الفَصْلُ الرَّابِعُ

الفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي ثِمَارِ هَذِهِ الجُهُودِ:
بتلك الجهود المُوَفَّقَةِ التي سردناها عليك بإيجاز استقام أمر الشريعة بتوطيد دعائم السُنَّةِ التي هي ثاني مصادرها التشريعية، واطمأن المُسْلِمُونَ إلى حديث نبيهم فأقصي عنه كل دخيل، وَمُيِّزَ بين الصحيح والحسن والضعيف، وصان الله شرعه من عبث المفسدين وَدَسِّ الدَسَّاسِينَ وتآمر الزنادقة وَالشُعُوبِيِّينَ، وقطف المُسْلِمُونَ ثمار هذه النهضة الجبارة المباركة التي كان من أبرزها ما يلي:

أَوَّلاً - تَدْوِينُ السُنَّةِ:
قدّمنا أن السُنّة لم تدوَّن رسمياً في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دُوِّن القرآن، إنما كانت محفوظة في الصدور نقلها صحابة الرسول إلى من بعدهم من التابعين مشافهة وتلقيناً، وإن كان عصر النبي لم يخل من كتابة بعض الحديث، كما قدّمناه لك في بحث كتابة السُنّة، ولقد انقضى عصر الصحابة ولم تدوّن فيه السُنّة إلا قليلاً، إنما كانت تتناقلها الألسن. نعم لقد فكر عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بتدوين السُنّة ولكنه عدل عن ذلك، فقد أخرج البيهقي في «المدخل» عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السُنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ثم أصبح يَوْماًً وقد عزم الله له فقال: «إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله وإني - والله - لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً» . وعذره الذي أوضحه يتفق مع الظرف الذي كان فيه المُسْلِمُونَ، إذ كان القرآن غضاً طرياً، والأمم تدخل في دين الله أفواجاً، فلا بد من توفرهم على كتاب الله حفظاً ودراسةً وتلاوةً حتى يكون الأساس لعقيدتهم والحامي لها من كل لُبْسٍ وَتَغْيِيرٍ، واستمر الأمر كذلك إلى أن وقعت الفتنة، وانتشر الكذب في الحديث ونهض أجلاء التَّابِعِينَ فمن بعدهم لمقاومة حركة الوضع، وقاموا بتلك الجهود الجليلة التي تحدثنا عنها، وقد كان من أول ثمار هذه الجهود أن دَوَّنُوا السُنَّةَ خوفاً عليها من الضياع، وصيانة لها من التَّزَيُّدِ والنقصان.

وتكاد تجمع الروايات أن أول من فكر بالجمع والتدوين من التَّابِعِينَ عمر بن عبد العزيز، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم عامله وقاضيه على المدينة «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ، وَذَهَابَ العُلَمَاءِ» وطلب منه أن يكتب له ما عند عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَحْمَنِ الأَنْصَارِيَّةَ (98 هـ) والقاسم بن محمد بن أبي بكر (106 هـ) والذي يظهر أنه لم يخص ابن حزم بهذا العمل الجليل، بل أرسل إلى ولاة الأمصار كلها وكبار علمائها يطلب منهم مثل هذا، فقد أخرج أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " أَنَّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الآفَاقِ: «انْظُرُوا إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ فَاجْمَعُوهُ» وبذلك نَفَّذَ عمر رغبة جَدِّهِ عمر بن الخطاب التي جاشت في نفسه مُدَّةً ثم عدل عنها خوفاً من أن تلتبس بالقرآن أو يصرف الناس إليها، والذي يظهر أن أبا بكر بن حزم كتب لعمر شيئاً مِنَ السُنَّةِ فقد أنفذ إليه ما عند عَمْرَةَ والقاسم، ولكنه لم يُدَوِّنُ كل ما في المدينة من سُنَّةٍ وَأَثَرٍ، وإنما فعل هذا الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْرِيِّ (124 هـ) الذي كان عَلَماً خفَّاقاً من أعلام السُنَّةِ في عصره والذي كان عمر بن عبد العزيز يأمر جلساءه أن يذهبوا إليه لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد أعلم بِالسُنَّةِ منه، والذي ذكر " مسلم " أن له تسعين حَدِيثًا لا يرويها غيره، وذكر كثيراً من أئمة العلم في عصره أنه لولا الزُّهْرِيِّ لضاعت كثير من السُنَنِ هذا مع وجود الحسن البصري في عصر الزُّهْرِيِّ والذي يظهر أيضاًً أن تدوين الزُّهْرِي للسُنَّةِ لم يكن كالتدوين الذي تم على يد البخاري ومسلم أو أحمد وغيره من رجال المسانيد، وإنما كان عبارة عن تدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مُبَوَّبٍ على أبواب العلم، وربما كان مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد، وقد نستأنس لهذا بما روي عنه من أنه كان يخرج لطلابه أجزاء مكتوبة يدفعها إليهم لِيَرْوُوهَا عَنْهُ، وبذلك كان الزُّهْرِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أول من وضع حجر الأساس في تدوين السُنَّةِ في كتب خاصة، بعد أن كان عدد من علماء التَّابِعِينَ يكرهون كتابة العلم خشية من ضعف الذاكرة، بل كان الزُّهْرِيُّ نفسه في بدء شهرته العلمية يكره كتابة العلم ويمتنع عنه، حتى رغب إليه بذلك عمر بن عبد العزيز، وسيأتي معنا مزيد بيان لهذا البحث عند الكلام عن الزُّهْرِيِّ.

ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزُّهْرِيَّ. وكان أول من جمعه بمكة ابن جُرَيْجٍ (- 150 هـ) وابن إسحاق (- 151 هـ) وبالمدينة سعيد بن أبي عروبة (- 156 هـ) والربيع بن صُبيح (- 160 هـ) والإمام مالك (- 179 هـ) وبالبصرة حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (- 167 هـ) وبالكوفة سفيان الثوري (- 161 هـ) وبالشام أبو عمرو الأوزاعي (- 157 هـ) وبواسط هُشَيْمٌ (- 173 هـ) وبخراسان عبد الله بن المبارك (- 181 هـ) وباليمن مَعْمَرٌ (- 154 هـ) وبالريِّ جرير بن عبد الحميد (- 188 هـ) وكذلك فعل سفيان بن عيينة (-198 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) وَشُعْبَةُ بْنِ الحَجَّاجِ (- 160 هـ). وهؤلاء جميعاً كانوا في عصر واحد وَلاَ يُدْرَى أيهم سبق إلى ذلك، وكان صنيعهم في التدوين أن يجمعوا حديث رسول الله مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، قال الحافظ ابن حجر: «وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الجَمْعِ بِالأَبْوَابِ، أَمَّا جَمْعُ حَدِيثٍ إِلَى مِثْلِهِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ فَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ الشَّعْبِيُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَاااا بَابٌ مِنَ الطَّلاَقِ جَسِيمٌ» .

