هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1841 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ إِنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1841 حدثنا أبو عاصم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء إن من أكل فليتم أو فليصم ، ومن لم يأكل فلا يأكل
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Narrated Salama bin Al-Akwa`:

Once the Prophet (ﷺ) ordered a person on 'Ashura' (the tenth of Muharram) to announce, Whoever has eaten, should not eat any more, but fast, and who has not eaten should not eat, but complete his fast (till the end of the day).

Salama ibn alAkwa' (radiallahanho): Au jour de 'Achûrâ', le Prophète (r ) envoya un homme avec la charge de crier publiquement: «Celui qui a mangé doit continuer son repas, ou qu'il jeûne; quant à celui qui n'a pas encore mangé, qu'il ne mange pas.»

":"ہم سے ابوعاصم نے بیان کیا ، کہا کہ ہم سے یزید بن ابی عبید نے بیان کیا ، ان سے سلمہ بن اکوع نے کہنبی کریم صلی اللہ علیہ وسلم نے عاشورہ کے دن ایک شخص کو یہ اعلان کرنے کے لیے بھیجا کہ جس نے کھانا کھا لیا وہ اب ( دن ڈوبنے تک روزہ کی حالت میں ) پورا کرے یا ( یہ فرمایا کہ ) روزہ رکھے اور جس نے نہ کھایا ہو ( تو وہ روزہ رکھے ) کھانا نہ کھائے ۔

Salama ibn alAkwa' (radiallahanho): Au jour de 'Achûrâ', le Prophète (r ) envoya un homme avec la charge de crier publiquement: «Celui qui a mangé doit continuer son repas, ou qu'il jeûne; quant à celui qui n'a pas encore mangé, qu'il ne mange pas.»

شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [1924] .

     قَوْلُهُ  عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .

     قَوْلُهُ  أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ هِنْدُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِعَمِّهِ هِنْدِ بن حَارِثَة صُحْبَة أخرج حَدِيثه أَحْمد وبن أبي خَيْثَمَة من طَرِيق بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ هِنْدِ بْنِ أَسْمَاءَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَإِلَى قَوْمِي مِنْ أَسْلَمَ فَقَالَ مُرْ قَوْمَكَ أَنْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ وَجَدْتَهُ مِنْهُمْ قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ فَلْيَصُمْ آخِرَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ هِنْدٍ قَالَ وَكَانَ هِنْدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَخُوهُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَالَ فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هِنْدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ فَقَالَ مُرْ قَوْمَكَ بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَهُمْ قَدْ طَعِمُوا قَالَ فَلْيُتِمُّوا آخِرَ يَوْمِهِمْ.

.

قُلْتُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ أَسْمَاءَ وَوَلَدِهِ هِنْدٍ أُرْسِلَا بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْجَدِّ اسْمَ الْأَبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ هِنْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَسْمَاءَ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا عَلَى صِحَّةِ الصِّيَامِ لِمَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ مِنَ اللَّيْلِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِلَا رَيْبٍ فَنُسِخَ حُكْمُهُ وَشَرَائِطُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ وَمَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ لَا يُجِيزُ صِيَامَ مَنْ أَكَلَ مِنَ النَّهَارِ وَصَرَّحَ بن حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ التَّبْيِيتِ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ خَصَائِصِ عَاشُورَاءَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فَالْأَمْرُ بِالْإِمْسَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِجْزَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا وَكَمَا يُؤْمَرُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ رَأَى الْهِلَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَمْرَهُمْ بِالْقَضَاءِ بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا قَالُوا لَا قَالَ فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ لَفْظُ النَّسَائِيِّ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ الْمَوْقُوفَ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحَ وَقْفِهِ وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَصَحَّحُوا الْحَدِيثَ الْمَذْكُور مِنْهُم بن خُزَيْمَة وبن حبَان وَالْحَاكِم وبن حَزْمٍ وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقًا آخَرَ.

     وَقَالَ  رِجَالُهَا ثِقَاتٌ وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِيَامِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَةُ الطَّحَاوِيِّ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ إِذَا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء فتجزىء النِّيَّةُ فِي النَّهَارِ أَوْ لَا فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَرَمَضَانَ فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْل وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزىء فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ وَقَدْ تَعَقَّبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ غَثٌّ لَا أَصْلَ لَهُ.

     وَقَالَ  بن قُدَامَةَ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ وَهُوَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِسْحَاق.

     وَقَالَ  زفر يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ لِتَعَيُّنِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّ الزَّمَنَ مِعْيَارٌ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ.

     وَقَالَ  أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ يَلْزَمُ قَائِلَ هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ صَوْمَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَالَ فَإِنِ الْتَزَمَهُ كَانَ مُسْتَشْنَعًا.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إِلَّا قَدْرُهَا فَصَلَّى حِينَئِذٍ تَطَوُّعًا أَنه يُجزئهُ عَن الْفَرْض وَاسْتدلَّ بن حزمكان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهدعَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

     وَقَالَ  الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

     قَوْلُهُ  ( وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

     قَوْلُهُ  ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

     قَوْلُهُ  ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا.

.

قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ.

.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنهمُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.

.
وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا .

     قَوْلُهُ  إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحةوَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً)
فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَىعَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

     قَوْلُهُ  ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَاوَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا.

     وَقَالَ  لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

     قَوْلُهُ  ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّيرَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ.

     وَقَالَ  وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

     قَوْلُهُ  ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌكان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهدعَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

     وَقَالَ  الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

     قَوْلُهُ  ( وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

     قَوْلُهُ  ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

     قَوْلُهُ  ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا.

.

قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ.

.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنهمُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.

.
وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا .

     قَوْلُهُ  إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحةوَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً)
فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَىعَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

     قَوْلُهُ  ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَاوَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا.

     وَقَالَ  لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

     قَوْلُهُ  ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّيرَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ.

     وَقَالَ  وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

     قَوْلُهُ  ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌكان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهدعَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

     وَقَالَ  الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

     قَوْلُهُ  ( وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

     قَوْلُهُ  ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

     قَوْلُهُ  ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا.

.

قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ.

.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنهمُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.

.
وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا .

     قَوْلُهُ  إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحةوَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً)
فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَىعَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

     قَوْلُهُ  ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَاوَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا.

     وَقَالَ  لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

     قَوْلُهُ  ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّيرَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ.

     وَقَالَ  وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

     قَوْلُهُ  ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌكان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهدعَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

     وَقَالَ  الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

     قَوْلُهُ  ( وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

     قَوْلُهُ  ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

     قَوْلُهُ  ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا.

.

قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ.

.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنهمُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.

.
وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا .

     قَوْلُهُ  إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحةوَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً)
فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَىعَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

     قَوْلُهُ  ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَاوَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا.

     وَقَالَ  لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

     قَوْلُهُ  ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّيرَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ.

     وَقَالَ  وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

     قَوْلُهُ  ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌكان على الإنسان دين أوحق أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَنَحْوُهَا لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْمُسْلِمِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صِحَّتِهِ وَيُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا وَيَكْتُبُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا قَالُوا وَلَا يُكَلَّفُ أَنْ يَكْتُبَ كُلَّ يَوْمٍ مُحَقَّرَاتِ الْمُعَامَلَاتِ وجزيئات الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فَمَعْنَاهُ مَكْتُوبَةٌ وَقَدْ أشهدعَلَيْهِ بِهَا لَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْكِتَابَةِ بَلْ لَا يُعْمَلُ بِهَا وَلَا تَنْفَعُ إِلَّا إِذَا كَانَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَا هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.

     وَقَالَ  الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكْفِي الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  فِي حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِلْإِمَامِ كَاسْتِحْبَابِهَا لِآحَادِ النَّاسِ وَمَعْنَى أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ أي قاربته وَأَشْرَفْتُ عَلَيْهِ يُقَالُ أَشْفَى عَلَيْهِ وَأَشَافَ قَالَهُ الهروى وقال بن قُتَيْبَةَ لَا يُقَالُ أَشْفَى إِلَّا فِي الشَّرِّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الْوَجَعُ اسْمٌ لِكُلِّ مَرَضٍ وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءِ صَالِحٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوِ اسْتِفْتَاءٍ عَنْ حَالِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّسَخُّطِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ .

     قَوْلُهُ  ( وَأَنَا ذُو مَالٍ) دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْعُرْفِ إِلَّا لِمَالٍ كَثِيرٍ .

     قَوْلُهُ  ( وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي) أَيْ وَلَا يَرِثُنِي مِنَ الْوَلَدِ وَخَوَاصِّ الْوَرَثَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ لَهُ عَصَبَةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا يَرِثُنِي مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ .

     قَوْلُهُ  ( أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي قَالَ لَا.

.

قُلْتُ أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ قَالَ لَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)
بِالْمُثَلَّثَةِ وَفِي بَعْضٍ بِالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ أَمَّا النَّصْبُ فَعَلَى الْإِغْرَاءِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَعْطِ الثُّلُثَ.

.
وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ يَكْفِيكَ الثُّلُثُ أو أنهمُبْتَدَأٌ وَحُذِفَ خَبَرُهُ أَوْ خَبَرٌ مَحْذُوفُ الْمُبْتَدَأِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُرَاعَاةُ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ أَغْنِيَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ تَبَرُّعًا وَإِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ اسْتُحِبَّ أَنْ يُنْقِصَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِإِجَازَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى نُفُوذِهَا بِإِجَازَتِهِ فِي جَمِيعِ الْمَالِ.

.
وَأَمَّا مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّدَقَةِ الْوَصِيَّةَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّدَقَةَ الْمُنَجَّزَةَ وَهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سَوَاءٌ لَا يَنْفُذُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا بِرِضَا الْوَارِثِ وَخَالَفَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا لِلْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَالِهِ وَيَتَبَرَّعُ بِهِ كَالصَّحِيحِ وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ ظَاهِرُ حَدِيثِ الثُّلُثُ كَثِيرٌ مَعَ حَدِيثِ الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ فِي مَرَضِهِ فَأَعْتَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) الْعَالَةُ الْفُقَرَاءُ وَيَتَكَفَّفُونَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ فِي أَكُفِّهِمْ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ رُوِّينَا .

     قَوْلُهُ  إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ وَأَنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى تَرْجِيحِ الْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَفِيهِ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ أَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قُصِدَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ طَاعَةً وَيُثَابُ عَلَيْهِ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِيِ امْرَأَتِكَ لِأَنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَخَصِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهِ وملاذه المباحةوَإِذَا وَضَعَ اللُّقْمَةَ فِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْمُبَاحِ فَهَذِهِ الْحَالَةُ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهَذِهِ اللُّقْمَةِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ إِذَا أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَعَلَ شَيْئًا أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى يُثَابُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كَالْأَكْلِ بِنِيَّةِ التَّقَوِّي عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّوْمِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لِيَقُومَ إِلَى الْعِبَادَةِ نَشِيطًا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ لِيَكُفَّ نَفْسَهُ وَبَصَرَهُ وَنَحْوِهِمَا عن الحرام وليقضي حقها وليحصل وَلَدًا صَالِحًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  (.

قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً)
فَقَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ أُخَلَّفُ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِي فَقَالَهُ إِمَّا إِشْفَاقًا مِنْ مَوْتِهِ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهِ هَاجَرَ مِنْهَا وَتَرَكَهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَخَشِيَ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِهِ أَوْ فِي ثَوَابِهِ عَلَيْهَا أَوْ خَشِيَ بقاءه بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْهُمْ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الرُّجُوعَ فِيمَا تَرَكُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أُخَلَّفُ عن هجرته قَالَ الْقَاضِي قِيلَ كَانَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَاقِيًا بَعْدَ الْفَتْحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقِيلَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ بَعْدَهُ فَلَا.

