هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
2036 وحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هِشَامٍ الْقُرْدُوسِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
2036 وحدثني عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن هشام القردوسي ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من نسي وهو صائم ، فأكل أو شرب ، فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Abu Huraira reported Allah's Messenger (ﷺ) as saying:

If anyone forgets that he is fasting and eats or drinks he should complete his fast, for it is only Allah Who has fed him and given him drink.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه.


المعنى العام

للزمن فضيلة ترفع من قيمة العمل الذي يقع فيه، وللمكان فضيلة كذلك، وللعمل فضيلة تختلف درجاتها، من حيث طبيعته ومن حيث الإخلاص فيه، ومن حيث حمايته من الخلل أو الدخيل، وقد بدأ الإمام مسلم كتاب الصوم بفضيلة شهر رمضان، فضيلة الزمن، وأخرج هناك حديث أبي هريرة: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين وفي فضيلة الزمن أيضاً يوم عرفة، ويوم الإثنين والأيام البيض، وشهر الله المحرم، وستة أيام من شوال، ومن حيث المكان سيأتي الكلام عن الاعتكاف في المسجد، ثم فضل الطاعة في المسجد الحرام.

وفي هذا الباب فضل العمل ذاته؛ فضل الصوم، وله خصوصية من بين العبادات، فكل ساعة تجزى بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ثم تضاعف إلى سبعمائة ضعف، أما الصوم فيوفى صاحبه الأجر من غير حساب، مصداقاً لقوله تعالى: { { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } } [الزمر: 10].
والصوم نصف الصبر، ومصداقاً لقول الله تعالى في الحديث القدسي: كل عمل يعمله ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ولقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وقوله: للصائم فرحتان تفوقان كل أفراحه، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه جزاء صومه.

وقد كرم الله الصائمين بتخصيص باب من أبواب الجنة لهم، لا يزاحمهم فيه غيرهم، باب يسمى باب الريان، ومن دخله لا يظمأ أبداً جزاء ظمئه بالصيام، لا يدخل من هذا الباب إلا الصائمون، ويشرفون بالنداء على رءوس الخلائق، يناديهم الملائكة: أين الصائمون؟ هلموا إلى مكانتكم وشرفكم وعزكم وجنتكم، فيدخلون، حتى إذا انتهى آخرهم أغلق الباب بعدهم.

لماذا هذه الكرامة؟ وما فضل الصوم على غيره من العبادات؟ هل لأنه لا يقع إلا لله وحده فلم يتعبد به أحد لصنم؟ هل لأنه لا يظهر كعبادة، فهو بين العبد وربه، هل لأنه صفة من صفات ملائكة الله، فهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون؟ هل لأنه محاربة شاقة لشهوات البطن والفرج أقوى عوامل ونوازع الشر في الإنسان؟ هل لكل ذلك ولغير ذلك؟ وإذا كان الصوم بهذه الفضيلة فكيف نصونه من المؤثرات الضارة بجزائه.
هنا يصف لنا الحديث الشريف وسائل الوقاية إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يفحش في قول أو فعل -ولا يجهل- ولا يفعل فعل الجاهلين ولا يسخب ولا يرفع صوته بفظاظة، فإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله فلا يرد عليه بالمثل، وليضبط أعصابه، وليكظم غيظه فليقل في نفسه كيداً لشيطانه وبلسانه ردعاً لخصمه إني صائم فلن أرد عليك لئلا أعكر صومي إني صائم سأكظم غيظي وأعفو عنك لأنال الأجر ومثوبة الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس إني صائم وسأقابل الإساءة بالإحسان لأن الله يحب المحسنين، وهكذا يمسك الصائم عن المحرمات يمسك جوارحه به، يمسك عن إرادة الشر نفسه، فينقي صيامه مما يكدر أجره وثوابه.

ولقد عرف الصحابة فضل الصوم من معلمهم الأكبر ورسولهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، الذي كان يصوم حتى يقول من حوله لكثرة ما يصوم: إنه لا يفطر، عرفوا أنه كان يصبح صائماً، فإذا وجد عند أهله طعاماً أفطر، وإن لم يجد ظل صائماً، نعم لم يصم صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً سوى رمضان، ولم يفطر شهراً كاملاً من أشهر السنة دون صيام، وكان يكثر الصوم في شعبان، حتى يظن أنه صامه كله.

نعم عرف الصحابة فضل الصوم فأكثروا منه، لكن أفراداً بالغوا في عبادتهم، وعلى رأسهم عبد الله بن عمرو بن العاص الذي حلف أن يصوم العام كله لا يفطر إلا العيدين، وأن يقوم الليل كله لا ينام، وأن يقرأ القرآن كله كل ليلة.
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، شاع خبره فأخبر به، وجاء أبوه عمرو بن العاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو ابنه عبد الله.
يقول: زوجته امرأة ذات حسب ونسب فعضلها، يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يؤدي حقها، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: أنت الذي تقول وتحلف وتفعل كذا وكذا وكذا.
قال: نعم يا رسول الله، وما أردت إلا الخير.
قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل إن لبدنك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً.
صم وأفطر، وقم ونم، واقرأ القرآن في شهر.
إن أفضل العمل عند الله أدومه، وإنه قد يطول بك العمر فتكبر فتعجز عن أداء ما التزمت.
ألم تر إلى فلان كان يقوم الليل فترك قيامه، فياليته لم يقم.
لا تشددوا على أنفسكم.
إن الله لا يمل حتى تملوا.
وظن عبد الله أن النصيحة قصد بها الإشفاق والتيسير، وأن العبادة خير مهما بلغت، فاستمر، فعلم صلى الله عليه وسلم، فزاره في بيته، وكان عبد الله زاهداً حتى في فراش بيته، فلم يجد ما يفرشه للرسول صلى الله عليه وسلم سوى وسادة من جلد حشوها ليف، فقدمها للرسول صلى الله عليه وسلم ليجلس عليها، فوضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم متكأ بينه وبينه، ثم عاتبه أو حاسبه.
قال: لقد أخبرت أنك تصوم النهار، وتقوم الليل.
قال: نعم يا رسول الله إني أفعل ذلك.
قال: إنك إذا فعلت ذلك ضعفت عينك، وملت نفسك وقل نشاطك.
صم من كل شهر ثلاثة أيام ولك أجر الشهر، قال: إني أطيق أكثر من ذلك.
قال: صم من الشهر خمساً.
قال: إني أطيق أكثر من ذلك؟ قال: صم عشراً.
قال: إني أطيق أكثر من ذلك.
قال: صم يوماً وأفطر يوماً.
قال: إني أطيق خيراً من ذلك.
قال: لا أفضل من ذلك.
وذلك صيام داود عليه السلام، وخير القيام قيامه، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه.
وسئل صلى الله عليه وسلم عن مؤمن يصوم الدهر كله.
قال: لم يصم من صام الدهر، أي لم يصم الصوم المطلوب المحبوب شرعاً من صام الدهر، وسئل عن صوم يومين وإفطار يوم.
قال: ومن يطيق ذلك.
إن في ذلك مشقة، ولا يحب الله لعبده هذه المشقة، وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين.
قال: ليت الله قوانا لذلك، وسئل عن صوم يوم الإثنين.
فقال: حسن.
ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وسئل عن صوم يوم عرفة.
فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية، وكان يقول: من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر.

المباحث العربية

( إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم) الدعوة إلى الطعام قد تكون عند حضور الطعام فعلاً، وقد تكون سابقة عليه كالدعوة إلى الوليمة، وظاهر الحديث أن يقول الصائم للداعي عند دعوته: إني صائم، اعتذاراً له، وإعلاماً بحاله.
أما حضوره وأكله فلهما أحكام تأتي في فقه الحديث.

( فلا يرفث ولا يجهل) قال النووي: يقال: رفث بفتح الفاء يرفث بضمها وكسرها، ورفث بكسر الفاء يرفث بفتحها، رفثاً بسكون الفاء في المصدر، وفتحها في الاسم، والرفث السخف وفاحش الكلام والجهل خلاف الحكمة وخلاف الصواب من القول والفعل.
اهـ

وفي الرواية الخامسة ولا يسخب قال النووي: هكذا هو هنا بالسين، ويقال بالسين والصاد، وهو الصياح، قال القاضي: ورواه الطبري ولا يسخر بالراء، قال: ومعناه صحيح، لأن السخرية تكون بالقول والفعل، وكله من الجهل.
قال النووي: قلت.
وهذه الرواية تصحيف، وإن كان لها معنى.

( فإن امرؤ شاتمه أو قاتله) إن هذه تدخل على الفعل، والتقدير: إن شاتمه امرؤ شاتمه، وامرؤ فاعل لفعل محذوف، وشاتمه المذكورة تفسير للمحذوفة، ولما كانت المفاعلة أصلها الفعل من جانبين فسر شاتمه بمعنى تعرض للمشاتمة، فهي من جانب غير الصائم شتم بالفعل، ومن جانب الصائم تأهل وصلاحية لأن يشتم الشاتم عقاباً له، وفي الرواية الخامسة فإن سابه أحد مفاعلة أيضاً من السب وهو الشتم.
أما قاتله فمعناه نازعه ودافعه.

وفي رواية وإن شتمه إنسان فلا يكلمه وعند أحمد فإن سابه أحد أو ماراه أي جادله، وعند ابن خزيمة فإن شاتمك أحد فقل: إني صائم، وإن كنت قائماً فاجلس، وعند الترمذي وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم وعند النسائي وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه.

( فليقل: إني صائم.
إني صائم)
قال النووي: هكذا هو مرتين.
اهـ قال الكرماني: أي كلاماً لسانياً، ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غالباً، أو كلاماً نفسياً، أي يحدث به نفسه، ليمنعها من مشاتمته، وعند الشافعي: يجب الحمل على كلا المعنيين، وقال النووي: كل منهما حسن، والقول باللسان أقوى، ولو جمعهما لكان حسناً، وقال الروياني: إن كان في رمضان فليقل بلسانه، وإن كان في غيره فليقله في نفسه، احترازاً من الرياء، ونقل الزركشي أن ذكرها مرتين مراد بها أن يقول مرة بقلبه، ومرة بلسانه، فيستفيد بقلبه كف لسانه عن خصمه، وبقوله بلسانه كف خصمه عنه.
والمراد على أي حال أن لا يعامله بمثل عمله.

( قال الله عز وجل) قال الكرماني: فإن قلت: هذا قول الله وكلامه، فما الفرق بينه وبين القرآن؟ قلت: القرآن لفظه معجز، ومنزل بواسطة جبريل عليه السلام، وهذا غير معجز، وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني.
فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله، ومروي عنه، بخلاف غيره.
اهـ

( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي) الإضافة إلى الشريف تشريف وتعظيم، كما يقال: بيت الله مع أن البيوت كلها لله، ولا يفهم من هذا التخصيص في مثل هذا السياق إلا التعظيم وسيأتي مزيد لذلك في فقه الحديث.

( وأنا أجزي به) بيان لكثرة ثوابه، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظمته وسعته.

( لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) في الرواية الخامسة والسابعة لخلوف فم الصائم وفي الرواية الخامسة أطيب عند الله يوم القيامة يقال: خلف فوه، بفتح الخاء واللام يخلف بضم اللام، وأخلف فوه، يخلف بضم فسكون فكسر، إذا تغير، والخلوف بضم الخاء واللام تغير رائحة الفم، قال النووي: هذا هو الصواب فيه بضم الخاء، وهو الرواية الصحيحة، وكثير من الشيوخ يرويه بفتحها.
قال الخطابي: وهو خطأ.
اهـ وخلفة بضم الخاء وسكون اللام بمعنى خلوف.

