الفَصْلُ الثَّانِي

الفَصْلُ الثَّانِي: السُنَّةُ مَعَ المُعْتَزِلَةِ وَالمُتُكُلِّمِينَ:
اختلفت نُقُولُ العلماء عن موقف المعتزلة مِنَ السُنَّةِ: هل هم مع الجمهور في القول بِحُجِّيَتِهَا بقسميها المتواتر والآحاد؟ أم ينكرون حُجِيَّتِهَا بقسميها؟ أم يقولون بِحُجِيَّةِ المتواتر وينكرون حُجِيَّةَ خبر الآحاد؟ فالآمدي ينقل لنا عن أَبِي الحُسَيْنِ البَصْرِي من المعتزلة أنه من القائلين بوجوب وقوع التعبد بخبر الواحد عقلاً ويروي لنا عن الجُبَّائِي وجماعة من المُتَكَلِّمِينَ أنه لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً وينقل السيوطي في " التدريب " عن أَبِي عَلِيًّ الجُبَّائِي أنه لا يقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انظم إليه خبر عدل آخر، أو عضده موافقة ظاهر الكتاب أو ظاهر خبر آخر، أو يكون منتشراً بين الصحابة أو عمل به بعضهم، حكاه أبو الحُسَيْنِ البَصْرِي في " المعتمد " وأطلق الأستاذ أبو نصر التميمي عن أَبِي عَلِيًّ أنه لا يقبل إلا إذا رواه أربعة.

وحكى ابن حزم: «أَنََّّ جَمِيعَ أَهْلِ الإِسْلامِ كَانُوا عَلَىَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ النَّبِيِِّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْرِي عَلَىَ ذَلِكَ كُلَّ فِرْقَةٍ فِي عِلْمِهَا كَأَهْلِ السُنَّةِ وَالخَوَارِجِ وَالشِّيْعَةِ وَالقَدَرِيَّةِ حَتَّى حَدَثَ مُتَكَلِّمُو المُعْتَزِلَةِ بَعْدَ المِائَةِ مِنَ التَّارِيِخِ فَخَالَفُوا الإِجْمَاعَ بِذَلِكَ، وَلَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَتَدَيَّنُ بِمَا يَرْوِي عَنْ الحَسَنِ وَيُفْتِي بِهِ، هَذَا أَمْرٌ لاَ يَجْهَلُهُ مَنْ لَهُ أَقَلُّ عِلْمٍ بِذَلِكَ» وهو في موطن آخر يطلق القول بأن المعتزلة ينكرون حُجِيَّةَ خبر الآحاد فيقول: «وَقَالَ جَمِيعُ المُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجُ: إِنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ لاَ يُوَجِبُ العِلْمَ. وَقَالُوا: مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا أَوْ خَطَأً فَلاَ يَحِلُّ الحُكْمُ بِهِ فِي دِينِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلاَ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَلاَ إِلَى الرَّسُولِ» ، وَيَنْسِبُ ابْنُ القَيِّمِ فِي "إِعْلاَمِ المُوَقِّعِينَ " إِلَى المُعْتَزِلَةِ «أَنَّهُمْ رَدُّوا النُّصُوْصَ الصَرِيَحَةَ المُحْكَمَةٌ الوَارِدَةِ فِي ثُبُوتِ الشَّفَاعَةُ لِلْعُصَاةِ مِنَ المُؤْمِنِيْنَ بِالمُتَشَابِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} سورة المدثر، الآية: 48» .

وهذه النُّقُولُ - كما ترى - متضاربة لا تعطينا حُكْمًا صحيحاً في المسألة، وقد رأيت أن أرجع إلى كُتُبِ الكَلاَمِ فأقف على ما يذكره علماء الملل والنحل عن المعتزلة من رأيهم في هذه المسألة، فرأيت الإمام أبا منصور البغدادي وصاحب " المواقف " وَالرَّازِي ينقلون عن النَظَّامِيَّةِ (وهم فرقة من المعتزلة) إنكار حُجِيَّةَ المتواتر وإفادته العلم، وتجويز وقوع التواتر كذباً واجتماع الأُمَّةِ على الخطأ كما نسب الرَّازِي إلى النَظَّامِيَّةِ إنكار حُجِيَّةَ خبر الآحاد.
ولما كانت النَظَّامِيَّةُ فرقة من اثنين وعشرين فرقة للمعتزلة وكان موقفهم مِنَ السُنَّةِ يتوقف على موقفهم من الصحابة، فقد رأيت أن أنقل إليك ما ذكره الإمام أبو منصور البغدادي المُتَوَفَّى سَنَةَ (- 429 هـ) في كتابه " الفَرْقُ بَيْنَ الفِرَق " عن هذه الفرق وموقفها من الصحابة وموقف زعمائها من الحديث.
قال - بعد أن ذكر ما تجتمع فيه فرق المعتزلة من عقائد ثم أخذ يذكر ما يختلفون فيه فبدأ بذكر الوَاصِلِيَّةِ:

واصل بن عطاء توفي سَنَةَ (131)

قال - أثناء كلامه عن فرقة الوَاصِلِيَّةِ أتباع واصل بن عطاء -: «ثُمَّ إِنَّ وَاصِلاً فَارَقَ السَّلَفَ بِبِدْعَةٍ ثَالِثَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ أَهْلَ عَصْرِهِ مُخْتَلِفِينَ فِي عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ، وَفِي طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ وَسَائِرَ أَصْحَابِ الجَمَلِ، فَزَعَمَتْ الخَوَارِجُ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ وَأَتْبَاعِهِمْ يَوْمَ الجَمَلِ كَفَرُوا بِقِتَالِهِمْ عَلِيًّا، وَأَنَّ عَلِيًّا كَانَ عَلَى الحَقِّ فِي قِتَالِ أَصْحَابَ الجَمَلِ، وَفِي قِتَالِ أَصْحَابَ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّينَ إِلَى وَقْتِ التَّحْكِيمِ، ثُمَّ كَفَرَ بِالتَّحْكِيمِ، وَكَانَ أَهْلُ السُنَّةِ وَالجَمَاعَةِ يَقُولُونَ بِصِحَّةِ إِسْلاَمِ الفَرِيقَيْنِ فِي حَرْبِ الجَمَلِ وَقَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ عَلَىَ الحَقِّ فِي قِتَالِهِمْ، وَأَصْحَابُ الجَمَلِ كَانُوا عُصَاةً مُخْطِئِينَ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ، وَلَمْ يَكُنْ خَطَؤُهُمْ كُفْرًا وَلاَ فِسْقًا يُسْقِطُ شَهَادَتُهُمْ، وَأَجَازُوا الحُكْمَ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ الفَرِيقَيْنِ، وَخَرَجَ وَاصَلٌ عَنْ قَوْلِ الفَرِيقَيْنِ، وَزَعَمَ أَنَّ فِرْقَةً مِنَ الفَرِيقَيْنِ فَسَقَةٌ لاَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَأَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ الفَسَقَةُ مِنْهُمَا، وَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الفَسَقَةُ مِنَ الفَرِيقَيْنِ عَلِيًّا وَأَتْبَاعَهُ كَالحَسَنِ وَالحُسَيْنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ وَسَائِرَ مَنْ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الجَمَلِ، وَأَجَازَ كَوْنِ الفَسَقَةِ مِنَ الفَرِيقَيْنِ عَائِشَةُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرَ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الجَمَلِ، ثُمَّ قَالَ وَاصِلٌ فِي تَحَقُّقِ شَكِّهِ فِي الفَرِيقَيْنِ: لَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلَيٌّ وَطَلْحَةُ أَوْ عَلَيٌّ وَالزُّبَيْرُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الجَمَلِ عِنْدِي عَلَىَ بَاقَةِ بَقْلٍ لَمْ أَحْكُمْ بِشَهَادَتِهِمَا، لِعِلْمِي بِأَنَّ أَحَدُهُمَا فَاسِقٌ لاَ بِعَيْنِهِ، كَمَا لاَ أَحْكُمُ بِشَهَادَةِ المُتَلاَعِنَيْنِ لِعِلْمِي بِأَنَّ أَحَدَهُمَا فَاسِقٌ لاَ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلاَنِ مِنْ أَحَدِ الفَرِيقَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا» .

عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:

ثم قال عن العَمْرَوِيَّةِ، هم أتباع عمرو بن عبيد: «وَزَادَ عَمْرُو عَلَى وَاصَلَ فِي هَذِهِ البِدْعَةِ، فَقَالَ بِفِسْقٍ كِلْتَا الفِرْقَتَيْنِ المُتَقَاتِلَتَيْنِ يَوْمَ الجَمَلِ، فَلَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ افْتَرَقَتْ القَدَرِيَّةُ (المُعْتَزِلَةُ) بَعْدَ وَاصِلَ وَعَمْرَو فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ النَظَّامُ وَمَعْمَرٌ وَالجَاحِظُ فِي فَرِيقَيْ يَوْمَ الجَمَلِ بِقَوْلِ وَاصِلٍ، وَقَالَ حَوْشَبٌ وَهَاشِمٌ وَالأَوْقَصُ: نَجَتْ القَادَةُ وَهَلَكَتْ الأَتْبَاعُ» .