ثم جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السُنّة وأسعدها بأئمة الحديث وتآليفهم العظيمة الخالدة. فقد ابتدأ التأليف في هذا القرن على طريقة المسانيد: وهي جمع ما يروى عن الصحابي في باب واحد رغم تَعَدُّدِ الموضوع، وأول من فعل ذلك عبد الله بن موسى العبسي الكوفي، وَمُسَدِّدْ البَصْرِيِّ، وأسد بن موسى، ونُعيم بن حماد الخزاعي، ثم اقتفى أثرهم الحُفَّاظُ فصنف الإمام أحمد " مسنده " المشهور وكذلك فعل إسحاق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيره، وكانت طريقة هؤلاء في التأليف أن يفردوا حديث النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتأليف دُونَ أقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ، ولكنهم كانوا يمزجون فيها الصحيح بغيره، وفي ذلك من العناء ما فيه على طالب التحديث، فإنه لا يستطيع أن يتعرف على الصحيح منها إلا أن يكون من أئمة الشأن، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث فإن لم يتيسر له بقي الحديث مجهول الحال عنده.

وهذا هو ما حدا بإمام المُحَدِّثِينَ وَدُرَّةَ السُنَّةِ في عصره محمد بن إسماعيل البخاري (- 256 هـ) أن ينحو في التأليف مَنْحًى جديداً بأن يقتصر على الحديث الصحيح فقط دُونَ ما عداه، فألَّفَ كتابه " الجامع الصحيح " المشهور، وتبعه في طريقته معاصره وتلميذه الإمام مُسْلِمٌ بْنُ الحَجَّاجِ القُشَيْرِيُّ (- 261 هـ) فألَّفَ " صحيحه " المشهور، وكان لهما فضل تمهيد الطريق أمام طالب الحديث ليصل إلى الصحيح من غير بحث وسؤال، وتبعهما بعد ذلك كثيرون، فأُلِّفَتْ بعدهما كتب كثيرة من أهمها: " سُنن أبي داود " (- 275 هـ) و" النسائي " (- 303 هـ) و" جامع الترمذي " (- 279 هـ) و" سُنن ابن ماجه " (- 273 هـ) وقد جمع هؤلاء الأئمة في مُصَنَّفَاتِهِمْ كُلَّ مُصَنَّفَاتِ الأئمة السابقين، إذ كانوا يروونها كما هي عادة المُحَدِّثِينَ، ثم جاء القرن الرابع فلم يزد رجاله على رجال القرن الثالث شيئاً جديداً إلا قليلاً مِمَّا استدركوه عليهم، وكل صنيعهم جمع ما جمعه من سبقهم. والاعتماد على نقدهم، والإكثار من طرق الحديث، ومن أشهر الأئمة في هذا العصر الإمام سليمان بن أحمد الطبراني (- 360 هـ) ألَّفَ معاجمه الثلاثة: 1 - " الكبير " وذكر فيه الأحاديث بجمع ما رواه كل صحابي على حدة، وَرَتَّبَ فيه الصحابة على الحروف وهو مشتمل على خمسمائة وخمسة وعشرين ألف حديث. 2 - و" الأوسط ". 3 - و" الأصغر "، ذكر فيهما الأحاديث بجمع ما رواه كل شيخ من شيوخه على حدة، وَرَتَّبَ فيهما شيوخه على الحروف أيضاً. ومنهم الدَّارَقُطْنِيُّ (- 385 هـ) ألّف " سُنَنَهُ " المشهورة، وَابْنُ حِبَّانَ البُسْتِيِّ (- 354 هـ) وَابْنُ خُزَيْمَةَ (311 - هـ) وَالطَّحَاوِي (- 321 هـ).

بهذا تم تدوين السُنَّةِ وجمعها وتمييز صحيحها من غيرها، ولم يكن لعلماء القرون التالية إلا بعض استدراكات على كتب الصحاح، كـ " مستدرك " أبي عبد الله الحاكم النيسابوري (- 405 هـ) الذي استدرك فيه على البخاري ومسلم أحاديث يرى أنها من الصحاح متفقة مع شرطيهما مع أنهما لم يخرجاها في " صحيحيهما "، وقد سَلَّمَ له العلماء - ومن أشهرهم الذهبي - قسماً منها وخالفوه في قسم آخر.

ثَانِياً - عِلْمُ مُصْطَلَحِ الحَدِيثِ:
ومن ثمار هذه الحركة المباركة أن دُوِّنَتْ القواعد التي وضعها العلماء أثناء حركتهم لمقاومة الوضع، والتي قسموا فيها الحديث إلى ما ذكرناه من أقسام ثلاثة وما يتعلق بها، وبذلك كان عندنا علم مصطلح الحديث الذي يضع القواعد العلمية لتصحيح الأخبار، وهي أصح ما عرف في التاريخ من قواعد علمية للرواية والأخبار بل كان علماؤنا - رَحِمَهُمْ اللهُ - هم أول من وضعوا هذه القواعد على أساس علمي لا مجال بعده للحيطة والتثبت. وقد نهج على نهج علماء الحديث، علماء السلف في الميادين العلمية الأخرى، كالتاريخ والفقه والتفسير واللغة والأدب وغيرها، فكانت المؤلفات العلمية في العصور الأولى مسندة بالسند المتصل إلى قائلها في كل مسألة وفي كل بحث، حتى إن كتب العلماء ذاتها تناقلها تلامذتهم منهم بالسند المتصلل جيلاً بعد جيلٍ، فنحن لا نشك في أنَّ " صحيح البخاري " مثلا المتداول الآن بين المُسْلِمِينَ، ألَّفَهُ الإمام البخاري لأنه رُوِيَ عنه بالسند المتصل جيلاً بعد جيل، وهذه ميزة لا توجد في مؤلفات العلماء من الأمم الأخرى، حتى ولا في كتبهم المُقَدَّسَةِ.

