هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1808 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ : إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ . وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ المِسْكِ . يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1808 حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم مرتين . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك . يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي الصيام لي ، وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Narrated Abu Huraira:

Allah's Messenger (ﷺ) said, Fasting is a shield (or a screen or a shelter). So, the person observing fasting should avoid sexual relation with his wife and should not behave foolishly and impudently, and if somebody fights with him or abuses him, he should tell him twice, 'I am fasting. The Prophet (ﷺ) added, By Him in Whose Hands my soul is, the smell coming out from the mouth of a fasting person is better in the sight of Allah than the smell of musk. (Allah says about the fasting person), 'He has left his food, drink and desires for My sake. The fast is for Me. So I will reward (the fasting person) for it and the reward of good deeds is multiplied ten times.

D'après Abu Hurayra (radiallahanho), le Messager d'Allah (r ) dit: «Le jeûne ressemble à une cuirasse. Donc, que celui qui jeûne ne commette pas d'acte d'indécence ou d'ignorance; et si quelqu'un d'autre vienne à combattre ce jeûneur ou l'insulter, qu'il lui dise par deux fois: Je jeûne . Par celui qui détient mon âme dans la main, l'haleine du jeûneur est, pour Allah, plus parfumée que le musc. Cet homme, dit Allah, renonce à manger, à boire, à satisfaire ses désirs pour Moi. Le jeûne est pour Moi, et c'est Moi qui récompense [ceux qui l'accomplissent]. Ainsi que la bonne action..., par dix équivalentes. »

":"ہم سے عبداللہ بن مسلمہ قعنبی نے بیان کیا ، ان سے امام مالک نے ، ان سے ابوالزناد نے ، ان سے اعرج نے اور ان سے ابوہریرہ رضی اللہ عنہ نے کہرسول اللہ صلی اللہ علیہ وسلم نے فرمایا روزہ دوزخ سے بچنے کے لیے ایک ڈھال ہے اس لیے ( روزہ دار ) نہ فحش باتیں کرے اور نہ جہالت کی باتیں اور اگر کوئی شخص اس سے لڑے یا اسے گالی دے تو اس کا جواب صرف یہ ہونا چاہئے کہ میں روزہ دار ہوں ، ( یہ الفاظ ) دو مرتبہ ( کہہ دے ) اس ذات کی قسم ! جس کے ہاتھ میں میری جان ہے روزہ دار کے منہ کی بو اللہ کے نزدیک کستوری کی خوشبو سے بھی زیادہ پسندیدہ اور پاکیزہ ہے ، ( اللہ تعالیٰ فرماتا ہے ) بندہ اپنا کھانا پینا اور اپنی شہوت میرے لیے چھوڑ دیتا ہے ، روزہ میرے لیے ہے اور میں ہی اس کا بدلہ دوں گا اور ( دوسری ) نیکیوں کا ثواب بھی اصل نیکی کے دس گنا ہوتا ہے ۔

D'après Abu Hurayra (radiallahanho), le Messager d'Allah (r ) dit: «Le jeûne ressemble à une cuirasse. Donc, que celui qui jeûne ne commette pas d'acte d'indécence ou d'ignorance; et si quelqu'un d'autre vienne à combattre ce jeûneur ou l'insulter, qu'il lui dise par deux fois: Je jeûne . Par celui qui détient mon âme dans la main, l'haleine du jeûneur est, pour Allah, plus parfumée que le musc. Cet homme, dit Allah, renonce à manger, à boire, à satisfaire ses désirs pour Moi. Le jeûne est pour Moi, et c'est Moi qui récompense [ceux qui l'accomplissent]. Ainsi que la bonne action..., par dix équivalentes. »

شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  [1894] قَوْلِهِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ حَدِيثٌ وَمِنْ ثُمَّ إِلَى آخِرِهِ حَدِيثٌ وَجَمَعَهُمَا عَنْهُ هَكَذَا الْقَعْنَبِيُّ وَعَنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَوَقَعَ عَنْ غَيْرِ الْقَعْنَبِيِّ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الثَّانِي وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا زَادُوا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَيَّنَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِعَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ جُنَّةٌ زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا زَادَ الدَّارِمِيُّ بِالْغِيبَةِ وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَلَّقُ هَذَا السَّتْرِ وَأَنَّهُ مِنَ النَّارِ وَبِهَذَا جَزَمَ بن عَبْدِ الْبَرِّ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ جُنَّةٌ أَيْ سُتْرَةٌ يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ إِضْعَافُ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّوَابِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ مَعْنَاهُ سُتْرَةٌ مِنَ الْآثَامِ أَوِ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  بن الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النارفي الْآخِرَةِ وَفِي زِيَادَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْم وافرط بن حَزْمٍ فَقَالَ يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَأَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ حَسْبُكَ بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ.

.

قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مرني بِأَمْر آخُذْهُ عَنْكَ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا عَدْلَ لَهُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ .

     قَوْلُهُ  فَلَا يَرْفُثْ أَيِ الصَّائِمُ كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا وَفِي الْمُوَطَّأِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَرْفُثُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَيَجُوزُ فِي مَاضِيهِ التَّثْلِيثُ وَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُنَا وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْفَاءِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا .

     قَوْلُهُ  وَلَا يَجْهَلْ أَيْ لَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الصَّوْمِ يُبَاحُ فِيهِ مَا ذُكِرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ .

     قَوْلُهُ  وَإِنِ امْرُؤٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ من طَرِيق سُهَيْل فَإِن سابه أحد اوماراه أَيْ جَادَلَهُ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس وَلأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق بن الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَإِنِ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْتُمْهُ وَلَا يسبه وَاتفقَ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّالْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ.

     وَقَالَ  فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِالِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ.

     وَقَالَ  الرُّويَانِيُّ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفسه وَادّعى بن الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ.

.
وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعًا.

.
وَأَمَّا تَكْرِيرُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ فَلْيَتَأَكَّدِ الِانْزِجَارُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَمَرَّةً بِلِسَانِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ وَبِقَوْلِهِ بِلِسَانِهِ كَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَةً بِاللِّسَانِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَجَازَ وَقَولُهُ قَاتَلَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ لَعْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ وَلَا يُمْكِنُ حمل قَاتله وشاتمه على المفاعلة لِأَن الصَّائِم مَأْمُور بِأَن الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا جَاءَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ كَأَنْ يَبْدَأَهُ بِقَتْلٍ أَوْ شَتْمٍ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْمُفَاعَلَةِ إِرَادَةُ غَيْرِ الصَّائِمِ ذَلِكَ مِنَ الصَّائِمِ وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى التَّهَيُّؤِ لَهَا وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ وَقَدْ تَقَعُ الْمُفَاعَلَةُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ عَالَجَ الْأَمْرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ الْمُرَادُ إِذَا بَدَرَتْ مِنَ الصَّائِمِ مُقَابَلَةُ الشَّتْمِ بِشَتْمٍ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ فَلْيَنْزَجِرْ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ وَمِمَّا يُبَعِّدُهُ .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنْ شَتَمَهُ شَتَمَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا .

     قَوْلُهُ  لَخُلُوفُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا فَاءٌ قَالَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصَادِرَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ قَلِيلَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ .

     قَوْلُهُ  فَمُ الصَّائِم فِيهِ رد على من قَالَ لاتثبت الْمِيمُ فِي الْفَمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَوْجُهٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حق الْمَلَائِكَةوَإِنَّهُم يستطيبون ريح الخلوف أَكثر مِمَّا تستطيبون رِيحَ الْمِسْكِ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ تَفُوحُ مِسْكًا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَا سِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ وَجَمَاعَةٌ الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجَمْعِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْأَخِيرَ وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا فَحَصَلْنَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا تَفُوحُ قَالَ فَرَائِحَةُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ وَيُؤَيِّدُ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ .

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ وَقَدْ ترْجم بن حِبَّانَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ قَالَ ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَخْرَجَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا فَمُ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ مِنَ الطَّعَامِ وَهِيَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ .

     قَوْلُهُ  حِينَ يَخْلُفُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِوُجُودِ الْخُلُوفِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالطِّيبِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلطِّيبِ فِي الْحَالِ الثَّانِي فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَهِيَ .

     قَوْلُهُ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ يُؤَيِّدُ ظَاهِرَهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَمَضَانَ.

.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ خُلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِحْدَى الْمسَائِل الَّتِي تنَازع فِيهَا بن عبد السَّلَام وبن الصّلاح فَذهب بن عَبْدِ السَّلَامِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ وَاسْتَدَلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة وَذهب بن الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وثناؤه عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  بن عَبْدِ الْبَرِّ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيُّ مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ والداودى وبن الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَزَمُوا كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ.

.
وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَيَّدَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ وَأَطْلَقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ رَبَّهُمْ بهم يَوْمئِذٍ لخبير وَهُوَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ انْتَهَى وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي كَرَاهَةِ إِزَالَةِ هَذَا الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ أَنَّ الْخُلُوفَ أَعْظَمُ مِنْ دَمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ شُبِّهَ رِيحُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ وَالْخُلُوفُ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَبُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ لِمَا لَا يَخْفَى وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّ أَصْلَ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ وَأَصْلُ الدَّمِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا .

     قَوْلُهُ  يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي هَكَذَا وَقَعَ هُنَا وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ وَإِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يذر شَهْوَته الخ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّكل عمل بن آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنا أجزى بِهِ وَإِنَّمَا يذر بن آدَمَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ لَهُ الْحَدِيثَ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ الْحَدِيثَ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا يَذَرُ إِلَخْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الصَّائِمُ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الْخَاصُّ بِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَذْكُورَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ كَالتُّخَمَةِ لَا يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ لَكِنَّ الْمَدَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ طُولَ نَهَارِهِ إِلَى أَنْ أَفْطَرَ لَيْسَ هُوَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ لِعَطْفِهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ فِي التَّوْحِيدِ وَكَذَا جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَن أبي هُرَيْرَة وَفِي رِوَايَة بن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ يَدَعُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدَعُ امْرَأَتَهُ وَشَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْحَافِظِ سَمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِي .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ وَلَا غَيْرِهَا وَفِي الْمُوَطَّأِ فَالصِّيَامُ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَبَبُ كَوْنِهِ لِي أَنَّهُ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ لِأَجْلِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ كُلُّ عمل بن آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا فَنَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصّيام لِأَنَّهُ لَيْسَ يظْهر من بن آدَمَ بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ ويؤيدها هَذَا التَّأْوِيلَ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ حَدَّثَنِيهِ شَبَابَةُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ يَعْنِي مُرْسَلًا قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَن النَّاس هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي انْتَهَى وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَفْظُهُ الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي.

     وَقَالَ  بن الْجَوْزِيِّ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَابَ الْمَازِرِيُّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لَمَّا كَانَتْ يُمْكِنُ دُخُولُ الرِّيَاءِ فِيهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ حَالَ الْمُمْسِكِ شِبَعًا مِثْلُ حَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.

.

قُلْتُ مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ فَقَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلْحَاقَ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ أَن الذّكر بِلَا إِلَه الااللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ ثَانِيهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ.

.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَعْنِي رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ كل عمل بن آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَيْ أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.

.

قُلْتُ وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ فَقَالَ بَلغنِي عَن بن عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب انْتَهَى وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ بن وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مينار عَن بن عُمَرَ مَرْفُوعًا الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ.

.
وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهِيَ نَصٌّ فِي إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ.

.

قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ.

