهِ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لبذله نفسه وماله لله تعالى قال الباجي: يريد أنه يواظب على ذلك ووصف بأنه آخذ بعنانه بمعنى أنه لا يخلو غالبًا من ذلك راكبًا أو قائدًا هذا معظم أمره فوصف بذلك جميع أحواله وإن لم يكن آخذًا بعنانه في كثير منها.
وفي الصحيحين، عن أبي سعيد قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قال الحافظ: كان المراد بالمؤمن القائم بما تعين عليه القيام به وحصل هذه الفضيلة لا من اقتصر على الجهاد وأهمل الواجبات العينية وحينئذ فيظهر فضل المجاهد لما فيه من بذل نفسه وماله لله تعالى ولما فيه من النفع المتعدي.

( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلًا) وفي رواية منزلة ( بَعْدَهُ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي غُنَيْمَتِهِ) بضم المعجمة مصغرًا إشارة إلى قلتها ( يُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) زاد في الطريق الموصولة ويعتزل شرور الناس وفي حديث أبي سعيد قيل ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره وإنما كان تلو المجاهد في الفضل لأن مخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا ففيه فضل العزلة لما فيها من السلامة من غيبة ولغو وغيرهما، لكن قال الجمهور: محل ذلك عند وقوع الفتن لحديث الترمذي مرفوعًا المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه، ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير، رواه مسلم وغيره.
وللترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن أبي هريرة أن رجلاً مر بشعب فيه عين عذبة فأعجبه فقال لو اعتزلت ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاة في بيته سبعين عامًا قال ابن عبد البر: إنما وردت الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليًا من الناس فكل موضع بعيد عنهم داخل في هذا المعنى.

( مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري ( قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاري ويقال له عبد الله من الثقات ( عَنْ أَبِيهِ) الوليد يكنى أبا عبادة ولد في العهد النبوي وهو من كبار التابعين مات بعد السبعين من الهجرة ( عَنْ جَدِّهِ) عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني البدري أحد النقباء.
قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله ثنتان وسبعون سنة وقيل عاش إلى خلافة معاوية.
( قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ليلة العقبة.
وضمن بايع معنى عاهد فعدى بعلى في قوله ( عَلَى السَّمْعِ) له بإجابة أقواله ( وَالطَّاعَةِ) له بفعل ما يقول.
قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة ( فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ) أي يسر المال وعسره ( وَالْمَنْشَطِ) بفتح الميم والمعجمة بينهما نون ساكنة آخره طاء مهملة مصدر ميمي من النشاط ( وَالْمَكْرَهِ) بفتح أوله وثالثه مصدر ميمي أيضًا أي وقت النشاط إلى امتثال أوامره ووقت الكراهية كذلك.
وقال ابن التين: الظاهر أن المراد في وقت الكسل والمشقة في الخروج ليطابق قوله المنشط ويؤيده رواية أحمد من طريق إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن عبادة في النشاط والكسل.
وقال الطيبي: أي عهدنا بالتزام السمع والطاعة في حالتي الشدة والرخاء والضراء والسراء وإنما عبر بالمفاعلة للمبالغة والإيذان بأنه التزم لهم أيضًا بالأجر والثواب والشفاعة يوم الحساب على القيام بما التزموا زاد في رواية مسلم وعلى أثره علينا.

( وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ) أي الملك والإمارة ( أَهْلَهُ) قال الباجي: يحتمل أن هذا شرط على الأنصار ومن ليس من قريش أن لا ينازعوا أهله وهم قريش ويحتمل أنه مما أخذ على جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم وإن كان فيهم من يصلح لذلك الأمر إذا صار لغيره قال السيوطي: الثاني هو الصحيح ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقًا، وعند ابن حبان زيادة وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك.
وفي البخاري زيادة: إلا أن تروا كفرًا بواحًا أي ظاهرًا باديًا انتهى.
وقال ابن عبد البر اختلف في أهله فقيل أهل العدل والإحسان والفضل والدين فلا ينازعون لأنهم أهله أما أهل الفسق والجور والظلم فليسوا بأهله ألا ترى قوله تعالى { { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } } وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج.
أما أهل السنة فقالوا: الاختيار أن يكون الإمام فاضلاً عدلاً محسنًا فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائر أولى من الخروج عليه لما فيه من استبدال الأمن بالخوف وهرق الدماء وشن الغارات والفساد وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه والأصول تشهد والعقل والدين أن أولى المكروهين أولاهما بالترك.

( وَأَنْ نَقُولَ) باللام ( أَوْ نَقُومَ) بالميم شك من يحيى بن سعيد أو مالك وفيه دليل على الإتيان بالألفاظ ومراعاتها قاله ابن عبد البر ( بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ) أي في نصرة دينه ( لَوْمَةَ لَائِمٍ) من الناس واللومة المرة من اللوم.
قال الزمخشري: وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قال لا نخاف شيئًا قط من لوم أحد من اللوام ولومة مصدر مضاف لفاعله في المعنى وفيه تغيير المنكر على كل من قدر عليه وأنه إذا لم يلحقه في تغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى وجب أن يغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وكما وجبت مجاهدة الكفار حتى يظهر دين الله كما قال { { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ } } كذلك يجب مجاهدة كل من عاند الحق حتى يظهر على من قدر عليه.

قال ابن عبد البر: هكذا روي هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد جمهور رواته وهو الصحيح وما خالفه عن مالك فليس بشيء، واختلف فيه على يحيى بن سعيد فذكره مبسوطًا، أضربت عنه لأن الشيخين لم يلتفتا إليه واعتمدا رواية مالك ومن وافقه، فأخرجه البخاري في كتاب الأحكام عن إسماعيل عن مالك به ومسلم في المغازي من طريق عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده به.

( مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ) عامر ( بْنُ الْجَرَّاحِ) أحد العشرة ( إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ) بالبناء للفاعل أو المفعول ( مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ) بضم الميم وفتح الزاي مصدر أو اسم مكان وبفتح الميم وكسر الزاي مكان نزول ( شِدَّةٍ يَجْعَلِ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) وللحاكم في المستدرك عن الحسن قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يومًا مسرورًا فرحًا يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين { { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } } إسناده صحيح مرسلاً، وقد رواه ابن مردويه عن جابر مرفوعًا.
قال الباجي: قيل إن وجه ذلك أنّه لما عرّف العسر اقتضى استغراق الجنس فكأن العسر الأول هو الثاني ولمّا نكر اليسر كان الأول فيه غير الثاني.
قال: وقد قال البخاري عقب هذه الآية لقوله هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهذا يقتضي أن اليسرين عنده الظفر بالمراد والأجر فالعسر لا يغلب هذين اليسرين لأنه لا بد أن يحصل للمؤمن أحدهما قال وهذا عندي وجه ظاهر ( وإن الله تعالى يقول في كتابه { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) } } على الطاعات والمصائب وعن المعاصي { { وَصَابِرُوا } } الكفار فلا يكونوا أشد صبرًا منكم { { وَرَابِطُوا } } أقيموا على الجهاد { { وَاتَّقُوا اللَّهَ } } في جميع أحوالكم { { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } } تفوزون بالجنة وتنجون من النار.