وقد ألَّف أحد علماء التاريخ في العصر الحاضر كتاباً في أصول الرواية التاريخية اعتمد فيه على قواعد مصطلح الحديث، واعترف بأنها أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات.
وقد قال في الباب السادس (العدالة والضبط) بعد أن ذكر وجوب التحقّق من عدالة الراوي، والأمانة في خبره: «ومما يذكر مع فريد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب. وإليك بعض ما جاء في مصنّفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي، واعترافاً بفضلهم على التاريخ .. » ثم أخذ في نقل نصوص عن الإمام مالك، والإمام مسلم صاحب " الصحيح " والغزالي، والقاضي عياض وأبي عمرو بن الصلاح.

وعلم مصطلح الحديث يبحث عن تقسيم الخبر إلى صحيح وحسن وضعيف، وتقسيم كل من هذه الثلاثة إلى أنواع، وبيان الشروط المطلوبة في الراوي والمروي وما يدخل الأخبار من علل واضطراب وشذوذ، وما ترد به الأخبار وما يتوقف فيها إلى أن تعضد بمقويات أخرى، وبيان كيفية سماع الحديث وتحمّله وضبطه، وآداب المحدّث وطالب الحديث، وغير ذلك مِمَّا كان في الأصل بحوثاً متفرقة وقواعد قائمة في نفوس العلماء في القرون الثلاثة الأولى إلى أن أفرد بالتأليف والجمع والترتيب، شأن العلوم الإسلامية الأخرى في تطورها وتدرجها. وقد كان أول من ألَّف في بعض بحوثه علي بن المديني شيخ البخاري، كما تكلم البخاري ومسلم والترمذي في بعض أبحاثه في رسائل مجردة لم يضم بعضها إلى بعض، ولكن أول من صنف في هذا الفن تصنيفا علمياً بحيث جمع كل أبوابه وبحوثه في مصنّف واحد هو القاضي أبو محمد الرامهرمزي (- 360 هـ) في كتابه " المُحَدِّثُ الفَاصِلُ بَيْنَ الرَّاوِي وَالسَّامِعِ " ولكنه لم يستوعب فيه كل بحوث هذا العلم، ثم جاء الحاكم أبو عبد الله النيسابوري المُتَوَفَّى (- 405 هـ) فَأَلَّفَ فيه كتابه " معرفة علوم الحديث " لكنه لَمْ يُهَذِّبْ وَلَمْ يُرَتِّبْ، ثم تلاه أبو نعيم الأصفهاني (- 430 هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً، وأبقى أشياء لمن تتبع هذا البحث ثم جاء بعدهم الخطيب أبو بكر البغدادي (- 463 هـ) فصنّف في قوانين الرواية كتاباً سَمَّاهُ " الكفاية " وفي آدابها كتاباً سَمَّاهُ " الجامع لآداب الشيخ والسامع " وقد أفرد لكل من فنون الحديث مصنّفاً خَاصًّاً، ثم جاء من بعده القاضي عياض (- 544 هـ) فألّف كتابه " الإلماع " مستمداً بحوثه من كتب الخطيب .. ثم جاء الشيخ الحافظ تقي الدين أبو عمرو بن الصلاح الشَهْرَزُورِيِّ الدِّمِشْقِيُّ (- 643 هـ) فألَّفَ كتابه المشهور بـ " مقدمة ابن الصلاح " أملاه على تلاميذه بالمدرسة الأشرفية في دمشق من غير ترتيب محكم، إلا أنه كتاب شامل لكل ما تفرق في غيره من كتب المُتَقَدِّمِينَ، ولهذا عكف الناس عليه، وَأَكَبُّوا على شرحه بين ناظم وناثر كـ " ألفية " العراقي و" شرحها " للسخاوي، و" التقريب " للنووي، وشرحه " التدريب " للسيوطي، وغير ذلك من الكتب المعروفة، كما اختصر أيضاًً الإمام الحافظ ابن كثير الدمشقي (- 774 هـ) في كتابه " اختصار علوم الحديث " ثم تتابعت التآليف في هذا الشأن. ومن أشهرها " ألفية " الحافظ العراقي (- 806 هـ) و" نُخْبَةُ الفكر في مصطلح الأثر " للحافظ ابن حجر ومن آخرها " توجيه النظر " للعلامة الشيخ طاهر الجزائري و" قواعد التحديث " للقاسمي الدمشقي. ثَالِثًا - عِلْمُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ:
ومن ثمار هذه الجهود المباركة علم الجرح والتعديل أو علم ميزان الرجال، وهو علم يبحث فيه عن أحوال الرُّوَاةِ وأمانتهم وثقتهم وعدالتهم وضبطهم أو عكس ذلك من كذب أو غفلة أو نسيان، وهو علم جليل من أَجَلِّ العلوم التي نشأت عن تلك الحركة المباركة لا نعرف له مثيلاً أيضاًً في تاريخ الأمم الأخرى، وقد أَدَّى إلى نشأة هذا العلم حِرْصُ العلماء على الوقوف على أحوال الرُّوَاةِ، حتى يميزوا بين الصحيح من غيره، فكانوا يختبرون بأنفسهم من يعاصرونهم من الرُّوَاةِ إذ كان ذلك ذَبًّا عن دين الله وَسُنَّةِ رسوله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ قِيلَ لِلْبُخَارِيِّ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ التَّارِيخَ يَقُولُونَ: فِيهِ اغْتِيَابُ النَّاسِ، فَقَالَ: «إِنَّمَا رُوِّينَا ذَلِكَ رِوَايَةً وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ».