.
وَأَمَّا .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عملا فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه وفي هذا الحديث فضيلة طُولَ الْعُمْرِ لِلِازْدِيَادِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَثِّ عَلَى إِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَعْمَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَنْتَفِعَ بِزِيَادَةِ التَّاءِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَاشَ حَتَّى فَتَحَ الْعِرَاقَ وَغَيْرَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ أَقْوَامٌ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَتَضَرَّرَ بِهِ الْكُفَّارُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قُتِلُوا وَصَارُوا إِلَى جَهَنَّمَ وَسُبِيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ وَدِيَارُهُمْ وَوَلِيَ الْعِرَاقَ فَاهْتَدَىعَلَى يَدَيْهِ خَلَائِقُ وَتَضَرَّرَ بِهِ خَلَائِقُ بِإِقَامَتِهِ الْحَقَّ فِيهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ قَالَ الْقَاضِي قِيلَ لَا يُحْبِطُ أَجْرَ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِ بَقَاؤُهُ بِمَكَّةَ وَمَوْتُهُ بِهَا إِذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ وَإِنَّمَا كَانَ يُحْبِطُهُ مَا كَانَ بِالِاخْتِيَارِ قَالَ.

     وَقَالَ  قَوْمٌ مَوْتُ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ مُحْبِطٌ هِجْرَتَهُ كَيْفَمَا ما كَانَ قَالَ وَقِيلَ لَمْ تُفْرَضِ الْهِجْرَةُ إِلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَاصَّةً .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) قَالَ الْقَاضِي اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ الْمُهَاجِرِ بِمَكَّةَ كَيْفَ كَانَ قَادِحٌ فِي هِجْرَتِهِ قَالَ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ دُعَاءً عَامًّا وَمَعْنَى أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ أَيْ أتممها ولاتبطلها وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِتَرْكِ هِجْرَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ عَنْ مُسْتَقِيمِ حَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ) الْبَائِسُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْقِلَّةُ .

     قَوْلُهُ  ( يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ) قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي وَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلِ انْتَهَى كَلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فَقَالَ الرَّاوِي تَفْسِيرًا لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَرْثِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَجَّعُ لَهُ وَيَرِقُّ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَاتَ بِمَكَّةَ وَاخْتَلَفُوا فِي قَائِلِ هَذَا الْكَلَامِ مَنْ هُوَ فَقِيلَ هُوَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْقَاضِي وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ فَقِيلَ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ هَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مكة ومات بها وقال بن هِشَامٍ إِنَّهُ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ وشهد بدار وَغَيْرَهَا وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ وَقِيلَ تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ سَبْعٍ فِي الْهُدْنَةِ خَرَجَ مُجْتَازًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَعَلَى هَذَاوَعَلَى قَوْلِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ سَبَبُ بُؤْسِهِ سُقُوطُ هِجْرَتِهِ لِرُجُوعِهِ مُخْتَارًا وَمَوْتِهِ بِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ سَبَبُ بُؤْسِهِ مَوْتُهُ بِمَكَّةَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ لِمَا فَاتَهُ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ الْكَامِلِ بِالْمَوْتِ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَالْغُرْبَةِ عَنْ وَطَنِهِ إِلَى هجرة الله تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَجُلًا.

     وَقَالَ  لَهُ إِنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنْهُ بِهَا وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ هَذَا هُوَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ هَذَا جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ وَهُوَ الصَّحِيحُ .

     قَوْلُهُ  ( حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) هُوَ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ فَاءٍ مَفْتُوحَتَيْنِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْحَفَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْفَاءِ وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْكُوفَةِ كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَسْكُنُهَا هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَأَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ الثقة الزاهد الصالح العابد قال علي الْمَدِينِيِّ مَا أَعْلَمُ أَنِّيرَأَيْتُ بِالْكُوفَةِ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي دَاوُدَ الْحَفَرِيِّ.

     وَقَالَ  وَكِيعٌ إِنْ كَانَ يُدْفَعُ بِأَحَدٍ فِي زَمَانِنَا يَعْنِي الْبَلَاءَ وَالنَّوَازِلَ فَبِأَبِي دَاوُدَ تُوُفِّيَ سنة ثلاث وَقِيلَ سَنَةَ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

     قَوْلُهُ  ( عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكَّةَ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ قَالُوا مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُرْسَلَةٌ وَالْأُولَى مُتَّصِلَةٌ لِأَنَّ أَوْلَادَ سَعْدٍ تَابِعِيُّونَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ لِيُبَيِّنَ اخْتِلَافَ الرُّوَاةِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا وَشَبَهُهُ مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي وَعَدَ مُسْلِمٌ فِي خُطْبَةِ كِتَابِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَظَنَّ ظَانُّونَ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مُفْرَدَةً وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ ذِكْرِهَا وَالصَّوَابُ أَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي تَضَاعِيفِ كِتَابِهِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ في أول هذا الشرح ولا بقدح هَذَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي صِحَّةِ أَصْلِ الْحَدِيثِ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ ثابت من طرق من غير جهة حميد عَنْ أَوْلَادِ سَعْدٍ وَثَبَتَ وَصْلُهُ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌبِحَدِيثِ سَلَمَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ جَازَ لَهُ اسْتِدْرَاكُ النِّيَّةِ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا أَوَّلًا وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يُمْسِكُوا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ قَالَ وَحُكْمُ الْفَرْضِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْل لِاسْتِوَاء حكم الْجَاهِل والناسى ( .

     قَوْلُهُ  بَابٌ الصَّائِمُ يُصْبِحُ جُنُبًا)
أَيْ هَلْ يَصِحُّ صَوْمُهُ أَوْ لَا وَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي أَوْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  ( .

     قَوْلُهُ  بَابٌ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا)

أَيْ هَلْ يَصِحُّ مُطْلَقًا أَوْ لَا وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ جَوَازَ النَّفْلِ بِمَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  .

     .

     وَقَالَتْ  
أُمُّ الدَّرْدَاءِ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ فَإِنْ قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي صَائِمٌ يومى هَذَا وَصله بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَغْدُونَا أَحْيَانًا ضُحًى فَيَسْأَلُ الْغَدَاءَ فَرُبَّمَا لَمْ يُوَافِقْهُ عِنْدَنَا فَيَقُولُ إِذًا أَنَا صَائِمٌ وَرَوَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْغَدَاءَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ أَنَا صَائِمٌ وَعَن بن جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ حِينَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَمِنْ طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا دَعَا بِالْغَدَاءِ فَلَا يَجِدُهُ فَيَفْرِضُ عَلَيْهِ الصَّوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ .

     قَوْلُهُ  وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَة وبن عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ أَمَّا أَثَرُ أَبِي طَلْحَةَ فَوَصَلَهُ عبد الرَّزَّاق من طَرِيق قَتَادَة وبن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حُمَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ غَدَاءٍ فَإِنْ قَالُوا لَا صَامَ يَوْمَهُ ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَفْعَلُهُ وَلَفْظُ حُمَيْدٍ نَحْوُهُ وَزَادَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ أَفْطَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ مُعَاذٍ.

.
وَأَمَّا أَثَرُ أَبِي هُرَيْرَةَ فوصله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق بن أبي ذِئْب عَن حَمْزَة عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالسُّوقِ ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَقُولُ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَإِنْ قَالُوا لَا قَالَ فَأَنَا صَائِمٌ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ آخَرَ فِيهِ انْقِطَاعٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا طَلْحَة فَذكر مَعْنَاهُ وَأما أثر بن عَبَّاسٍ فَوَصَلَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَة عَن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ حَتَّى يُظْهِرَ ثُمَّ يَقُولُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا أُرِيدُ الصَّوْمَ وَمَا أَكَلْتُ مِنْ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ مُنْذُ الْيَوْمَ وَلَأَصُومَنَّ يَوْمِي هَذَا.

.
وَأَمَّا أَثَرُ حُذَيْفَةَ فوصله عبد الرَّزَّاق وبن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ قَالَ حُذَيْفَةُ مَنْ بَدَا لَهُ الصِّيَامُ بَعْدَ مَا تَزُول الشَّمْس فليصم وَفِي رِوَايَة بن أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بَدَا لَهُ فِي الصَّوْم بعد مَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَامَ وَقَدْ جَاءَ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ قُلْنَا لَا قَالَ فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالطَّيَالِسِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ وَلَمْ يُسَمِّ النَّسَائِيُّ عِكْرِمَةَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ صَوْمَ النَّافِلَةِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ فِي النَّهَارِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَتَأَوَّلَهُ الْآخَرُونَ عَلَى أَنَّ سُؤَالَهُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ لِكَوْنِهِ كَانَ نَوَى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ ضَعُفَ عَنْهُ وَأَرَادَ الْفِطْرَ لِذَلِكَ قَالَ وَهُوَ تَأْوِيل فَاسد وتكلف بعيد.

     وَقَالَ  بن الْمُنْذِرِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَصْبَحَ يُرِيدُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَهُ أَنْ يَصُومَ مَتَى بَدَا لَهُ فَذَكَرَ عَمَّن تقدم وَزَاد بن مَسْعُودٍ وَأَبَا أَيُّوبَ وَغَيْرَهُمَا وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَيْهِمْ قَالَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ قَالَ.

     وَقَالَ  بن عُمَرَ لَا يَصُومُ تَطَوُّعًا حَتَّى يُجْمِعَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ يَتَسَحَّرَ.

     وَقَالَ  مَالِكٌ فِي النَّافِلَةِ لَا يَصُومُ إِلَّا أَنْ يُبَيِّتَ إِلَّا إِنْ كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّبْيِيتِ.

     وَقَالَ  أَهْلُ الرَّأْيِ مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ.

.

قُلْتُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّة وَالَّذِي نَقله بن الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْجَوَازِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَالَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ كتبه التَّفْرِقَة وَالْمَعْرُوف عَن مَالك وَاللَّيْث وبن أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ صِيَامُ التَّطَوُّعِ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ

[ قــ :1841 ... غــ :1924] .

     قَوْلُهُ  عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى وَهُوَ الْقَطَّانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .

     قَوْلُهُ  أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ هِنْدُ بْنُ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ الْأَسْلَمِيُّ لَهُ وَلِأَبِيهِ وَلِعَمِّهِ هِنْدِ بن حَارِثَة صُحْبَة أخرج حَدِيثه أَحْمد وبن أبي خَيْثَمَة من طَرِيق بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ هِنْدِ بْنِ أَسْمَاءَ الْأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِي مِنْ أَسْلَمَ فَقَالَ مُرْ قَوْمَكَ أَنْ يَصُومُوا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ وَجَدْتَهُ مِنْهُمْ قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ يَوْمِهِ فَلْيَصُمْ آخِرَهُ وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ هِنْدٍ قَالَ وَكَانَ هِنْدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَخُوهُ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ قَوْمَهُ بِالصِّيَامِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ قَالَ فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ هِنْدٍ عَنْ أَسْمَاءَ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ فَقَالَ مُرْ قَوْمَكَ بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَهُمْ قَدْ طَعِمُوا قَالَ فَلْيُتِمُّوا آخِرَ يَوْمِهِمْ.

.

قُلْتُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ أَسْمَاءَ وَوَلَدِهِ هِنْدٍ أُرْسِلَا بِذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى عَلَى الْجَدِّ اسْمَ الْأَبِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ هِنْدٍ عَنْ جَدِّهِ أَسْمَاءَ فَتَتَّحِدُ الرِّوَايَتَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ هَذَا عَلَى صِحَّةِ الصِّيَامِ لِمَنْ لَمْ يَنْوِهِ مِنَ اللَّيْلِ سَوَاءٌ كَانَ رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّوْمِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ مِنَ اللَّيْلِ وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ صِيَامَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا وَالَّذِي يَتَرَجَّحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ فَرْضًا فَقَدْ نُسِخَ بِلَا رَيْبٍ فَنُسِخَ حُكْمُهُ وَشَرَائِطُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ وَمَنْ لَا يَشْتَرِطُ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ لَا يُجِيزُ صِيَامَ مَنْ أَكَلَ مِنَ النَّهَارِ وَصَرَّحَ بن حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ التَّبْيِيتِ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ خَصَائِصِ عَاشُورَاءَ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ حُكْمَهُ بَاقٍ فَالْأَمْرُ بِالْإِمْسَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِجْزَاءَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَ بِالْإِمْسَاكِ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ كَمَا يُؤْمَرُ مَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فِي رَمَضَانَ نَهَارًا وَكَمَا يُؤْمَرُ مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ رَأَى الْهِلَالَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي أَمْرَهُمْ بِالْقَضَاءِ بَلْ وَرَدَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلَمَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا قَالُوا لَا قَالَ فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَثْبُتَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْيَوْمَ بِكَمَالِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ كَمَنْ بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ بِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ لَفْظُ النَّسَائِيِّ وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ وَاخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ الْمَوْقُوفَ بَعْدَ أَنْ أَطْنَبَ النَّسَائِيُّ فِي تَخْرِيجِ طُرُقِهِ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ تَرْجِيحَ وَقْفِهِ وَعَمِلَ بِظَاهِرِ الْإِسْنَادِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَصَحَّحُوا الْحَدِيثَ الْمَذْكُور مِنْهُم بن خُزَيْمَة وبن حبَان وَالْحَاكِم وبن حَزْمٍ وَرَوَى لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ طَرِيقًا آخَرَ.

     وَقَالَ  رِجَالُهَا ثِقَاتٌ وَأَبْعَدَ مَنْ خَصَّهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِصِيَامِ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَفْرِقَةُ الطَّحَاوِيِّ بَيْنَ صَوْمِ الْفَرْضِ إِذَا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء فتجزىء النِّيَّةُ فِي النَّهَارِ أَوْ لَا فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَرَمَضَانَ فَلَا يُجْزِئُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْل وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزىء فِي اللَّيْلِ وَفِي النَّهَارِ وَقَدْ تَعَقَّبَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَامٌ غَثٌّ لَا أَصْلَ لَهُ.

     وَقَالَ  بن قُدَامَةَ تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فِي رَمَضَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ وَهُوَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِسْحَاق.

     وَقَالَ  زفر يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَاحْتَجَّ زُفَرُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ غَيْرُ صَوْمِ رَمَضَانَ لِتَعَيُّنِهِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ لِأَنَّ الزَّمَنَ مِعْيَارٌ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ إِلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ.

     وَقَالَ  أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ يَلْزَمُ قَائِلَ هَذَا أَنْ يُصَحِّحَ صَوْمَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَالَ فَإِنِ الْتَزَمَهُ كَانَ مُسْتَشْنَعًا.

     وَقَالَ  غَيْرُهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهَا إِلَّا قَدْرُهَا فَصَلَّى حِينَئِذٍ تَطَوُّعًا أَنه يُجزئهُ عَن الْفَرْض وَاسْتدلَّ بن حزم بِحَدِيثِ سَلَمَةَ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ هِلَالُ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ جَازَ لَهُ اسْتِدْرَاكُ النِّيَّةِ حِينَئِذٍ وَيُجْزِئُهُ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ فَرْضًا أَوَّلًا وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يُمْسِكُوا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ قَالَ وَحُكْمُ الْفَرْضِ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ وَأُلْحِقَ بِذَلِكَ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَنْوِيَ مِنَ اللَّيْل لِاسْتِوَاء حكم الْجَاهِل والناسى

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا
.

     .

     وَقَالَتْ  
أُمُّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا لاَ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا.

وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ - رضي الله عنهم-.

هذا ( باب) بالتنوين ( إذا نوى) الإنسان ( بالنهار صومًا) فرضًا أو نفلاً هل يصح أو لا ( وقالت أم الدرداء) : خيرة مما وصله ابن أبي شيبة ( كان أبو الدرداء) عويمر الأنصاري ( يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا لا، قال: فإني صائم يومي هذا وفعله) أي ما فعل أبو الدرداء ( أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري مما وصله عبد الرزاق ( و) كذا فعله ( أبو هريرة) مما وصله البيهقي ( و) كذا ( ابن عباس) مما وصله الطحاوي ( و) كذا ( حذيفة -رضي الله عنهم-) مما وصله عبد الرزاق وهذا كله في النفل قبل الزوال ويدل له قوله في أثر أم الدرداء عند ابن أبي شيبة كان أبو الدرداء يغدو أحيانًا فيسأل الغداء، وفي أثر أبي طلحة عند عبد الرزاق كان يأتي أهله فيقول هل من غداء، وقول ابن عباس لقد أصبحت وما أريد الصوم وما أكلت من طعام ولا شراب ولأصومن يومي هذا إذ الغداء بفتح الغين اسم لما يؤكل قبل الزوال وهذا مذهب الشافعية، واستدل له أيضًا بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعائشة يومًا: "هل عندكم من غداء؟ " قالت: لا.
قال: "فإني أصوم" رواه الدارقطني وصحح إسناده ويحكم بالصوم في ذلك من أول النهار فيثاب على جميعه.

وفي أثر حذيفة عند عبد الرزاق أنه قال: من بدا له الصيام بعدما تزول الشمس فليصم، وإليه ذهب جماعة سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو مذهب الحنابلة.
وعبارة المرداوي في تنقيحه: ويصح صوم نفل بنية من النهار مطلقًا نصًّا ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية نصًّا.
وقال مالك: لا يصوم في النافلة إلا أن يبيت لقوله عليه الصلاة والسلام "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" ولحديث "الأعمال بالنيات" فالإمساك أول النهار عمل بلا نيّة وقياسًا على الصلاة إذ نفلها وفرضها في النية سواء.


[ قــ :1841 ... غــ : 1924 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ رَجُلاً يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ: أَنْ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ".
[الحديث 1924 - طرفاه في: 2007، 7265] .

وبالسند قال: ( حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل ( عن يزيد بن أبي عبيد) يزيد من الزيادة وعبيد مصغرًا مولى سلمة بن الأكوع ( عن سلمة بن الأكوع) واسم الأكوع سنان بن عبد الله ( -رضي الله عنه-) ( أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث رجلاً) هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي كما عند أحمد وابن أبي خيثمة ( ينادي في الناس يوم عاشوراء، أن) بفتح الهمزة وفي اليونينية بسكون النون مع فتح

الهمزة ولأبي ذر أن بكسرها مع تشديد النون ( من أكل فليتم) بسكون اللام ويجوز كسرها بلفظ الأمر للغائب والميم مفتوحة تخفيفًا أي ليمسك بقية يومه حرمة للوقت كما يمسك لو أصبح يوم الشك مفطرًا ثم ثبت أنه من رمضان - ( أو) قال ( فليصم) ، شك من الراوي ( ومن لم يأكل فلا يأكل) .

واستدلّ به أبو حنيفة على أن الفرض يجوز بنية من النهار لأن صوم عاشوراء كان فرضًا، وردّ بأنه إمساك لا صوم وبأن عاشوراء لم يكن فرضًا عند الجمهور وبأنه ليس منه أنه لا قضاء عليهم بل في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه.

واستدلّ الجمهور لاشتراط النية في صوم الفرض من الليل بحديث حفصة عند أصحاب السنن أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" وهذا لفظ النسائي، ولأبي داود والترمذي: من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الترمذي والنسائي الموقوف وعمل بظاهر الإسناد جماعة فصححوا الحديث المذكور منهم ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وروى له الدارقطني طريقًا أخرى وقال: رجالها ثقات وظاهره العموم في الصوم نفلاً أو فرضًا وهو محمول على الفرض بقرينة حديث عائشة السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام لها يومًا: هل عندكم من غداء؟ قالت: لا.
قال: فإني إذن أصوم.
قالت: وقال لي يومًا آخر: أعندكم شيء قلت: نعم.
قال: إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم رواه الدارقطني وصحح إسناده فلا تجزئ النية مع طلوع الفجر لظاهر الحديث ولا تختص بالنصف الأخير من الليل لإطلاقه ولو شك في تقدمها الفجر لم يصح صومه لأن الأصل عدم التقدم ولا بد من التبييت لكل يوم لظاهر الحديث ولأن صوم كل يوم عبادة لتخلل اليومين ما يناقض الصوم كالصلاتين يتخللهما السلام.

وقال المالكية: المشهور الاكتفاء بنية واحدة في أوّل ليلة من رمضان لجميعه في حق الحاضر الصحيح وأما المسافر والمريض فلا بدّ لكل منهما من التبييت في كل ليلة ولا بد عند الشافعية من كونها جازمة معينة كالصلاة بخلاف الحنفية فلم يشترطوا التعيين.

وهذا الحديث من الثلاثيات، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الصيام وفي خبر الواحد ومسلم والنسائي في الصوم

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبًا
( باب الصائم) حال كونه ( يصبح جنبًا) هل يصح صومه أم لا.

1925، 1926 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: "كُنْتُ أَنَا وَأَبِي حِينَ دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ ح.


[ قــ :1841 ... غــ : 1926 ]
- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَ مَرْوَانَ أَنَّ عَائِشَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتَاهُ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ..
     وَقَالَ  مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَرِّعَنَّ بِهَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَرِهَ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
ثُمَّ قُدِّرَ لَنَا أَنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ -وَكَانَتْ لأَبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أَرْضٌ- فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا، وَلَوْلاَ مَرْوَانُ أَقْسَمَ عَلَىَّ فِيهِ لَمْ أَذْكُرْهُ لَكَ.
فَذَكَرَ قَوْلَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: كَذَلِكَ حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَهُنَّ أَعْلَمُ"،.

     وَقَالَ  هَمَّامٌ وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْفِطْرِ" وَالأَوَّلُ أَسْنَدُ.
[الحديث 1925 - طرفاه في: 1930، 1931] .
[الحديث 1926 - طرفه في: 1932] .

وبالسند قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي ( عن مالك) الإمام ( عن سمي) بضم السين وفتح الميم وتشديد التحتية ( مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة) القرشي ( أنه سمع) مولاه ( أبا بكر بن عبد الرحمن) راهب قريش ( قال: كنت أنا وأبي) عبد الرحمن بن الحرث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم القرشي المخزومي ابن عم عكرمة بن أبي جهل بن هشام ( حين) ولأبي ذر: حتى ( دخلنا على عائشة وأم سلمة) هند بنت أبي أمية ( ح) للتحويل.

( حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا ( أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: ( أخبرنا شعيب،) هو ابن أبي حمزة ( عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب ( قال: أخبرني) بالإفراد ( أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان) بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن قصي الأموي القرشي ولد بعد الهجرة بسنتين ولم يصح له سماع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولي الخلافة تسعة أشهر وتوفي في رمضان سنة خمس وستين ( أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدركه الفجر وهو) أي والحال أنه ( جنب من) جماع ( أهله) ، وفي رواية يونس عن ابن شهاب عن عروة وأبي بكر بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان يدركه الفجر في رمضان من غير حلم، وللنسائي عنها من غير احتلام وفي لفظ له: كان يصبح جنبًا مني ( ثم يغتسل ويصوم) .
بيانًا للجواز، وإلاّ فالأفضل الغسل قبل الفجر والاحتلام يطلق على الإنزال وقد يقع الإنزال من غير رؤية شيء في المنام وأرادت بالتقييد بالجماع من غير احتلام المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا مفطر.