أَبُو الهُذَيْلِ:

ثم قال عن الهُذيلية: «إِنَّهُمْ أَتْبَاعُ أَبِي الهُذَيْلِ مُحَمَّدٍ بْنِ الهُذَيْلِ المَعْرُوْفِ بِالعَلاَّفِ (227 - أَوْ 235 هـ) وَفَضَائِحُهُ تَتْرَى تُكَفِّرُهُ فِيهَا سَائِرُ فِرَقِ الأُمَّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ

فِي الاعْتِزَالِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ المَعْرُوفُ بِالمِرْدَادِ وَالجُبَّائِيُّ وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ مِنْ رُؤَسَاءِ الاعْتِزَالِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كِتَابًا فِيْ تَكْفِيرِهِ وَذَكَرَ فَضَائِحَهُ»، ثم أخذ الإمام عبد القادر يذكر بعض فضائحه فقال: «وَالفَضِيحَةُ السَّادِسَةِ قَوْلُهُ: إِنَّ الحُجَّةَ مِنْ طَرِيقِ الأَخْبَارِ فَمَا غَابَ عَنْ الحَوَاسِّ مِنْ آيَاتِ الأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ - وَفِيمَا سِوَاهَا لاَ تَثْبُتُ بِأَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَمْ يُوْجِبْ بِأَخْبَارِ الكَفَرَةِ وَالفَسَقَةِ حُجَّةً وَإِنْ بَلَغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ الذِينَ لاَ يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الكَذِبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَزَعَمَ أَنَّ خَبَرَ مَا دُونَ الأََرْبَعَةِ لاَ يُوجِبُ حُكْمًا، وَمِنْ فَوْقِ الأَرْبَعَةِ إِلَى العِشْرِينَ قَدْ يَصِحُّ بِوُقُوعِ العِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، وَقَدْ لاَ يَقَعُ بِخَبَرِهِمْ، وَخَبَرُ العِشْرِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يَجِبُ وُقُوعُ العِلْمِ مِنْهُ لاَ مَحَالَةَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ العِشْرِينَ حُجَّةٌ بِقَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . وقال: «لَمْ يُبِحْ قِتَالَهُمْ إِلاَّ وَهُمْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ». ثم قال صاحب " الفرق "، قال عبد القادر: «مَا أَرَادَ أَبُو الهُذَيْلِ بِاعْتِبَارِ عِشْرِينَ فِيْ الحُجَّةِ مِنْ جُمْلَةِ الخَبَرَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ إِلاَّ تَعْطِيلَ الأَخْبَارِ الوَارِدَةِ فِي الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ فَوَائِدِهَا، لأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ. وَاحِدٌ يَكُونُ عَلَىَ بِدْعَتِهِ فِي الاعْتِزَالِ وَالقَدَرِ وَفِي فِنَاءِ مَقْدُورَاتِ اللهِ تَعَالَى، لأَنَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ لاَ يَكُونُ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا وَلاَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ قَبْلَ أَبِي الهُذَيْلِ أَحَدٌ بِبِدْعَةِ أَبِي الهُذَيْلِ حَتَّى تَكُونَ رِوَايَتُهُ فِي جُمْلَةِ العِشْرِينَ».

النَظَّامُ:

وتحدث عن فرقة النَظَّامِيَّةِ الذين يتبعون أبا إسحاق إبراهيم بن سَيَّارْ المعروف بِالنَظَّامِ، وذكر كيف دخل الفساد على عقيدة النَظَّامِ مِمَّنْ خالطهم من الزنادقة والفلاسفة وغيرهم، وقد أنكر النَظَّامُ ما روي في معجزات نَبِيِّنَا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من انشقاق القمر وتسبيح الحصى في يده، ونبع الماء من بين أصابعه، ليتوصل من ذلك إلى إنكار نبوته ثم أنه استثقل أحكام شريعة الإسلام في فروعها ولم يجسر على إظهار رفعها، فأبطل الطرق الدالة عليها، فأنكر لأجل ذلك حُجِيَّةَ الإجماع وحُجِيَّةَ القياس في الفروع الشرعية، وأنكر الحُجَّةَ في الأخبار التي لا توجب العلم الضروري، ثم إنه علم إجماع الصحابة على الاجتهاد في الفروع فذكرهم بما يقرؤه غداً في صحيفة مخازيه، وطعن في فتاوى أعلام الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، وجميع فِرَقِ الأُمَّةِ مِنْ فَرِيقَيْ الرَّأْيِ وَالحَدِيثِ مَعَ الخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ وَالنَجَّارِيَّةِ .