وقد ابتدأ الكلام عن الرُّوَاة توثيقاً وتوهيناً منذ عصر صغار الصحابة كابن عباس (- 68 هـ) وعُبادة بن الصامت (- 34 هـ) وأنس بن مالك (- 93 هـ) ثم من التَّابِعِينَ: سعيد بن المسيّب (- 93 هـ) والشعبي (- 104 هـ) وابن سيرين (- 110 هـ) والأعمش (- 148 هـ) ثم تتالى الأمر، فنظر في الرجال شُعْبَةُ (- 160 هـ) وكان مُتَثَبِّتًا لا يروي إلا عن ثقة، والإمام مالك (-179 هـ). ومن أشهر علماء الجرح والتعديل في هذا القرن الثاني مَعْمَرُ (- 154 هـ) وهشام الدستوائي (- 154 هـ) والأوزاعي (- 157 هـ) والثوري (- 161 هـ) وحماد بن سلمة (- 167 هـ) والليث بن سعد (- 175 هـ) ونشأ بعد هؤلاء طبقة أخرى كعبد الله بن المبارك (- 181 هـ) والفَزَاري (- 185 هـ) وابن عُيينة (- 198 هـ) وَوَكِيعٌ بْنُ الجَرَّاحِ (- 197 هـ) ومن أشهر علماء هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان (- 198 هـ) وعبد الرحمن بن مهدي (- 198 هـ) وكانا حُجَّتَيْنِ مَوْثُوقَيْنِ لدى الجمهور فمن وَثَّقَاهُ قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ، ومن جَرَّحَاهُ رُدَّتْ، وإن اختلف فيه رجع الناس إلى ما تَرَجَّحَ عندهم . ثم تلاهم طبقة أخرى من أئمة هذا الشأن منهم يزيد بن هارون (- 206 هـ) وأبو داود الطيالسي (- 204 هـ) وعبد الرزاق بن هَمَّاٍم (211 هـ) وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ الضَحَّاكُ بْنُ مَخْلَدْ (- 212 هـ).

ثم ابتدأ تصنيف الكُتُبِ في الجرح والتعديل، ومن أوائل الذين ألَّفُوا وتكلموا في هذه الطبقة يحيى بن معين (- 233 هـ) وأحمد بن حنبل (- 241 هـ) ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب " الطبقات " (- 230 هـ) وعلي بن المديني (- 234 هـ) ثم تلاهم بعد ذلك البخاري، ومسلم، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرَّازِيَانِ، وأبو داود السجستاني. وتتابع العلماء بعد ذلك حتى أواخر القرن التاسع الهجري، طبقة بعد طبقة، تؤلف وتبحث في الرجال، وتتحرى أمر الرُّوَاة حتى لا يعسر عليك أن تجد في مؤلفاتهم تاريخ أي رجل يمر بك اسمه في كتب الحديث.

وكتب الجرح والتعديل، منها ما أفرد لذكر الثقات فقط، ككتاب " الثقات " لابن حبان البُستي، و" الثقات " لابن قطلوبغا (- 881 هـ) في أربع مجلدات، و" الثقات " لخليل بن شاهين (- 873 هـ).

ومنها ما أفرد للضعفاء فقط، وَمِمَّنْ ألّف فيهم البخاري وَالنَسَائي وابن حبان والدراقطني والعقيلي وابن الجوزي وَابْنُ عَدِيٍّ، وكتابه " الكامل في الضعفاء " أوفى الكتب في ذلك وقد ذكر فيه كل من تكلم فيه وإن كان من رجال " الصَحِيحَيْنِ "، كما ذكر فيه بعض الأئمة المتبوعين، لأن بعض خصومهم في حياتهم تكلموا عنهم. وقد أََلَّفَ الذهبي كتابه " ميزان الاعتدال " من كتاب ابن عدي هذا.

ومنها ما جمع فيها بين الثقات والضعفاء وهي كثيرة جِدًّا من أشهرها تواريخ البخاري: "الكبير "، وهو مرتب على حروف المعجم، و"الأوسط "، و"الصغير " وهما مرتبان على السنين، وكتاب "الجرح والتعديل " لابن حبان، و" الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم الرازي، و"الطبقات الكبرى " لابن سعد، ومن أجود الكتب في ذلك، " التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل " للحافظ ابن كثير، جمع فيه بين "تهذيب " المِزِّي، و" ميزان " الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات وهو أنفع شيء لِلْمُحَدِّثِ وَالفَقِيهِ التالي لأثره .

ولم يكن الأئمة الذين عنوا بهذا الفن على استواء واحد في مقاييس النقد الذي يوجهونه لِلْرُّوَاةِ، بل كان منهم المُتَشَدِّدُ ومنهم المتساهل ومنهم المتوسط المعتدل، فمن المُتَشَدِّدِينَ، ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وابن حبان وأبو حاتم الرازي، ومن المتساهلين، الترمذي والحاكم وابن مهدي، ومن المعتدلين أحمد، والبخاري ومُسلم وبذلك تباينت الآراء في بعض الرُّوَاةِ، فمنهم من يوثقه ومنهم من يضعفه، وما ذلك إلا لاختلاف الأنظار والمقاييس التي وضعها كل إمام في نقده، بل قد يُنْقَلُ عن العالم الواحد رأيان مختلفان في رَاوٍ واحد، فقد يراه اليوم ثقة، ثم يرى منه بعد ذلك ما يضطره للعدول عن حكمه، وقد يكون الأمر عكس ذلك.

ومن الأسباب الاختلاف في التجريح والتعديل اختلاف منازع الفقهاء في الاجتهاد، فالنزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي مشهور معروف أَدَّى إلى أن يطعن بعض أهل الحديث في بعض أئمة أهل الرأي وأن يَعُدَّهُمْ من الضعفاء لا لشيء إلا لنزعتهم الاجتهادية التي لا تتفق مع نزعة أهل الحديث، وحسبك دَلِيلاً على هذا أن إماماً جليلاً من كبار أئمة التشريع في تاريخ الإسلام وهو أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - تحامل عليه كثير من المُحَدِّثِينَ وَجَرَّحَهُ بعض علماء الجرح والتعديل مع زهده وورعه وتقواه وجلالة قدره، ونجد ذلك واضحاً مِمَّا نقله أبو بكر الخطيب في " تاريخ بغداد " في ترجمة أبي حنيفة (13/ 323 - 423) وما ذلك إلا لِدِقَّةِ مسلكه الفقهي الذي خفي على كثير من المُحَدِّثِينَ بل على كثير من أئمتهم. وقد أدى تعصب العامة من أهل الحديث إلى أن يَتَّهِمُوا أبا حنيفة بما يقطع التاريخ بكذبه.

ولعل هذا الاختلاف في ميول الناقدين وأنظارهم وتفاوتهم بين الشدة والتساهل في النقد، هو الذي أكثر العلماء أخيراً إلى أن لا يقبلوا جرحاً إلا مفسراً خشية أن يكون منشأ الجرح خطأ في تقدير الناقد أو عصبية لا حقيقة لها وواقعاً، قال الحافظ ابن كثير: «بِخِلاَفِ الجَرْحِ فَإِنَّهُ لاَ يُقْبَلُ إِلاَّ مُفَسَّرًا لاخْتِلاَفِ النَّاسِ فِي الأَسْبَابِ المُفَسِّقَةِ فَقَدْ يَعْتَمِدُ الجَارِحُ شَيْئًا مَفَسِّقًا فَيُضَعِّفَهُ، وَلاَ يِكُوُنَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الأَمْرِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الجَرْحِ» .

ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع ما نقل عن بعضهم أنه قيل له: «لِمَ تَرَكْتَ حَدِيثَ فُلاَنٍ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ يَرْكُضُ عَلَىَ بِرْذَوْنٍ فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ! .. وسئل بعضهم عن حديث لصالح المُرِّي فقال: «مَا يُصْنَعُ بِصَالِحِ؟ ذَكَرُوهُ يَوْمًا عِنْدَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَامْتَخَطَ حَمََّادُ» فانظر كيف كان بعض الناس يُجَرِّحُونَ الرجال لأسباب واهية لا علاقة لها بالعدالة والثقة والضبط، ولكن الحق أن هذا صنيع الجاهلين أو المتطفلين على هذا العلم، أما الأئمة المنتصبون لهذا الشأن العريقون في مداخله ومخارجه، فلا يقعون في مثل ذلك الحكم الجائز والنقد المضحك.

رَابِعًا - عُلُومُ الحَدِيثِ:
وثمة علوم أخرى استلزمتها دراسة السُنَّةِ وروايتها والدفاع عنها وتحقيق أصولها ومصادرها، وقد أوصلها أبو عبد الله الحاكم في كتابه " معرفة علوم الحديث " إلى اثنين وخمسين علماً، وأوصلها النووي في " التقريب " إلى خمس وستين علماً، نذكر أهمها فيما يلي، ليتبين مقدار دقة علماء السُنَّةِ في نقدها وتحقيقهم في ضبطها ودأبهم على صيانتها.

(الأول) - معرفة صدق المُحَدِّثِ وإتقانه وَتَثَبُّتِهِ وصحة أصوله وما يحتمله سِنُّهُ ورحلته من الأسانيد، وغير ذلك من غفلته وتهاونه بنفسه وعلمه وأصوله. ومن ذلك ما قاله الحاكم: «وَمِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ طَالِبُ الحَدِيثِ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِ المُحَدِّثِ أَوَّلاً هَلْ يَعْتَقِدُ الشَّرِيعَةَ فِي التَّوْحِيدِ وَهَلْ يُلْزِمُ نَفْسَهُ طَاعَة الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ وَوَضَعُوا مِنَ الشَّرْع ثمَّ يَتَأَمَّل هَلْ هُوَ صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَوَاهُ فََإِنَّ الدَّاعِي إِلَى البِدْعَةِ لاَ يُكْتَبُ عَنهُ وَلاَ كَرَامَة لإِجْمَاعِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِهِ
ثُمَّ يَتَعَرَّفُ سِنَّهُ هَلْ يَحْتَمِلُ سَمَاعَهُ عَنْ شُيُوخِهِ الذِينَ يُحَدِّثُ عَنْهُمْ فَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ المَشَايِِخِ جَمَاعَةً أَخْبَرُونَا بِسِنٍّ يَقْصُرُ عَنْ لُقْيِ شُيُوخٍ حَدَّثُوا عَنْهُمْ ثُمَّ يتَأَمَّلُ أُصُولَهُ أعَتِيقَةٌ هِيَ أَمْ جَدِيدَةٌ فَقَدْ نَبَغَ فِي عَصْرِنَا هَذَا جَمَاعَةٌ يَشْتَرُونَ الكُتُبَ فَيُحَدِّثُونَ بِهَا وَجَمَاعَةٌ يَكْتُبُونَ سَمَاعَاتِهِمْ بِخُطُوطِهِمْ فِي كُتُبٍ عَتِيقَةٍ فِي الوَقْتِ فَيُحَدِّثُونَ بِهَا فَمَنْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَمَعْذُورٌ بِجَهْلِهِ فَأَمَّا أَهْلُ الصَّنْعَةِ إِذَا سَمِعُوا مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلاَءِ بَعْدَ الخِبْرَةِ فَفِيهِ جَرْحُهُمْ وَإِسْقَاطُهُمْ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ عَلَى أَنَّ الجَاهِلَ بِالصَّنْعَةِ لاَ يُعْذَرُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ عَمَّا لاَ يَعْرِفُهُ وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أَجْمَعِينَ -».

(الثاني) - معرفة المسانيد من الأحاديث:
قال الحاكم: «وَهَذَا عِلْمٌ كَبِيرٌ مِنْ هَذِهِ الأَنْوَاعِ، لاخْتِلَافِ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ فِيْ الِاحْتِجَاجِ بِغَيْرِ الْمُسْنَدُ، وَالْمُسْنَدُ مِّنَ الْحَدِيْثِ أَنَّ يَرْوِيْهِ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَيْخٍ يُظْهِرُ سَمَاعَهُ مِنْهُ لِمَنْ يَحْتَمِلُهُ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ شَيْخِهِ إِلَىَ أَنْ يَصِلَ الإِسْنَادِ إِلَىَ صَحَابِيٍّ مَشْهُوْرٌ إِلَىَ رَسُوْلِ الْلَّهِ - صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -».

(الثالث) - معرفة الموقوفات من الآثار:
وذلك مثل ما أخرجه الحاكم عن المغيرة بن شعبة قال: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالأَظَافِيرِ». قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ يَتَوَهَّمُهُ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّنْعَةِ مُسْنَدًا، لِذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ، وَلَيْسَ بِمُسْنَدٍ، فَإِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى صَحَابِيٍّ، حَكَى عَنْ أَقْرَانِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِعْلاً، وَلَيْسَ يُسْنِدُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ». (الرابع) - معرفة الصحابة على مراتبهم:
فإنهم - على ما ذكر الحاكم - اثنتا عشرة طبقة، أولها من أسلم بمكة، وآخرها صبيان وأطفال رأوا رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وفي حَجَّةِ الوداع وعدادهم في الصحابة.

(الخامس) - معرفة المراسيل المختلف في الاحتجاج بها:
وهذا نوع من علم الحديث صعب، قلَّمَا يهتدي إليه إلا المُتَبَحِّرُ في هذا العلم.