.
وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا أَجْزِي بِهِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي أَيْ إِنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ بن عَبْدِ الْبَرِّ كَفَى بِقَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ رَابِعُهَا الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ خَامِسُهَا أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي سَادِسُهَا أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ سَابِعُهَا أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ بن الْجَوْزِيِّ فَقَالَ الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ ثَامِنُهَا سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ فَإِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ وَأُجِيبَبِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي لَيْسَ بِطَائِلٍ لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ تَاسِعُهَا أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامَ رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِيه عَن بن عُيَيْنَةَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ كُنْتُ اسْتَحْسَنْتُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى أَنْ فَكَّرْتُ فِي حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهِ ذِكْرَ الصَّوْمِ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قَالَ الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّيَامَ مُشْتَرِكٌ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فِي ذَلِك قلت أَن ثَبت قَول بن عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَلَفْظُهُ قَالَ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ كُلُّ مَا يعمله بن آدَمَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَحَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ قَالَ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ آدَمَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَفَّارَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمَعْنَى رِوَايَةِ غُنْدَرٍ كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَفَّارَةٌ لِلْمَعَاصِي وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى شُعْبَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى غُنْدَرٍ وَالِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور يشْهد لما ذهب إِلَيْهِ بن عُيَيْنَةَ لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّنَدِ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي تَعْقِيبِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ الْبَاب بِبَاب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَسَأَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَاشِرُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا تَكْتُبُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ واه جدا أوردهُ بن الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بَلَغَهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَهُوَ الطَّالِقَانِيُّ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ لَهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّيَامِ هُنَا صِيَامُ مَنْ سَلِمَ صِيَامُهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَوْلًا وَفِعْلًا وَنقل بن الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِصِيَامِ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّوْمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ صِيَامُ الْعَوَامِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْعَوَامِّ وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَصِيَامُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلَا فِطْرَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا مَقَامٌ عَالٍ لَكِنْ فِي حَصْرِ الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى وَأَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيُّ فِيالْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الَّتِي بَيَّنْتُهَا قَبْلُ لَمَّا أَرَادَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَضَعَ الْحَسَنَةَ فِي الْخَبَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَقَولُهُ إِلَّا الصِّيَامَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُضَاعَفُ جَزَاؤُهَا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَلَا يُضَاعَفُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بَلْ ثَوَابُهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ قَالَ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِمَّا يَطَّلِعُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ وَالصَّوْمُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ خَالِصًا وَيُعَامِلُهُ بِهِ طَالِبًا لِرِضَاهُ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لِي وَالْآخَرُ أَنَّ سَائِرَ الْحَسَنَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ أَوِ اسْتِعْمَالٍ لِلْبَدَنِ وَالصَّوْمُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى مَضَضِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي قَالَ الطِّيبِيُّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.

.
وَأَمَّا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ فَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَمَلٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ أَوْرَدَهُ فِي أَثْنَائِهِ بَيَانًا وَفَائِدَتُهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى .

     قَوْلُهُ  وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَيَانَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ تَامًّا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كل حَسَنَة يعملها بن آدَمَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَأَعَادَ قَوْلَهُ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَأْكِيدًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ أَن شَاءَ الله تَعَالَى ( قَولُهُ بَابُ الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ بَابٍ أَيِ الصَّوْمُ يَقَعُ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ وَرَأَيْتُهُ هُنَا بِخَطِّ الْقُطْبِ فِي شَرْحِهِ بَابَ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ أَيْ بَابَ تَكْفِيرِ الصَّوْمِ لِلذُّنُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ بَابٌ الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ وَلِلْمُسْتَمْلِي بَابُ تَكْفِيرِ الصَّلَاةِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَابِ بِعَيْنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ لَكِنْ أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَةِ وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِفِتْنَةِ الْمَالِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَقَدْ يُقَالُ لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي الْبَاب قبلهعَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ جُنَّةٌ زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا زَادَ الدَّارِمِيُّ بِالْغِيبَةِ وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَلَّقُ هَذَا السَّتْرِ وَأَنَّهُ مِنَ النَّارِ وَبِهَذَا جَزَمَ بن عَبْدِ الْبَرِّ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ جُنَّةٌ أَيْ سُتْرَةٌ يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ إِضْعَافُ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّوَابِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ مَعْنَاهُ سُتْرَةٌ مِنَ الْآثَامِ أَوِ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  بن الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النارفي الْآخِرَةِ وَفِي زِيَادَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْم وافرط بن حَزْمٍ فَقَالَ يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَأَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ حَسْبُكَ بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ.

.

قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مرني بِأَمْر آخُذْهُ عَنْكَ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا عَدْلَ لَهُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ .

     قَوْلُهُ  فَلَا يَرْفُثْ أَيِ الصَّائِمُ كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا وَفِي الْمُوَطَّأِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَرْفُثُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَيَجُوزُ فِي مَاضِيهِ التَّثْلِيثُ وَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُنَا وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْفَاءِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا .

     قَوْلُهُ  وَلَا يَجْهَلْ أَيْ لَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الصَّوْمِ يُبَاحُ فِيهِ مَا ذُكِرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ .

     قَوْلُهُ  وَإِنِ امْرُؤٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ من طَرِيق سُهَيْل فَإِن سابه أحد اوماراه أَيْ جَادَلَهُ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس وَلأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق بن الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَإِنِ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْتُمْهُ وَلَا يسبه وَاتفقَ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّالْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ.

     وَقَالَ  فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِالِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ.

     وَقَالَ  الرُّويَانِيُّ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفسه وَادّعى بن الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ.

.
وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعًا.

.
وَأَمَّا تَكْرِيرُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ فَلْيَتَأَكَّدِ الِانْزِجَارُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَمَرَّةً بِلِسَانِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ وَبِقَوْلِهِ بِلِسَانِهِ كَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَةً بِاللِّسَانِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَجَازَ وَقَولُهُ قَاتَلَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ لَعْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ وَلَا يُمْكِنُ حمل قَاتله وشاتمه على المفاعلة لِأَن الصَّائِم مَأْمُور بِأَن الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا جَاءَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ كَأَنْ يَبْدَأَهُ بِقَتْلٍ أَوْ شَتْمٍ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْمُفَاعَلَةِ إِرَادَةُ غَيْرِ الصَّائِمِ ذَلِكَ مِنَ الصَّائِمِ وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى التَّهَيُّؤِ لَهَا وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ وَقَدْ تَقَعُ الْمُفَاعَلَةُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ عَالَجَ الْأَمْرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ الْمُرَادُ إِذَا بَدَرَتْ مِنَ الصَّائِمِ مُقَابَلَةُ الشَّتْمِ بِشَتْمٍ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ فَلْيَنْزَجِرْ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ وَمِمَّا يُبَعِّدُهُ .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنْ شَتَمَهُ شَتَمَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا .

     قَوْلُهُ  لَخُلُوفُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا فَاءٌ قَالَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصَادِرَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ قَلِيلَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ .

     قَوْلُهُ  فَمُ الصَّائِم فِيهِ رد على من قَالَ لاتثبت الْمِيمُ فِي الْفَمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَوْجُهٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حق الْمَلَائِكَةوَإِنَّهُم يستطيبون ريح الخلوف أَكثر مِمَّا تستطيبون رِيحَ الْمِسْكِ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ تَفُوحُ مِسْكًا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَا سِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ وَجَمَاعَةٌ الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجَمْعِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْأَخِيرَ وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا فَحَصَلْنَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا تَفُوحُ قَالَ فَرَائِحَةُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ وَيُؤَيِّدُ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ .

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ وَقَدْ ترْجم بن حِبَّانَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ قَالَ ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَخْرَجَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا فَمُ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ مِنَ الطَّعَامِ وَهِيَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ .

     قَوْلُهُ  حِينَ يَخْلُفُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِوُجُودِ الْخُلُوفِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالطِّيبِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلطِّيبِ فِي الْحَالِ الثَّانِي فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَهِيَ .

     قَوْلُهُ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ يُؤَيِّدُ ظَاهِرَهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَمَضَانَ.

.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ خُلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِحْدَى الْمسَائِل الَّتِي تنَازع فِيهَا بن عبد السَّلَام وبن الصّلاح فَذهب بن عَبْدِ السَّلَامِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ وَاسْتَدَلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة وَذهب بن الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وثناؤه عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  بن عَبْدِ الْبَرِّ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيُّ مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ والداودى وبن الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَزَمُوا كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ.

.
وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَيَّدَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ وَأَطْلَقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ رَبَّهُمْ بهم يَوْمئِذٍ لخبير وَهُوَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ انْتَهَى وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي كَرَاهَةِ إِزَالَةِ هَذَا الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ أَنَّ الْخُلُوفَ أَعْظَمُ مِنْ دَمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ شُبِّهَ رِيحُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ وَالْخُلُوفُ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَبُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ لِمَا لَا يَخْفَى وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّ أَصْلَ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ وَأَصْلُ الدَّمِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا .

     قَوْلُهُ  يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي هَكَذَا وَقَعَ هُنَا وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ وَإِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يذر شَهْوَته الخ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّكل عمل بن آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنا أجزى بِهِ وَإِنَّمَا يذر بن آدَمَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ لَهُ الْحَدِيثَ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ الْحَدِيثَ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا يَذَرُ إِلَخْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الصَّائِمُ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الْخَاصُّ بِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَذْكُورَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ كَالتُّخَمَةِ لَا يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ لَكِنَّ الْمَدَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ طُولَ نَهَارِهِ إِلَى أَنْ أَفْطَرَ لَيْسَ هُوَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ لِعَطْفِهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ فِي التَّوْحِيدِ وَكَذَا جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَن أبي هُرَيْرَة وَفِي رِوَايَة بن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ يَدَعُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدَعُ امْرَأَتَهُ وَشَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْحَافِظِ سَمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِي .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ وَلَا غَيْرِهَا وَفِي الْمُوَطَّأِ فَالصِّيَامُ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَبَبُ كَوْنِهِ لِي أَنَّهُ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ لِأَجْلِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ كُلُّ عمل بن آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا فَنَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصّيام لِأَنَّهُ لَيْسَ يظْهر من بن آدَمَ بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ ويؤيدها هَذَا التَّأْوِيلَ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ حَدَّثَنِيهِ شَبَابَةُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ يَعْنِي مُرْسَلًا قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَن النَّاس هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي انْتَهَى وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَفْظُهُ الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي.

     وَقَالَ  بن الْجَوْزِيِّ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَابَ الْمَازِرِيُّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لَمَّا كَانَتْ يُمْكِنُ دُخُولُ الرِّيَاءِ فِيهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ حَالَ الْمُمْسِكِ شِبَعًا مِثْلُ حَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.

.

قُلْتُ مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ فَقَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلْحَاقَ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ أَن الذّكر بِلَا إِلَه الااللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ ثَانِيهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ.

.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَعْنِي رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ كل عمل بن آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَيْ أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.

.

قُلْتُ وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ فَقَالَ بَلغنِي عَن بن عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب انْتَهَى وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ بن وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مينار عَن بن عُمَرَ مَرْفُوعًا الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ.

.
وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهِيَ نَصٌّ فِي إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ.

.

قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ.