قال النووي: وأما معنى الحديث، فقال القاضي، قال المازري: هذا مجاز واستعارة، لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه، وتنفر من شيء فتستقذره، والله تعالى متقدس عن ذلك، لكن جرت عاداتنا بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك في الصوم، لتقريبه من الله تعالى.
اهـ فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي يقرب إلى الله أكثر من تقريب المسك إليكم، وهذا قريب من قول الجمهور: إنه كناية عن رضا الله عنه وقبوله لصومه.

قال القاضي: وقيل: يجازيه الله تعالى به في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما أن دم الشهيد يكون ريحه ريح المسك.
اهـ، كما جاء في جرح الشهيد ودمه، يكون اللون لون الدم والريح ريح المسك، فالمعنى تكون رائحة صاحب الخلوف بين الخلائق يوم القيامة أطيب من ريح المسك.
وقيل: يحصل لصاحبه من الثواب أكثر مما يحصل لصاحب المسك، وهذا قريب من رأي الداودي الآتي.
وقيل: رائحته عند ملائكة الله -في الدنيا- أطيب من رائحة المسك عندنا، وإن كانت رائحة الخلوف عندنا خلافه.
والأصح ما قاله الداودي من المغاربة -وقاله من قال من أصحابنا-: إن الخلوف أكثر ثواباً من المسك، حيث ندب إليه في الجمع والأعياد ومجالس الحديث والذكر وسائر مجامع الخير.
اهـ

ولهذه المعاني المحتملة كان الخلاف بين العلماء.
هل هذا إخبار عن حاله في الدنيا؟ أو عن حاله في الآخرة؟ أو عن حاله فيهما؟.

( الصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون المفتوحة، أي وقاية وسترة، وفي بعض الروايات عند النسائي جنة من النار وعند أحمد جنة وحصن حصين من النار وعند النسائي الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال وجنة القتال المجن، وهو الترس، وقيل معناه جنة وستر ومانع من الرفث والآثام وما يؤذي من الشهوات.

قال القرطبي: جنة أي سترة، يعني بحسب مشروعيته، فينبغي للصائم أن يصونه مما يفسده، وينقص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث.

ويصح أن يراد أنه سترة بحسب فائدته، وهي إضعاف شهوات النفس، وإليه الإشارة بقوله: يدع شهوته....

ويصح أن يراد أنه سترة حسب ما يحصل من الثواب وتضعيف الحسنات.

( إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) في الرواية السادسة فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه قال النووي: قال العلماء، أما فرحته عند لقاء ربه فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته، وسلامتها من المفسدات، وما يرجوه من ثوابها.
اهـ

ولا مانع شرعاً من أن يكون سبب فرحته عند فطره دنيوية بإباحة المطعم والمشرب الذي حرم عليه من قبل، فتكون فرحة الجائع والعطشان عند الأكل والشرب.

( إن في الجنة باباً يقال له: الريان) قال: في الجنة ولم يقل للجنة ليشعر أن الباب نفسه في داخل الجنة، ففيه من الراحة والنعيم ما في الجنة.
قاله الزين بن المنير.
وقال العيني: وإنما لم يقل للجنة ليشعر بأن باب الريان غير الأبواب الثمانية التي للجنة.
اهـ وفيه نظر، فقد جاء الحديث من وجه آخر إن للجنة ثمانية أبواب.
منها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون.

والريان بفتح الراء وتشديد الياء من الري، وهو مناسب لحال الصائمين، قال القرطبي: واكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه، من حيث إنه يستلزمه، قال الحافظ ابن حجر: أو لكونه أشق على الصائم من الجوع.

( يدخل منه الصائمون يوم القيامة) فائدة هذه الجملة شمول الصائمين، ولو قال ابتداء لا يدخل منه إلا الصائمون لأفاد قصره على الصائمين، لكن قد لا يشملهم.

( فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد) قال النووي: هكذا وقع في بعض الأصول فإذا دخل آخرهم وفي بعضها فإذا دخل أولهم قال القاضي وغيره: وهو وهم، والصواب آخرهم.
زاد النسائي من دخل شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً.

( يصوم يوماً في سبيل الله) أي في ميدان القتال، قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر سبيل الله فالمراد به الجهاد، وقال القرطبي: سبيل الله طاعة الله، فالمراد من صام قاصداً وجه الله، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون ما هو أعم من ذلك، وقال ابن دقيق العيد: العرف الأكثر استعماله في الجهاد، فإن حمل عليه كانت الفضيلة اجتماع العبادتين.
قال النووي: وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يخش به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه.
اهـ

وليس عند لقاء العدو، فقد سبق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصائمي رمضان: إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا.

( باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) المراد من المباعدة عن النار المعافاة منها، والخريف جزء من السنة، والمراد السنة كلها، أي سبعين سنة، والمراد مسيرة سبعين سنة، قال القرطبي: ذكر السبعين لإرادة التكثير، ويؤيده أن النسائي والطبراني وأبو يعلى أخرجوا الحديث بلفظ مائة عام.

( قال: فإني صائم) في الرواية الثانية عشرة فإني إذن صائم.

( قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، قالت: فلما رجع.
قلت: أهديت لنا هدية)
في هذه الرواية طي وحذف، تقديره: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان اليوم التالي أهديت لنا هدية، يوضح هذا الحذف روايتنا الثانية عشرة.
قال النووي: وهاتان الروايتان هما حديث واحد، والثانية مفسرة للأولى، ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين، لا في يوم واحد، كذا قال القاضي وغيره، وهو ظاهر.
اهـ

( أو جاءنا زور) بفتح الزاي وسكون الواو، وهو الضيف.
أو الزائر مطلقاً، يطلق على الواحد والاثنين والأكثر، وعلى المذكر والمؤنث، لأنه في الأصل مصدر، ويحتمل أن يكون جمع زائر، مثل ركب وراكب.
والمعنى جاءنا زور، ومعه هدية، أو جاءنا زور فأهدى لنا بعض الناس بسببهم هدية.

( وقد خبأت لك شيئاً) منها، أي احتفظت لك بشيء منها، ولم آكله أو أريه لغيرك.

( قلت: حيس: قال: هاتيه) في الرواية الثانية عشرة قال أرينيه والحيس بفتح الحاء هو التمر مع السمن والأقط، وقيل: ثريدة من أخلاط.
قال النووي: والأول هو المشهور.

( من نسي وهو صائم فأكل....
فليتم صومه)
في رواية الترمذي فلا يفطر.

( فإنما أطعمه الله وسقاه) في رواية الدارقطني فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه، وقوله فإنما أطعمه الله عائد على من أكل، قوله وسقاه عائد على من شرب.

( والله إن صام شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه) إن حرف نفي بمعنى ما ومعنى حتى مضى لوجهه حتى لحق بالرفيق الأعلى.

( ولا أفطره حتى يصيب منه) أي ولا أفطر شهراً معلوماً حتى يصيب منه صوماً، وفي الرواية الخامسة عشرة ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه وهذا الجواب أدق من سابقه، لأن النفي فيه نفي للعلم، وهذا حق النافي المحقق.

( كان يصوم حتى نقول: قد صام قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر.
قد أفطر)
يعني ينتهي صومه إلى غاية نقول عندها: إن صيامه مستمر، لا يفطر، ويفطر، ويستمر إفطاره إلى غاية نقول عندها: إن فطره مستمر، أي فهو يكثر من الصيام، ويكثر من الفطر من غير ارتباط بأوقات معلومة.

( كان يصوم شعبان كله -كان يصوم شعبان إلا قليلاً) قال النووي: الثاني تفسير للأول، وبيان أن قولها: كله، أي غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت، ويصوم بعضه في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة بينهما، وما يخلي منه شيئاً بلا صيام، لكن في سنين.
اهـ واستبعد الطيبي الاحتمال الأول، قال: لأن الكل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التجوز، فتفسيره بالبعض مناف له، وحمل الحديث على الاحتمال الثاني، وقال: فيحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة، ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان، وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أول أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانياً عن آخر أمره، أنه كان يصومه كله.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى تكلفه، ورجح، الاحتمال الأول مستنداً إلى روايتنا السادسة عشرة.

( خذوا من الأعمال ما تطيقون) أي اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه.
فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق قاله الحافظ ابن حجر.

( فإن الله لن يمل حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والملال استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق.
قال الحافظ ابن حجر: قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين، إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازاً، كما قال تعالى: { { وجزاء سيئة سيئة مثلها } } [الشورى: 40].
وأنظاره.

وقال القرطبي: وجه مجازه أن الله تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه، قال: وجنح بعضهم إلى تأويل حتى وأنها ليست لانتهاء الغاية، بل لاستحالة ما بعدها، كقولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، فالمعنى لا يمل أصلاً.

وقال المازري: إن حتى هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل، وأثبته لهم، وقيل: حتى بمعنى حين.
قال الحافظ: والأول أليق، وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية، ويؤيده ما وقع في بعض الطرق اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل.

( أحب العمل إلى الله مادام عليه صاحبه وإن قل) قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله بخلاف الكثير الشاق.
اهـ أي فلا تستمر الطاعة به، ثم إن القليل الدائم كثيراً ما يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة، وفي المثل: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.

وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما، أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية، ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه.
ثانيهما، أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً ما كمن لازم يوماً كاملاً، ثم انقطع.
اهـ وهو كلام جيد نفيس.

( عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: لأقومن الليل) المتكلم عبد الله، ونسق التعبير: أني أقول، وكأنه جرد من نفسه رجلاً يتحدث عنه.

( ما عشت) ما ظرفية دوامية، أي مدة حياتي.

( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آنت الذي تقول ذلك) ؟ الكلام على الاستفهام، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسل إلي فجئت إليه فقال: أو فجاءني فقال.
ففي الرواية الرابعة والعشرين فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي...إلخ وتقدير هذه الرواية: فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاءني وإما أرسل إلي فأتيته، فقال....
إلخ وفي الرواية السابعة والعشرين فإما أرسل إلي وإما لقيته، فقال... قال الحافظ ابن حجر: الشك من بعض الرواة، وغلط من قال: إن الشك من عبد الله بن عمرو، فقد ثبت ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قصده إلى بيته، فدل على أن لقاءه إياه كان عن قصد منه إليه.
اهـ تشير إلى ذلك رواية البخاري ذكر له صومي، فدخل علي، فألقيت له وسادة... إلى آخر روايتنا الثانية والثلاثين.

( فقلت له: قد قلته يا رسول الله) في الرواية الرابعة والعشرين فقلت بلى يا رسول الله، ولم أرد بذلك إلا الخير وفي الرواية التاسعة والعشرين قلت: إني أفعل ذلك فيحتمل أنه قال: بلى يا رسول الله، قد قلته، ولم أرد بذلك إلا الخير، وإني أفعل ذلك.

( فإنك لا تستطيع ذلك) يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد نفي استطاعة عبد الله في حالته الراهنة، والمعنى إنك لا تستطيع ذلك الآن إلا بجهد ومشقة، أو لا تستطيع ذلك الآن مع أداء ما هو أهم من العبادات، ويحتمل أنه قصد نفي استطاعته المداومة على ذلك إذا كبر وعجز، وفي الرواية السابعة والعشرين والرابعة والثلاثين فلا تفعل.
فإن لعينك حظاً... إلخ.