(السادس) - معرفة المنقطع من الحديث:
وهو غير المرسل، وقلما يوجد في الحُفَّاظِ من يُمَيِّزُ بينهما، ثم ذكر أنه ثلاثة أنواع وضرب لكل نوع مثلا.
الأول: أن يكون في السند رجلان مجهولان لم يُسَمَّيَا ولم يعرفا.
الثاني: أن يكون في إسناده رجل غير مسمى ولكنه عرف من طريق آخر.
الثالث: أن يكون في الإسناد راوية لم يسمع من الذي يروي عنه الحديث قبل الوصول إلى التابعي الذي هو موضع الإرسال. ولا يقال لهذا النوع: مرسل إنما يقال له: منقطع.

(السابع) - معرفة المسلسل من الأسانيد:
فإنه نوع من السماع الظاهر الذي لا غبار عليه، وهو أنواع: فقد يكون التسلسل بلفظ مُعَيَّنٍ عند التحديث في جميع رجال السند، كأن يقولوا جميعاً «حَدَّثَنَا» أو «سمعته يقول» أو «شهدت على فلان أنه قال» وقد يكون التسلسل بفعل معين يفعله كل شيخ مع تلميذه، كالحديث المسلسل بالمصافحة وهكذا.

(الثامن) - معرفة الأحاديث المعنعنة:
وليس فيها تدليس، وهي متصلة بإجماع أئمة النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس، ثم ذكر الحاكم - مثلا له - حَدِيثًا عن جابر بن عبد الله، ثم قال: «هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ مِصْرِيُّوْنَ ثُمَّ مَدَنِيُّونَ وَمَكِيُّونَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ التَّدْلِيسُ، فَسَوَاءٌ - عِنْدَنَا - ذَكَرُوا سَمَاعَهُمْ أَوْ لَمْ يَذْكُرُوهُ».

(التاسع) - معرفة المعضل من الروايات:
وهو أن يكون بين المرسل إلى رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من رجل وأنه غير المرسل، فإن المراسيل للتابعين دُونَ غيرهم.

(العاشر) - معرفة المُدْرَجِ في حديث رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كلام الصحابة وتخليص كلام غيره من كلامه - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وَمَثَّلَ لذلك بما أخرجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ بيده فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاَةِ وَقَالَ: «قُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ» فَذَكَرَ التَشَهُّدَ، قَالَ: فَإِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ». قال الحاكم: وقوله: «إِذَا قُلْتَ هَذَا، إلخ ... » مدرج في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود واستشهد لذلك بما أخرجه من طريق آخر قال فيه راويه عن عبد الله بن مسعود بعد أن ذكر تعليم النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن مسعود «التَشَهُّدَ» قال عبد الله بن مسعود: «إِذَا فَرَغْتَ مِنْ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلاَتَكَ. إلخ ... » .

(الحادي عشر) - معرفة التَّابِعِينَ:
وهذا نوع يشتمل على علوم كثيرة فإنهم على طبقات في الترتيب، ومهما غفل الإنسان عن هذا العلم لم يُفَرِّقْ بين الصحابة والتَّابِعِينَ، ثم لم يُفَرِّقْ أيضاًً بين التَّابِعِينَ وأتباع التَّابِعِينَ، ثم ذكر الحاكم طبقاتهم (وهم خمس عشرة طبقة) أولهم، من لحق العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجنة، كسعيد بن المسيب وقيس بن أبي حازم، وآخرهم من لَقِيَ أنس بن مالك من أهل البصرة، وعبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، والسائب بن يزيد من أهل المدينة، وعبد الله بن الحارث بن جُزْءٍ من أهل مصر، وأبا أمامة الباهلي من أهل الشام. (الثاني عشر) - معرفة أَولاد الصحابة:
فإن من جهل هذا النوع اشتبه عليه كثير من الروايات، وأول ما يلزم الحَدِيثِيَّ معرفته من ذلك أَوْلاَدَ سيد البشر - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن صَحَّتْ الرواية عنه منهم، ثم بعد هذا معرفة أولاد كبار الصحابة وغيرهم، ثم معرفة أولاد التَّابِعِينَ وأتباع التَّابِعِينَ وغيرهم من أئمة المُسْلِمِينَ، فإن هذا علم كبير ونوع بذاته من أنواع علم الحديث.

(الثالث عشر) - معرفة علم الجرح والتعديل:
وهما في الأصل نوعان، كل نوع منهما علم برأسه، وهو ثمرة هذا العلم، والمرقاة الكبيرة منه، وقد تكلم عنه الحاكم كما تكلم عن أصح الأسانيد وأوهاها.

(الرابع عشر) - معرفة الصحيح والسقيم:
وهو غير الجرح والتعديل، فَرُبَّ إسناد يسلم من المجروحين غير مخرج في الصحيح، وضرب لذلك مثلا بما أخرجه بسنده المتصل إلى ابن عمر عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلاَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى وَالوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ إِلاَّ ثِقَةٌ ثَبْتٌ، وَذِكْرُ النَّهَارِ فِيهِ وَهْمٌ»، وضرب لذلك مثلاً آخر حَدِيثًا أخرجه بسنده إلى مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: «مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا قَطُّ إِنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلاَّ تَرَكَهُ» قال الحاكم: «هَذَا إِسْنَادٌ تَدَاوَلَهُ الأَئِمَّةُ وَالثِّقَاتُ وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَإِنَّمَا بِهَذَا الإِسْنَادِ «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً قَطُّ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِنَفْسِهِ إِلاَّ أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا». وَلَقَدْ جَهِدْتُ جَهْدِي أَنْ أَقِفَ عَلَى الْوَاهِمِ فِيهِ مَنْ هُوَ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ أَكْبَرَ الظَّنِّ عَلَى ابْنِ حَيَّانَ الْبَصْرِيِّ عَلَى أَنَّهُ صَدُوقٌ مَقْبُولٌ» ثم قال الحاكم: «إِنَّ الصَّحِيحَ لاَ يُعْرَفُ بِرِوَايَتِهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِالفَهْمِ وَالحِفْظِ وَكَثْرَةِ السَّمَاعِ، وَلَيْسَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ العِلْمِ عَوْنٌ أَكْثَرَ مِنْ مُذَاكَرَةِ أَهْلِ الْفَهْمِ وَالمَعْرِفَةِ لِيَظْهَرَ مَا يَخْفَى مِنْ عِلَّةِ الْحَدِيثِ، فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ بِالأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ غَيْرِ مُخَرَّجَةٍ فِي كِتَابَيْ الإِمَامَيْنِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لَزِمَ صَاحِبَ الحَدِيثِ التَّنْقِيرُ، عَنْ عِلَّتِهِ، وَمُذَاكَرَةِ أَهْلِ المَعْرِفَةِ بِهِ لِتَظْهَرَ عِلَّتُهُ».