( وقال) ولابن عساكر فقال ( مروان) بن الحكم ( لعبد الرحمن بن الحارث أقسم بالله لتقرعن) بفتح القاف وتشديد الراء من التقريع وهو التعنيف ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لتفزعن بالفاء الساكنة والزاي المكسورة من الإفزاع أي لتخوفن ( بها) أبي بالمقالة المذكورة ( أبا هريرة) ، وذلك لأن

أبا هريرة كان يرى أن من أصبح جنبًا من جماع لا يصح صومه لحديث الفضل بن عباس في مسلم، وحديث أسامة في النسائي عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من أدركه الفجر جنبًا فلا يصم، وفي النسائي عن أبي هريرة أنه قال: لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم محمد ورب الكعبة قاله ( ومروان يومئذٍ) حاكم ( على المدينة) ، من قبل معاوية بن أبي سفيان ( فقال أبو بكر: فكره ذلك) أي فعل ما قاله مروان من تقريع أبي هريرة وتعنيفه مما كان يراه أبي ( عبد الرحمن.
ثم)
بعد ذلك ( قدّرنا أن نجتمع) بأبي هريرة ( بذي الحليفة) .
ميقات أهل المدينة ( وكانت لأبي هريرة هنالك أرض فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكر لك أمرًا) ، وللكشميهني كما قاله الحافظ ابن حجر: إني أذكر بصيغة المضارع ( ولولا مروان أقسم عليّ فيه لم أذكره لك) .
وللكشميهني كما في الفتح: لم أذكر ذلك ( فذكر) عبد الرحمن له ( قول عائشة وأم سلمة) وفي رواية معمر عن ابن شهاب فتلوّن وجه أبي هريرة ( فقال: كذلك) أي الذي رأيته من كون من أدركه الفجر جنبًا لا يصوم ( حدثني) بالإفراد ( الفضل بن عباس وهو أعلم) .
بما روى والعهدة في ذلك عليه لا عليّ.

وفي رواية النسفيّ عن البخاري كما قاله الحافظ ابن حجر وهن أعلم أي أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذا في رواية معمر، وفي رواية ابن جريج فقال أبو هريرة: أهما قالتاه؟ قال: نعم.
قال: هما أعلم، وهذا يرجح رواية النسفيّ.
وزاد ابن جريج في روايته فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك وترك حديث الفضل وأسامة ورآه منسوخًا وفي قوله تعالى: { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187] دلالة وإشارة إليه وحديث عائشة وأم سلمة يرجح على غيرهما لأنهما ترويان ذلك عن مشاهدة بخلاف غيرهما.

وفي هذا الحديث أربعة من التابعين أبو بكر وأبوه والزهري ومروان.

( وقال همام) هو ابن منبه مما وصله أحمد وابن حبان ( وابن عبد الله بن عمر) قيل هو سالم، وقيل عبد الله، وقيل عبيد الله بالتكبير والتصغير مما وصله عبد الرزاق ( عن أبي هريرة) ( كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر بالفطر) ولابن عساكر: يأمرنا بالفطر.
قال المؤلّف ( والأول) أي حديث عائشة وأم سلمة ( أسند) أي أظهر اتصالاً.
وقال في الفتح يقوى إسنادًا من حيث الرجحان لأنه جاء عنهما من طرق كثيرة جدًّا بمعنى واحد حتى قال ابن عبد البر أنه صح وتواتر، وأما أبو هريرة فأكثر الروايات عنه أنه كان يفتي به ولم يسمع ذلك من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما سمعه عنه بواسطة الفضل وأسامة، وأما حلفه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله، كما مرّ فكأنه لشدة وثوقه بخبرهما يحلف على ذلك وقد رجع عن ذلك.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
[ قــ :1841 ... غــ :1924 ]
- حدّثنا أبُو عاصِمٍ عنْ يَزِيدَ بنِ أبِي عُبَيْدٍ عنْ سَلَمَة بنِ الأكْوَع رَضِي الله عَنْهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعَثَ رَجُلاً يُنادهي فِي النَّاسَ يَوْمَ عاشورَاءَ أنَّ مَنْ أكَلَ فَلْيُتِمَّ أوْ فَلْيَصُمْ ومَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلاَ يَأْكُلْ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي جَوَاز نِيَّة الصَّوْم بِالنَّهَارِ لِأَن قَوْله: (فليتم) .
وَقَوله: (فَلَا يَأْكُل) يدلان على جَوَاز النِّيَّة بِالصَّوْمِ فِي النَّهَار، وَلم يشْتَرط التَّبْيِين، وَهَذَا الحَدِيث من ثلاثيات البُخَارِيّ وَهُوَ خَامِس الثلاثيات لَهُ، وَأَبُو عَاصِم هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد وَيزِيد من الزِّيَادَة ابْن أبي عبيد بتصغير العَبْد مولى سَلمَة بن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع سِنَان بن عبيد الله.
والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مكي بن إِبْرَاهِيم.
وَأخرجه فِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى بن سعيد.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن يحيى.

ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع) وَفِي رِوَايَة يحيى الْقطَّان (عَن يزِيد بن أبي عبيد حَدثنَا سَلمَة بن الْأَكْوَع) كَمَا سَيَأْتِي فِي خبر الْوَاحِد.
قَوْله: (بعث رجلا يُنَادي فِي النَّاس) وَفِي رِوَايَة يحيى: (قَالَ لرجل من أسلم: أذن فِي قَوْمك) .
وَاسم هَذَا الرجل: هِنْد بن أَسمَاء بن حَارِثَة الْأَسْلَمِيّ، وَأخرج حَدِيثه أَحْمد وَابْن أبي حيثمة من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر (عَن خبيب بن هِنْد بن أَسمَاء الْأَسْلَمِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قومِي من أسلم فَقَالَ: مُرقومك أَن يَصُومُوا هَذَا الْيَوْم، يَوْم عَاشُورَاء، فَمن وجدته مِنْهُم قد أكل فِي أول يَوْمه فليصم آخِره) .
وَقد احْتج أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث، وَبِحَدِيث الْبابُُ على صِحَة الصّيام لمن لم ينوِ من اللَّيْل، سَوَاء كَانَ رَمَضَان أَو غَيره لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالصَّوْمِ فِي أثْنَاء النَّهَار، فَدلَّ على أَن النِّيَّة لَا تشْتَرط من اللَّيْل،.

     وَقَالَ  بَعضهم: وَأجِيب بِأَن ذَلِك يتَوَقَّف على أَن صِيَام يَوْم عَاشُورَاء كَانَ وَاجِبا، وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه لم يكن فرضا.
انْتهى.
قلت: روى الشَّيْخَانِ من حَدِيث عَائِشَة، قَالَت: كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تصومه قُرَيْش من الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَصُومهُ، فَلَمَّا قدم الْمَدِينَة صَامَهُ وَأمر بصيامه، فَلَمَّا فرض رَمَضَان.
قَالَ: من شَاءَ صَامَهُ وَمن شَاءَ تَركه) .
فَهَذَا الحَدِيث يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا، وَعَن عَائِشَة وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن سَمُرَة: أَن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء كَانَ فرضا قبل أَن يفْرض رَمَضَان، فَلَمَّا فرض رَمَضَان فَمن شَاءَ صَامَ وَمن شَاءَ ترك، ذكره ابْن شَدَّاد فِي أَحْكَامه.
(وَعَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أرسل إِلَى قرى الْأَنْصَار الَّتِي حول الْمَدِينَة: من كَانَ أصبح صَائِما فليتم صَوْمه، وَمن كَانَ أصبح مُفطرا فليصم بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يكن أكل فليصم) .
مُتَّفق عَلَيْهِ، وَكَانَ صوما وَاجِبا متعنياً..
     وَقَالَ  الْحَافِظ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: فَفِي هَذِه الأثار وجوب صَوْم عَاشُورَاء، وَفِي أمره، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، بصومه بَعْدَمَا أَصْبحُوا، وَأمره بالإمساك بعد مَا أكلُوا دَلِيل على وُجُوبه، إِذا لَا يَأْمر، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي النَّفْل بالإمساك إِلَى آخر النَّهَار بعد الْأكل، وَلَا بصومه لمن لم يصمه.

وَفِيه دَلِيل أَيْضا على أَن من كَانَ عَلَيْهِ صَوْم يَوْم بِعَيْنِه وَلم يكن نوى صَوْمه من اللَّيْل تجزيه النِّيَّة بعد مَا أصبح، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه كَانَ فرضا وَنسخ بِصَوْم رَمَضَان.
فَإِن قلت: يُعَارض مَا ذكرْتُمْ حَدِيث مُعَاوِيَة (أَنه قَالَ على الْمِنْبَر: يَا أهل الْمَدِينَة: أَيْن عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا يَوْم عَاشُورَاء، لم يكْتب الله عَلَيْكُم صايمه فَمن شَاءَ فليصم وَمن شَاءَ فليفطر، وَأَنا صَائِم) .
قلت: بعد النّسخ لم يبْق مَكْتُوبًا علينا، وَلِأَن الْمُثبت أولى من النَّافِي،.

     وَقَالَ  الْقَائِل الْمَذْكُور: وَالَّذِي يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء أَنه، أَي: إِن صَوْم يَوْم عَاشُورَاء لم يكن فرضا، وعَلى تَقْدِير أَنه كَانَ فرضا فقد نسخ بِلَا ريب، فقد نسخ حكمه وشرائطه.
انْتهى.
قلت: هَذَا مُكَابَرَة فَلَا يتَرَجَّح من أَقْوَال الْعلمَاء إلاَّ إِن كَانَ فرضا، لما ذكرنَا من الدَّلَائِل، وَقَوله: فنسخ حكمه وشرائطه غير صَحِيح، أَلا ترى أَن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس قد نسخ وَلم تنسخ سَائِر أَحْكَام الصَّلَاة وشرائطها؟ وَقَوله: وَأمره بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء، لِأَن الْأَمر بالإمساك يحْتَمل أَن يكون لحُرْمَة الْوَقْت.
قلت: الِاحْتِمَال إِذا كَانَ ناشئاً عَن غير دَلِيل لَا يعْتَبر بِهِ فبالاحتمال الْمُطلق لَا يثبت الحكم وَلَا يَنْفِي، ثمَّ اسْتدلَّ هَذَا الْقَائِل فِي قَوْله: الْأَمر بالإمساك لَا يسْتَلْزم الْأَجْزَاء بقوله: كَمَا يُؤمر من قدم من سفر فِي رَمَضَان نَهَارا، وكما يُؤمر من أفطر يَوْم الشَّك، ثمَّ رُؤِيَ الْهلَال، وكل ذَلِك لَا يُنَافِي أَمرهم بِالْقضَاءِ بل قد ورد ذَلِك صَرِيحًا فِي حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن عبد الرَّحْمَن بن سَلمَة عَن عَمه: (إِن أم أسلم أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: صمتم يومكم هَذَا؟ قَالُوا: لَا.
قَالَ: فَأتمُّوا بَقِيَّة يومكم واقضوه) .
قلت: هَذَا الْقيَاس بَاطِل، لِأَن الرمضانية متعينة فِي الصُّورَة الأولى، ونفيت فِي الثَّانِيَة، فَكيف لَا يُؤمر بِالْقضَاءِ بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ.

والْحَدِيث الَّذِي قوَّى كَلَامه بِهِ غير صَحِيح من وُجُوه.
الأول: إِن النَّسَائِيّ أخرجه وَلم يذكر واقضوه،.

     وَقَالَ  عبد الْحق فِي (الْأَحْكَام الْكُبْرَى) وَلَا يَصح هَذَا الحَدِيث فِي الْقَضَاء،.