( فصم وأفطر، ونم وقم) فسرت الروايات بعد المطلوب من الصيام، والمطلوب من القيام، وفي الرواية السابعة والعشرين فصم وأفطر وصل ونم.

( صم من الشهر ثلاثة أيام) قيل المراد بها الثلاثة البيض الليلة الثالثة عشرة والرابعة عشرة والخامسة عشرة.
وقيل: يوم من كل عشرة أيام، كما جاء في روايتنا السابعة والعشرين، وفي الرابعة والعشرين فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام والباء في بحسبك، زائدة، والسين ساكنة، والتقدير فإن حسبك، أي كافيك، وفي الرواية الثانية والثلاثين أما يكفيك؟.

( فإن الحسنة بعشر أمثالها) فحسنة صيام اليوم بعشرة أيام، فالثلاثة في الشهر بشهر، وفي الرواية الثامنة والعشرين صوم ثلاثة أيام من الشهر صوم الشهر كله.

( وذلك مثل صيام الدهر) المثلية لا تستلزم التساوي من كل جهة، فالمراد بها هنا أصل التضعيف، دون التضعيف الحاصل من صيام الأكثر، ولكن يصدق على فاعل ذلك أنه صام الدهر مجازاً، وفي ملحق الرواية الرابعة والعشرين فذلك الدهر كله.

( فإني أطيق أفضل من ذلك) في الرواية الثامنة والعشرين والثالثة والثلاثين فإني أطيق أكثر من ذلك وفي الرواية الرابعة والثلاثين قلت: يا رسول الله، إن بي قوة أي أستطيع بها أكثر من ذلك.
وفي الرواية السابعة والعشرين إني أجدني أقوى من ذلك.

( وهو أعدل الصيام) وفي الرواية المتممة للثلاثين والحادية والثلاثين أحب الصيام إلى الله صيام داود.

( لا أفضل من ذلك) نفي الأفضلية لا يمنع المساواة، فظاهره أن الزيادة على صيام داود قد تتساوى مع صيام داود، لكن قوله في الرواية الثالثة والعشرين وهو أعدل الصيام وفي المتممة للثلاثين أحب الصيام إلى الله صيام داود يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقاً، وأن الزيادة على ذلك مفضولة، وليست فاضلة ولا مساوية.

( لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام...أحب إلي من أهلي ومالي) في الرواية الرابعة والعشرين فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم وفي الرواية الرابعة والثلاثين فكان يقول: يا ليتني أخذت بالرخصة وفي بعض الروايات لأن أكون قبلت الرخصة أحب إلي مما عدل به، لكنني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره.

( حتى نأتي أبا سلمة) نسق التعبير حتى أتينا أبا سلمة أي أتينا داره، أو قرب داره.

( فقال: إن تشاءوا أن تدخلوا) أي أن تدخلوا داري.

( وإن تشاءوا أن تقعدوا ههنا) أي في المسجد، والظاهر أنهما كان معهما ثالث، فعبر في الخطاب بالجمع، أو هو على رأي من يقول، الجمع ما فوق الواحد.

( فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً) في ملحق الرواية الرابعة والعشرين وإن لولدك عليك حقاً وفي السابعة والعشرين فإن لعينك حظاً -وفي رواية لعينيك حظاً- ولنفسك حظاً، ولأهلك حظاً والحظ النصيب.

( فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم) أي صرت إلى عمر طويل وكبر وعجز.

( فلما كبرت وددت) كبر بكسر الباء من باب علم.
تقال في السن، وأما كبر بضم الباء بمعنى عظم فهو من باب حسن.
قال النووي: معناه أنه كبر وعجز من المحافظة على ما التزمه، فشق عليه فعله، ولم يعجبه أن يتركه لالتزامه له، فتمنى ما تمنى.

( لا تكن بمثل فلان) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم لقصد السترة عليه، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد شخصاً معيناً، وإنما أراد تنفير عبد الله من الصنيع المذكور.

( أصوم أسرد) أي أتابع الأيام.

( صم من كل عشرة أيام يوماً ولك أجر تسعة) أي مع أجر اليوم، فتكون عشرة.

( ولا يفر إذا لاقى) أي لا يهرب إذا لاقى العدو، يشير بذلك إلى حكمة صوم يوم وإفطار يوم، أي كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد.

( من لي بهذه يا نبي الله) ؟ أي، قال عبد الله: من يتكفل لي بهذه الخصلة التي كانت لداود عليه السلام؟ أي هذه الخصلة صعبة علي، فكيف لي بتحصيلها؟.

( قال عطاء: فلا أدري كيف ذكر صيام الأبد) قال الحافظ ابن حجر: أي إن عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة، إلا أنه حفظ أن فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا صام من صام الأبد.

( لا صام من صام الأبد) في الرواية السابعة والعشرين تكرير هذه الجملة ثلاث مرات، وفي رواية البخاري مرتين والأبد الدهر، وفي معنى الجملة قيل: إنها خبر، أي ما صام كقوله تعالى: { { فلا صدق ولا صلى } } [القيامة: 31].
ونفى الصوم عنه على معنى أنه لم يكتب له ثوابه، وقيل: إن الجملة دعاء.
قال ابن العربي: يا بؤس من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، ويا بؤس من دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

( إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت) وفي الرواية التاسعة والعشرين هجمت عيناك، ونفهت نفسك ومعنى هجمت غارت ودخلت، ومعنى نهكت بفتح النون وفتح الهاء وكسرها.
أي ضعفت وهزلت، وضبطه بعضهم بضم النون وكسر الهاء، مبني للمجهول، من قولهم: نهكته الحمى، أي أضنته.
ومعنى نفهت نفسك بفتح النون وكسر الفاء تعبت وكلت.

( وسادة من أدم) بفتح الهمزة والدال، أي جلد مدبوغ.

( صم يوماً ولك أجر ما بقي) أي صم يوماً كل عشرة أيام، ولك أجر التسعة مع اليوم، كما جاء في الرواية السابعة والعشرين.

( صم يومين ولك أجر ما بقي) أي صم يومين من كل عشرة أيام، ولك أجر الثمانية مع اليومين.

( صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي) أي صم ثلاثة أيام من كل عشرة أيام.
ولك أجر السبعة مع الثلاثة.

( صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي) أي صم أربعة أيام من كل عشرة، ولك أجر الستة مع الأربعة.

واستشكل هذا التفسير بأنه يؤدي إلى أن الزيادة في العمل تنقص الأجر، لأنه كان يمنح أجر تسعة إذا صام يوماً، فمنح أجر ثمانية إذا صام يومين، وأجر سبعة إذا صام ثلاثة، وأجر ستة إذا صام أربعة.

وأجاب بعضهم بأن المراد لك أجر ما بقي بالنسبة إلى التضعيف، فأجر اليوم الذي يصام يضاعف أضعافاً كثيرة لا يعلمها إلا الله، بخلاف أجر الأيام التابعة له، وبذلك يزيد مجموع الأجر كلما زاد عدد أيام الصوم، فلو فرضنا أن الصوم يضاعف مائة ضعف، والتابع حسنة تضاعف بعشرة أمثالها كان مجموع أجر صوم اليوم مائة وتسعين، وصوم اليومين مائتين وثمانين، وصوم الثلاثة ثلاثمائة وسبعين، وصوم الأربعة أربعمائة وستين.

وأجاب القاضي عياض عن الإشكال بأن الزيادة في العمل لا تنقص الأجر، بل الأجر اتحد في كل ذلك، لأنه كان نيته أن يصوم جميع الشهر، فلما منعه صلى الله عليه وسلم من ذلك إبقاء عليه بقي أجر نيته على حاله، سواء صام منه قليلاً أو كثيراً، كما تأوله في حديث نية المرء خير من عمله أي إن أجره في نيته أكثر من أجر عمله، لامتداد نيته إلى ما لا يقدر على عمله.
اهـ قال الحافظ ابن حجر: والحديث المذكور ضعيف، وهو في مسند الشهاب، والتأويل المذكور لا بأس به.
اهـ

وأجاز الحافظ ابن حجر أن يحمل الحديث على ظاهره، وأجاز أن ينقص الأجر بزيادة العمل قال: والسبب فيه أنه كلما ازداد من الصوم ازداد من المشقة الحاصلة بسببه، المقتضية تفويت بعض الأجر الحاصل من العبادات التي قد يفوتها مشقة الصوم، فينقص الأجر باعتبار ذلك.
اهـ

وحاول بعضهم أن يخرج من الإشكال بتأويل بعيد، فقال: معنى الحديث: صم يوماً من عشرة ولك أجر تسعة، وصم يومين من عشرين ولك أجر الثمانية عشرة، وصم ثلاثة أيام من الثلاثين ولك أجر بقية الشهر.
وهذا التأويل بعيد جداً، لأن قوله: صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي يلزم منه على هذا أن يكون التقدير: ولك أجر أربعين، مع أنه مقيد في نفس الحديث بالشهر، والشهر لا يكون أربعين.
قاله الحافظ ابن حجر.

وأضيف إليه أن الحديث بهذا التأويل لا تكون به مساومات أو زيادات، فأربعة أيام من أربعين يوماً تساوي يوماً من عشرة أيام، والواقع غير ذلك، فقد كان التدرج نتيجة لقول عبد الله إني أطيق أكثر من ذلك ثم الروايات الأخرى صريحة في التدرج به بالزيادة في الصيام، وللجمع بينهما قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج إلى أن وصله إلى خمسة عشر يوماً، فذكر بعض الرواة عنه ما لم يذكره الآخر، ويدل على ذلك رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو فلم يزل يتناقصني وأناقصه.

( قال له...أو قال الرجل وهو يسمع) قال الحافظ ابن حجر: هذا شك من مطرف الراوي عن عمران بن حصين.

( أصمت من سرة هذا الشهر) المشار إليه شهر شعبان كما صرح به في روايتنا المتممة للأربعين؟ قال النووي: سرة بالهاء بعد الراء، وذكر مسلم بعده حديث قتادة ثم حديث عمران أيضاً في سرر شعبان قال: وهذا تصريح من مسلم بأن رواية عمران الأولى بالهاء، والثانية بالراء، ولهذا فرق بينهما، وأدخل الأولى مع حديث عائشة كالتفسير له، فكأنه يقول: يستحب أن تكون الأيام الثلاثة من سرة الشهر، وهي وسطه.
اهـ

وقال الحافظ ابن حجر: لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره النووي سرة بل هو عند أحمد من وجهين، بلفظ سرار وهذا يدل على أن المراد آخر الشهر، ونقل عن الخطابي أن السؤال سؤال زجر وإنكار، لأنه قد نهي أن يستقبل رمضان بيوم أو يومين.

والسرر بفتح السين، ويجوز كسرها وضمها، جمع سرة، ويقال أيضاً سرار بفتح أوله وكسره، وهو من الاستسرار.
قال أبو عبيد والجمهور: المراد بالسرر هنا آخر الشهر، سيمت بذلك لاستسرار القمر فيها، وهي ليلة ثمان وعشرين وتسع وعشرين وثلاثين، ونقل عن بعضهم أن سرره أوله، وقيل: السرر وسط الشهر، قال الحافظ ابن حجر: ورجحه بعضهم، ووجهه بأن السرر جمع سرة، وسرة الشيء وسطه، ويؤيده الندب إلى صيام البيض، وهي وسط الشهر، وأنه لم يرد في صيام آخر الشهر ندب، بل ورد فيه نهي خاص، وهو آخر شعبان لمن صامه لأجل رمضان.