.
وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا أَجْزِي بِهِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي أَيْ إِنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ بن عَبْدِ الْبَرِّ كَفَى بِقَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ رَابِعُهَا الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ خَامِسُهَا أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي سَادِسُهَا أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ سَابِعُهَا أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ بن الْجَوْزِيِّ فَقَالَ الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ ثَامِنُهَا سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ فَإِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ وَأُجِيبَبِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي لَيْسَ بِطَائِلٍ لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ تَاسِعُهَا أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامَ رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِيه عَن بن عُيَيْنَةَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ كُنْتُ اسْتَحْسَنْتُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى أَنْ فَكَّرْتُ فِي حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهِ ذِكْرَ الصَّوْمِ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قَالَ الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّيَامَ مُشْتَرِكٌ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فِي ذَلِك قلت أَن ثَبت قَول بن عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَلَفْظُهُ قَالَ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ كُلُّ مَا يعمله بن آدَمَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَحَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ قَالَ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ آدَمَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَفَّارَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمَعْنَى رِوَايَةِ غُنْدَرٍ كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَفَّارَةٌ لِلْمَعَاصِي وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى شُعْبَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى غُنْدَرٍ وَالِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور يشْهد لما ذهب إِلَيْهِ بن عُيَيْنَةَ لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّنَدِ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي تَعْقِيبِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ الْبَاب بِبَاب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَسَأَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَاشِرُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا تَكْتُبُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ واه جدا أوردهُ بن الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بَلَغَهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَهُوَ الطَّالِقَانِيُّ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ لَهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّيَامِ هُنَا صِيَامُ مَنْ سَلِمَ صِيَامُهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَوْلًا وَفِعْلًا وَنقل بن الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِصِيَامِ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّوْمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ صِيَامُ الْعَوَامِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْعَوَامِّ وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَصِيَامُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلَا فِطْرَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا مَقَامٌ عَالٍ لَكِنْ فِي حَصْرِ الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى وَأَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيُّ فِيالْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الَّتِي بَيَّنْتُهَا قَبْلُ لَمَّا أَرَادَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَضَعَ الْحَسَنَةَ فِي الْخَبَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَقَولُهُ إِلَّا الصِّيَامَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُضَاعَفُ جَزَاؤُهَا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَلَا يُضَاعَفُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بَلْ ثَوَابُهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ قَالَ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِمَّا يَطَّلِعُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ وَالصَّوْمُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ خَالِصًا وَيُعَامِلُهُ بِهِ طَالِبًا لِرِضَاهُ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لِي وَالْآخَرُ أَنَّ سَائِرَ الْحَسَنَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ أَوِ اسْتِعْمَالٍ لِلْبَدَنِ وَالصَّوْمُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى مَضَضِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي قَالَ الطِّيبِيُّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.

.
وَأَمَّا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ فَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَمَلٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ أَوْرَدَهُ فِي أَثْنَائِهِ بَيَانًا وَفَائِدَتُهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى .

     قَوْلُهُ  وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَيَانَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ تَامًّا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كل حَسَنَة يعملها بن آدَمَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَأَعَادَ قَوْلَهُ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَأْكِيدًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ أَن شَاءَ الله تَعَالَى ( قَولُهُ بَابُ الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَالْجُمْهُورُ بِتَنْوِينِ بَابٍ أَيِ الصَّوْمُ يَقَعُ كَفَّارَةً لِلذُّنُوبِ وَرَأَيْتُهُ هُنَا بِخَطِّ الْقُطْبِ فِي شَرْحِهِ بَابَ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ أَيْ بَابَ تَكْفِيرِ الصَّوْمِ لِلذُّنُوبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ بَابٌ الصَّلَاةُ كَفَّارَةٌ وَلِلْمُسْتَمْلِي بَابُ تَكْفِيرِ الصَّلَاةِ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ الْبَابِ بِعَيْنِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْحَدِيثِ وَيَأْتِي شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيهِ مَا تَرْجَمَ لَهُ لَكِنْ أَطْلَقَ فِي التَّرْجَمَةِ وَالْخَبَرُ مُقَيَّدٌ بِفِتْنَةِ الْمَالِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ فَقَدْ يُقَالُ لَا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ فِي الْبَاب قبلهالشَّجَرَةِ ثُمَّ تَابَ تَأَخَّرَ قَبُولُ تَوْبَتِهِ مِمَّا بَقِيَ فِي جَسَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَلَمَّا صَفَا جَسَدُهُ مِنْهَا تِيبَ عَلَيْهِ فَفُرِضَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ صِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ السَّنَدِ فِيهِ إِلَى مَنْ يُقْبَلُ .

     قَوْلُهُ  فِي ذَلِكَ وَهَيْهَاتَ وِجْدَانُ ذَلِكَ .

     قَوْلُهُ  وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُم الصّيام الْآيَةَ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى مَبْدَأِ فَرْضِ الصِّيَامِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ عَلَى شَرْطِهِ فِيهِ شَيْءٌ فَأَوْرَدَ مَا يُشِيرُ إِلَى الْمُرَادِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ حَدِيثَ طَلْحَةَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْضَ إِلَّا رَمَضَانَ وَحَدِيثَ بن عُمَرَ وَعَائِشَةَ الْمُتَضَمِّنَ الْأَمْرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي رِوَايَتِهِمَا مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ بِدَلِيلِ حَصْرِ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ كتب عَلَيْكُم الصّيام ثُمَّ بَيَّنَهُ فَقَالَ شَهْرُ رَمَضَانَ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ فُرِضَ عَلَى النَّاسِ صِيَامٌ قَبْلَ رَمَضَانَ أَوْ لَا فَالْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ قَطُّ صَوْمٌ قَبْلَ صَوْمِ رَمَضَانَ وَفِي وَجْهٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ أَوَّلُ مَا فُرِضَ صِيَامُ عَاشُورَاءَ فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ نُسِخَ فَمِنْ أَدِلَّةِ الشَّافِعِيَّةِ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ مَرْفُوعًا لَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَسَيَأْتِي فِي أَوَاخِرِ الصِّيَامِ وَمِنْ أَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ظَاهِرُ حَدِيثي بن عُمَرَ وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ الْآتِي وَهُوَ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَهُمْ صِغَارٌ الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ مَسْلَمَةَ مَرْفُوعًا مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمِ الْحَدِيثَ وَبَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ نِيَّةٌ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ لَا وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ عِشْرِينَ بَابًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ طَلْحَةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَقَولُهُ

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  ( قَولُهُ بَابُ فَضْلِ الصَّوْمِ)
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْهُ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَدِيثَيْنِ أَفْرَدَهُمَا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ فَمِنْ أَوَّلِهِ إِلَى

[ قــ :1808 ... غــ :1894] قَوْلِهِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ حَدِيثٌ وَمِنْ ثُمَّ إِلَى آخِرِهِ حَدِيثٌ وَجَمَعَهُمَا عَنْهُ هَكَذَا الْقَعْنَبِيُّ وَعَنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هُنَا وَوَقَعَ عَنْ غَيْرِ الْقَعْنَبِيِّ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ زِيَادَةٌ فِي آخِرِ الثَّانِي وَهِيَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا زَادُوا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ بَعْدَ أَبْوَابٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَيَّنَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَأُبَيِّنُهُ .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ جُنَّةٌ زَادَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِثْلُهُ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ مَا لَمْ يَخْرِقْهَا زَادَ الدَّارِمِيُّ بِالْغِيبَةِ وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهُ هُوَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ الْوِقَايَةُ وَالسَّتْرُ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَعَلَّقُ هَذَا السَّتْرِ وَأَنَّهُ مِنَ النَّارِ وَبِهَذَا جَزَمَ بن عَبْدِ الْبَرِّ.

.
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ مَعْنَى كَوْنِهِ جُنَّةً أَيْ يَقِي صَاحِبَهُ مَا يُؤْذِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ جُنَّةٌ أَيْ سُتْرَةٌ يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدُهُ وَيَنْقُصُ ثَوَابَهُ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ فَائِدَتِهِ وَهُوَ إِضْعَافُ شَهَوَاتِ النَّفْسِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ سُتْرَةٌ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّوَابِ وَتَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ.

     وَقَالَ  عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ مَعْنَاهُ سُتْرَةٌ مِنَ الْآثَامِ أَوِ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَبِالْأَخِيرِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ.

     وَقَالَ  بن الْعَرَبِيِّ إِنَّمَا كَانَ الصَّوْمُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لِأَنَّهُ إِمْسَاكٌ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بِالشَّهَوَاتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنَ النارفي الْآخِرَةِ وَفِي زِيَادَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغِيبَةَ تَضُرُّ بِالصِّيَامِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنَّ الْغِيبَةَ تُفْطِرُ الصَّائِمَ وَتُوجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْم وافرط بن حَزْمٍ فَقَالَ يُبْطِلُهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ مِنْ مُتَعَمِّدٍ لَهَا ذَاكِرٍ لِصَوْمِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَلِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَالْجُمْهُورُ وَإِنْ حَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ إِلَّا أَنَّهُمْ خَصُّوا الْفِطْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَأَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى تَرْجِيحِ الصِّيَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَالَ حَسْبُكَ بِكَوْنِ الصِّيَامِ جُنَّةً مِنَ النَّارِ فَضْلًا وَرَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ.

.

قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مرني بِأَمْر آخُذْهُ عَنْكَ قَالَ عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا عَدْلَ لَهُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ .

     قَوْلُهُ  فَلَا يَرْفُثْ أَيِ الصَّائِمُ كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا وَفِي الْمُوَطَّأِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثْ إِلَخْ وَيَرْفُثُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَيَجُوزُ فِي مَاضِيهِ التَّثْلِيثُ وَالْمُرَادُ بِالرَّفَثِ هُنَا وَهُوَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْفَاءِ ثُمَّ الْمُثَلَّثَةِ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاعِ وَعَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَعَلَى ذِكْرِهِ مَعَ النِّسَاءِ أَوْ مُطْلَقًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا .

     قَوْلُهُ  وَلَا يَجْهَلْ أَيْ لَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَهْلِ كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الصَّوْمِ يُبَاحُ فِيهِ مَا ذُكِرَ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يَتَأَكَّدُ بِالصَّوْمِ .

     قَوْلُهُ  وَإِنِ امْرُؤٌ بِتَخْفِيفِ النُّونِ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ وَفِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ وَلِأَبِي قُرَّةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِنْ شَتَمَهُ إِنْسَانٌ فَلَا يُكَلِّمْهُ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ من طَرِيق سُهَيْل فَإِن سابه أحد اوماراه أَيْ جَادَلَهُ وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ وَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فاجلس وَلأَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق بن الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ جَهِلَ عَلَى أَحَدِكُمْ جَاهِلٌ وَهُوَ صَائِمٌ وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَإِنِ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْتُمْهُ وَلَا يسبه وَاتفقَ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَقَدِ اسْتَشْكَلَ ظَاهِرُهُ بِأَنَّ الْمُفَاعَلَةَ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالصَّائِمُ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ الْأَفْعَالُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْجَوَابُ خُصُوصًا الْمُقَاتَلَةَ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُفَاعَلَةِ التَّهَيُّؤُ لَهَا أَيْ إِنْ تَهَيَّأَ أَحَدٌ لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّعْنِ وَاللَّعْنُ مِنْ جُمْلَةِ السَّبِّ وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّتْمِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ هَلْ يُخَاطِبُ بِهَا الَّذِي يُكَلِّمُهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ الْأَوَّلَ فِي الْأَذْكَارِ.