(الخامس عشر) - معرفة فقه الحديث:
إذ هو ثمرة هذه العلوم وبه قوام الشريعة، ثم ذكر أسماء عدة من أئمة الحديث أضافوا إلى رواية الحديث الفقه بها، كابن شهاب الزُّهْرِي، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وأحمد بن حنبل وكثيرين.

(السادس عشر) - معرفة ناسخ الحديث من منسوخه:
وقد ذكر أمثلة كثيرة لأحاديث منسوخة وأخرى ناسخة.

(السابع عشر) - معرفة المشهور من الأحاديث المروية عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
قال الحاكم: «وَ (المَشْهُورُ) مِنَ الحَدِيثِ غَيْرِ (الصَّحِيحِ)، فَرُبَّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحِ»، وضرب لذلك أمثلة.

(الثامن عشر) - معرفة الغريب من الحديث:
وهو أنواع: فنوع منه غرائب الصحيح وهو ما يتفرد به راو ثقة، ومنه غرائب الشيوخ وذكر الشيوخ وذكر لذلك مثلا حديث «لاَ يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» فقال: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، وَهُوَ إِمَامٌ يُجْمَعُ حَدِيثُهُ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ إِمَامٌ مُقَدَّمٌ، لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ غَيْرُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ».

(التاسع عشر) - معرفة الأفراد من الأحاديث:
وهو على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: معرفة سنن رسول الله التي يتفرد بها أهل مدينة واحدة عن الصحابي كأن يرويه كوفيون من أول السند إلى آخره، أو مدنيون وهكذا. النوع الثاني: أحاديث يتفرد بروايتها رجل واحد عن إمام من الأئمة.
النوع الثالث: أحاديث لأهل المدينة تفرد بها عنهم رَاوٍ من أهل مكة مثلاً.

(العشرون) - معرفة المُدَلِّسِينَ الذين لا يميز من كتب عنهم بين ما سمعوه وما لم يسمعوه. قال الحاكم: «وَفِي التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا جَمَاعَةٌ» (*)، ثم ذكر أنواع التدليس وهي ستة، وذكر لكل نوع أمثلة.

(الحادي والعشرون) - معرفة علل الحديث:
وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم وغير الجرح والتعديل. قال الحاكم: «وَإِنَّمَا يُعَلَّلُ الحَدِيثُ مِنْ أَوْجُهٍ لَيْسَ لِلْجَرْحِ فِيهَا مَدْخَلٌ، فَإِنَّ حَدِيثَ المَجْرُوحِ سَاقِطٌ وَاهٍ، وَعِلَّةٌ الحَدِيثِ، يَكْثُرُ فِي أَحَادِيثِ الثِّقَاتِ أَنْ يُحَدِّثُوا بِحَدِيثٍ لَهُ عِلَّةٌ، فَيَخْفَى عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ، فَيَصِيرُ الحَدِيثُ مَعْلُولاً، وَالحُجَّةُ فِيهِ عِنْدَنَا الحِفْظُ، وَالفَهْمُ، وَالمَعْرِفَةُ لاَ غَيْرَ»، ثم ذكر له عشرة أنواع وَمَثَّلَ لكل نوع، ولم يذكر لها قواعد وإنما كان يذكر لكل نوع مثالاً، ثم يذكر علته، وجميع العلل تدور حول دخول حديث في حديث، أو وهم لحق الراوي، أو وصل حديث وهو في الواقع مرسل وهكذا.

(الثاني والعشرون) - معرفة السنن المتعارضة:
فيحتج بعض المذاهب بإحداها ويحتج غيرهم بالأخرى، وقد ذكر لذلك أمثلة من أحاديث صَحَّتْ عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان في حَجَّةٍ مُفْرداً وأحاديث أخرى صحيحة أنه كَانَ مُتَمَتِّعًا، وأحاديث أخرى أنه كان قَارِنًا، فاختار أحمد وابن خزيمة التمتع، واختار الشافعي الإفراد، واختار أبو حنيفة القِرَانَ. (الثالث والعشرون) - معرفة الأخبار التي لا معارض لها بوجه من الوجوه:
وذكر لذلك أمثلة كثيرة.

(الرابع والعشرون) - معرفة زيادات ألفاظ فقهية في أحاديث ينفرد بالزيادة فيها رَاوٍ واحد:
وهذا مِمَّا يعز وجوده ويقل في أهل الصنعة من يحفظه، وذكر لذلك أمثلة، منها حديث ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ، رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، وَكَذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ الوَقْتِ فِيهِ غَيْرُ بُنْدَارِ بْنِ بَشَّارٍ، وَالحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ، وَهُمَا ثِقَتَانِ فَقِيهَانِ».

(الخامس والعشرون) - معرفة مذاهب المُحَدِّثِين:
وقد ذكر الحاكم نصوصاً كثيرة عن أئمة الحديث يذكرون فيها الطرق التي ينتمي إليها بعض الرُّوَاة لتحذير الناس منهم.

(السادس والعشرون) - معرفة التصحيفات في المتون:
فقد زلق فيه جماعة من أئمة الحديث وذكر لذلك أمثلة.

(السابع والعشرون) - معرفة التصحيفات في الأسانيد:
وقد ذكر لذلك أمثلة كثيرة.
ثم ذكر أنواعاً كثيرة أخرى من علوم الحديث، يرجع أكثرها إلى ضبط أسماء الرُّوَاةِ وأنسابهم وأعمارهم وقبائلهم وأقرانهم وَكُنَاُهْم وصناعاتهم وغير ذلك مِمَّا يدل على بالغ العناية ووافر الضبط والإتقان.

خَامِسًا - كُتُبُ المَوْضُوعَاتِ وَالوَضَّاعِينَ:
كان من عادة السلف حين وقع الكذب في الحديث وتتبعوا الكَذَّابِينَ وعرفوهم، أن يجهروا بأسمائهم في المجالس فيقولوا: فلان كذَّاب لا تأخذوا عنه، فلان زنديق، فلان قَدَرِيٌّ. وهكذا.
وقد عرف بالكذب واشتهر بين المُحَدِّثِين أناس منهم:
أبان بن جعفر النميري: وضع على أبي حنيفة ثلاثمائة حديث لم يُحَدِّث أبو حنيفة بواحد منها.
إبراهيم بن زيد الأسلمي: روى عن مالك أحاديث لا أصل لها.
أحمد بن عبد الله الجويباري: وضع ألوفاً من الأحاديث لِلْكَرَّامِيَّةِ.
جابر بن يزيد الجُعَفِي: قال فيه سفيان: «سُمِعَتْ جَابِرًا يُحَدِّثُ بِنَحْوِ ثَلاَثِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ مَا أَسْتَحِلُّ أَنْ أَذْكُرَ مِنْهَا شَيْئًا وَأَنَّ لِيَ كَذَا وَكَذَا».
محمد بن شجاع الثلجي: وضع أحاديث التشبيه ونسبها إلى أهل الحديث.
نوح بن أبي مريم: وضع أحاديث فضائل القرآن، سورة فسورة .