ثم ذكر الإمام البغدادي أن أكثر المعتزلة متفقون على تكفير النَظَّامِ، ولم يتبعه في ضلالته إلا نفر قليل، كالأسواري وابن حايط وفضل الحدثي والجاحظ مع مخالفتهم له في بعض ضلالاته، وقد قال بتكفيره أكثر شيوخ المعتزلة، منهم: أبو الهذيل والجُبَّائِي والإسكافي وجعفر بن حرب في كتب خاصة ألفوها للرد على ضلالاته.

ثم أخذ يسرد بعض فضائحه فقال في الفضيحة السادسة عشرة قوله: «بأن الخبر المتواتر مع خروج ناقليه عند سامع الخبر عن الحصر ومع اختلاف همم الناقلين واختلاف دواعيها يجوز أن يقع كذباً، هذا مع قوله بأن من أخبار الآحاد ما يوجب العلم الضروري، وقد كَفَّرَهُ أصحابنا مع موافقيه في الاعتزال في هذا المذهب الذي صار إليه». ثم قال في الفضيحة السابعة عشرة: «تجويزه إجماع الأُمَّةِ في كل عصر وفي جميع الأعصار على الخطأ من جهة الرأي والاستدلال، ويلزمه على هذا الأصل ألاَّ يثق بشيء مِمَّا اجتمعت الأُمَّةُ عليه لجواز خطئهم فيه عنده، وإذا كانت أحكام الشريعة منها ما أخذه المُسْلِمُونَ عن خبر متواتر ومنها ما أخذوه عن أخبار الآحاد، ومنها ما أجمعوا عليه وأخذوه عن اجتهاد وقياس، وكان النظام دافعاً لحُجةالتواتر ولحُجة الإجماع، وقد أبطل القياس وخبر الواحد إذا لم يوجد العلم الضروري، فكأنه أراد إبطال فروع الشريعة لإبطاله طرقها».

ثم قال في الفضيحة الحادية والعشرين: «ثم إن النظام مع ضلالاته التي حكيناها عنه، طعن في أخبار الصحابة والتَّابِعِينَ من أجل فتاويهم في الاجتهاد، فذكر الجاحظ عنه في كتاب " المعارف " وفي كتابه المعروف بالفتيا أنه عاب أصحاب الحديث وروايتهم أحاديث أبي هريرة، وزعم أن أبا هريرة كان أكذب الناس وطعن في الفاروق عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وزعم أنه شك يوم الحديبية في دينه وشك يوم وفاة النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه كان فيمن نفر بالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَلاَمُ - ليلة العقبة، وأنه ضرب فاطمة ومنع ميراث الضرة، وأنكر عليه تغريب نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة، وزعم أنه ابتدع صلاة التراويح، ونهى عن متعة الحج، وحرم نكاح الموالي للعربيات، وعاب عثمان بإيوائه الحكم بن العاص إلى المدينة، واستعماله الوليد بن عقبة على الكوفة، حتى صلى بالناس وهو سكران، وعابه بأن أعان سعيد بن العاص بأربعين ألف درهم على نكاح عقده وزعم أنه استأثر بالحمى، ثم ذكر عليّاً - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وزعم أنه سئل عن بقرة قتلت حماراً فقال: أقول فيها برأيي، ثم قال النظام عن عَلِيٍّ: " ومن هو حتى يقضي برأيه؟ " وعاب ابن مسعود في قوله حديث بروع بنت واشق: " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي ". وَكَذَّبَهُ في روايته عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ» وكذَّبَهُ أيضاًً في روايته انشقاق القمر، وفي رؤيته الجن ليلة الجن، ثم إنه قال في كتابه: «إن الذين حكموا بالرأي من الصحابة إما أن يكونوا قد ظنوا أن ذلك جائز لهم وجهلوا تحريم الحكم بالرأي في الفتيا عليهم، وأنهم أرادوا أن يذكروا بالخلاف وأن يكونوا رؤساء المذاهب، فاختاروا لذلك القول بالرأي فنسبهم إلى إيثار الهوى على الدين» . وقد ذكر الإمام البغدادي بعد ذلك : «أن نسبة النَظَّامِ الصحابة إلى الجهل والنفاق يترتب عليه خلود أعلام الصحابة في النار على رأي النظام، لأن الجاهل بأحكام الدين عنده كافر والمتعم للخلاف بلا حُجَّةٍ عنده منافق كافر أو فاسق فاجر، وكلاهما من أهل النار على الخلود».