     وَقَالَ  فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كُلٌّ مِنْهُمَا حَسَنٌ وَالْقَوْلُ بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَتَى الْبُخَارِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَبْوَابٍ بِالِاسْتِفْهَامِ فَقَالَ بَابٌ هَلْ يَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ إِذَا شُتِمَ.

     وَقَالَ  الرُّويَانِيُّ إِنْ كَانَ رَمَضَانُ فَلْيَقُلْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلْيَقُلْهُ فِي نَفسه وَادّعى بن الْعَرَبِيِّ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِي التَّطَوُّعِ.

.
وَأَمَّا فِي الْفَرْضِ فَيَقُولُهُ بِلِسَانِهِ قَطْعًا.

.
وَأَمَّا تَكْرِيرُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ فَلْيَتَأَكَّدِ الِانْزِجَارُ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ يُخَاطِبُهُ بِذَلِكَ وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ يَقُولُهُ مَرَّةً بِقَلْبِهِ وَمَرَّةً بِلِسَانِهِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِ بِقَلْبِهِ كَفَّ لِسَانِهِ عَنْ خَصْمِهِ وَبِقَوْلِهِ بِلِسَانِهِ كَفَّ خَصْمِهِ عَنْهُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقَوْلَ حَقِيقَةً بِاللِّسَانِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمَجَازَ وَقَولُهُ قَاتَلَهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَتْلِ لَعْنٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الشَّتْمِ وَلَا يُمْكِنُ حمل قَاتله وشاتمه على المفاعلة لِأَن الصَّائِم مَأْمُور بِأَن الصَّائِمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى إِذَا جَاءَهُ مُتَعَرِّضًا لِمُقَاتَلَتِهِ أَوْ مُشَاتَمَتِهِ كَأَنْ يَبْدَأَهُ بِقَتْلٍ أَوْ شَتْمٍ اقْتَضَتِ الْعَادَةُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْمُفَاعَلَةِ إِرَادَةُ غَيْرِ الصَّائِمِ ذَلِكَ مِنَ الصَّائِمِ وَقَدْ تُطْلَقُ الْمُفَاعَلَةُ عَلَى التَّهَيُّؤِ لَهَا وَلَوْ وَقَعَ الْفِعْلُ مِنْ وَاحِدٍ وَقَدْ تَقَعُ الْمُفَاعَلَةُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا يُقَالُ لِوَاحِدٍ عَالَجَ الْأَمْرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ الْمُرَادُ إِذَا بَدَرَتْ مِنَ الصَّائِمِ مُقَابَلَةُ الشَّتْمِ بِشَتْمٍ عَلَى مُقْتَضَى الطَّبْعِ فَلْيَنْزَجِرْ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ إِنِّي صَائِمٌ وَمِمَّا يُبَعِّدُهُ .

     قَوْلُهُ  فِي الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فَإِنْ شَتَمَهُ شَتَمَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ كَالصَّائِلِ هَذَا فِيمَنْ يَرُومُ مُقَاتَلَتَهُ حَقِيقَةً فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قَاتَلَهُ شَاتَمَهُ فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُعَامِلُهُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ إِنِّي صَائِمٌ .

     قَوْلُهُ  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا .

     قَوْلُهُ  لَخُلُوفُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا فَاءٌ قَالَ عِيَاضٌ هَذِهِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَبَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهُوَ خَطَأٌ وَحَكَى الْقَابِسِيُّ الْوَجْهَيْنِ وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ فَتْحُ الْخَاءِ وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمَصَادِرَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى فَعُولٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ قَلِيلَةٌ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ فَمِ الصَّائِمِ بِسَبَبِ الصِّيَامِ .

     قَوْلُهُ  فَمُ الصَّائِم فِيهِ رد على من قَالَ لاتثبت الْمِيمُ فِي الْفَمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ لِثُبُوتِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ .

     قَوْلُهُ  أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ اسْتِطَابَةِ الرَّوَائِحِ إِذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَيَوَانِ وَمَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَوْجُهٍ قَالَ الْمَازِرِيُّ هُوَ مَجَازٌ لِأَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَقْرِيبِ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ مِنَّا فَاسْتُعِيرَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ لِتَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَكُمْ أَيْ يُقَرَّبُ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ تَقْرِيبِ الْمِسْكِ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ فِي حق الْمَلَائِكَة وَإِنَّهُم يستطيبون ريح الخلوف أَكثر مِمَّا تستطيبون رِيحَ الْمِسْكِ وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ الْخُلُوفِ وَالْمِسْكِ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى ضِدِّ مَا هُوَ عِنْدَكُمْ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْزِيهِ فِي الْآخِرَةِ فَتَكُونُ نَكْهَتُهُ أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُومُ وَرِيحُ جُرْحِهِ تَفُوحُ مِسْكًا وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَنَالُ مِنَ الثَّوَابِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لَا سِيَّمَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخُلُوفِ حَكَاهُمَا عِيَاضٌ.

     وَقَالَ  الدَّاوُدِيُّ وَجَمَاعَةٌ الْمَعْنَى أَنَّ الْخُلُوفَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِنَ الْمِسْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجَمْعِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَرَجَّحَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْأَخِيرَ وَحَاصِلُهُ حَمْلُ مَعْنَى الطِّيبِ عَلَى الْقَبُولِ وَالرِّضَا فَحَصَلْنَا عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ أَنَّ لِلطَّاعَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحًا تَفُوحُ قَالَ فَرَائِحَةُ الصِّيَامِ فِيهَا بَيْنَ الْعِبَادَاتِ كَالْمِسْكِ وَيُؤَيِّدُ الثَّلَاثَةَ الْأَخِيرَةَ .

     قَوْلُهُ  فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ حَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ وَقَدْ ترْجم بن حِبَّانَ بِذَلِكَ فِي صَحِيحِهِ ثُمَّ قَالَ ذِكْرُ الْبَيَانِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَخْرَجَ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا فَمُ الصَّائِمِ حِينَ يَخْلُفُ مِنَ الطَّعَامِ وَهِيَ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ .

     قَوْلُهُ  حِينَ يَخْلُفُ عَلَى أَنَّهُ ظَرْفٌ لِوُجُودِ الْخُلُوفِ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالطِّيبِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلطِّيبِ فِي الْحَالِ الثَّانِي فَيُوَافِقُ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَهِيَ .

     قَوْلُهُ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَكِنْ يُؤَيِّدُ ظَاهِرَهُ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا مَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ فِي مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ فِي فَضْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي رَمَضَانَ.

.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ خُلُوفَ أَفْوَاهِهِمْ حِينَ يُمْسُونَ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِسْنَادُهُ مُقَارِبٌ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِحْدَى الْمسَائِل الَّتِي تنَازع فِيهَا بن عبد السَّلَام وبن الصّلاح فَذهب بن عَبْدِ السَّلَامِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ وَاسْتَدَلَّ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا يَوْم الْقِيَامَة وَذهب بن الصَّلَاحِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَاسْتَدَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ طِيبُهُ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وثناؤه عَلَيْهِ.

     وَقَالَ  بن عَبْدِ الْبَرِّ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيُّ مَعْنَاهُ الثَّنَاءُ عَلَى الصَّائِمِ وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ والداودى وبن الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ جَزَمُوا كُلُّهُمْ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ.

.
وَأَمَّا ذِكْرُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ فَلِأَنَّهُ يَوْمُ الْجَزَاءِ وَفِيهِ يَظْهَرُ رُجْحَانُ الْخُلُوفِ فِي الْمِيزَانِ عَلَى الْمِسْكِ الْمُسْتَعْمَلِ لِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يُؤْمَرُ بِاجْتِنَابِهَا فَقَيَّدَهُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي رِوَايَةٍ وَأَطْلَقَ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ أَصْلَ أَفْضَلِيَّتِهِ ثَابِتٌ فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ رَبَّهُمْ بهم يَوْمئِذٍ لخبير وَهُوَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ انْتَهَى وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي كَرَاهَةِ إِزَالَةِ هَذَا الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَابًا حَيْثُ تَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ أَنَّ الْخُلُوفَ أَعْظَمُ مِنْ دَمِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ دَمَ الشَّهِيدِ شُبِّهَ رِيحُهُ بِرِيحِ الْمِسْكِ وَالْخُلُوفُ وُصِفَ بِأَنَّهُ أَطْيَبُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ لِمَا لَا يَخْفَى وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى أَصْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَإِنَّ أَصْلَ الْخُلُوفِ طَاهِرٌ وَأَصْلُ الدَّمِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ أَطْيَبَ رِيحًا .

     قَوْلُهُ  يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي هَكَذَا وَقَعَ هُنَا وَوَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ وَإِنَّمَا يَذَرُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى اللَّهِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِيهِ وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يذر شَهْوَته الخ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كل عمل بن آدَمَ هُوَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَهُوَ لِي وَأَنا أجزى بِهِ وَإِنَّمَا يذر بن آدَمَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ بن آدَمَ لَهُ الْحَدِيثَ وَيَأْتِي فِي التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ بِلَفْظِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ الْحَدِيثَ وَقَدْ يُفْهَمُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّمَا يَذَرُ إِلَخْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الصَّائِمُ ذَلِكَ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الْخَاصُّ بِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ تَرْكُ الْمَذْكُورَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ كَالتُّخَمَةِ لَا يَحْصُلُ لِلصَّائِمِ الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ لَكِنَّ الْمَدَارَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى الدَّاعِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَدُورُ مَعَهُ الْفِعْلُ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِضْ فِي خَاطِرِهِ شَهْوَةُ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ طُولَ نَهَارِهِ إِلَى أَنْ أَفْطَرَ لَيْسَ هُوَ فِي الْفَضْلِ كَمَنْ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي تَرْكِهِ وَالْمُرَادُ بِالشَّهْوَةِ فِي الْحَدِيثِ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ لِعَطْفِهَا عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ بِتَقْدِيمِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مِنَ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ فِي التَّوْحِيدِ وَكَذَا جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَن أبي هُرَيْرَة وَفِي رِوَايَة بن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ يَدَعُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنْ أَجْلِي وَيَدَعُ لَذَّتَهُ مِنْ أَجْلِي وَفِي رِوَايَةِ أَبِي قُرَّةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَدَعُ امْرَأَتَهُ وَشَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْحَافِظِ سَمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ مِنْ أَجْلِي .

     قَوْلُهُ  الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كَذَا وَقَعَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ وَلَا غَيْرِهَا وَفِي الْمُوَطَّأِ فَالصِّيَامُ بِزِيَادَةِ الْفَاءِ وَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ سَبَبُ كَوْنِهِ لِي أَنَّهُ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ لِأَجْلِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُغِيرَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ كُلُّ عمل بن آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَمِثْلُهُ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْآتِيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا عَلَى أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقَعُ فِيهِ الرِّيَاءُ كَمَا يَقَعُ فِي غَيْرِهِ حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ وَلَفْظُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي يُجزئ بِهَا فَنَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصّيام لِأَنَّهُ لَيْسَ يظْهر من بن آدَمَ بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ فِي الْقَلْبِ ويؤيدها هَذَا التَّأْوِيلَ .

     قَوْلُهُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ فِي الصِّيَامِ رِيَاءٌ حَدَّثَنِيهِ شَبَابَةُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَهُ يَعْنِي مُرْسَلًا قَالَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَن النَّاس هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي انْتَهَى وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْصُولًا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَفْظُهُ الصِّيَامُ لَا رِيَاءَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَهَذَا لَوْ صَحَّ لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ لَمَّا كَانَتِ الْأَعْمَالُ يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ وَالصَّوْمُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَافَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي.