الحارث بن عبد الله الأعور، مقاتل بن سليمان، محمد بن سعيد المصلوب، محمد بن عمر الواقدي، إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وهب بن وهب القاضي، محمد بن السائب الكلبي، أبو داود النخعي، إسحاق بن نجيح الملطي، عباس بن إبراهيم النخعي، مأمون بن أبي أحمد الهروي، محمد بن عكاشة الكرماني، محمد بن القاسم الطايكاني، محمد بن زياد اليشكري، محمد بن تميم الفريابي.

ثم تتبع العلماء الأحاديث الموضوعة فأفردوها بالجمع والتأليف تنبيهاً للعامة حَتَّى لاَ يَغْتَرُّوا بِهَا. ومن أشهر هذه الكتب:
1 - "الموضوعات " للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي المُتَوَفَّى (597) وقد ذكر فيه كل ما اعتقد بوضعه من الأحاديث ولو في كتب الصحاح، فذكر حديثين في " صحيح مسلم "، وحَدِيثًا في "البخاري "، وثمانية وثلاثين في " مُسْنَدُ أَحْمَدَ "، وتسعة في " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "، وثلاثين في " جامع الترمذي "، وعشرة في " سُنَنِ النَسَائِي "، وثلاثين في " سُنَنِ ابن ماجه "، وستين في " مُسْتَدْرَك الحَاكِمْ "، وأحاديث أخرى في كتب السُنَّةِ الأخرى. وقد تعقَّبَهُ العلماء - كالعراقي وابن حجر بخصوص أحاديث " مُسْنَدُ أَحْمَدَ "، والسيوطي بصورة عامة في كتابه " التعقبات على الموضوعات " وفي اختصاره لكتاب ابن الجوزي في " اللآلئ المصنوعة " -، فأقروا أكثر ما ذكر في كتابه، وخالفوه في قليل منها، وخاصة ما يتعلق بأحاديث " البخاري " و" مسلم "، وأحاديث الإمام أحمد.
2 - " المغني عن الحفظ والكتاب "، لأبي حفص عمر بن بدر الموصلي المُتَوَفَّى (- 622 هـ) اكتفى فيه بذكر الأبواب التي لم يصح فيها شيء من الحديث، مثل قوله: «باب في زيادة الإيمان ونقصانه وأنه قول وعمل». ثم يقول: «لاَ يَصِحُّ فِي البَابِ شَيْءٌ»، وقد تَعَقَّبَهُ العلماء أيضاًً.
3 - " الدر الملتقط في تبيين الغلط "، للعلامة الصنعاني رضي الدين أبي الفضل حسن بن محمد بن حسين المُتَوَفَّى (- 650 هـ) وقد تَعَقَّبَهُ العلماء أيضاًً.
4 - " تذكرة الموضوعات "، لابن طاهر المقدسي (- 507 هـ) وقد ذكر فيه الأحاديث التي رواها الكذبة والمجروحون والضعفاء والمتروكون.

5، 6 - " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " و" الذيل ايضاً "، تأليف الحافظ السيوطي، اختصر في الأول كتاب " الموضوعات " لابن الجوزي، وَتَعَقَّبَهُ فيه على بعض الأحاديث التي حكم ابن الجوزي بوضعها، وزاد في الكتاب الثاني ما فات ابن الجوزي في "الموضوعات "، ثم ألف " التعقبات على الموضوعات ". 7 - " تذكرة الموضوعات "، لمحمد بن طاهر بن علي الفُتَّنِي (986) وقد ألحق به رسالة في الوَضَّاعِينَ والضعفاء مرتبة على حروف المعجم.
8 - " الموضوعات " للشيخ علي القاري الحنفي (1014).
9 - " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للإمام الشوكاني المُتَوَفَّى (- 1250 هـ).
10 - " رسالة " للإمام الصنعاني. ذكر فيها أكثر الأحاديث التي تدور على أَلْسِنَةِ القُصَّاصِ وَالوُعَّاظِ في عصره، وذكر في آخرها أشهر أسماء الضعفاء والمتروكين.
11 - " اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع " للشيخ محمد بن أبي المحاسن القاوقجي الحسني المشيشي الأزهري. ولد بطرابلس، وتوفي في مصر أواخر عام 1305، وقد طبعت والرسالة السابقة في كتاب واحد.

سَادِسًا - كُتُبٌ فِي الأَحَادِيثِ المُشْتَهَرَةِ عَلَى الأَلْسِنَةِ:
وبيان ما فيها من صحيح أو ضعيف أو موضوع، ومن هذه الكتب:
1 - " اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة "، للزركشي (- 794 هـ) وقد اختصره السيوطي في " الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ".
2 - " المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الأَلْسِنَةِ "، للسخاوي (- 902 هـ).
3 - " كشف الخفاء والإلباس فيما يدور من الأحاديث على أَلْسِنَةِ الناس "، للعجلوني (- 1162 هـ) وقد أخذ كتاب السخاوي، وزاد عليه.
4 - " تمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على أَلْسِنَةِ الناس من الحديث "، لابن الديبع الشيباني الأثري المُتَوَفَّى (- 944 هـ).
5 - " أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب "، للشيخ محمد الحوت البيروتي، أخذ كتاب " تمييز الطيب " وزاد عليه .

وبهذا ينتهي ما أردته من عرض موجز للأدوار التي مرت بها السُنَّةُ، وما تعرضت له من دَسٍّ وَتَحْرِيفٍ، وما قام به العلماء من جهود جبارة لتنقية السُنَّةِ مِمَّا أصابها من فساد، وإنها لجهود لا يسع المنصف إلا أن ينحني إجلالاً ويعترف بأنها تكاد تكون فوق مستوى البشر، فجزاهم اللهُ خيراً.