هذا ما ذكره الإمام أبو منصور البغدادي ووافقه على أكثر ما فيه الشهرستاني صاحب «الملل والنحل» المتوفى سُنَّة (- 548 هـ). ومنه نرى أن المعتزلة ما بين شاك بعدالة الصحابة منذ عهد الفتنة كـ «واصل»، وما بين موقن بفسقهم كـ «عمرو بن عبيد» وما بين طاعن في أعلامهم، متهم لهم بالكذب والجهل والنفاق كالنظّام، وذلك يوجب ردهم للأحاديث التي جاءت عن طريق هؤلاء الصحابة بناء على رأي واصل وعمرو ومن تبعهما، وأن أخبار الآحاد لا تثبت عند أبي الهذيل حكماً إلا إذا رواها عشرون، بينهم واحد من أهل الجنة، وأن النظام ينكر حُجية الإجماع والقياس وقطعية التواتر.

وقد كان لموقف المعتزلة مِنَ السُنَّةِ هذا الموقف المتطرف المباين لعقيدة جمهور المُسْلِمِينَ أثر كبير في الجفاء بين علماء السُنَّةِ ورؤوس المعتزلة، تراشق على أثره الفريقان التُّهَمَ، فالمعتزلة يرمون المُحَدِّثِينَ بروايتهم الأكاذيب والأباطيل، وبأنهم زوامل للأخبار لا يفهمون ما يَرْوُونَ ويذكرون لهم من الطرائف في ذلك ما صح بعضها عن عوام أهل الحديث لا عن رؤسائهم ، بينما يَتَّهِمُ المُحَدِّثُونَ أئمة الاعتزال بالفسق والفجور والابتداع في الدين والقول بآراء ما نَزَّلَ اللهُ بها من سلطان، فقد نقل ابن قتيبة في كتابه " تأويل مختلف الحديث "، وكذلك البغدادي في " الفرق بين الفرق " عن النظام أنه كان يقول بأن الطلاق لا يقع بشيء من ألفاظ الكناية، وأن من ظَاهَرَ امرأته بذكر البطن أو الفرج لم يكن مُظَاهِرًا، وأن النوم لا ينقض الطهارة إذا لم يكن معه حدث، وأن من ترك صلاة مفروضة عمداً لم يصح قضاؤه لها، ولم يجب عليه قضاؤها، كما ذكر ابن قتيبة عنه أنه كان سِكِّيرًا مَاجِنًا يغدو على سكر، ويروح على سكر وأنه قال عن الخمر:
مَا زِلْتُ آخُذُ رُوحُ الزِقِّ فِي لُطْفٍ ... وَأْسْتَبِيحُ دَمًا مِنْ غَيْرِ مَذْبُوحٍ
حَتَّى انْتَشَيْتُ وَلِي رُوحَانِ فِي بَدَنٍ ... وَالزِقُّ مُطَّرَحٌ جِسْمٌ بِلاَ رُوحٍ

ويذكر لنا عن ثمامة بن أشرس الذي قاد حركة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، أنه رأى الناس يوم الجمعة يتعادون إلى المسجد الجامع لخوفهم فوت الصلاة، فقال لرفيق له: «انْظُرْ إِلَى هَؤُلاَءِ الحَمِيرِ وَالبَقَرِ ... » ثم قال: «مَاذَا صَنَعَ ذَاكَ العَرَبِيُّ بِالنَّاسِ؟» يَعْنِي رَسُولَ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