     وَقَالَ  بن الْجَوْزِيِّ جَمِيعُ الْعِبَادَاتِ تَظْهَرُ بِفِعْلِهَا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مَا يَظْهَرُ مِنْ شَوْبٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَارْتَضَى هَذَا الْجَوَابَ الْمَازِرِيُّ وَقَرَّرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ لَمَّا كَانَتْ يُمْكِنُ دُخُولُ الرِّيَاءِ فِيهَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِمْ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ حَالَ الْمُمْسِكِ شِبَعًا مِثْلُ حَالِ الْمُمْسِكِ تَقَرُّبًا يَعْنِي فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ.

.

قُلْتُ مَعْنَى النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ لَا رِيَاءَ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَمَنْ يَصُومُ ثُمَّ يُخْبِرُ بِأَنَّهُ صَائِمٌ فَقَدْ يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَدُخُولُ الرِّيَاءِ فِي الصَّوْمِ إِنَّمَا يَقَعُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ الرِّيَاءَ قَدْ يَدْخُلُهَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهَا وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلْحَاقَ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ أَن الذّكر بِلَا إِلَه الا اللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَدْخُلَهُ الرِّيَاءُ لِأَنَّهُ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْفَمِ فَيُمْكِنُ الذَّاكِرُ أَنْ يَقُولَهَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا يَشْعُرُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ ثَانِيهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَنِّي أَنْفَرِدُ بِعِلْمِ مِقْدَارِ ثَوَابِهِ وَتَضْعِيفِ حَسَنَاتِهِ.

.
وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَالَ قَدْ كَشَفَتْ مَقَادِيرَ ثَوَابِهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَفُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَيَشْهَدُ لِهَذَا السِّيَاقِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَعْنِي رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ حَيْثُ قَالَ كل عمل بن آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ اللَّهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ أَيْ أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاءً كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمِقْدَارِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ انْتَهَى وَالصَّابِرُونَ الصَّائِمُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَقْوَالِ.

.

قُلْتُ وَسَبَقَ إِلَى هَذَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِهِ فَقَالَ بَلغنِي عَن بن عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الصَّبْرُ لِأَنَّ الصَّائِمَ يُصَبِّرُ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب انْتَهَى وَيَشْهَدُ رِوَايَةُ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عِنْدَ سَمَوَيْهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَا فِيهِ وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ بن وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ جَدِّهِ زَيْدٍ مُرْسَلًا وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن مينار عَن بن عُمَرَ مَرْفُوعًا الْأَعْمَالُ عِنْدَ اللَّهِ سَبْعٌ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَعَمَلٌ لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ قَالَ.

.
وَأَمَّا الْعَمَلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ ثَوَابَ عَامِلِهِ إِلَّا اللَّهُ فَالصِّيَامُ ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْحُسْنِ قَالَ غَيْرَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ وَيَأْتِي فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ وَهِيَ نَصٌّ فِي إِظْهَارِ التَّضْعِيفِ فَبَعُدَ هَذَا الْجَوَابُ بَلْ بَطَلَ.

.

قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ بُطْلَانُهُ بَلِ الْمُرَادُ بِمَا أَوْرَدَهُ أَنَّ صِيَامَ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ يُكْتَبُ بِعَشْرَةِ أَيَّامٍ.

.
وَأَمَّا مِقْدَارُ ثَوَابِ ذَلِكَ فَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْعُرْفُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَا أَجْزِي بِهِ لِأَنَّ الْكَرِيمَ إِذَا قَالَ أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِي كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْعَطَاءِ وَتَفْخِيمِهِ ثَالِثُهَا مَعْنَى قَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي أَيْ إِنَّهُ أَحَبُّ الْعِبَادَاتِ إِلَيَّ وَالْمُقَدَّمُ عِنْدِي وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ بن عَبْدِ الْبَرِّ كَفَى بِقَوْلِهِ الصَّوْمُ لِي فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ لَكِنْ يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ رَابِعُهَا الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ كَمَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتِ الْبُيُوتُ كُلُّهَا لِلَّهِ قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ التَّخْصِيصُ فِي مَوْضِعِ التَّعْمِيمِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيفُ خَامِسُهَا أَنَّ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ فَلَمَّا تَقَرَّبَ الصَّائِمُ إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِقُ صِفَاتِهِ أَضَافَهُ إِلَيْهِ.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْعِبَادِ مُنَاسِبَةٌ لِأَحْوَالِهِمْ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ الصَّائِمَ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِأَمْرٍ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِي سَادِسُهَا أَنَّ الْمَعْنَى كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ سَابِعُهَا أَنَّهُ خَالِصٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهِ حَظٌّ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ هَكَذَا نَقَلَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْحَظِّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ رَجَعَ إِلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَقَدْ أَفْصَحَ بِذَلِكَ بن الْجَوْزِيِّ فَقَالَ الْمَعْنَى لَيْسَ لِنَفْسِ الصَّائِمِ فِيهِ حَظٌّ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ حَظًّا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ لِعِبَادَتِهِ ثَامِنُهَا سَبَبُ الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ أَنَّ الصِّيَامَ لَمْ يُعْبَدْ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالطَّوَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِمَا يَقَعُ مِنْ عُبَّادِ النُّجُومِ وَأَصْحَابُ الْهَيَاكِلِ وَالِاسْتِخْدَامَاتِ فَإِنَّهُمْ يَتَعَبَّدُونَ لَهَا بِالصِّيَامِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا فَعَّالَةٌ بِأَنْفُسِهَا وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي لَيْسَ بِطَائِلٍ لِأَنَّهُمْ طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ تَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَالْأُخْرَى مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَوَاكِبِ وَهُمُ الَّذِينَ أُشِيرَ إِلَيْهِمْ تَاسِعُهَا أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ تُوَفَّى مِنْهَا مَظَالِمُ الْعِبَادِ إِلَّا الصِّيَامَ رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِيه عَن بن عُيَيْنَةَ قَالَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ اللَّهُ عَبْدَهُ وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ إِلَّا الصَّوْمُ فَيَتَحَمَّلُ اللَّهُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَدْ كُنْتُ اسْتَحْسَنْتُ هَذَا الْجَوَابَ إِلَى أَنْ فَكَّرْتُ فِي حَدِيثِ الْمُقَاصَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهِ ذِكْرَ الصَّوْمِ فِي جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ قَالَ الْمُفْلِسُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالِ هَذَا الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَيُؤْخَذُ لِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَلِهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الصِّيَامَ مُشْتَرِكٌ مَعَ بَقِيَّةِ الْأَعْمَالِ فِي ذَلِك قلت أَن ثَبت قَول بن عُيَيْنَةَ أَمْكَنَ تَخْصِيصُ الصِّيَامِ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ وَلَفْظُهُ قَالَ رَبُّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ وَرَوَاهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظِ كُلُّ مَا يعمله بن آدَمَ كَفَّارَةٌ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ عَنْ آدَمَ عَنْ شُعْبَةَ بِلَفْظٍ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَحَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ لَكِنْ قَالَ كُلُّ الْعَمَلِ كَفَّارَةٌ وَهَذَا يُخَالِفُ رِوَايَةَ آدَمَ لِأَنَّ مَعْنَاهَا إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَعَاصِي كَفَّارَةٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمَعْنَى رِوَايَةِ غُنْدَرٍ كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الطَّاعَاتِ كَفَّارَةٌ لِلْمَعَاصِي وَقَدْ بَيَّنَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى شُعْبَةَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ غُنْدَرٍ بِذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى غُنْدَرٍ وَالِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور يشْهد لما ذهب إِلَيْهِ بن عُيَيْنَةَ لَكِنَّهُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ السَّنَدِ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرَّ فِي تَعْقِيبِ الْبُخَارِيِّ لِحَدِيثِ الْبَاب بِبَاب الصَّوْمُ كَفَّارَةٌ وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ وَسَأَذْكُرُ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَاشِرُهَا أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَظْهَرُ فَتَكْتُبُهُ الْحَفَظَةُ كَمَا تَكْتُبُ سَائِرَ الْأَعْمَالِ وَاسْتَنَدَ قَائِلُهُ إِلَى حَدِيثٍ واه جدا أوردهُ بن الْعَرَبِيِّ فِي الْمُسَلْسَلَاتِ وَلَفْظُهُ قَالَ اللَّهُ الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أُحِبُّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكْتُبَهُ وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ وَيَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابَةِ الْحَسَنَةِ لِمَنْ هَمَّ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْوِبَةِ وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بَلَغَهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَهُوَ الطَّالِقَانِيُّ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ لَهُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّيَامِ هُنَا صِيَامُ مَنْ سَلِمَ صِيَامُهُ مِنَ الْمَعَاصِي قَوْلًا وَفِعْلًا وَنقل بن الْعَرَبِيِّ عَنْ بَعْضِ الزُّهَّادِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِصِيَامِ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّوْمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ صِيَامُ الْعَوَامِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْعَوَامِّ وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَصِيَامُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَصِيَامُ خَوَاصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ الصَّوْمُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ فَلَا فِطْرَ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهَذَا مَقَامٌ عَالٍ لَكِنْ فِي حَصْرِ الْمُرَادِ مِنَ الْحَدِيثِ فِي هَذَا النَّوْعِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى وَأَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا إِلَى الصَّوَابِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَيَقْرُبُ مِنْهُمَا الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ.

     وَقَالَ  الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ الَّتِي بَيَّنْتُهَا قَبْلُ لَمَّا أَرَادَ بِالْعَمَلِ الْحَسَنَاتِ وَضَعَ الْحَسَنَةَ فِي الْخَبَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُبْتَدَأِ وَقَولُهُ إِلَّا الصِّيَامَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُضَاعَفُ جَزَاؤُهَا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ فَلَا يُضَاعَفُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بَلْ ثَوَابُهُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ وَلَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَلِذَلِكَ يَتَوَلَّى اللَّهُ جَزَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى غَيْرِهِ قَالَ وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ الصَّوْمِ بِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ مِمَّا يَطَّلِعُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ وَالصَّوْمُ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ خَالِصًا وَيُعَامِلُهُ بِهِ طَالِبًا لِرِضَاهُ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لِي وَالْآخَرُ أَنَّ سَائِرَ الْحَسَنَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى صَرْفِ الْمَالِ أَوِ اسْتِعْمَالٍ لِلْبَدَنِ وَالصَّوْمُ يَتَضَمَّنُ كَسْرَ النَّفْسِ وَتَعْرِيضَ الْبَدَنِ لِلنُّقْصَانِ وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى مَضَضِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي قَالَ الطِّيبِيُّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ يَدَعُ شَهْوَتَهُ إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ وَقَعَتْ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.

.
وَأَمَّا قَوْلُ الْبَيْضَاوِيِّ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ كَلَامٍ غَيْرِ مَحْكِيٍّ فَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ يُقَالُ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَمَلٍ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ أَوْرَدَهُ فِي أَثْنَائِهِ بَيَانًا وَفَائِدَتُهُ تَفْخِيمُ شَأْنِ الْكَلَامِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى .

     قَوْلُهُ  وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا كَذَا وَقَعَ مُخْتَصَرًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ قَدَّمْتُ الْبَيَانَ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمُوَطَّأِ تَامًّا وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ كل حَسَنَة يعملها بن آدَمَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَأَعَادَ قَوْلَهُ وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ تَأْكِيدًا وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي آخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا الْحَدِيثَ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَبْوَابٍ أَن شَاءَ الله تَعَالَى

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  باب فَضْلِ الصَّوْمِ
( باب فضل الصوم) اعلم أن الصوم لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين.