( فإذا أفطرت فصم يومين) أي إذا أفطرت من رمضان فصم يومين، وفي الرواية الثانية والأربعين إذا أفطرت رمضان -أي من رمضان كما في الرواية الحادية والأربعين -فصم يوماً أو يومين شك من الراوي شعبة، والراجح يومين وفي الرواية الحادية والأربعين فصم يومين مكانه مكان اليوم الذي أفطرته من آخر شعبان، والظاهر أن الرجل كان يعتاد صيام آخر الشهر، فلما سمع النهي عن استقبال رمضان بصوم تركه، فطلب منه أن يقضيه التزاماً بعادته، وسيأتي تتمة لهذا في فقه الحديث.

( عن أبي قتادة: رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم) قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ، وعلى هذا يقرأ رجل بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي الشأن والأمر رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال...إلخ.

وقد أصلح في بعض النسخ إلى أن رجلاً أتى....
وكان موجب هذا الإصلاح جهالة انتظام الأول، وهو منتظم كما ذكرته، فلا يجوز تغييره.
اهـ

( فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال النووي: قال العلماء، سبب غضبه صلى الله عليه وسلم أنه كره مسألته، لأنه يحتاج إلى أن يجيبه، ويخشى من جوابه مفسدة، وهي أنه ربما اعتقد السائل وجوبه، أو اقتصر عليه، أو استقله.
وكان حق السائل أن يقول: كم أصوم؟ أو كيف أصوم؟ فيخص السؤال بنفسه، ليجيبه بما تقتضيه حاله، كما أجاب غيره بمقتضى أحوالهم.

( لا صام ولا أفطر) يعني لم يكتب له أجر الصيام، فكأنه لم يصم، وامتنع عن الطعام والشراب في النهار، فهو لم يفطر وقيل: إن الجملة دعاء عليه بعدم استطاعة الصوم وعدم القدرة على الأكل والشرب، والأول أصح.

( ويطيق ذلك أحد) ؟ الكلام على الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، أي لا يطيق ذلك أحد مع المداومة والمحافظة على الحقوق والواجبات الأخرى.

( وددت أني طوقت ذلك) طوقت بضم الطاء وكسر الواو المشددة، أي جعلني الله أطيق، قيل: معناه.
وددت أن أمتي تطوقه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيقه ويطيق أكثر منه، وكان يواصل ويقول إني لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي، يطعمني ويسقيني وقيل: معناه وددت أن الله أعانني على ذلك مع المحافظة على سائر الحقوق الأخرى لنسائه والمتعلقين به، وأضيافه والوافدين إليه.

وقيل: معناه وددت أنني وأزواجي والمتعلقين بالاقتداء بي طوقنا ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثامنة والثلاثين ليت أن الله قوانا لذلك.

( فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهماً) نراه ضبط بفتح النون بمعنى نعلمه وبضم النون بمعنى نظنه، القائل: فسكتنا هو الإمام مسلم، وقد رأى أن ذكر الخميس في رواية شعبة وهماً، لأن قوله ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه خاص بيوم الإثنين، ولما كانت بقية الروايات بدون ذكر الخميس تركه الإمام مسلم من الرواية.
قال النووي: قال القاضي: ويحتمل صحة رواية شعبة، ويرجع الوصف بالولادة والإنزال إلى الإثنين دون الخميس قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي متعين.

( ثم أتبعه ستاً من شوال) من القواعد أن العدد يؤنث إذا كان العدد مذكراًَ من الثلاثة إلى العشرة، فكان الظاهر أن يقول: ثم أتبعه ستة من شوال، لأن المعدود مذكر، والتقدير ستة أيام، لكن من القواعد أيضاً أن ذلك إذا ذكر المعدود مع العدد بأن قيل: ثم أتبعه ستة أيام، حينئذ تلزم التاء في العدد، أما إذا حذف المعدود كما في الحديث جاز الوجهان.

فقه الحديث

وضع الإمام النووي أحاديث هذا الباب تحت عشرة أبواب:

فوضع الحديث الأول والثاني تحت باب ندب الصائم إذا دعي إلى طعام ولم يرد الإفطار، أو شوتم أو قوتل أن يقول: إني صائم، وأن ينزه صومه عن الرفث والجهل ونحوه.

وقال عن الحديث الأول إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم قال: وهو محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور لزمه الحضور وليس الصوم عذراً في عدم إجابة الدعوة، ولكن إذا حضر لا يلزمه الأكل، ويكون الصوم عذراً في ترك الأكل، بخلاف المفطر، فإنه يلزمه الأكل على أصح الوجهين عند الشافعية، وأما الأفضل للصائم فقال أصحابنا: إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحق له الفطر، وإلا فلا، هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً حرم الفطر.
اهـ

وقد روى البخاري تحت باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم عن أنس رضي الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال: أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم كما روي تحت باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ما كان بين سلمان وأبي الدرداء حين صنع أبو الدرداء طعاماً لسلمان فقال له: كل فإني صائم.
قال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل وفي رواية فقال: أقسمت عليك لتفطرن قال الحافظ ابن حجر: فيه جواز الفطر من صوم التطوع، وهو قول الجمهور، ولا يظن أن فطر المرء من صيام التطوع لتطييب خاطر أخيه حتم عليه، بل المرجع في ذلك حال كل منهما.
اهـ أي المرجع الظروف والملابسات لكل حالة.

ثم وضع الإمام النووي الحديث الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والثامن تحت باب فضل الصيام، ووضع الحديث التاسع والعاشر تحت باب فضل الصيام في سبيل الله، ووضع الحادي عشر والثاني عشر تحت باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر.

وهذا الباب الأخير مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالباب الأول، بل الحديث الأول إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم إذ يرتبط بهذا مباشرة حكم الإفطار من صوم النفل، وعذر الإمام النووي أن الإمام مسلماً ذكر هذه الأحاديث بترتيب يصعب معه وضع عناوين صغيرة مما حملني على وضع عنوان شامل للباب أوزع ما جاء في أحاديثه على نقاط فقه الحديث متغاضياً عما ينبغي لها من ترتيب، التزاماً بترتيب سياق الإمام مسلم لها ما أمكن.
ولتكن النقطة الأولى:

صوم التطوع: نيته وقطعه وقضاؤه.
والحديث الأول ظاهره عدم الفطر، وعدم قطع صوم التطوع، وما سقناه من حديث أم سليم في رواية البخاري وما ساقه الإمام مسلم في حديثنا الثاني عشر يجيز الفطر وقطع الصوم.

قال الإمام النووي في المجموع: مذهب الشافعية أنه يستحب البقاء في صوم التطوع؛ والخروج منه بلا عذر ليس بحرام، ولا يجب قضاؤه، بل يستحب؛ وبهذا قال عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وسفيان الثوري وأحمد وإسحق: وقال أبو حنيفة: يلزمه الإتمام، فإن خرج منه لعذر لزمه القضاء ولا إثم، وإن خرج بغير عذر لزمه القضاء وعليه الإثم.
وقال مالك وأبو ثور: يلزمه الإتمام، فإن خرج بلا عذر لزمه القضاء، وإن خرج بعذر فلا قضاء.

واحتج من قال بوجوب الإتمام بقوله تعالى: { { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم } } [محمد: 33].
وبقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الإسلام: وصوم رمضان.
قال: هل علي غيره؟ قال: لا.
إلا أن تطوع قالوا: وهذا الاستثناء متصل، فمقتضاه وجوب التطوع بمجرد الشروع فيه، قالوا: ولا يصح حملكم على أنه استثناء منقطع، بمعنى أنه يقدر لكن لك أن تطوع لأن الأصل في الاستثناء الاتصال، فلا تقبل دعوى الانقطاع فيه بغير دليل، واحتجوا أيضاً بالقياس على حج التطوع وعمرة التطوع، فإنهما يلزمان بالشروع بالإجماع.

واحتج الشافعية بحديثي عائشة [روايتنا الحادية عشرة] وفيهما فقال: هاتيه، فجئت به، فأكل، ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً فقال: أرنيه فلقد أصبحت صائماً، فأكل.

كما استدلوا بحديث سلمان وأبي الدرداء الذي سبقت الإشارة إليه، وبما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي وغيرهم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر قال النووي: ولأنه نفل، فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء، فكذا في الدوام، وأما الجواب عن احتجاجهم بحديث لا.
إلا أن تطوع فإن الاستثناء المنقطع وإن كان خلاف الأصل لكن يتعين تأويله ليجمع بينه وبين الأحاديث التي ذكرناها، وأما القياس على الحج والعمرة فالفرق أن الحج لا يخرج منه بالإفساد، لتأكد الدخول فيه [أي يؤمر مفسده بالمضي في فاسده] بخلاف الصوم.
اهـ ثم إنه قياس في مقابلة النص، فلا يعتبر به، وأما استدلاهم بقوله تعالى: { { ولا تبطلوا أعمالكم } } فعن ابن عباس لا تبطلوها بالرياء والسمعة، أو بالشك والنفاق، وقيل لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر، وقيل: بالعجب، فإن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

وأما وجوب القضاء على من أفطر من صوم التطوع فقد احتجوا له ما رواه الترمذي والنسائي عن عائشة قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة.
وكانت ببيت أبيها -فقالت: يا رسول الله.. فذكرت ذلك، فقال: اقضيا يوماً آخر مكانه.

وأجاب الآخرون بأن في هذا الحديث مقالاً، وعلى فرض صحته يجمع بين الأحاديث بحمل الأمر بالقضاء على الندب.
والله أعلم.

وقد أخذ النووي من الحديث الأول من قوله فليقل: إني صائم أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصوم والصلاة وغيرهما إذا دعت الحاجة، قال: والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن حاجة، قال: وفيه الإشارة إلى حسن المعاشرة، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار.

وأخذ من الحديث الحادي عشر، من قوله فإني صائم جواز صوم النافلة بنية من النهار، قال: وفيه دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، قال: ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم هل عندكم شيء لكونه ضعف عن الصوم.
وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف: قال: وهذا تأويل فاسد، وتكلف بعيد.
اهـ

النقطة الثانية: حماية الصوم من اللغو والرفث، والرواية الثانية تأمر بذلك، فتقول فإذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم والرواية الرابعة تقول الصيام جنة والرواية الخامسة تقول فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم.

قال النووي في المجموع: ينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشتم، أي يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره، وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضاً، ويؤمر به في كل حال، فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي، فقال يبطل الصوم بالغيبة، ويجب قضاؤه، واحتج بحديث أبي هريرة [روايتنا الثانية والخامسة] وبما رواه البخاري عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه وبما رواه أبو هريرة أيضاً قال: قال صلى الله عليه وسلم رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر رواه النسائي وابن ماجه في سننهما، ورواه الحاكم في المستدرك، وبحديث ليس الصيام من الأكل والشرب فقط الصيام من اللغو والرفث رواه البيهقي ورواه الحاكم في المستدرك.
قال: وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته من اللغو والكلام الرديء لا أن الصوم يبطل به.
اهـ

ويمكن أن يراد منها بطلان الثواب، بمعنى أن السيئات المتحصلة من هذه الأمور قد تساوي الحسنات التي يحصلها الصوم، وكأن صاحبها لم يصم.