     وَقَالَ  ابْن حزم فِي (الْمحلى) : لَفْظَة: واقضوا، مَوْضُوعه بِلَا شكّ.
الثَّانِي: إِن الْبَيْهَقِيّ قَالَ عبد الرَّحْمَن: هَذَا مَجْهُول ومختلف فِي اسْم أَبِيه، وَلَا يدْرِي من عَمه،.

     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ: قيل عبد الرحمان بن مسلمة، كَمَا ذكره أَبُو دَاوُد.
وَقيل: ابْن سَلمَة، وَقيل: ابْن الْمنْهَال بن سَلمَة، وَرَوَاهُ ابْن حزم من طَرِيق شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن عبد الرحمان بن الْمنْهَال بن سَلمَة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأسلم: صُومُوا الْيَوْم، قَالُوا: إِنَّا قد أكلنَا، قَالَ: صُومُوا بَقِيَّة يومكم، يَعْنِي عَاشُورَاء) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أخرجهَا ابْن حزم أَيْضا عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة (عَن عبد الرحمان بن مسلمة الْخُزَاعِيّ عَن عَمه، قَالَ: غدونا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة عَاشُورَاء، فَقَالَ لنا: أَصْبَحْتُم صياما؟ قُلْنَا: قد تغدينا يَا رَسُول الله! فَقَالَ: فصوموا بَقِيَّة يومكم، وَلم يَأْمُرهُم بِالْقضَاءِ) .
الثَّالِث: أَن شُعْبَة قَالَ: كنت أنظر إِلَى فَم قَتَادَة، فَإِذا قَالَ: حدثن كتبت، وَإِذا قَالَ: عَن فلَان) أَو قَالَ: فلَان لم أكبه، وَهُوَ مُدَلّس دلّس عَن مجهولين،.

     وَقَالَ  الْكَرَابِيسِي وَغَيره: فَإِذا قَالَ المدلس: حَدثنَا، يكون حجَّة، وَإِذا قَالَ: فلَان قَالَ، أَو: عَن فلَان، لَا يكون حجَّة، فَلَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ، فَإِذا كَانَت الرِّوَايَة، يَعْنِي عَن الثِّقَة الْمَعْرُوف بِالْحِفْظِ والضبط، لَا تكون حجَّة فَكيف تكون حجَّة؟ وَقد رَوَاهُ عَن مَجْهُول؟.

     وَقَالَ  القَاضِي عِيَاض: رِوَايَة: واقضوا، قَاطِعَة لحجة الْمُخَالف، وَنَصّ مَا يَقُوله الْجُمْهُور وجوب اعْتِبَار النِّيَّة من اللَّيْل، وَأَن نِيَّته من النَّهَار غير مُعْتَبرَة ورد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَيفَ يحْتَج بِمَا لَيْسَ بِحجَّة على خَصمه مَعَ علمه، ويعتقد أَنه يخفي، وَذكر مَا ذكرنَا من الْوُجُوه، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَاحْتج الْجُمْهُور لاشْتِرَاط النِّيَّة فِي الصَّوْم من اللَّيْل بِمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن من حَدِيث عبد الله بن عمر عَن أُخْته حَفْصَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يبيت الصّيام من اللَّيْل فَلَا صِيَام لَهُ) ، لفظ النَّسَائِيّ، وَلأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (من لم يجمع الصّيام قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَاخْتلف فِي رَفعه وَوَقفه، وَرجح التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ الْمَوْقُوف بعد أَن أطنب فِي تَخْرِيج طرقه، وَحكى التِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل عَن البُخَارِيّ تَرْجِيح وَقفه، وَعمل بِظَاهِر الْإِسْنَاد جمَاعَة من الْأَئِمَّة فصححوا الحَدِيث الْمَذْكُور مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحكم وَابْن حزم، وروى لَهُ الدَّارَقُطْنِيّ طَرِيقا أُخْرَى،.

     وَقَالَ : رجالها ثِقَات، وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، وَأبْعد من ذَلِك تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض إِذا كَانَ فِي يَوْم بِعَيْنِه كعاشوراء، فتجزي النِّيَّة فِي النَّهَار أَولا فِي يَوْم بِعَيْنِه كرمضان، فَلَا يَجْزِي، إلاَّ بنية من اللَّيْل، وَبَين صَوْم التَّطَوُّع فيجزي فِي اللَّيْل، وَفِي النَّهَار، وَقد تعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ كَلَام غث لَا أصل لَهُ.
انْتهى.
قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حَفْصَة حَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إلاَّ من هَذَا الْوَجْه، يَعْنِي من الْوَجْه الَّذِي رَوَاهُ عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن حَفْصَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من لم يجمع الصيم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ) ، وَفِي بعض النّسخ: تفرد بِهِ يحيى بن أَيُّوب، قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَوْله وَهُوَ أصح، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن الْأَزْهَر عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب،.

     وَقَالَ  النَّسَائِيّ: وَرِوَايَة حَمْزَة الصَّوَاب عندنَا مَوْقُوف وَلم يَصح رَفعه، لِأَن يحيى بن أَيُّوب لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَحَدِيث ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ غير مَحْفُوظ.
وَالله أعلم.

وَقَالَ شَيخنَا: وَأما الْمَوْقُوف الَّذِي ذكر التِّرْمِذِيّ أَنه أصح فقد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) كَذَلِك عَن نَافِع عَن ان عمر قَوْله: وَمن طَرِيقه رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَوْله: وَقد جَاءَ من طرق مَوْقُوفا على حَفْصَة، رَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبيد الله بن عمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة، وَمن رِوَايَة يُونُس وَمعمر وَابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن أَبِيه عَن حَفْصَة.
وَمن رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة عَن حَفْصَة لم يذكر ابْن عمر، وَمن طَرِيق مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عَائِشَة وَحَفْصَة، رَضِي الله تعال عَنْهُمَا، قَوْلهمَا مُرْسلا.

وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عِنْد حَدِيث رَوَاهُ إِسْحَاق بن حَازِم عَن عبد الله ابْن أبي بكر عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا: (لَا صِيَام لمن لم ينومن اللَّيْل) ، وَرَوَاهُ يحيى بن أَيُّوب عَن عبد الله بن أبي بكر عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عَن حَفْصَة مَرْفُوعا، قلت لَهُ: أَيهمَا أصح؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، لِأَن عبد الله بن أبي بكر أدْرك سالما وروى عَنهُ، وَلَا أَدْرِي سمع هَذَا الحَدِيث مِنْهُ أَو سَمعه من الزُّهْرِيّ عَن سَالم؟ وَقد رُوِيَ هَذَا عَن الزُّهْرِيّ عَن حَمْزَة بن عبد الله بن عمر عَن حَفْصَة قَوْلهَا، وَهُوَ عِنْدِي أشبه..
     وَقَالَ  أَبُو عمر: فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اضْطِرَاب.
وَفِيه يحيى بن أَيُّوب الغافقي، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَالصَّوَاب فِي: مَوْقُوف، وَلذَلِك لم يُخرجهُ الشَّيْخَانِ..
     وَقَالَ  أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَذكره أَبُو الْفرج فِي الضُّعَفَاء والمتروكين..
     وَقَالَ  أَحْمد هُوَ سيء الْحِفْظ وهم يردون الحَدِيث بِأَقَلّ من هَذَا، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول الدَّارَقُطْنِيّ، وَهُوَ من الثِّقَات الرفعاء.

وَأما قَول هَذَا الْقَائِل: وَأبْعد من خصّه من الْحَنَفِيَّة بصيام الْقَضَاء وَالنّذر، فَكَلَام سَاقِط لَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن من لم يخص هَذَا الحَدِيث بصيام الْقَضَاء وَالنّذر الْمُطلق، وَصَوْم الْكَفَّارَات يلْزم مِنْهُ النّسخ لمُطلق الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد، فَلَا يجوز ذَلِك، بَيَانه أَن قَوْله تَعَالَى: { } إِلَى قَوْله: { } (الْبَقَرَة: 781) مُبِيح للْأَكْل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي ليَالِي رَمَضَان إِلَى طُلُوع الْفجْر، ثمَّ الْأَمر بالصيام عَنْهَا بعد طُلُوع الْفجْر مُتَأَخّر عَنهُ، لِأَن كلمة: ثمَّ، للتعقيب مَعَ التَّرَاخِي، فَكَانَ هَذَا أمرا بالصيام متراخياً عَن أول النَّهَار، وَالْأَمر بِالصَّوْمِ أَمر بِالنِّيَّةِ إِذْ لَا صَوْم شرعا بِدُونِ النِّيَّة، فَكَانَ أمرا بِالصَّوْمِ بنية مُتَأَخِّرَة عَن أول النَّهَار، وَقد أَتَى بِهِ، فَيخرج عَن الْعهْدَة.

وَفِيه: دلَالَة أَن الْإِمْسَاك فِي أول النَّهَار يَقع صوما، وُجدت فِيهِ النِّيَّة أَو لم تُوجد، لِأَن إتْمَام الشَّيْء يقتضى سَابِقَة وجود بعض شَيْء مِنْهُ، فَإِذا شرطنا النِّيَّة فِي أول اللَّيْل بِخَبَر الْوَاحِد يكون نسخا لمُطلق الْكتاب، فَلَا يجوز ذَلِك، فحينئذٍ يحمل ذَلِك على الصّيام الْخَاص الْمعِين، وَهُوَ الَّذِي ذَكرْنَاهُ، لِأَن مَشْرُوع الْوَقْت فِي هَذَا متنوع، فَيحْتَاج إِلَى التَّعْيِين بِالنِّيَّةِ، بِخِلَاف شهر رَمَضَان لِأَن الصَّوْم فِيهِ غير متنوع، فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى التَّعْيِين، وَكَذَلِكَ النّذر الْمعِين فَهَذَا هُوَ السِّرّ الْخَفي فِي هَذَا التَّخْصِيص الَّذِي استبدعه من لَا وقُوف لَهُ على دقائق الْكَلَام، ومدارك اسْتِخْرَاج الْمعَانِي من النُّصُوص، وَلم يكتف الْمُدَّعِي بعد هَذَا الْكَلَام لبعد إِدْرَاكه حَتَّى ادّعى الأبعدية فِي تَفْرِقَة الطَّحَاوِيّ بَين صَوْم الْفَرْض وَصَوْم التَّطَوُّع، فَهَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَة لِأَن حَامِل الطَّحَاوِيّ على هَذِه التَّفْرِقَة مَا رَوَاهُ مُسلم، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، (قَالَت: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة { هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ قَالَت: فَقلت: لَا يَا رَسُول الله مَا عندنَا شَيْء} قَالَ: فَإِنِّي صَائِم) ، وبنحوه روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل نقل عَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ كلَاما لَا يُوجد أسمج مِنْهُ، لِأَن من يتعقب كَلَام أحد إِن لم يذكر وَجهه بِمَا يقبله الْعلمَاء، يكون كَلَامه هُوَ غثاء لَا أصل لَهُ، وَأجَاب بعض أَصْحَابنَا عَن الحَدِيث الْمَذْكُور، أَعنِي: حَدِيث حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بعد التَّسْلِيم بِصِحَّتِهِ وسلامته عَن الِاضْطِرَاب بِأَنَّهُ مَحْمُول على نفي الْفَضِيلَة والكمال، كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إلاَّ فِي الْمَسْجِد) .
<"

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  (بابُُ الصَّائِمِ يُصْبِحُ جُنُبا)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان حكم الصَّائِم حَال كَونه يصبح جنبا، هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ وَأطلق التَّرْجَمَة للْخلاف الْمَوْجُود فِيهِ.