[ قــ :1808 ... غــ : 1894 ]
- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ.
وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ -مَرَّتَيْنِ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا».
[الحديث 1894 - أطرافه في: 1904، 5927، 7492، 7538] .

وبه قال: ( حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي ( عن مالك) الإمام الأعظم ( عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان ( عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز ( عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) :
( الصيام جنة) بضم الجيم وتشديد النون أي وقاية وسترة قيل من المعاصي لأنه يكسر الشهوة ويضعفها وقيل من النار لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بالشهوات وعند الترمذي وسعيد بن منصور جنة من النار ولأحمد من حديث أبي عبيدة بن الجراح الصيام جنة ما لم يخرقها وزاد الدارمي بالغيبة وفيه تلازم الأمرين لأنه إذا كف نفسه عن المعاصي في الدنيا كان سترًا له من النار ( فلا يرفث) بالمثلثة وبتثليث الفاء أي لا يفحش الصائم في الكلام ( ولا يجهل) .
أي لا يفعل فعل الجهال كالصياح والسخرية أو يسفه على أحد وعند سعيد بن منصور فلا يرفث ولا يجادل وهذا ممنوع في الجملة على الإطلاق لكنه يتأكد بالصوم كما لا يخفى ( وإن امرؤ قاتله أو شاتمه) قال عياض: قاتله أي دافعه ونازعه ويكون بمعنى شاتمه ولاعنه، وقد جاء القتل بمعنى اللعن وفي رواية أبي صالح فإن سابه أحد أو قاتله، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل فإن سابه أحد أو ماراه يعني جادله، وقد استشكل ظاهره لأن المفاعلة تقتضي وقوع الفعل من الجانبين فإنه مأمور بأن يكف نفسه عن ذلك.

وأجيب: بأن المراد بالمفاعلة التهيؤ لها يعني إن تهيأ أحد لمقاتلته أو مشاتمته.

( فليقل) له بلسانه كما رجحه النووي في الأذكار أو بقلبه كما جزم به المتولي ونقله الرافعي عن الأئمة ( إني صائم مرتين) فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكف عنه وإلاّ دفعه بالأخف والظاهر كما قاله في المصابيح أن هذا القول علة لتأكيد المنع فكأنه يقول لخصمه إني صائم تحذيرًا وتهديدًا بالوعيد الموجه على من انتهك حرمة الصائم وتذرع إلى تنقيص أجره بإيقاعه بالمشاتمة أو يذكر نفسه شديد المنبع المعلل بالصوم ويكون من إطلاق القول على الكلام النفسي، وظاهر كون الصوم جنّة أن يقي صاحبه من أن يؤذي كما يقيه أن يؤذى.


( و) الله ( الذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم) بضم المعجمة واللام على الصحيح المشهور وضبطه بعضهم بفتح الخاء وخطاه الخطابي وقال في المجموع أنه لا يجوز أي تغير رائحة فم الصائم لخلاء معدته من الطعام ( أطيب عند الله من ريح المسك) ، وفي لفظ لمسلم والنسائي: أطيب عند الله يوم القيامة، وقد وقع خلاف بين ابن الصلاح وابن عبد السلام في أن طيب رائحة الخلوف هل هو في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط؟ فذهب ابن عبد السلام إلى أنه في الآخرة واستدلّ برواية مسلم والنسائي هذه.

وروى أبو الشيخ بإسناد فيه ضعف عن أنس مرفوعًا: يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك، وذهب ابن الصلاح إلى أن ذلك في الدنيا واستدلّ بحديث جابر مرفوعًا: وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك واستشكل هذا من جهة أن الله تعالى منزه عن استطابة الروائح الطيبة واستقذار الروائح الخبيثة فإن ذلك من صفات الحيوان.

وأجيب: بأنه مجاز واستعارة لأنه جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة منا فاستعير ذلك لتقريبه من الله تعالى.
وقال ابن بطال: أي أزكى عند الله إذ هو تعالى لا يوصف بالشم.
قال ابن المنير: لكنه يوصف بأنه تعالى عالم بهذا النوع من الإدراك وكذلك بقية المدركات المحسوسات يعلمها تعالى على ما هي عليه لأنه خالقها ألا يعلم من خلق وهذا مذهب الأشعري، وقيل إنه تعالى يجزيه في الآخرة حتى تكون نكهته أطيب من ريح المسك أو أن صاحب الخلوف ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك عندنا.

فإن قلت: لم كان خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ودم الشهيد ريحه ريح المسك مع ما فيه من المخاطرة بالنفس وبذل الروح؟
أجيب: بأنه إنما كان أثر الصوم أطيب من أثر الجهاد لأن الصوم أحد أركان الإسلام المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس وبأن الجهاد فرض كفاية والصوم فرض عين وفرض العين أفضل من فرض الكفاية كما نص عليه الشافعي.

وروى الإمام أحمد في السند أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: دينار تنفقه على أهلك ودينار تنفقه في سبيل الله أفضلهما الذي تنفقه على أهلك.
وجه الدليل أن النفقة على الأهل التي هي فرض عين أفضل من النفقة في سبيل الله وهو الجهاد الذي هو فرض كفاية، ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود الطيالسي من حديث أبي قتادة قال: خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الجهاد وفضله على سائر الأعمال إلا المكتوبة، فإنه يحتمل أن يكون ذلك قبل وجوب الصوم، وأما قول إمام الحرمين وجماعة: إن فرض الكفاية أفضل من فرض العين فمخالف لنص الشافعي فلا يعوّل عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي

سأله عن أفضل الأعمال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له.
زاد الإمام أحمد عن إسحاق بن الطباع عن مالك يقول الله تعالى:
( يترك) الصائم ( طعامه وشرابه وشهوته) أي شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب أو من عطف العام على الخاص لكن وقع عند ابن خزيمة ويدع زوجته من أجلي فهو صريح في الأول وأصرح منه ما وقع عند الحافظ سمويه من الطعام والشراب والجماع ( من أجلي.
الصيام لي)
من بين سائر الأعمال ليس للصائم فيه حظ أو لم يتعبد به أحد غيري أو هو سرّ بيني وبين عبدي يفعله خالصًا لوجهي وفي الموطأ فالصيام بفاء السببية أي بسبب كونه لي أنه يترك شهوته لأجلي أو أن فيه صفة الصمدانية وهي التنزيه عن الغذاء ( وأنا أجزي) صاحبه ( به) وقد علم أن الكريم إذا تولى الإعطاء بنفسه كان في ذلك شارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه ففيه مضاعفة الجزاء من غير عدد ولا حساب ( و) سائر الأعمال ( الحسنة بعشر أمثالها) زاد في رواية في الموطأ إلى سبعمائة ضعف، واتفقوا على أن المراد بالصائم هنا من سلم صيامه من المعاصي وحديث الغيبة تفطر الصائم على ما في الإحياء.
قال العراقي ضعيف بل قال أبو حاتم كذب، نعم يأثم ويمنع ثوابه إجماعًا ذكره السبكي في شرح وفيه نظر لمشقة الاحتراز لكن إن توجهت المقالة لا نصحًا وتظلمًا ونحوهما لحاكم ونحوه، وأدنى درجات الصوم الاقتصار على الكف عن المفطرات، وأوسطها أن يضم إليه كف الجوارح عن الجرائم، وأعلاها أن يضم إليهما كف القلب عن الوساوس.

وقال بعضهم: معناه الصوم ليس لا لك أي أنا الذي لا ينبغي لي أن أطعم وأشرب وإذا كان بهذه المثابة وكان دخولك فيه كوني شرعته لك فأنا أجري به كأنه يقول: أنا جزاؤه لأن صفة التنزيه عن الطعام والشراب تطلبي وقد تلبست بها وليست لك لكنك اتصفت بها في حال صومك فهي تدخلك عليّ فإن الصبر حبس النفس وقد حبستها بأمري عما تعطيه حقيقتها من الطعام والشراب، فلهذا قال: للصائم فرحتان عند فطره وتلك الفرحة لروحه الحيواني لا غير، وفرحة عند لقاء ربه وتلك الفرحة لنفسه الناطقة الطبيعية الربانية فأورثه الصوم لقاء الله وهو المشاهدة.

وهذا الحديث أخرجه أبو داود وكذا النسائي والترمذي.

هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  (بابُُ فَضْلِ الصَّوْمِ)

أَي: هَذَا بابُُ فِي بَيَان فضل الصَّوْم.



[ قــ :1808 ... غــ :1894 ]
- حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبِي الزِّنادِ عنِ الأعْرَجِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الصِّيامُ جُنَّةٌ فَلاَ يَرْفُثْ ولاَ يَجْهَلْ وَإنِ امْرُءٌ قاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله تعَالى مِنْ رِيحِ المِسْكِ يَتْرُكْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِنْ أجْلِي الصَّيامُ لِي وَأَنا أجْزِي بِهِ والحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثالِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.

وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم، وَأَبُو الزِّنَاد عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.

والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي بِهِ، وَلم يذكر: الصّيام جنَّة.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ،.

     وَقَالَ : الصّيام جنَّة، وروى التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عمرَان بن مُوسَى الْقَزاز حَدثنَا عبد الْوَارِث ابْن سعيد عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن ربكُم يَقُول: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَالصَّوْم جنَّة من النَّار، ولخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك، وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) ..
     وَقَالَ : حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد انْفَرد التِّرْمِذِيّ بِإِخْرَاجِهِ من هَذَا الْوَجْه،.

     وَقَالَ : وَفِي الْبابُُ عَن معَاذ بن جبل وَسَهل بن سعد وَكَعب بن عجْرَة وسلامة بن قَيْصر وَبشير بن الخصاصية.
قَالَ: وَاسم بشير زحم، والخصاصية هِيَ أمه.
أما حَدِيث معَاذ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ.
قَالَ: (كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فَأَصْبَحت يَوْمًا قَرِيبا مِنْهُ وَنحن نسير، فَقلت: أَخْبرنِي بِعَمَل يدخلني الْجنَّة) .
الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ قَالَ: أَلا أدلك على أَبْوَاب الْخَيْر: الصَّوْم جنَّة) الحَدِيث..
     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) .
وَأما حَدِيث سهل بن سعد فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فِي الْجنَّة بابُُ يُدعى الريَّان يُدعى لَهُ الصائمون فَمن كَانَ من الصائمين دخله وَمن دخله لم يظمأ أبدا) .
وَكَذَلِكَ أخرجه ابْن مَاجَه وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ من رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عَن أبي حَازِم على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما حَدِيث كَعْب بن عجْرَة فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَنهُ فِي حَدِيث فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة حَصِينَة) ،.

     وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
وَأما حَدِيث سَلامَة بن قَيْصر فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عمر بن ربيعَة الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: سَمِعت سَلامَة بن قَيْصر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (من صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله تَعَالَى بعَّده الله، عز وَجل، من جَهَنَّم بعد غراب طَار وَهُوَ فرخ حَتَّى مَاتَ هرما) .
وَأما حَدِيث بشير بن الخصاصية فَرَوَاهُ الْبَغَوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (معجميهما) من رِوَايَة قَتَادَة عَن جرير بن كُلَيْب عَن بشير ابْن الخصاصية قَالَ يَعْنِي قَتَادَة: وَحدثنَا أَصْحَابنَا عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ، يروي عَن ربه تَعَالَى: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث.