النقطة الثالثة: فضل الصيام، وفيه تقول الرواية الثالثة قال صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، هو لي، وأنا أجزي به، فوالذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتقول الرواية الخامسة وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه وتقول الرواية السادسة كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي وتقول الرواية الثامنة إن في الجنة باباً يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أغلق، فلم يدخل منه أحد.

قال النووي عن سبب فضل الصوم عند قوله إلا الصيام فإنه لي اختلف العلماء في معناه مع كون جميع الطاعات لله تعالى، فقيل: سبب إضافته إلى الله تعالى أنه لم يعبد أحد غير الله تعالى به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبوداً لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك [واعترض على هذا بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام] وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو والصدقة وغيرها من العبادات الظاهرة، وقيل: لأنه ليس للصائم ولنفسه فيه حظ.
قال الخطابي: [ويؤيده ما جاء في روايتنا السادسة يدع شهوته وطعامه من أجلي].
قال: وقيل: إن الاستغناء عن الطعام من صفات الله تعالى، فالإضافة إلى نفسه لتقرب الصائم بما يتعلق بهذه الصفة، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء، اهـ زاد الحافظ ابن حجر نقلاً عن القرطبي: كأن الله يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي.

وزاد الحافظ على ما ذكر: أن الصائم يتقرب بصفة من صفات الملائكة، وقال: قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير، ويشهد لهذا روايتنا السادسة كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به أي أجازي عليه جزاء كثيراً من غير تعيين لمقداره، وهذا كقوله تعالى: { { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } } [الزمر: 10].
والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال.
اهـ

وكل ما ذكر من هذه الأقوال تلمس للحكمة، وشأنها شأن الوردة تشم ولا تدعك، فإن هي دعكت ضاعت وراحت رائحتها، ولله تعالى أن يفضل ما شاء من العبادات على بعض، وله في ذلك حكمة قد لا نعلمها وهو أعلم، جل شأنه.

قال الحافظ ابن حجر: واتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً.
اهـ

[وفي هذا نظر، والأولى أن يقال: صيام من قبل الله صيامه، فقد يعفو الله عن بعض المعاصي التي تلابس الصوم] ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد أنه مخصوص بصيام خواص الخواص، فقال: إن الصوم على أربعة أنواع، صيام العوام، وهو الصوم عن الأكل والشرب والجماع، وصيام خواص العوام، وهو هذا مع اجتناب المحرمات من قول أو فعل، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته وصيام خواص الخواص، وهو الصوم عن غير الله، فلا فطر لهم إلى يوم القيامة.
اهـ قال الحافظ ابن حجر وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى.
اهـ

وأقول: إن هذا تضييق وتحجير لفضل الله ورحمته، لا يتفق وسياق الأحاديث، فقد ذكرت لعوام المسلمين، وأطلق فيها الصوم والصائم، نعم حماية الصوم من اللغو والجهل والرفث مطلوبة بنص الأحاديث الصحيحة، فيمكن حمل هذا الجزاء على صوم خواص العوام.
والله أعلم.

ومن الثناء على خلوف فم الصائم [في روايتنا الثالثة والخامسة والسادسة والسابعة] أخذ الشافعية كراهة السواك للصائم بعد الزوال.
قال النووي: لأنه يزيل الخلوف الذي هذه صفته وفضيلته، وإن كان السواك فيه فضل أيضاً، لكن فضيلة الخلوف أعظم، كما أن دم الشهداء مشهود له بالطيب، ويترك له غسل الشهيد مع أن غسل الميت واجب، فإذا ترك الواجب للمحافظة على بقاء الدم المشهود له بالطيب فترك السواك الذي هو ليس واجباً للمحافظة على بقاء الخلوف المشهود له بذلك أولى.
اهـ

ولا يخفى أن دم الشهيد لن يتأذى به أحد، بخلاف خلوف فم الصائم، فالقياس قياس مع الفارق.
وكره المالكية السواك الرطب للصائم، باعتبار ما يخشى منه أن يتحلل من رطوبته شيء في الفم، ورد عليهم بالمضمضة، إذا قذف ماءها فإنه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه.

والجمهور على عدم كراهة السواك للصائم، لعموم الأحاديث التي تحث على السواك، والتي لم تفرق بين صائم ومفطر، ومنها ما جاء في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب.

النقطة الرابعة: التطوع بالصوم، ونوزعه على عناصر:

( أ) صوم النبي صلى الله عليه وسلم.

( ب) صوم عبد الله بن عمرو بن العاص وإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم.

( جـ) صوم المجاهد والمرابط في سبيل الله.

( د) صوم أيام معينة من أيام السنة.

( أ) أما صوم النبي صلى الله عليه وسلم تطوعاً فحاصل الروايات التي ساقها الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الصيام كما كان يكثر من الإفطار كان يصوم حتى نقول: قد صام، قد صام.
ويفطر حتى نقول: قد أفطر، قد أفطر.
[روايتنا السادسة عشرة والثانية والعشرين يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم [روايتنا السابعة عشرة والحادية والعشرين] كان يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم [روايتنا المتممة للعشرين] كما أن حاصل الروايات أنه صلى الله عليه وسلم لم يصم شهراً كاملاً متتابعاً غير رمضان، ولا أفطر شهراً كاملاً دون صيام، تصرح بذلك عائشة رضي الله عنها، فتقول في روايتنا الرابعة عشرة والله إن صام -أي ما صام- شهراً معلوماً سوى رمضان حتى مضى لوجهه، ولا أفطره حتى يصيب منه وتقول في روايتنا الخامسة عشرة: ما علمته صام شهراً كله إلا رمضان، ولا أفطره كله حتى يصوم منه، حتى مضى لسبيله صلى الله عليه وسلم وتقول في روايتنا السادسة عشرة وما رأيته صام شهراً كاملاً منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان وتقول في روايتنا السابعة عشرة وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان.

كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يكثر الصيام في شهر مثل ما أكثر في شهر شعبان، تصرح بذلك عائشة في روايتنا السابعة عشرة، فتقول: وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان وفي روايتنا التاسعة عشرة تقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان وفي روايتنا الثامنة عشرة تقول: ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله بل كان يصوم شعبان إلا قليلاً.

( ب) وأما صيام عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم له فقد ذكر الإمام مسلم بشأنه اثنتى عشرة رواية، تبدأ بالرواية الثالثة والعشرين، وتنتهي بالرواية الرابعة والثلاثين، واختلف الرواة بشأنها، فقد حفظ بعضهم ما لم يحفظ الآخر، وذكر بعضهم بعض ما يحفظ، وذكر بعضهم ما لم يذكر الآخر، ومنهم من اقتصر على قصة الصلاة ومنهم من اقتصر على قصة الصيام ومنهم من ساق القصة كلها، وقد تحدث عبد الله بن عمرو نفسه عن قصته بجزء منها تارة، وبأكثر منه تارة أخرى، فجاءت الروايات مختلفة عن قصة واحدة وسنحاول تجميع الصورة من مختلف الروايات، وبالله التوفيق.

كان عبد الله بن عمرو بن العاص واحداً من نفر من الصحابة رغبوا أن يبالغوا في العبادة، فقرر أن يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كله في كل ليلة، تحكي الرواية الثالثة والعشرون أنه كان يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت ونفذ قراره، كما يقول في الرواية الرابعة والعشرين كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة وكما يقول في الرواية السابعة والعشرين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أسرد الصوم -أي أتابعه- وفي رواية للبخاري يقول: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار، ولأقومن الليل ما عشت.

ولم تبرز روايات الإمام مسلم من الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولا الأمر الذي دفع إلى الإخبار، وقد أبرزت ذلك رواية البخاري في كتاب فضائل القرآن، ولفظها عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي [أي زوجني أبي] امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنته [بفتح الكاف وتشديد النون، أي زوجة ابنه] فيسألها عن بعلها؛ فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشاً [أي لم يضاجعنا حتى يطأ فراشنا] ولم يفتش لنا كنفاً [أي لم يكشف لنا ستراً، ولم يرفع لنا ثوباً] وتأنى عمرو بن العاص لعل ابنه يرعى حق زوجه، وهو يعلم ما عليه ابنه من الصيام والقيام، فلما لم يقم ابنه بواجبه نحو زوجه أقبل عليه يلومه -كما جاء في بعض الروايات- [يقول له: أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها، وفعلت....
وفعلت.
] فلما طال ذلك [أي فلما تمادى عبد الله على حاله خشي عمرو بن العاص أن يلحقه إثم بتضييع حق زوجة ابنه فشكاه] ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم [لأنه صلى الله عليه وسلم الوحيد الذي إليه المرجع في الصيام والقيام].

وتحكي الرواية الرابعة والعشرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم استدعاه فأتاه، وتردد الرواية السابعة والعشرون بين الإرسال وبين اللقاء عفواً فتقول فإما أرسل إلي، وإما لقيته، وتحكي الرواية الثانية والثلاثون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي ذهب إلى عبد الله في داره، ويجمع بين الروايات باحتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه رجلاً، فلم يقابله، ولم يبلغه الطلب أو شك في ذلك، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشك من عبد الله هل كان اللقاء قبل علمه بالإرسال أو بعده، ولما لقيه صلى الله عليه وسلم كلمه من غير أن يستوعب ما يريد من ذلك، ثم أتاه إلى بيته لمزيد الوعظ والنصح.

والقصة تتعلق بثلاث من العبادات.
الصوم والتهجد وقراءة القرآن.

أما الصوم فالظاهر من مجموع الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالاقتصار على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما قال: إنه يطيق أكثر من ذلك زاده بالتدريج، فأمره بالاقتصار على خمسة أيام من كل شهر، ففي الرواية الثانية والثلاثين يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام.
قلت يا رسول الله! قال: خمساً، فلما راجعه أمره بستة أيام، ففي الرواية الثانية والثلاثين صم يوماً، أي من عشرة قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: صم يومين، أي من عشرة، ففي الشهر ستة أيام، فلما راجعه أمره بسبعة أيام من كل شهر ثم بتسعة أيام، ففي الرواية الثانية والثلاثين قال سبعاً: قلت: يا رسول الله! قال: تسعاً ثم أمره بعشرة أيام من كل شهر، وفي الرواية الثالثة والعشرين، صم يوماً وأفطر يومين ثم أمره باثنى عشر يوماً من كل شهر، كما في الرواية الثالثة والثلاثين صم أربعة أيام ولك أجر ما بقي أي من العشرة، ففي الشهر اثنا عشر يوماً؛ ثم أمره بخمسة عشر يوماً، صوم داود عليه السلام.
فالتدرج بدأ تصاعدياً بثلاثة، ثم بخمسة، ثم بستة، ثم بسبعة، ثم بتسعة، ثم بعشرة، ثم بأحد عشر، ثم بخمسة عشر، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر، وجمع الإشارة إلى ذلك بما جاء عند أبي داود فلم يزل يناقصني وأناقصه أي فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقصني أيام فطري ويزيد في أيام صومي، وأناقصه، أي أطلب منه نقص أيام فطري وزيادة أيام صومي حتى بلغ صوم داود عليه السلام.

وفي حكم صوم الدهر قال النووي: اختلف العلماء فيه، فذهب أهل الظاهر إلى منع صيام الدهر، نظراً لظواهر هذه الأحاديث، وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها، وهي العيدين والتشريق، ومذهب الشافعي وأصحابه أن سرد -أي متابعة الصيام إذا أفطر العيدين والتشريق لا كراهة فيه، بل هو مستحب بشرط ألا يلحقه به ضرر، ولا يفوت به حقاً، فإن تضرر أو فوت حقاً فمكروه، واستدلوا بحديث حمزة بن عمرو، وقد رواه البخاري ومسلم أنه قال: يا رسول الله إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت فصم، ولفظ رواية مسلم فأقره صلى الله عليه وسلم على سرد الصيام.