[ قــ :1841 ... غــ :1926 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عَن سُمَيٍّ مَوْلَى أبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحارِثِ بنِ هِشامِ بنِ الْمُغِيرَةِ أنَّهُ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ قَالَ كُنتُ أنَا وَأبي حينَ دَخَلْنَا عَلَى عائِشَةَ وأمِّ سَلَمَةَ (ح) حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبَرَنِي أبُو بَكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ أنَّ أباهُ عَبْدَ الرَّحْمانِ أخْبَرَ مَرْوَانَ أنَّ عائِشَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ أخْبَرَتاهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهْوَ جُنُبٌ مِنْ أهْلهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ويَصُومُ وقالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الحَارِثِ أُقْسِمُ بِاللَّه لَتُقَرِّعَنَّ بِها أبَا هُرَيْرَةَ ومَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ عَلَى المَدِينَةِ فَقَالَ أبُو بَكْرٍ فَكَرِهَ ذلِكَ عَبْدُ الرَّحْمانِ ثُمَّ قدِّرَ لَنا أنْ نَجْتَمِعَ بِذِي الحُلَيفَةِ وكَانَتْ لأِبِي هُرَيْرَةَ هُنَالِكَ أرْضٌ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمانِ لأِبِي هُرَيْرَةَ إنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أمْرا ولَوْلاَ مَرْوَانُ أقْسَمَ عَلَيَّ فِيهِ لَمْ أذْكُرْهُ لَكَ فذَكَرَ قَوْلَ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ كذلِكَ حدَّثني الْفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ وهوَ أعْلَمُ.


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) .

ذكر رِجَاله وهم عشرَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي.
الثَّانِي: مَالك بن أنس، الثَّالِث: سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي الْأَذَان.
الرَّابِع: أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي، رَاهِب قُرَيْش، مر فِي الصَّلَاة.
الْخَامِس: عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث ابْن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم الْقرشِي المَخْزُومِي، ابْن عَم عِكْرِمَة بن أبي جهل بن هِشَام، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين.
السَّادِس: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع.
السَّابِع: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة.
الثَّامِن: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
التَّاسِع: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة.
الْعَاشِر: أم الْمُؤمنِينَ أم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة.

ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين، وبصيغة التَّثْنِيَة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: السماع فِي مَوضِع.
وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين.
وَفِيه: أَبُو الْيَمَان وَشُعَيْب حمصيان والبقية كلهم مدنيون.
وَفِيه: أَرْبَعَة من التَّابِعين وهم: أَبُو بكر وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن وَالزهْرِيّ ومروان.

ذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ: فِيهِ اخْتِلَاف كثير جدا على أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَغَيره، وَقد اخْتلف فِيهِ على الزُّهْرِيّ أَيْضا.
فَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، وَحَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن مَسْرُوق عَنْهَا بِمَعْنَاهُ، وَقد اخْتلف فِيهِ على الشّعبِيّ أَيْضا، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ قصَّة لم يذكرهَا التِّرْمِذِيّ، وَذكرهَا مُسلم من طَرِيق ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أبي بكر، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يقص، يَقُول فِي قصصه: من أدْركهُ الْفجْر حنبا فَلَا يصم.
قَالَ: فَذكر ذَلِك أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث لِأَبِيهِ، فَأنْكر ذَلِك، فَانْطَلق عبد الرَّحْمَن وَانْطَلَقت مَعَه حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة، فَسَأَلَهُمَا عبد الرَّحْمَن عَن ذَلِك فكلتاهما قَالَت: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصبح جنبا من غير حلم ثمَّ يَصُوم.
قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلنَا على مَرْوَان، فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْهِ إلاَّ مَا ذهبت إِلَى أبي هُرَيْرَة فَرددت عَلَيْهِ مَا يَقُول، فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبُو بكر حَاضر ذَلِك كُله، قَالَا: فَذكر ذَلِك لَهُ عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة لَهما: قالتاه لَك؟ قَالَ: نعم قَالَ: هما أعلم، ثمَّ رد أَبُو هُرَيْرَة مَا كَانَ يَقُول فِي ذَلِك إِلَى الْفضل بن عَبَّاس، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: سَمِعت ذَلِك من الْفضل، وَلم أسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فَرجع أَبُو هُرَيْرَة عَمَّا كَانَ يَقُول من ذَلِك) الحَدِيث، هَكَذَا ذكره مُسلم لم يرفع قَول أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أدْركهُ الصُّبْح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ) .
وَذكر الحَدِيث بِنَحْوِهِ، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ أخصر مِنْهُ من رِوَايَة ابْن شهَاب إِلَى قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَهُوَ أعلم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة أبي عِيَاض عَن عبد الرَّحْمَن ابْن الْحَارِث بن هِشَام، فَأَتَاهُ فَأخْبرهُ، قَالَ: هن أعلم يُرِيد أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يذكر أَبُو هُرَيْرَة فِي هَذِه الرِّوَايَة من حَدثهُ، وَهَكَذَا النَّسَائِيّ أَيْضا من رِوَايَة ابْن أبي ذِئْب عَن عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده أَن عَائِشَة أخْبرته: لَيْسَ فِيهِ ذكر أم سَلمَة، وَفِيه: فَذهب عبد الرَّحْمَن فَأخْبرهُ، بذلك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَهِيَ أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منا، إِنَّمَا كَانَ أُسَامَة بن زيد حَدثنِي ذَلِك، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة أَن الْمخبر لأبي هُرَيْرَة أُسَامَة، وَقد تقدم أَنه الْفضل، وَفِي رِوَايَة للنسائي أخبرنيه مخبر، وَفِي رِوَايَة لَهُ: فَقَالَ: هَكَذَا كنت أَحسب، وَلم يحكه عَن أحد، وَفِي رِوَايَة للنسائي من رِوَايَة الحكم عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ: عَائِشَة إِذا أعلم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلابْن حبَان من رِوَايَة عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه فَقَالَ هما أعلم يُرِيد عَائِشَة وَأم سَلمَة وَفِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق من رِوَايَة الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: هَكَذَا حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس وَهن أعلم.
وَفِيه: أَيْضا من الِاخْتِلَاف مَا يَقْتَضِي أَن عبد الرَّحْمَن لم يشافه عَائِشَة، وَأم سَلمَة بالسؤال عَن ذَلِك، فَفِي النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي عِيَاض، (عَن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، قَالَ: أَرْسلنِي مَرْوَان إِلَى عَائِشَة فأتيتها، فَلَقِيت غلامها ذكْوَان فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك.
وَفِيه: (فأرسلني إِلَى أم سَلمَة فَلَقِيت غلامها نَافِعًا فأرسلته إِلَيْهَا فَسَأَلَهَا عَن ذَلِك) الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا أَن عبد الرَّحْمَن شافهها بالسؤال أَكثر وَأَصَح، وَمَعَ هَذَا فَيجوز أَن يكون أرسل الْمولى أَولا ثمَّ أَتَى هُوَ فشافهته، أَو أَن الْمولى كَانَ وَاسِطَة فِي الدُّخُول عَلَيْهَا مَعَ عبد الرَّحْمَن.

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحدثنَا أَبُو الْيَمَان) ، عطف على قَوْله: (حَدثنَا عبد الله بن مسلمة) ، فَأخْرجهُ من طَرِيقين.
وَأخرجه بَقِيَّة الْأَئِمَّة السِّتَّة خلا ابْن مَاجَه من طرق عديدة.
قَوْله: (كنت أَنا وَأبي حَتَّى دَخَلنَا على عَائِشَة وَأم سَلمَة) ، هَكَذَا أوردهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الطَّرِيق من رِوَايَة مَالك مُخْتَصرا، ثمَّ ذكر الطَّرِيق الثَّانِي: عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن عبد الله، وَرُبمَا يظنّ ظان أَن سياقهما وَاحِد وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ يذكر لفظ مَالك بَعْدَمَا بَين، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر مَرْوَان وَلَا قصَّة أبي هُرَيْرَة، نعم قد رَوَاهُ مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن سمي مطولا، وَرَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن مُخْتَصرا، وَأخرجه مُسلم من هَذَا الْوَجْه،.

     وَقَالَ : حَدثنَا يحيى بن يحيى، قَالَ: قَرَأت على مَالك عَن عبد ربه بن سعيد عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام (عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة زَوْجَتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهُمَا قَالَتَا: إِن كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ليُصبح جنبا من جماع غير احْتِلَام فِي رَمَضَان ثمَّ يَصُوم) .
قَوْله: (إِن أَبَاهُ عبد الرَّحْمَن أخبر مَرْوَان) هُوَ مَرْوَان بن عبد الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس بن قصي الْقرشِي الْأمَوِي، أَبُو عبد الْملك، ولد بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وَقيل: بِأَرْبَع، وَلم يَصح لَهُ سَماع من النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،.

     وَقَالَ  مَالك: ولد يَوْم أحد، وَقيل: يَوْم الخَنْدَق، وَقيل: ولد بِمَكَّة، وَقيل: بِالطَّائِف وَلم ير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل لما نفى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهُ الحكم، وَكَانَ مَعَ أَبِيه حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فردهما واستكتب عُثْمَان مَرْوَان وضمه إِلَيْهِ، وَاسْتَعْملهُ مُعَاوِيَة على الْمَدِينَة وَمَكَّة والطائف، ثمَّ عَزله عَن الْمَدِينَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين، وَلما مَاتَ مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة وَلم يعْهَد إِلَى أحد بَايع النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، ثمَّ مَاتَ، وَكَانَت خِلَافَته تِسْعَة أشهر، مَاتَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَسِتِّينَ، روى لَهُ الْجَمَاعَة سوى مُسلم.
قَوْله: (كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب) أَي: وَالْحَال أَنه جنب من أَهله، ثمَّ يغْتَسل ويصوم، وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن عَائِشَة: كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر فِي رَمَضَان من غير حلم) ، وَسَيَأْتِي بعد بابَُُيْنِ.
وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق عبد الْملك بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن (عَن أَبِيه عَنْهَا: كَانَ يصبح جنبا من غير احْتِلَام ثمَّ يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) .
وَفِي لفظ لَهُ: (كَانَ يصبح جنبا مني فيصوم ويأمرني بالصيام) .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي هَذَا فَائِدَتَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ يُجَامع فِي رَمَضَان وَيُؤَخر الْغسْل إِلَى بعد طُلُوع الْفجْر بَيَانا للْجُوَاز.
وَالثَّانيَِة: أَن ذَلِك كَانَ من جماع لَا من احْتِلَام، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَحْتَلِم، إِذْ الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم مِنْهُ قيل فِي قَول عَائِشَة من غير احْتِلَام إِشَارَة إِلَى جَوَاز الِاحْتِلَام عَلَيْهِ وَإِلَّا لما كَانَ لاستثنائه معنى ورد بِأَن الِاحْتِلَام من الشَّيْطَان وَهُوَ مَعْصُوم عَنهُ، وَلَكِن الِاحْتِلَام يُطلق على الْإِنْزَال، وَقد يَقع الْإِنْزَال من غير رُؤْيَة شَيْء فِي الْمَنَام.