ويظهر أن ما ذكره ابن قتيبة والبغدادي عن رؤساء الاعتزال - وإن كان كلام خصم في خصومه - صحيح بالجملة من حيث اتصاف أولئك الرؤساء بِقِلَّةِ التَدَيُّنِ وعدم التورع عن ارتكاب بعض المُحَرَّمَاتِ، فقد روى الجاحظ وهو من أئمة الاعتزال - في " كتاب المضاحك ": إِنَّ المَأْمُونَ رَكِبَ يَوْمًا فَرَأَىَ ثُمَامَةَ سَكْرَانَ قَدْ وَقَعَ فِي الطِّينِ فَقَالَ لَهُ: «ثُمَامَةُ؟» قَالَ: «أَيْ واللهِ». قَالَ: «أَلاَ تَسْتَحْيِ؟» قَالَ: «لاَ وَاللهِ». قَالَ: «عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ. قَالَ: «تَتْرَى ثُمَّ تَتْرَى». وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ غُلاَمَ ثُمَامَةَ قَالَ لِثُمَامَةَ يَوْمًا: «قُمْ صَلِّ». فَتَغَافَلَ ثُمَامَةُ، فَقَالَ لَهُ غُلاَمُهُ: «قَدْ ضَاقَ الوَقْتُ، فَقُمْ وَصَلِّ وَاسْتَرِحْ»، فَقَالَ: «أَنَا مُسْتَرِيحٌ إِنَّ تَرَكْتَنِي» .

وَأَيًّا مَا كان فقد تطور الجفاء بين الفريقين إلى أن وقعت فتنة خلق القرآن التي حمل المأمون لواءها سَنَةَ 218 وجعل الدولة رسمياً تجبر الناس على ما لا يعتقدون وكان لِلْمُحَدِّثِينَ موقف مُشَرِّفٌ في الدفاع عن الحق، إذ صمدوا للإغراء والتهديد والوعيد، بل وللسجن والقتل، وما لقيه إمام السُنَّةِ أحمد بن حنبل - رَحِمَهُ اللهُ - في ذلك من سجن وضرب مدى ثلاثة عشر يَوْماًً أبلغ دليل على ما نال علماء السُنَّةِ من اضطهاد وأذى، حتى وَلِيَ المتوكل الخلافة سَنَةَ 232 فأعلن ميله إلى أهل السُنَّةِ، وأزال عن الناس تلك المحنة، ورفع من أقدار المُحَدِّثِينَ، وتضاءل المعتزلة بعد ذلك حتى لم تقم لهم من بعدها قائمة، وقد أدى - مع الأسف - هذا الصراع إلى نتيجتين خطيرتين فيما يتعلق بِِالسُنَّةِ:

أَوَّلَهُمَا - ما فتحه رؤساء المعتزلة من ثغرات في مكانة الصحابة استطاع منها أن يلج المُتَعَصِّبُونَ من المُسْتَشْرِقِينَ حمى أولئك الذادة الميامين من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن يجرؤوا على رميهم بالكذب والتلاعب في دين الله، مستندين إلى ما افتراه النَظَّامُ وأمثاله عليهم، وما استطال بلسانه على مقامهم، وقد تبع المُسْتَشْرِقِينَ في هذا بعض الكُتَّابِ المُسْلِمِينَ، كما ستطلع عليه من صنع الأستاذ أحمد أمين وبعض أدعياء العلم المغرورين.

ثَانِيهِمَا - أن جمهور المعتزلة كانوا في الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، حتى إن بشراً المريسي الذي كان من أبرز رؤوس المعتزلة في عصره، قالوا: إنه كان في الفقه على رأي أبي يوسف القاضي، غير أنه لما أظهر قوله بخلق القرآن هجره أبو يوسف فلما أشرعت الخصومة بين أهل الحديث وأهل الاعتزال جَرَّحَ المُحَدِّثُونَ كُلَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ القُرْآنِ، وَجَرَّ ذلك بعض المُغَالِينَ منهم إلى أَنْ يُجَرِّحَ كثيرًا من أصحاب أبي حنيفة بِحُجَّةِ أنهم يقولون بالرأي. ولا ذنب لهم إلا أن مذهب أبي حنيفة كان مذهب خصومهم المعتزلة، حتى إن أبا حنيفة نفسه لم يسلم من أذى الذين جاؤوا بعده من أولئك المُحَدِّثِينَ، فلقد نسبوا إليه القول بِخَلْقِ القُرْآنِ مع أن الثابت عنه بنقل الثقات غير ذلك ومع أن محمد بن الحسن كان يقول: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ المُعْتَزِلِيَّ يُعِيدُ صَلاَتَهُ». وسُئِلَ أبو يوسف عن المعتزلة فقال: «هُمْ الزَّنَادِقَةُ» .

وهكذا أصابت شظايا هذه المعركة فريقاً من أئمة المُسْلِمِينَ بغير أن يسهموا فيها، وكان من الممكن ألاََّّ تصل إلى ما وصلت إليه لولا تَدَخُّلِ ثلاثة من خلفاء بني العباس في إيقاد جذوتها. والأمر لله من قبل ومن بعد.