قلت: وَفِي الْبابُُ أَيْضا عَن أبي سعيد وَعلي وَعَائِشَة وَابْن مَسْعُود وَعُثْمَان ابْن أبي الْعَاصِ وَأنس وَجَابِر وَأبي عُبَيْدَة وَحُذَيْفَة وَأبي أُمَامَة وَعقبَة بن عَامر.
وَأما حَدِيث أبي سعيد فَأخْرجهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، قَالَا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن الله يَقُول: إِن الصّيام لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث.
وَأما حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق عَن عبد الله بن الْحَارِث عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِن الله يَقُول: الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) الحَدِيث،.

     وَقَالَ : إِنَّه خطأ، وَالصَّوَاب: عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله بن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عُرْوَة عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (الصّيام جنَّة من النَّار) ، الحَدِيث.
وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ ابْن حبَان فِي كتاب (طَبَقَات الْمُحدثين بأصبهان) وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مَوْقُوفا عَلَيْهِ: (الصَّوْم جنَّة) ، من رِوَايَة أبي الْأَحْوَص عَنهُ.
وَأما حَدِيث عُثْمَان بن أبي الْعَاصِ فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَنهُ، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصّيام جنَّة كجنة أحدكُم من الْقِتَال) ، وَزَاد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة: (جنَّة من النَّار) ، وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه.
وَأما حَدِيث أنس فَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَنهُ، قَالَ فِيهِ: (وَالصِّيَام جنَّة من النَّار) .
وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ فِي حَدِيث قَالَ فِيهِ: (وَالصَّوْم جنَّة) .
وَأما حَدِيث أبي عُبَيْدَة فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (الصَّوْم جنَّة مَا لم يخرقها) ، وَزَاد الدَّارمِيّ: (بالغيبة) ، وَرَوَاهُ أَيْضا مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وَأما حَدِيث حُذَيْفَة فَرَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ قَالَ: (اسندت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى صَدْرِي، فَقَالَ: لَا إلاهَ إلاَّ الله، من ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا دخل الْجنَّة، وَمن تصدق بِصَدقَة ابْتِغَاء وَجه الله ختم لَهُ بهَا، دخل الْجنَّة) .
وَأما حَدِيث أبي أُمَامَة فَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) من رِوَايَة الْوَلِيد بن جميل عَن الْقَاسِم عَن أبي أُمَامَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله جعل الله بَينه وَبَين النَّار خَنْدَقًا بعد مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض) .
وَأما حَدِيث عقبَة بن عَامر فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله تبَارك وَتَعَالَى، باعد الله مِنْهُ جَهَنَّم مسيرَة مائَة عَام) .

ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جنَّة) ، بِضَم الْجِيم: كل مَا ستر، وَمِنْه: الْمِجَن، وَهُوَ الترس، وَمِنْه سمي الْجِنّ لاستتارهم عَن الْعُيُون، والجنان لاستتارها بورق الْأَشْجَار، وَإِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جنَّة من النَّار لِأَنَّهُ إمْسَاك عَن الشَّهَوَات، وَالنَّار محفوفة بالشهوات كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات) ..
     وَقَالَ  ابْن الْأَثِير: معنى كَونه جنَّة أَي يقي صَاحبه مَا يُؤْذِيه من الشَّهَوَات،.

     وَقَالَ  عِيَاض: مَعْنَاهُ يستر من الآثام أَو من النَّار أَو بِجَمِيعِ ذَلِك، وبالأخير قطع النَّوَوِيّ.
قَوْله: (فَلَا يرْفث) ، بِفَتْح الْفَاء وَكسرهَا وَضمّهَا مَعْنَاهُ: لَا يفحش، وَالْمرَاد من الرَّفَث هُنَا الْكَلَام الْفَاحِش، وَيُطلق على الْجِمَاع وعَلى مقدماته، وعَلى ذكره مَعَ النِّسَاء، وَيحْتَمل أَن يكون النَّهْي عَمَّا هُوَ أَعم مِنْهَا.
قَوْله: (وَلَا يجهل) أَي: لَا يفعل شَيْئا من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة: كالعياط والسفه والسخرية، وَوَقع فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل بن أبي صَالح عَن أَبِيه: (فَلَا يرْفث وَلَا يُجَادِل،.

     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم من هَذَا أَن غير الصَّوْم يُبَاح فِيهِ مَا ذكر، وَإِنَّمَا المُرَاد أَن الْمَنْع من ذَلِك يتَأَكَّد بِالصَّوْمِ.
قَوْله: (وَإِن امْرُؤ قَاتله) ، كلمة: إِن، مُخَفّفَة مَوْصُولَة بِمَا بعده تَقْدِيره: وَإِن قَاتله امْرُؤ، وَلَفظ: قَاتله، يفسره كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: { وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك} (التَّوْبَة: 6) .
أَي: استجارك أحد من الْمُشْركين.
وَمعنى قَاتله: نازعه ودافعه.
قَوْله: (أَو شاتمه) أَي: أَو تعرض للمشاتمة، وَفِي رِوَايَة أبي صَالح: (فَإِن سابه أحد) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة عَن طَرِيق سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَنَحْوه فِي رِوَايَة همام عَن أبي هُرَيْرَة عِنْد أَحْمد، وَفِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق سُهَيْل: (فَإِن سابه أحد أَو ماراه) ، يَعْنِي: جادله، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق عجلَان مولى المشمعل عَن أبي هُرَيْرَة: (فَإِن شاتمك أحد، فَقل: إِنِّي صَائِم، وَأَن كنت قَائِما فاجلس) .
وَقد ذكرنَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، (وَإِن جهل على أحدكُم جَاهِل وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم) .

قَالَ شَيخنَا زين الدّين: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَن يَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ إِنِّي صَائِم حَتَّى يعلم من يجهل أَنه معتصم بالصيام عَن اللَّغْو والرفث وَالْجهل وَالثَّانِي أَن يَقُول ذَلِك لنَفسِهِ أَي: وَإِذا كنت صَائِما فَلَا يَنْبَغِي أَن أخدش صومي بِالْجَهْلِ وَنَحْوه، فيزجر نَفسه بذلك.
وَالْقَوْل الثَّالِث: التَّفْرِقَة بَين صِيَام الْفَرْض وَالنَّفْل، فَيَقُول ذَلِك بِلِسَانِهِ فِي الْفَرْض، ويقوله لنَفسِهِ فِي التَّطَوُّع، قَوْله: (فَلْيقل) ، قَالَ الْكرْمَانِي: أَي: كلَاما لسانيا ليسمعه الشاتم والمقاتل فينزجر غَالِبا أَو كلَاما نفسانيا أَي: يحدث بِهِ نَفسه ليمنعها من مشاتمته، وَعند الشَّافِعِي: يجب الْحمل على كلا الْمَعْنيين.

وَاعْلَم أَن كل أحد مَنْهِيّ عَن الرَّفَث وَالْجهل والمخاصمة، لَكِن النَّهْي فِي الصَّائِم آكِد.
قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يفْطر السب والغيبة، فَقيل: مَعْنَاهُ أَنه يصير فِي حكم الْمُفطر فِي سُقُوط الْأجر لَا أَنه يفْطر حَقِيقَة.
انْتهى كَلَامه.
فَإِن قلت: قَاتله أَو شاتمه من بابُُ المفاعلة وَهِي للمشاركة بَين الْإِثْنَيْنِ، والصائم مَأْمُور بالكف عَن ذَلِك؟ قلت: لَا يُمكن حمله على أصل الْبابُُ، وَلكنه قد يَجِيء بِمَعْنى: فعل، يَعْنِي لنسبة الْفِعْل إِلَى الْفَاعِل لَا غير، كَقَوْلِك: سَافَرت بِمَعْنى نسبت السّفر إِلَى الْمُسَافِر، وكما فِي قَوْلهم: عافاه الله، وَفُلَان عالج الْأَمر، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكرنَا من رِوَايَة سُهَيْل عَن أَبِيه: (وَإِن شَتمه إِنْسَان فَلَا يكلمهُ) ، وَقد مضى عَن قريب.

قَوْله: (مرَّتَيْنِ) اتّفقت الرِّوَايَات كلهَا على أَنه يَقُول: إِنِّي صَائِم، فَمنهمْ من ذكرهَا مرَّتَيْنِ، وَمِنْهُم من اقْتصر على وَاحِدَة.
قَوْله: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) ، أقسم على ذَلِك للتَّأْكِيد.
قَوْله: (لخلوف فَم الصَّائِم) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة لَا غير، هَذَا هُوَ لمعروف فِي كتب اللُّغَة، والْحَدِيث، وَلم يحك صاحبا (الْمُحكم) و (الصِّحَاح) غَيره..
     وَقَالَ  عِيَاض: وَكثير من الشُّيُوخ يَرْوُونَهُ بِفَتْحِهَا، قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ خطأ.
قَالَ القَاضِي: وَحكي عَن الْقَابِسِيّ فِيهِ الْفَتْح وَالضَّم،.

     وَقَالَ  أهل الْمشرق: يَقُولُونَهُ بِالْوَجْهَيْنِ وَالصَّوَاب الأول.
وَفِي (التَّلْوِيح) : وَفِي رِوَايَة (لخلفة فَم الصَّائِم) ، بِالضَّمِّ أَيْضا،.

     وَقَالَ  البرقي: هُوَ تغير طعم الْفَم وريحه لتأخر الطَّعَام، يُقَال: خلف فوه بِفَتْح الْخَاء وَاللَّام يخلف، بِضَم اللَّام وأخلف يخلف إِذا تغير، واللغة الْمَشْهُورَة: خلف..
     وَقَالَ  الْمَازرِيّ: هَذَا مجَاز واستعارة، لِأَن استطابة بعض الروائح من صِفَات الْحَيَوَان الَّذِي لَهُ طباع يمِيل إِلَى شَيْء يستطيبه وينفر من شَيْء يستقذره، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقدس عَن ذَلِك، لَكِن جرت عادتنا على التَّقَرُّب للروائح الطّيبَة، فاستغير ذَلِك فِي الصَّوْم لتقريبه من الله تَعَالَى،.

     وَقَالَ  عِيَاض: يجازيه الله تَعَالَى بِهِ فِي الْآخِرَة، فَتكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، وَقيل: لِكَثْرَة ثَوَابه وأجره، وَقيل: يعبق فِي الْآخِرَة أطيب من عبق الْمسك، وَقيل: طيبه عِنْد الله رِضَاهُ بِهِ، وثناؤه الْجَمِيل، وثوابه.
وَقيل: إِن المُرَاد أَن ذَلِك فِي حق الْمَلَائِكَة وَأَنَّهُمْ يستطيبون ريح الخلوق أَكثر مِمَّا يستطيبون ريح الْمسك،.

     وَقَالَ  الْبَغَوِيّ: مَعْنَاهُ الثَّنَاء على الصَّائِم والرضى بِفِعْلِهِ، وَكَذَا قَالَه الْقَدُورِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَابْن الْعَرَبِيّ من الْمَالِكِيَّة، وَأَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبُو بكر بن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة، جزموا كلهم بِأَنَّهُ عبارَة عَن الرضى وَالْقَبُول،.