قَوْله: (فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث: أقسم بِاللَّه لتقرعن بهَا أَبَا هُرَيْرَة) .
وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عِكْرِمَة بن خَالِد (عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: إلقَ أَبَا هُرَيْرَة فحدثه بِهَذَا، فَقَالَ: إِنَّه لجاري وَإِنِّي لأكْره أَن استقبله بِمَا يكره، فَقَالَ: أعزم عَلَيْك لتلقينه) ، وَمن طَرِيق عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن لمروان: غفر الله لَك، إِنَّه لي صديق وَلَا أحب أَن أرد عَلَيْهِ) قَوْله: (وَكَانَ سَبَب ذَلِك أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يُفْتى أَن من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، على مَا رَوَاهُ مَالك عَن سمي (عَن أبي بكر أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من أصبح جنبا أفطر ذَلِك الْيَوْم) ، وَفِي رِوَايَة للنسائي من طَرِيق المَقْبُري: (كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي النَّاس: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم ذَلِك الْيَوْم) ، وَإِلَيْهِ كَانَ يذهب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَعُرْوَة بن الزبير وطاووس، وَلَكِن أَبَا هُرَيْرَة لم يثبت على قَوْله هَذَا حَيْثُ رد الْعلم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ: عَائِشَة أعلم مني، أَو قَالَ: أعلم بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منِّي..
     وَقَالَ  أَبُو عمر: روى عَن أبي هُرَيْرَة مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن ثَوْبَان الرُّجُوع عَن ذَلِك، وَحَكَاهُ الْحَازِمِي عَن سعيد بن الْمسيب،.

     وَقَالَ  الْخطابِيّ وَابْن الْمُنْذر: أحسن مَا سَمِعت من خبر أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه مَنْسُوخ، لِأَن الْجِمَاع كَانَ محرما على الصَّائِم بعد النّوم، فَلَمَّا أَبَاحَ الله تَعَالَى الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفجْر جَازَ للْجنب إِذا أصبح قبل أَن يغْتَسل أَن يَصُوم لارْتِفَاع الْحَظْر، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُفْتِي بِمَا سَمعه من الْفضل على الْأَمر الأول وَلم يعلم بالنسخ، فَلَمَّا سمع خبر عَائِشَة وَأم سَلمَة رَجَعَ إِلَيْهِ.
قَوْله: (لتفزعن) ، بِالْفَاءِ وَالزَّاي من الْفَزع وَهُوَ الْخَوْف، أَي: لتخيفنه بِهَذِهِ الْقِصَّة الَّتِي تخَالف فتواه، وَقد أكد هَذَا بِاللَّامِ وَالنُّون الْمُشَدّدَة، وَهَذَا كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني: (تقرعن) ، من القرع بِالْقَافِ وَالرَّاء أَي لتقرعن أَبَا هُرَيْرَة بِهَذِهِ الْقِصَّة، يُقَال: قرعت بِكَذَا، سمْعَ فلَان: إِذا أعلمته إعلاما صَرِيحًا..
     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: ويروى (لتعرفن) ، من التَّعْرِيف.
قَوْله: (ومروان يَوْمئِذٍ على الْمَدِينَة) ، أَي: حَاكما عَلَيْهَا من جِهَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان.
قَوْله: (فكره ذَلِك عبد الرَّحْمَن) ، أَي: فكره عبد الرَّحْمَن فعل مَا قَالَه مَرْوَان من قرع أبي هُرَيْرَة وإفزاعه فِيمَا كَانَ يُفْتِي بِهِ.
قَوْله: (ثمَّ قدر لنا) أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: ثمَّ بعد ذَلِك قدر الله لنا الِاجْتِمَاع بِذِي الحليفة، وَهُوَ الْموضع الْمَعْرُوف، وَهُوَ مِيقَات أهل الْمَدِينَة وَكَانَ لأبي هُرَيْرَة هُنَالك أَي: فِي ذِي الحليفة أَرض، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة هُنَاكَ فِي ذَلِك الْوَقْت.
فَإِن قلت: فَفِي رِوَايَة مَالك: (فَقَالَ مَرْوَان لعبد الرَّحْمَن: أَقْسَمت عَلَيْك لتركبن دَابَّتي فَإِنَّهَا بِالْبابُُِ، ولتذهبن إِلَى أبي هُرَيْرَة فَإِنَّهُ بأرضه بالعقيق، فلتخبرنه، فَركب عبد الرَّحْمَن وَركبت مَعَه) ، أَي: قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن: وَركبت مَعَ عبد الرَّحْمَن، فَهَذِهِ تخَالف رِوَايَة الْكتاب، فَإِن العقيق غير ذِي الحليفة، لِأَن العقيق وَاد بِظَاهِر الْمَدِينَة مسيل للْمَاء، وَهُوَ الَّذِي ورد ذكره فِي الحَدِيث أَنه وادٍ مبارك، وكل مسيل شقَّه مَاء السَّيْل فَهُوَ عقيق، وَالْجمع أعقة.
قلت: لَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ من حَيْثُ إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَت لَهُ أَرض أَيْضا بالعقيق، فَالظَّاهِر أَن أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا أَبَا هُرَيْرَة للاجتماع لَهُ امتثالاً لأمر مَرْوَان، فَأتيَا إِلَى العقيق بِنَاء على أَنه هُنَاكَ فَلم يجداه، فذهبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ.
فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر: فَقَالَ مَرْوَان: عزمت عَلَيْكُمَا لما ذهبتما إِلَى أبي هُرَيْرَة، قَالَ: فلقينا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بابُُ الْمَسْجِد قلت: الْجَواب الْحسن هُنَا أَن يُقَال: المُرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد ذِي الحليفة، لأَنهم ذكرُوا أَن بِذِي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
     وَقَالَ  بَعضهم: الظَّاهِر أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِد أبي هُرَيْرَة بالعقيق لَا الْمَسْجِد النَّبَوِيّ.
قلت: سُبْحَانَ الله مَا أبعد هَذَا من مَنْهَج الصَّوَاب، لِأَنَّهُ قَالَ أَولا فِي التَّوْفِيق بَين قَوْله: بِذِي الحليفة، وَقَوله: بالعقيق: يحْتَمل أَن يَكُونَا يَعْنِي: أَبَا بكر وأباه عبد الرَّحْمَن قصدا إِلَى العقيق بِنَاء على أَن أَبَا هُرَيْرَة فِيهَا فَلم يجداه، قَالَ: ثمَّ وجداه بِذِي الحليفة، وَكَانَ لَهُ بهَا أَيْضا أَرض، وَمعنى كَلَامه: أَنَّهُمَا لما لم يجداه بالعقيق ذَهَبا إِلَى ذِي الحليفة فوجداه هُنَاكَ عِنْد بابُُ الْمَسْجِد، فَيلْزم من مُقْتَضى كَلَامه أَنهم عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق ولاقياه فِيهَا عِنْد بابُُ الْمَسْجِد، وَهَذَا كَلَام خَارج أَجْنَبِي عَن مُقْتَضى معنى التَّرْكِيب، لأَنهم لَو كَانُوا عَادوا من ذِي الحليفة إِلَى العقيق، كَيفَ كَانَ أَبُو بكر وَعبد الرَّحْمَن يَقُولَانِ: لَقينَا أَبَا هُرَيْرَة عِنْد بابُُ الْمَسْجِد؟ وَالْحَال أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ مَعَهُمَا على مُقْتَضى كَلَامه؟ ثمَّ ذكر هَذَا الْقَائِل وَجها آخر أبعد من الأول، حَيْثُ قَالَ: أَو يجمع بِأَنَّهُمَا التقيا بالعقيق، فَذكر لَهُ عبد الرَّحْمَن الْقِصَّة مجملة، أَو لم يذكرهَا، بل شرع فِيهَا ثمَّ لم يتهيأ لَهُ ذكر تفصيلها وَسَمَاع جَوَاب أبي هُرَيْرَة إلاَّ بعد أَن رجعا إِلَى الْمَدِينَة، وأرادا دُخُول الْمَسْجِد النَّبَوِيّ.
قلت: الَّذِي حمله على هَذَا التَّفْسِير تَفْسِيره الْمَسْجِد: بِمَسْجِد العقيق، وَلَو فسره بِمَسْجِد ذِي الحليفة لاستراح وأراح، على أَنا نقُول: من قَالَ: إِنَّه كَانَ لأبي هُرَيْرَة مَسْجِد بالعقيق، وَأما الْمَسْجِد الَّذِي بِذِي الحليفة فقد نَص عَلَيْهِ أهل السّير والإخباريون، وَلَا دلَالَة أصلا فِي الحَدِيث على هَذَا التَّوْجِيه الَّذِي ذكره، وَلَا قَالَ بِهِ أحد قبله.
قَوْله: (إِنِّي ذَاكر أمرا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِنِّي أذكر لَك) ، بِصِيغَة الْمُضَارع.
قَوْله: (لم أذكرهُ لَك) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (لم أذكر ذَلِك) .
قَوْله: (كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس) ، وَقد أحَال أَبُو هُرَيْرَة فِيهِ مرّة على الْفضل، وَمرَّة على أُسَامَة بن زيد فِيمَا رَوَاهُ عمر بن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه عَن جده، وَمرَّة قَالَ: أخبرنيه مخبر، وَمرَّة قَالَ: حَدثنِي فلَان وَفُلَان، فِيمَا رَوَاهُ ابْن حبَان عَن عبد الْملك بن أبي بكر عَن أَبِيه عَنهُ على مَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لَا وَرب هَذَا الْبَيْت، مَا أَنا قلت: من أدْرك الصُّبْح جنبا فَلَا يصم مُحَمَّد، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرب الْكَعْبَة قَالَه.
ثمَّ حَدَّثَنِيهِ الْفضل) .
قَوْله: (وَهُوَ أعلم) أَي: الْفضل أعلم مني بِمَا روى، والعهدة عَلَيْهِ فِي ذَلِك لَا عَليّ.

ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: بَيَان الحكم الَّذِي بوب الْبابُُ لأَجله.
وَفِيه: دُخُول الْفُقَهَاء على السُّلْطَان ومذاكرتهم لَهُ بِالْعلمِ.
وَفِيه: مَا كَانَ عَلَيْهِ مَرْوَان من الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ومسائل الدّين، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ من الدُّنْيَا، ومروان عِنْدهم أحد الْعلمَاء وَكَذَلِكَ ابْنه عبد الْملك.
وَفِيه: مَا يدل على أَن الشَّيْء إِذا تنوزع فِيهِ رد إِلَى من يظنّ أَنه يُوجد عِنْده علم مِنْهُ، وَذَلِكَ أَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم النَّاس بِهَذَا الْمَعْنى بعده.
وَفِيه: أَن من كَانَ عِنْده علم فِي شَيْء وَسمع بِخِلَافِهِ كَانَ عَلَيْهِ إِنْكَاره، من ثِقَة سمع ذَلِك أَو غَيره، حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ صِحَة خلاف مَا عِنْده.
وَفِيه: أَن الْحجَّة القاطعة عِنْد الِاخْتِلَاف فِيمَا لَا نَص فِيهِ من الْكتاب وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: إِثْبَات الْحجَّة فِي الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد الْعدْل وَأَن الْمَرْأَة فِي ذَلِك كَالرّجلِ سَوَاء، وَأَن طَرِيق الْإِخْبَار فِي هَذَا غير طَرِيق الشَّهَادَات.
وَفِيه: طلب الْحجَّة وَطلب الدَّلِيل والبحث على الْعلم حَتَّى يَصح فِيهِ وَجه، أَلا ترى أَن مرواه لما أخبرهُ عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث عَن عَائِشَة وَأم سَلمَة بِمَا أخبرهُ بِهِ من هَذَا الحَدِيث، بعث إِلَى أبي هُرَيْرَة طَالبا للحجة وباحثا عَن موقعها ليعرف من أَيْن قَالَ أَبُو هُرَيْرَة مَا قَالَه من ذَلِك؟ وَفِيه: اعْتِرَاف الْعَالم بِالْحَقِّ وإنصافه إِذا سمع الْحجَّة، وَهَكَذَا أهل الْعلم وَالدّين أولو إنصاف واعتراف.
وَفِيه: دَلِيل على تَرْجِيح رِوَايَة صَاحب الْخَبَر إِذا عَارضه حَدِيث آخر، وترجيح مَا رَوَاهُ النِّسَاء مِمَّا يخْتَص بِهن إِذا خالفهن فِيهِ الرِّجَال، وَكَذَلِكَ الْأَمر فِيمَا يخْتَص بِالرِّجَالِ على مَا أحكمه الأصوليون فِي: بابُُ التَّرْجِيح للآثار.
وَفِيه: حسن الْأَدَب مَعَ الأكابر وَتَقْدِير الِاعْتِذَار قبل تَبْلِيغ مَا يظنّ الْمبلغ أَن الْمبلغ يكرههُ.

وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أصبح جنبا وَهُوَ يُرِيد الصَّوْم: هَل يَصح صَوْمه أم لَا؟ على سَبْعَة أَقْوَال: الأول: أَن الصَّوْم صَحِيح مُطلقًا فرضا كَانَ أَو تَطَوّعا أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا أَو لنوم أَو نِسْيَان، لعُمُوم الحَدِيث، وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو ذَر وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم..
     وَقَالَ  أَبُو عمر: إِنَّه الَّذِي عَلَيْهِ جمَاعَة فُقَهَاء الْأَمْصَار بالعراق والحجاز أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار، مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وأصحابهم وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَابْن علية وَأَبُو عُبَيْدَة وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَجَمَاعَة من أهل الحَدِيث.
الثَّانِي: أَنه لَا يَصح صَوْم من أصبح جنبا مُطلقًا، وَبِه قَالَ الْفضل بن عَبَّاس وَأُسَامَة بن زيد وَأَبُو هُرَيْرَة، ثمَّ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَة عَنهُ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين أَن يُؤَخر الْغسْل عَالما بجنابته أم لَا، فَإِن علم وأخره عمدا لم يَصح وإلاَّ صَحَّ، رُوِيَ ذَلِك عَن طَاوُوس وَعُرْوَة بن الزبير وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ،.

     وَقَالَ  صَاحب (الْإِكْمَال) : وَمثله عَن أبي هُرَيْرَة.
الرَّابِع: التَّفْرِقَة بَين الْفَرْض وَالنَّفْل فَلَا يجْزِيه فِي الْفَرْض ويجزيه فِي النَّفْل، رُوِيَ ذَلِك عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَيْضا، حَكَاهُ صَاحب (الْإِكْمَال) عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحكى أَبُو عمر عَن الْحسن بن حَيّ أَنه: كَانَ يسْتَحبّ لمن أصبح جنبا فِي رَمَضَان أَن يَقْضِيه، وَكَانَ يَقُول: يَصُوم الرجل تَطَوّعا وَإِن أصبح جنبا فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ.
الْخَامِس: أَن يتم صَوْمه ذَلِك الْيَوْم ويقضيه.
رُوِيَ ذَلِك عَن سَالم بن عبد الله وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَيْضا وَعَطَاء بن أبي رَبَاح.
السَّادِس: أَنه يسْتَحبّ الْقَضَاء فِي الْفَرْض دون النَّفْل، حَكَاهُ فِي (الاستذكار) عَن الْحسن بن صَالح بن حَيّ.
السَّابِع: أَنه لَا يبطل صَوْمه إلاَّ أَن تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس قبل أَن يغْتَسل وَيُصلي، فَيبْطل صَوْمه، قَالَه ابْن حزم بِنَاء على مذْهبه فِي أَن الْمعْصِيَة عمدا تبطل الصَّوْم.

فَإِن قلت: حَدِيث الْفضل فِيهِ: أَن من أصبح جنبا فَلَا يَصُوم، وَحَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِيهِ حِكَايَة فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يصبح جنبا ثمَّ يَصُوم، فَهَلا جمعتم بَين الْحَدِيثين بِحمْل حَدِيثهمَا على أَنه من الخصائص، وَحَدِيث الْفضل لغيره من الْأمة؟ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي حديثيهما أَنه أخر الْغسْل عَن طُلُوع الْفجْر عمدا، فَلَعَلَّهُ نَام عَن ذَلِك.
قلت: الأَصْل عدم التَّخْصِيص، وَمَعَ ذَلِك فَفِي الحَدِيث التَّصْرِيح بِعَدَمِ الْخُصُوص، فروى مَالك عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن معمر عَن أبي يُونُس، مولى عَائِشَة، (عَن عَائِشَة: أَن رجلا قَالَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ وَاقِف على الْبابُُ وَأَنا أسمع: يَا رَسُول الله { إِنِّي أصبح جنبا، وَأَنا أُرِيد الصّيام} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَأَنا أصبح جنبا وَأَنا أُرِيد الصّيام، فأغتسل وَأَصُوم، فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا رَسُول الله إِنَّك لست مثلنَا، قد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر، فَغَضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

     وَقَالَ : إِنِّي أَرْجُو أَن أكون أخشاكم لله، وَأعْلمكُمْ بِمَا اتقِي) .
وَمن طَرِيق مَالك أخرجه أَبُو دَاوُد، وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ هَمَّامٌ وابْنُ عَبْدِ الله بنِ عُمرَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ كانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يأمُرُ بالْفِطْرِ والأوَّلُ أسْندُ همام هُوَ ابْن مُنَبّه الصَّنْعَانِيّ، وَقد مر فِي: بابُُ حسن إِسْلَام الْمَرْء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَحْمد وَابْن حبَان من طَرِيق معمر عَنهُ بِلَفْظ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا نُودي للصَّلَاة صَلَاة الصُّبْح أحدكُم جنب فَلَا يصم يَوْمئِذٍ) .
قَوْله: (وَابْن عبد الله) ، بِالرَّفْع عطف على همام، وَكَانَ لعبد الله بنُون سِتَّة.
قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِابْن عبد الله هُنَا هُوَ سَالم لِأَنَّهُ يروي عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قلت: الْجَزْم بِأَنَّهُ سَالم بن عبد الله غير صَحِيح، لِأَن فِيهِ اخْتِلَافا، فَقيل: هُوَ عبد الله بن عمر، وَقيل: هُوَ عبيد الله بن عبد الله بِالتَّكْبِيرِ والتصغير.
فِي اسْم الابْن، وَلأَجل هَذَا الِاخْتِلَاف لم يسمه البُخَارِيّ صَرِيحًا، وَأما تَعْلِيق ابْن عبد الله بن عمر فوصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن ابْن شهَاب عَن ابْن عبد الله بن عمر عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ، فَقيل: قد اخْتلف على الزُّهْرِيّ فِي اسْمه، فَقَالَ شُعَيْب عَنهُ: أَخْبرنِي عبد الله بن عبد الله بن عمر، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْمُرنَا بِالْفطرِ إِذا أصبح الرجل جنبا) ، أخرجه النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُسْند الشاميين،.

     وَقَالَ  عقيل، عَنهُ: عَن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بِهِ، فَاخْتلف على الزُّهْرِيّ، هَل هُوَ عبد الله بِالتَّكْبِيرِ أَو عبيد الله بِالتَّصْغِيرِ.
قَوْله: (وَالْأول أسْند) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي حَدِيث أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ أسْند، أَي: أصح إِسْنَادًا.
قلت: لَيْسَ المُرَاد بقوله: أسْند، أَي: أصح لِأَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق..
     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: وَالْأول أسْند، يُرِيد وَالله أعلم أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مُخْتَلف فِي إِسْنَاده، فَلَيْسَ فِي أحد من الصَّحِيحَيْنِ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا قَالَ: كَذَلِك حَدثنِي الْفضل بن عَبَّاس، وَقد ذكرنَا أَن أَبَا هُرَيْرَة أحَال فِيهِ عَلَيْهِ وعَلى غَيره، تَارَة بتصريح وَتارَة بإبهام..
     وَقَالَ  الدَّارَقُطْنِيّ، مَعْنَاهُ أظهر إِسْنَادًا وَأبين فِي الِاتِّصَال..
     وَقَالَ  ابْن التِّين: أَي الطَّرِيق الأول أوضح رفعا..
     وَقَالَ  بَعضهم مَعْنَاهُ أقوى إِسْنَادًا، لِأَن حَدِيث عَائِشَة وَأم سَلمَة فِي ذَلِك جَاءَ عَنْهُمَا من طرق كَثِيرَة جدا بِمَعْنى وَاحِد، حَتَّى قَالَ ابْن عبد الْبر: إِنَّه صَحَّ وتواتر، وَأما أَبُو هُرَيْرَة فَأكْثر الرِّوَايَات عَنهُ أَنه كَانَ يُفْتِي بِهِ.
قلت: قد ذكرنَا الْآن أَن الْإِسْنَاد إِلَى أبي هُرَيْرَة هُوَ الْإِسْنَاد إِلَى أُمِّي الْمُؤمنِينَ فِي أَكثر الطّرق، فَإِن قلت: كَيفَ هَذَا وَقد روى أَبُو عمر من رِوَايَة عَطاء بن مينا، (عَن أبي هُرَيْرَة، أَنه قَالَ: كنت حدثتكم: من أصبح جنبا فقد أفطر، وَإِن ذَلِك من كيس أبي هُرَيْرَة) ؟ قلت: لَا يَصح ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة لِأَنَّهُ من رِوَايَة عمر بن قيس، وَهُوَ مَتْرُوك، وَذكر ابْن خُزَيْمَة أَن بعض الْعلمَاء توهم أَن أَبَا هُرَيْرَة غلط فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ رد عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يغلط، بل أحَال على رِوَايَة صَادِق، إلاَّ أَن الْخَبَر مَنْسُوخ.
انْتهى.

وَقد ذكرنَا وَجه النّسخ بِأَن حَدِيث عَائِشَة هُوَ النَّاسِخ لحَدِيث الْفضل، وَلم يبلغ الْفضل وَلَا أَبَا هُرَيْرَة النَّاسِخ، فاستمر أَبُو هُرَيْرَة على الْفتيا بِهِ، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ بعد ذَلِك لما بلغه، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي يُونُس مولى عَائِشَة عَنْهَا، وَقد ذكرنَا عَن قريب مَا يشْعر بِأَن ذَلِك كَانَ بعد الْحُدَيْبِيَة لقَوْله فِيهَا: (غفر الله لَك مَا تقدم وَمَا تَأَخّر) ، وَأَشَارَ إِلَى آيَة الْفَتْح، وَهِي إِنَّمَا نزلت عَام الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَابْتِدَاء فرض الصّيام كَانَ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَالله أعلم وَمِنْهُم من جمع بَين الْحَدِيثين بِأَن الْأَمر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَمر إرشاد إِلَى الْأَفْضَل، بِأَن الْأَفْضَل أَن يغْتَسل قبل الْفجْر، فَلَو خَالف جَازَ، وَيحمل حَدِيث عَائِشَة على بَيَان الْجَوَاز، وَيُعَكر على حمله على الْإِرْشَاد التَّصْرِيح فِي كثير من طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِالْأَمر بِالْفطرِ وبالنهي عَن الصّيام، فَكيف يَصح الْحمل الْمَذْكُور إِذا وَقع ذَلِك فِي رَمَضَان وَقيل: هُوَ مَحْمُول على من أدْركهُ الْفجْر مجامعا، فاستدام بعد طلوعه عَالما بذلك، وَيُعَكر عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي حَازِم عَن عبد الْملك ابْن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن عَن أَبِيه أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من احْتَلَمَ وَعلم باحتلامه وَلم يغْتَسل حَتَّى أصبح فَلَا يَصُوم، وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم أَنه سقط كلمة: لَا، من حَدِيث الْفضل، وَكَانَ فِي الأَصْل: مَن أصبح جنبا فِي رَمَضَان فَلَا يفْطر، فَلَمَّا سَقَطت: لَا، صَار: فليفطر، وَهَذَا كَلَام واهٍ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم عدم الوثوق بِكَثِير من الْأَحَادِيث بطرقها مثل هَذَا الِاحْتِمَال، فَكَانَ قَائِله مَا وقف على شَيْء من طرق هَذَا الحَدِيث إلاَّ على اللَّفْظ الْمَذْكُور، وَالله أعلم.