[والإمام النووي يحيل على روايتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة من روايات باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية الذي مضى قبل أربعة أبواب، وليس من ألفاظه ما ذكره النووي صراحة، ولكن فيها معنى إقراره له سرد الصوم في السفر لأيام شهر رمضان] قال النووي: ولو كان مكروهاً لم يقره، لا سيما في السفر.
قال: وأجابوا عن حديث لا صام من صام الأبد.
[روايتنا السابعة والعشرين] بأجوبة:

أحدها: أنه محمول على حقيقته بأن يصوم معه العيدين والتشريق، وبهذا أجابت عائشة رضي الله عنها.

والثاني: أنه محمول على من تضرر به أو فوت به حقاً، ويؤيده أن النهي كان خطاباً لعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد ذكر مسلم عنه أنه عجز في آخر عمره.
وندم على كونه لم يقبل الرخصة [يشير إلى روايتنا الرابعة والعشرين، وفيها فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم] قالوا: فنهى ابن عمرو لعلمه بأنه سيعجز، وأقر حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته بلا ضرر.

والثالث: أن معنى لا صام أنه لا يجد من مشقته ما يجدها غيره، فيكون خبراً، لا دعاء، وقوله صلى الله عليه وسلم [في روايتنا الثالثة والعشرين] فإنك لا تستطيع ذلك فيه إشارة إلى ما قدمناه أنه صلى الله عليه وسلم علم من حال عبد الله بن عمرو أنه لا يستطيع الدوام عليه، بخلاف حمزة بن عمرو انتهى.

ووضح الحافظ ابن حجر الجواب الأول واعترض عليه، فقال: وذهب جماعة إلى جواز صوم الدهر، وحملوا أخبار النهي [قول صلى الله عليه وسلم في روايتنا السابعة والعشرين والرابعة والثلاثين لعبد الله بن عمرو: ألم أخبر أنك تصوم ولا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل وقوله في نهاية هذه الرواية لا صام من صام الأبد.
ثلاثاً.
وقوله في الرواية السابعة والثلاثين في جواب سؤال عمر: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال: لا صام ولا أفطر - [أو قال: لم يصم ولم يفطر] حملوا أخبار النهي على من صامه [كاملاً] حقيقة، فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين.
قال: وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة.
وروي عن عائشة نحوه.
قال: وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك جواباً لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم، ومن صام العيدين لا يقال فيه ذلك [بل يقال فيه: أثم] وأيضاً الأيام المحرم صيامها مستثناة بالشرع، غير قابلة للصوم شرعاً، فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض، فلا تدخل في سؤال السائل الذي علم تحريمها، ولا يصح أن تقصد في جوابه وأما الذي لا يعلم تحريمها فلا يصلح في جوابه لا صام ولا أفطر.

ووضح الجواب الثاني واعترض عليه، فقال: ومن حجتهم حديث حمزة بن عمرو، فإن في بعض طرقه عند مسلم أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم [فحملوا سرد الصوم على صيام الدهر] وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو لا أفضل من ذلك أي في حقك، فيلتحق به من في معناه، ممن يدخل به على نفسه مشقة، أو يفوت حقاً، ولذلك لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، فلو كان السرد ممتنعاً لبينه له، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

قال الحافظ: وتعقب بأن سؤال حمزة إنما كان عن الصوم في السفر لا عن صوم الدهر، ولا يلزم من التعبير بسرد الصيام صوم الدهر، فقد عبر به عن صوم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم الدهر.

وتوضيح الجواب الثالث أن معنى لا صام من صام الأبد أن من اعتاد الصوم لا يكاد يشق عليه، ولا يكاد يحس بأنه صائم، بل تضعف شهوته عن الأكل، وتقل حاجته إلى الطعام والشراب نهاراً، ويألف تناوله بالليل فالكلام خبر، وليس فيه نهي عن صوم الأبد.

قال الحافظ ابن حجر: واختلف المجيزون لصوم الدهر بشرط أن لا يلحقه به ضرر، ولا يفوت به حقاً.
هل هو أفضل؟ أو صيام يوم وإفطار يوم أفضل؟ فصرح جماعة من العلماء بأن صوم الدهر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم في روايتنا الثالثة والعشرين فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر وقوله في روايتنا الخامسة والأربعين من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر قالوا: والمشبه به أقوى من المشبه فدل ذلك على أن صيام الدهر أفضل، وأنه مطلوب، ورد بأن التشبيه لا يقتضي أفضلية المشبه به من كل وجه، على أن المشبه في الحديث الأول من صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والمشبه في الحديث الثاني صوم رمضان وصوم ست من شوال فإن دل الحديثان على أفضلية صوم الدهر عما جاء فيهما فإنه لا يدل على فضيلته على صوم داود عليه السلام.
كما استدلوا بأن صوم الدهر أكثر عملاً، فيكون أكثر أجراً، وبذلك جزم الغزالي أولاً، وقيده بشرط أن لا يصوم الأيام المنهي عنها، وأن لا يرغب عن السنة، بأن يجعل الصوم حجراً على نفسه، فإذا أمن من ذلك فالصوم من أفضل الأعمال، فالاستكثار منه زيادة في الفضل.
وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الأعمال متعارضة المصالح والمفاسد، ومقدار كل منها في الحث والمنع غير متحقق، فزيادة الأجر بزيادة العمل في شيء يعارضه اقتضاء العادة التقصير في حقوق أخرى يعارضها العمل المذكور، ومقدار الحاصل غير متحقق، فالأولى التفويض إلى حكم الشرع.

وذهب جماعة، منهم المتولي من الشافعية إلى أن صيام داود أفضل، يدل على ذلك قوله لا أفضل من ذلك وقوله: إنه أحب الصيام إلى الله تعالى قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر الحديث، بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضاً بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وبأن من اعتاده لا يكاد يشق عليه، بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً، فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالباً من تفويت الحقوق، كما أشار إلى ذلك في حق داود عليه السلام [في روايتنا الثانية والعشرين ولا يفر إذا لاقى لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود -فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه- أنه قيل له: إنك لتقل الصيام؟ فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إلي من الصيام.

قال الحافظ: نعم إن فرض أن شخصاً لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلاً، ولا يفوت حقاً من الحقوق التي خوطب بها [وهذا فرض محض، إذ يبعد وجود من يؤدي حق نفسه وزوجه وولده وزائره مع صومه طول العام] لم يبعد أن يكون في حقه أرجح.
اهـ

وحاصل الأقوال في حكم صوم الدهر عدا العيدين.

الأول جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصوم يوم وإفطار يوم أفضل.

الثاني: جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصومه أفضل.

الثالث: استحبابه لمن قوي عليه ولم يحصل له به ضرر ولم يفوت به حقاً.

فإن فوت حقاً واجباً حرم، وإن فوت حقاً مستحباً أولى من الصيام كره، وإن فوت مستحباً الصيام أولى منه فلا يكره.

الرابع: إن صوم الدهر -ما عدا العيدين- مكروه مطلقاً.
ذهب إلى ذلك إسحق وأهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، وإليه ذهب ابن العربي من المالكية، وقال: قوله صلى الله عليه وسلم لا صام من صام الأبد إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر فياويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم؟.

الخامس: أن صوم الدهر حرام، شذ به ابن حزم، ويحتج له بحديث أبي موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، وعقد بيده أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، قالوا: ظاهره أنها تضيق عليه، حصراً له فيها لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حراماً.

ويجيب الجمهور: عن هذا الحديث بأن معناه ضيقت عنه جهنم، فلا يدخلها، ويجعلون لفظ عليه بمعنى عنه قالوا: ويبعد أن يكون الحديث على ظاهره، لأن من ازداد لله عملاً وطاعة ازداد عند الله رفعة، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله قرباً، رب عمل صالح إذا ازداد منه إزداد بعداً، كالصلاة في الأوقات المكروهة.

قال الحافظ ابن حجر: والأولى إجراء الحديث على ظاهره، وحمله على من فوت حقاً واجباً بذلك، فإنه يتوجه إليه الوعيد.

( جـ) وأما صوم المجاهد والمرابط في سبيل الله فقد تعرضت له روايتنا التاسعة والعاشرة، وقد وضحنا المراد من سبيل الله وبعض ما يتعلق به في المباحث العربية.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يعارض ذلك أن الفطر في الجهاد أولى، لأن الصائم يضعف عن اللقاء، لأن الفضل المذكور محمول على من لم يخش ضعفاً، ولا سيما من اعتاد به، فصار ذلك من الأمور النسبية، فمن لم يضعفه الصوم عن الجهاد فالصوم في حقه أفضل، ليجمع بين الفضيلتين.

( د) وأما تخصيص أيام بالصوم فأولها شهر شعبان، وقد تعرضت له الروايات السابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة ما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان.
لم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله.
كان يصوم شعبان إلا قليلاً لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهر من السنة أكثر صياماً منه في شعبان وقد بسطنا القول عن المراد في المباحث العربية وهو لا يختلف في أن المراد إكثاره صلى الله عليه وسلم الصوم في شعبان.

وقد حاول العلماء تلمس الحكمة في إكثاره الصوم صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر، فقيل: لأنه شهر مفضل، فالصيام فيه أفضل من الصيام في غيره، ورد بأن شهر المحرم أفضل منه بصريح روايتنا الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين، وفيهما أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم، ولا يعارضه ما أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان لأن الترمذي قال: هذا حديث غريب، وصدقة عندهم ليس بذاك القوي.

وقد أجاب النووي عن كونه لم يكثر الصيام في المحرم مع تصريحه بأنه أفضل الصيام بعد رمضان، فقال: يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار بالسفر أو المرض مثلاً ما منعه من كثرة الصوم فيه.
اهـ

وقيل: الحكمة في إكثاره من الصيام في شعبان دون غيره أن نساءه صلى الله عليه وسلم كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان -كما سبق- فكان يشاركهن الصيام.

وقيل: كان يشتغل عن صوم ثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فيقضيها في شعبان، قال الحافظ ابن حجر: وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم في شعبان.

وقيل: الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ولما كان صوم رمضان فريضة ضم أيامه الثلاثة إلى أيام شعبان فكان يصوم في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره.

وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يصوم صوم داود، نصف العام، فيبقى عليه بقية يؤديها في شعبان.

قال الحافظ: والأولى في ذلك ما جاء في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأبو داود وصححه ابن خزيمة، عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم.
اهـ

ورفع الأعمال إلى الله في شعبان دون غيره مشكل فقد ورد كما سيأتي أنها ترفع كل اثنين وكل خميس، نعم روي في أحاديث ضعيفة أن الملائكة الموكلين بأعمال العباد وآجالهم وأرزاقهم ينسخون في كتبهم أعمالهم للسنة في ليلة النصف من شعبان، فقد روى المحب الطبري، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالي أراك تكثر صيامك فيه: قال: يا عائشة.
إنه شهر ينسخ فيه ملك الموت من يقبض، وأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم وروى الترمذي عن عائشة: قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فخرجت، فإذا هو بالبقيع.
فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قلت: يا رسول الله، ظننت أنك أتيت بعض نسائك.
فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب والحديث ضعيف في سنده انقطاع وزاد البيهقي في بعض رواياته قال: هل تدري ما في هذه الليلة؟ قالت: ما فيها يا رسول الله؟ قال: فيها أن يكتب كل مولود من بني آدم في هذه السنة وفيها أن يكتب كل هالك من بني آدم في هذه السنة وفيها ترفع أعمالهم، وفيها تنزل أرزاقهم.

وأخرج ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي -كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له؟ ألا مسترزق فأرزقه؟ ألا مبتلى فأعافيه؟ ألا كذا؟ ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر.

وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، إلا اثنين، مشاحن وقاتل نفس.

ويفسر عكرمة الليلة المباركة في قوله تعالى: { { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم } } [الدخان: 3، 4].
يفسرها بليلة النصف من شعبان، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات.
ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أحد وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى والجمهور على أن المراد بالليلة المباركة ليلة القدر.

والحق أن الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان لا تخلو عن ضعف، قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيه شيء، ونسخ الآجال فيها، لا يخلو من مجازفة.
اهـ

وهناك مرويات صرح العلماء بأنها موضوعة منها ما نسب إلى الإمام علي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة، ثم جلس، فقرأ بأم القرآن أربع عشرة مرة....
الحديث طويل، وفي آخره من صنع هكذا لكان له كعشرين حجة مبرورة، وكصيام عشرين سنة مقبولة فإن أصبح في ذلك اليوم صائماً كان له كصيام ستين سنة ماضية وستين سنة مستقبلة ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: هذا موضوع وإسناده مظلم.
وروي أيضاً لعلي من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان.
إلخ وقال: لا شك أنه موضوع.

وقد أطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها بما لا أصل له، لكن كل هذا لا يمنع من فضل شهر شعبان، وفضل الصيام فيه ولا تعارض بين إكثار النبي صلى الله عليه وسلم الصيام في شعبان وبين النهي عن صوم يوم الشك، وعن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.
وعن صوم نصف شعبان الثاني قال الحافظ ابن حجر: فإن الجمع بينها ظاهره بأن يحمل النهي على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده.
اهـ

وقد تعرضت الرواية المتممة للأربعين والواحدة والأربعون والثانية والأربعون إلى صيام سرر شعبان.
وذكرنا طرفاً من شرحها في المباحث العربية، وقلنا: قد يراد بسرر شعبان الأيام الثلاثة التي في وسطه، وقد يراد بها آخره، وسيأتي ما يستنبط من هذه الروايات فيما يؤخذ من الحديث من الأحكام.
والله أعلم.

وثاني وثالث الأيام التي خصت بالصوم في روايتنا صيام يوم عاشوراء، وصيام يوم عرفة.
وقد تعرضت لهما الرواية السابعة والثلاثون والثامنة والثلاثون، وسبق الكلام عليهما في بابين خاصين بهما قبل بابين.

ورابعها وخامسها: صوم يوم الإثنين ويوم الخميس، وقد جاء في الرواية الثامنة والثلاثين سئل عن صوم يوم الإثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه وفي ملحق هذه الرواية وسئل عن صوم يوم الإثنين والخميس وفي الرواية التاسعة والثلاثين سئل عن يوم الإثنين؟ فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي.

قال النووي في المجموع: اتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم الإثنين والخميس، وساق دليلاً على ذلك أحاديث الباب، وزاد ما رواه أحمد بن حنبل والدارمي وأبو داود والنسائي عن أسامة، ولفظ أبي داود قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا في يومين، إن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما، قال: أي يومين؟ قلت: يوم الإثنين والخميس.
قال: ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم وما رواه مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئاً، وفي رواية وتفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا وما رواه الترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم وما رواه النسائي والترمذي وحسنه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى يوم الإثنين والخميس أي يقصدهما بالصوم.

وسادسها: صيام أيام البيض، الثلاثة الوسطى من الشهر -قال النووي في المجموع: بإضافة أيام إلى البيض وهذا هو الصواب، ووقع في كثير من كتب الفقه وغيرها وفي كثير من الكتب الأيام البيض بالألف واللام، وهو خطأ، لأن الأيام كلها بيض، وإنما صوابه أيام البيض أي أيام الليالي البيض.

قال ابن قتيبة في سبب تسمية هذه الليالي بيضاً: والجمهور لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها.

قال النووي: والصحيح والمشهور الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم أنها اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، وفي وجه لأصحابنا أنها الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر، وهذا شاذ وضعيف ترده الأحاديث.
وقال: اتفق أصحابنا على استحباب صوم أيام البيض، وجاء في غير مسلم تخصيصها، فقد روي النسائي والترمذي وحسنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صمت من الشهر ثلاثاً فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام أيام البيض، ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة.
وفيه إسناد مجهول.
وروى النسائي بإسناد حسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، أيام البيض ثالث عشرة ورابع عشرة وخامس عشرة.

نعم روايتنا الخاصة بصوم عبد الله بن عمرو لم تحدد الأيام الثلاثة المطلوب صيامها من كل شهر، بل إن روايتنا الخامسة والثلاثين تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحرى ثلاثة أيام معينة، ففيها: سئلت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم.
قيل لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أيام الشهر يصوم.

وقد وفق بعض العلماء بأن عائشة -رضي الله عنها- رأت منه صيام الأيام المذكورة، ورأت منه صيام غيرها، فأطلقت، وما أمر به صلى الله عليه وسلم أصحابه أولى من غيره، فربما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض له ما يشغله عن صيام البيض فيصوم بدلها، أو كان يفعل ذلك لبيان الجواز.

واعتمد بعضهم عدم تعيين الأيام الثلاثة، فقال الباجي: إن الأحاديث التي رويت في إباحة تعمدها بالصوم لا تثبت.
وروي عن مالك كراهة تعمد صومها وقال: الأيام كلها لله تعالى، وحكى القرطبي أن هذا هو المعروف من مذهب مالك.
أما الجمهور وأكثر أهل العلم والشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وصاحباه وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية فقالوا باستحباب صومها معينة في الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
والله أعلم.

وسابعها: صيام شهر الله المحرم، أو الصيام في شهر الله المحرم، وقد نصت على فضله روايتنا الثالثة والأربعون والرابعة والأربعون، وفيهما أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم.

قال النووي في المجموع: ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم.
ثم ساق حديث الباهلي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صم من الأشهر الحرم واترك.
صم من الأشهر الحرم واترك، صم من الأشهر الحرم واترك رواه أبو داود وغيره.

وثامنها: صيام ست من شوال، وروايتنا الخامسة والأربعون صريحة في استحبابها وفضلها، ولفظها من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر.

قال النووي في المجموع: قال أصحابنا: يستحب صوم ستة أيام من شوال، لهذا الحديث، قالوا: ويستحب صومها متتابعة في أول شوال، فإن فرقها أو أخرها عن أول شوال جاز، وكان فاعلاً لأصل هذه السنة، لعموم الحديث وإطلاقه.
وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد وداود.
وقال مالك وأبو حنيفة: يكره صومها.
قال مالك في الموطأ: وصوم ستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف.
وأن أهل العلم كانوا يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق برمضان أهل الجفاء والجهالة ما ليس منه لو رأوا ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك.

قال النووي: هذا كلام في الموطأ.
ودليلنا الحديث الصحيح السابق، ولا معارض له، وأما قول مالك: لم أر أحداً يصومها فليس بحجة في الكراهة، لأن السنة ثبتت في ذلك بلا معارض، فكونه لم ير لا يضر، وقولهم: لأنه قد يخفى ذلك فيعتقد وجوبه ضعيف، لأنه لا يخفى ذلك على أحد، ويلزم قوله أنه يكره صوم يوم عرفة وعاشوراء وسائر الصوم المندوب إليه، وهذا لا يقوله أحد.
اهـ

النقطة الخامسة: ما يؤخذ من الأحاديث من الأحكام والحكم والفوائد غير ما سبق:

1- يؤخذ من الرواية الحادية عشرة والثانية عشرة ما كانت عليه بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من ضيق العيش حتى كان صلى الله عليه وسلم لا يجد فيها ما يأكله الجائع.

2- وما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- من وصل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم بإهدائهم الطعام.

3- قبول الرسول صلى الله عليه وسلم للهدية وأكله منها دون السؤال عن مرسلها.

4- ومن قول عائشة وقد خبأت لك شيئاً إتحاف الزوجة زوجها بأطيب ما تصل إليه يدها.

5- ومن الرواية الثالثة عشرة عن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر، قال النووي: وهو مذهب الأكثرين، وممن قال به الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون، وقال مالك: يفسد صومه، وعليه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء والكفارة، ولا شيء في الأكل.
اهـ

فتحصل من هذا أن فريقاً من العلماء يرى أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم لا يفسد صومه، وبالتالي لا قضاء عليه، سواء في ذلك صيام رمضان وصيام التطوع، قال بذلك فقهاء الأمصار من الشافعية والحنفية والحنابلة، وحجتهم حديث أبي هريرة -روايتنا الثالثة عشرة- من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه، ففي الحديث أمر بالإتمام، والإتمام ينافي الفساد، وسمي ما بعد الأكل والشرب مضافاً إلى الله تعالى.
مسلوب الإضافة إلى الصائم، شأن أداة القصر إنما التي تثبت شيئاً لشيء وتنفيه عما عداه، فلو كان الأكل ناسياً مفطراً لأضيف إلى الصائم.

كما استدلوا بما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني بلفظ فلا قضاء عليه وهذا نص في مواطن النزاع.

قالوا: ثم هو موافق لقوله تعالى: { { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } } [البقرة: 225].
فالنسيان ليس من كسب القلب، فلا يؤاخذ عليه.

ثم هو موافق للقياس في إبطال الصلاة بعمد الكلام، لا بنسيانه، فكذلك الصيام.

وذهب الإمام مالك إلى أن من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم فسد صومه، قال ابن العربي: لأن الفطر ضد الصوم، والإمساك ركن الصوم، فأشبه ما لو نسي ركعة من الصلاة، فاعتمد القياس.
قال: والأصل عند مالك أن خبر الواحد إذا جاء مخالفاً القواعد لم يعمل به، والحديث الأول موافق للقاعدة في رفع الإثم عن الناس فيعمل به، وأما الثاني الذي ينفي القضاء فلا يوافق القاعدة فلا يعمل به وقال الداودي: لعل مالكاً لم يبلغه الحديث، أو أوله على رفع الإثم.

ويحاول المالكية أن يردوا حجة الجمهور، ويقول ابن القصار: إن معنى قوله فليتم صومه أي الذي كان دخل فيه، ومعناه فليمسك بقية يومه على سبيل الصوم اللغوي، وليس الشرعي، قال: وليس في الحديث نفي بل هو لم يتعرض للقضاء، وقوله فإنما أطعمه الله وسقاه تحمل على سقوط المؤاخذة والإثم والكفارة وإثبات عذره، وبقاء نيته التي بيتها.

ويعتل بعضهم بأنه لم يقع في الحديث تعيين رمضان، فيحمل على صوم التطوع: فلا قضاء فيه، أما صوم رمضان فيجب فيه القضاء.

ولما رد عليهم بحديث الدارقطني، وفيه من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة قالوا: حديث فرد، ورد عليهم الحافظ ابن حجر بأن أقل درجاته أن يكون حسناً، فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة.
قال: وأما القياس الذي ذكره ابن العربي فهو في مقابلة النص، فلا يقبل، ورده للحديث مع صحته بكونه خبر واحد خالف القاعدة ليس بمسلم، لأنه قاعدة مستقلة بالصيام، فمن عارضه بالقياس على الصلاة أدخل قاعدة في قاعدة، ولو فتح باب رد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا لما بقي من الحديث إلا القليل.
اهـ

وأول بعضهم هذا الحديث، وقال معناه لا قضاء عليه الآن.
وهذا تعسف.

واختلف القائلون بصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً في حكم من جامع ناسياً وهو صائم، هل يلحق بمن أكل أو شرب؟ أو لا يلحق؟ فذهب جماعة من الشافعية إلى إلحاقه، وقياس ما لم ينص عليه بما نص عليه قالوا: وتعليق الحكم بالأكل والشرب لأنه الغالب، لأن نسيان الجماع نادر بالنسبة إليهما، وذكر الغالب لا يقتضي مفهوماً.
ورد بأن هذا قياس مع الفارق، لقصور حالة المجامع ناسياً عن حالة الأكل، اللهم إلا أن يقولوا: إن الوصف الفارق ملغي، وأجاب بعضهم بأن عدم وجوب القضاء على من جامع ناسياً مأخوذ من العموم الوارد في بعض طريق الحديث بلفظ من أفطر شهر رمضان... لأن الفطر أعم من أن يكون بأكل أو شرب أو جماع.

وجمهور القائلين بصحة صوم من أكل أو شرب ناسياً وكذا القائلون بفساده يقولون بوجوب القضاء على من جامع ناسياً، وألحق به بعض الشافعية من أكل كثيراً، لندور النسيان حينذاك، فقد روى عبد الرزاق أن إنساناً جاء إلى أبي هريرة فقال: أصبحت صائماً، فنسيت فطعمت؟ قال؟ لا بأس.
قال: ثم دخلت على إنسان، فنسيت وطعمت وشربت؟ قال: لا بأس.
الله أطعمك وسقاك، ثم قال: ودخلت على آخر فنسيت وطعمت؟ فقال أبو هريرة: أنت إنسان لم تتعود الصيام.

لكن الجمهور على أنه لا فرق بين قليل الأكل وكثيره، فقد روى أحمد لهذا الحديث سبباً، فأخرج عن طريق أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحق إنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بقصعة من ثريد، فأكلت معه، ثم تذكرت أنها كانت صائمة.
فقال لها ذو اليدين: آلآن بعد ما شبعت؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك، فإنما هو رزق ساقه الله إليك.

وانفرد أحمد في المشهور عنه فقال: من نسي فجامع وهو صائم فعليه القضاء والكفارة.
والله أعلم.

6- وفي هذا الحديث لطف الله بعباده، والتيسير عليهم، ورفع المشقة والحرج عنهم.

7- ومن الرواية الرابعة عشرة وما بعدها مما يتعلق بصيام الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يستحب أن لا يخلي** شهراً من صيام.

8- وأن صوم التطوع غير مختص بزمن معين، بل كل السنة صالحة له، إلا رمضان والعيدين والتشريق قاله النووي.

9- وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم الدهر.
وإنما ترك ذلك لئلا يقتدي به، فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى.

10- ومن الرواية التاسعة عشرة أنه لا ينبغي أن يتأسى بصيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من أطاق ما كان يطيقه.

11- وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خشي عليه أن يمل، فيفضي إلى تركه، مع أن المداومة على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع غالباً، وأن من تكلف الزيادة يقع له الخلل في الغالب.

12- وفيه شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم.

13- ومن الرواية الواحدة والعشرين، وعن جواب سعيد بن جبير لمن سأله عن صوم رجب، حيث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم قال النووي: الظاهر أن مراد سعيد بن جبير بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه، ولا ندب فيه لعينه، بل له حكم باقي الشهور، ولم يثبت في صوم رجب نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه، وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها، والله أعلم.

14- ومن روايات عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم وإرشاده إياهم إلى ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه.

15- وتفقد الإمام لأمور رعيته، كلياتها وجزئياتها.

16- وأن الحكم لا ينبغي إلا بعد التثبت، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بما نقل له عن عبد الله حتى لقيه واستثبته، لاحتمال أن يكون قال ذلك بغير عزم، أو علقه بشرط لم يطلع عليه الناقل ونحو ذلك.

17- وتعليل الحكم لمن فيه أهلية لذلك.

18- وأن الأولى في العبادة تقديم الواجبات على المندوبات.

19- والنهي عن التعمق في العبادة، لأنه يفضي إلى الملل المفضي إلى الترك، وقد ذم الله تعالى قوماً التزموا العبادة، ثم فرطوا فيها، حيث قال: { { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } } [الحديد: 27].

20- ومن قول عبد الله بن عمرو: لأقومن الليل....
إلخ في الرواية الثالثة والعشرين جواز الإخبار عن الأعمال الصالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولكن محل ذلك أن يخلو عن الرياء.

21- وفيه جواز القسم على التزام العبادة، وفائدته الاستعانة به على النشاط لها.

22- وأن ذلك لا يخل بصحة النية والإخلاص فيها.

23- وأن اليمين على ذلك لا تلحق بالنذر الذي يجب الوفاء به.

24- وفيه جواز الحلف من غير استحلاف.

25- وأن النفل المطلق لا ينبغي تحديده، بل يختلف الحال باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال.

26- ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالجمع بين النوم والقيام في الرواية الثالثة والعشرين والسابعة والعشرين، ونهيه عن قيام الليل كله في الرواية الرابعة والثلاثين كره جمهور العلماء صلاة كل الليل دائماً لكل أحد، قال النووي: وفرقوا بينه وبين صوم الدهر في حق من لا يتضرر به ولا يفوت حقاً بأن في صلاة الليل كله لا بد فيها من الإضرار بنفسه، وتفويت بعض الحقوق، لأنه إن لم ينم بالنهار فهو ضرر ظاهر، وإن نام نوماً ينجبر به سهره فوت بعض الحقوق، بخلاف من يصلي بعض الليل فإنه يستغني بنوم باقيه، وإن نام معه شيئاً في النهار كان يسيراً لا يفوت به حق، وكذا من قام ليلة كاملة واحدة، كليلة العيد لا كراهة فيه لعدم الضرر.

27- وجواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة، الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على المستحب المذكور.

28- ومن قوله في الرواية الرابعة والعشرين فإن لزوجك عليك حقاً حق المرأة على الزوج في حسن العشرة.
قال الحافظ: وقد يؤخذ منه ثبوت حقها في الوطء.

29- ومن قوله: ولزورك عليك حقاً حق الضيف.

30- ومن مساومته صلى الله عليه وسلم في الصوم وتدرجه مع عبد الله بن عمرو الحض على ملازمة العبادة، لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حضه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولا يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما.

31- ومن ذكر صوم وصلاة داود -عليه السلام- مشروعية التأسي بالأنبياء عليهم السلام.

32- ومن بيان صلاة داود -عليه السلام- وأنها أحب الصلاة إلى الله فضيلة قيام الليل في الأوقات المذكورة، لأن المصلي يريح جسمه في أول الليل من متاعب النهار، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه عباده: هل من سائل فأعطيه سؤاله، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام.

33- ومن الرواية السادسة والعشرين كراهة ترك قيام الليل لمن كان يقومه، إذا أشعر ذلك بالإعراض عن العبادة.

34- قال ابن العربي: وفيه دليل على أن قيام الليل ليس بواجب، إذ لو كان واجباً لم يكتف لتاركه بهذا القدر، بل يذمه أبلغ ذم.

35- قال ابن حبان: وفيه جواز ذكر الشخص بما فيه من عيب إذا قصد بذلك التحذير من صنيعه.

36- وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير تفريط.

37- ويستنبط منه كراهة قطع العبادة وإن لم تكن واجبة.

38- ومن قوله في الرواية الرابعة والعشرين واقرأ القرآن في كل شهر.. فاقرأه في كل عشرين... فاقرأه في كل عشر...فاقرأه في كل سبع.
ولا تزد على ذلك استحباب قراءة القرآن.
قال النووي: كانت للسلف عادات مختلفة فيما يقرءون كل يوم، بحسب أحوالهم وأفهامهم ووظائفهم فكان بعضهم يختم القرآن في كل شهر، وبعضهم في عشرين يوماً، وبعضهم في عشرة أيام، وبعضهم -أو أكثرهم- في سبعة، وكثير منهم في ثلاثة، وكثير في كل يوم وليلة، وبعضهم في كل ليلة، وبعضهم في اليوم والليلة ثلاث ختمات، وهو أكثر ما بلغنا، والمختار أنه يستكثر منه ما يمكنه الدوام عليه، ولا يعتاد إلا ما يغلب على ظنه الدوام عليه في حال نشاط وغيره، هذا إذا لم تكن له وظائف عامة أو خاصة يتعطل عنها بإكثار القرآن، فإن كانت له وظيفة عامة كولاية وتعليم ونحو ذلك فليوظف لنفسه قراءة يمكنه المحافظة عليها من غير إخلال بشيء من كمال تلك الوظيفة وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف.
اهـ

وقد جاء في بعض الروايات فمازال حتى قال: في ثلاث وعند الدارمي قال: اختمه في خمس.

قلت: إني أطيق.
قال: لا وعند أبي داود والترمذي مصححاً عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث وجمع الحافظ ابن حجر بين الروايات فقال: احتمل في الجمع تعدد القصة.
ولا مانع أن يتعدد قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو ذلك تأكيداً ويؤيده الاختلاف الواقع في السياق، وكأن النهي عن الزيادة في قوله ولا تزد ليس للتحريم، كما أن الأمر في جميع ذلك ليس للوجوب.
قال: وأغرب بعض الظاهرية، فقال: يحرم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث.
اهـ

وما ذكره النووي هو ما عليه جمهور العلماء.

39- ويستفاد من الرواية الثانية والثلاثين زيارة الفاضل للمفضول في بيته.

40- وإكرام الضيف والكبار بإلقاء الفرش ونحوها تحته.

41- وفيه ما كان عليه الصحابة من الضيق في غالب أحوالهم، إذ لو كان عنده أشرف من وسادة من أدم حشوها ليف لأكرم بها نبيه صلى الله عليه وسلم.

42- وتواضع الزائر بجلوسه دون ما يفرش له، وأن لا حرج عليه في ذلك إذا كان على سبيل التواضع والإكرام للمزور، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من التواضع، ومجانبة الاستئثار على صاحبه وجليسه.

43- ومن قوله: وإن لولدك عليك حقاً في ملحق الرواية الرابعة والعشرين حق الأبناء على الآباء.

قال النووي: فيه أن على الأب تأديب ولده وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدين، وهذا التعليم واجب على الأب وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبي والصبية، نص عليه الشافعي وأصحابه.
وعلى الأمهات أيضاً هذا التعليم إذا لم يكن أب، لأنه من باب التربية، ولهن مدخل في ذلك، وأجرة هذا التعليم في مال الصبي، فإن لم يكن مال فعلى من تلزمه نفقته، لأنه مما يحتاج إليه.
اهـ

44- ومن الرواية السابعة والثلاثين ذكاء عمر رضي الله عنه وحكمته وحرصه على تهدئة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

45- ومن الرواية الثالثة والأربعين والرابعة والأربعين فضل صلاة الليل، وأنها أفضل صلاة بعد المكتوبة، وأنها أفضل من الراتبة.

والله أعلم