     وَقَالَ  القَاضِي، وَقد يجْزِيه الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة حَتَّى تكون نكهته أطيب من ريح الْمسك، كَمَا قَالَ فِي الكلوم فِي سَبِيل الله: (الرّيح ريح مسك) ..
     وَقَالَ  شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى، وَقد اخْتلف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن الصّلاح وَالشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام فِي طيب رَائِحَة الخلوف، هَل هِيَ فِي الدُّنْيَا أَو فِي الْآخِرَة؟ فَذهب ابْن عبد السَّلَام إِلَى أَن ذَلِك فِي الْآخِرَة، كَمَا فِي دم الشَّهِيد، وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ مُسلم وَأحمد وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق عَطاء عَن أبي صَالح: (أطيب عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة) ، وَذهب ابْن الصّلاح إِلَى أَن ذَلِك فِي الدُّنْيَا، فاستدل بِمَا رَوَاهُ ابْن حبَان: (فَم الصَّائِم حِين يخلف من الطَّعَام) ، وَبِمَا رَوَاهُ الْحسن بن شعْبَان فِي (مُسْنده) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) من حَدِيث جَابر فِي فضل هَذِه الْأمة: (فَإِن خلوف أَفْوَاههم حِين يمسون أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) ..
     وَقَالَ  الْمُنْذِرِيّ: إِسْنَاده مقارب،.

     وَقَالَ  ابْن بطال: معنى (عِنْد الله) أَي: فِي الْآخِرَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: { وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك} (الْحَج: 74) .
يُرِيد أَيَّام الْآخِرَة.
فَإِن قلت: يُعَكر عَلَيْهِ بِحَدِيث الْبَيْهَقِيّ على مَا لَا يخفى؟ قلت: لَا مَانع من أَن يكون ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
قَوْله: (يتْرك طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أجلى) أَي: قَالَ الله تَعَالَى: يتْرك الصَّائِم طَعَامه وَشَرَابه وشهوته من أَجلي، إِنَّمَا قَدرنَا هَذَا ليَصِح الْمَعْنى، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يَقْتَضِي أَن يكون ضمير الْمُتَكَلّم فِي لفظ: (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) وَلَفظ: (لأجلي) ، من مُتَكَلم وَاحِد فَلَا يَصح الْمَعْنى على ذَلِك، فَلذَلِك قَدرنَا ذَلِك، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ مَا رَوَاهُ أَحْمد عَن إِسْحَاق بن الطباع عَن مَالك، فَقَالَ بعد قَوْله: (من ريح الْمسك، يَقُول الله، عز وَجل: إِنَّمَا يذر شَهْوَته وَطَعَامه) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور عَن مُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الزِّنَاد، فَقَالَ فِي أول الحَدِيث: (يَقُول الله، عز وَجل: كل عمل ابْن آدم لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ، وَإِنَّمَا يذر ابْن آدم شَهْوَته وَطَعَامه من أَجلي) .
قيل: المُرَاد بالشهوة فِي الحَدِيث شَهْوَة الْجِمَاع لعطفها على الطَّعَام وَالشرَاب.
قلت: الشَّهْوَة أَعم، فَيكون من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص، وَلَكِن قدم لفظ الشَّهْوَة سعيد بن مَنْصُور فِي الحَدِيث الْمَذْكُور آنِفا، وَكَذَلِكَ من رِوَايَة الْمُوَطَّأ بِتَقْدِيم الشَّهْوَة عَلَيْهِمَا، فَيكون من قبيل عطف الْخَاص على الْعَام، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُهَيْل عَن أبي صَالح عَن أَبِيه: (يدع الطَّعَام وَالشرَاب من أَجلي، ويدع لذته من أَجلي، ويدع زَوجته من أَجلي) ، وَفِي رِوَايَة أبي قُرَّة من هَذَا الْوَجْه: (يدع امْرَأَته وشهوته وَطَعَامه وَشَرَابه من أَجلي) ، وأصرح من ذَلِك مَا وَقع عِنْد الْحَافِظ سمويه: (من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع من أَجلي) ،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي هُنَا: فَإِن قلت: فَهَذَا قَول الله وَكَلَامه، فَمَا الْفرق بَينه وَبَين الْقُرْآن؟ قلت: الْقُرْآن لَفظه معجز ومنزل بِوَاسِطَة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وَهَذَا غير معجز وَبِدُون الْوَاسِطَة، وَمثله يُسمى بِالْحَدِيثِ الْقُدسِي والإل هِيَ والرباني.
فَإِن قلت: الْأَحَادِيث كلهَا كَذَلِك، وَكَيف، وَهُوَ: مَا ينْطق عَن الْهوى؟ قلت: الْفرق بِأَن الْقُدسِي مُضَاف إِلَى الله ومروي عَنهُ، بِخِلَاف غَيره، وَقد يفرق بِأَن الْقُدسِي مَا يتَعَلَّق بتنزيه ذَات الله تَعَالَى وبصفاته الجلالية والجمالية مَنْسُوبا إِلَى الحضرة تَعَالَى وتقدس،.

     وَقَالَ  الطَّيِّبِيّ: الْقُرْآن هُوَ اللَّفْظ الْمنزل بِهِ جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للإعجاز، والقدسي إِخْبَار الله رَسُوله مَعْنَاهُ بالإلهام أَو بالمنام، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بِعِبَارَة نَفسه، وَسَائِر الْأَحَادِيث لم يضفه إِلَى الله وَلم يروه عَنهُ.
قَوْله: (الصّيام لي) ، كَذَا وَقع بِغَيْر أَدَاة عطف وَلَا غَيرهَا، وَفِي (الْمُوَطَّأ) : (فالصيام) ، بِالْفَاءِ وَهِي للسَّبَبِيَّة أَي: بِسَبَب كَونه لي إِنَّه يتْرك شَهْوَته لأجلي، وَوَقع فِي رِوَايَة مُغيرَة عَن أبي الزِّنَاد عَن سعيد بن مَنْصُور: (كل عمل ابْن آدم هُوَ لَهُ إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمثله فِي رِوَايَة عَطاء عَن أبي صَالح الَّتِي تَأتي.
قَوْله: (وَأَنا أجزي بِهِ) ، بَيَان لِكَثْرَة ثَوَابه، لِأَن الْكَرِيم إِذا أخبر بِأَنَّهُ يتَوَلَّى بِنَفسِهِ الْجَزَاء اقْتضى عَظمته وسعته،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: تَقْدِيم الضَّمِير للتخصيص أَو للتَّأْكِيد والتقوية؟ قلت: يحتملهما، لَكِن الظَّاهِر من السِّيَاق الأول أَي: أَنا أُجَازِيهِ لَا غَيْرِي بِخِلَاف سَائِر الْعِبَادَات، فَإِن جزاءها قد يُفَوض إِلَى الْمَلَائِكَة، وَقد أَكْثرُوا فِي معنى قَوْله: (الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَمُلَخَّصه: أَن الصَّوْم لَا يَقع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقع فِي غَيره، لِأَنَّهُ لَا يظْهر من ابْن آدم بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقلب، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ مُرْسلا.
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَيْسَ فِي الصَّوْم رِيَاء) ، رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب الْغَرِيب عَن شَبابَُة عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: وَذَلِكَ لِأَن الْأَعْمَال لَا تكون إلاَّ بالحركات إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تخفى على النَّاس، وروى الْبَيْهَقِيّ هَذَا من وَجه آخر: عَن الزُّهْرِيّ مَوْصُولا عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَلَفظه: (الصّيام لَا رِيَاء فِيهِ، قَالَ الله، عز وَجل: هُوَ لي) وَفِيه مقَال، قيل: لَا يدْخلهُ الرِّيَاء بِفِعْلِهِ وَقد يدْخلهُ بقوله، بِأَن أخبر أَنه صَائِم فَكَانَ دُخُول الرِّيَاء فِيهِ من جِهَة الْإِخْبَار، بِخِلَاف بَقِيَّة الْأَعْمَال، فَإِن الرِّيَاء قد يدخلهَا بِمُجَرَّد فعلهَا.
قلت: فِيهِ نظر لِأَن دُخُول الرِّيَاء وَعدم دُخُوله بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْفِعْل والإخبار لَيْسَ مِنْهُ، فَافْهَم.

وَقَالَ الطَّبَرِيّ: لما كَانَت الْأَعْمَال يدخلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يطلع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فعله إلاَّ الله، فأضافه إِلَى نَفسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الحَدِيث: (يدع شَهْوَته من أَجلي) ،.

     وَقَالَ  ابْن الْجَوْزِيّ: جَمِيع الْعِبَادَات تظهر بِفِعْلِهَا، وَقل أَن يسلم مَا يظْهر من شوب بِخِلَاف الصَّوْم..
     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَن الله مُنْفَرد بِعلم مِقْدَار ثَوَاب الصَّوْم وتضعيفه، بِخِلَاف غَيره من الْعِبَادَات، فقد يطلع عَلَيْهَا بعض النَّاس، وَيشْهد لذَلِك مَا روى فِي (الْمُوَطَّأ) : (تضَاعف الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إِلَى مَا شَاءَ الله، قَالَ الله: إلاَّ الصَّوْم فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
أَي: أجازي بِهِ عَلَيْهِ جَزَاء كثيرا من غير تعْيين لمقداره، وَهَذَا كَقَوْلِه: { إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) .
والصابرون الصائمون فِي أَكثر الْأَقْوَال.
قلت: هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن قَوْله: (الصَّابِرُونَ الصائمون) غير مُسلم، بل الْأَمر بِالْعَكْسِ: الصائمون الصَّابِرُونَ، لِأَن الصَّوْم يسْتَلْزم الصَّبْر وَلَا يسْتَلْزم الصَّبْر الصَّوْم،.

     وَقَالَ  بَعضهم: سبق إِلَى هَذَا أَبُو عبيد فِي (غَرِيبه) ، فَقَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عُيَيْنَة أَنه قَالَ ذَلِك، وَاسْتدلَّ لَهُ بِأَن الصَّوْم هُوَ الصَّبْر لِأَن الصَّائِم يصبر نَفسه عَن الشَّهَوَات، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: { إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} (الزمر: 01) .
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيشْهد لَهُ رِوَايَة الْمسيب بن رَافع عَن أبي صَالح عِنْد سمويه: (إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصَّوْم، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحد مَا فِيهِ) .
ثمَّ قَالَ: وَيشْهد لَهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ ابْن وهب فِي (جَامعه) عَن عمر بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد الله بن عمر عَن جده زيد مُرْسلا، وَوَصله الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشّعب من طَرِيق أُخْرَى عَن عمر بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر مَرْفُوعا: (الْأَعْمَال عِنْد الله سبع) الحَدِيث، وَفِيه: (عمل لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله) .
ثمَّ قَالَ: (وَأما الْعَمَل الَّذِي لَا يعلم ثَوَاب عَامله إلاَّ الله فالصيام) .
انْتهى.
وَقد استبعد الْقُرْطُبِيّ هَذَا، بل أبْطلهُ بقوله: قد أَتَى فِي غير مَا حَدِيث أَن صَوْم الْيَوْم بِعشْرَة أَيَّام، فَهَذَا نَص فِي إِظْهَار التَّضْعِيف.

وَقَالَ بَعضهم: لَا يلْزم من الَّذِي ذكر بُطْلَانه، بل المُرَاد بِمَا أوردهُ أَن صِيَام الْيَوْم الْوَاحِد يكْتب بِعشْرَة أَيَّام، وَأما مِقْدَار ثَوَاب ذَلِك فَلَا يُعلمهُ إلاَّ الله.
انْتهى.
قلت: لَا نسلم أَنه لَا يلْزم من ذَلِك بُطْلَانه، بل يلْزم لِأَن كَلَامه يُؤَدِّي إِلَى تبطيل معنى التَّنْصِيص على مَا لَا يخفى على المتأمل،.

     وَقَالَ  ابْن عبد الْبر: مَعْنَاهُ أَن الصَّوْم أحب الْعِبَادَات إِلَيّ، والمقدم عِنْدِي، لِأَنَّهُ قَالَ: (الصّيام لي) ، فأضافه إِلَى نَفسه وَكفى بِهِ فضلا على سَائِر الْعِبَادَات..
     وَقَالَ  بَعضهم: وروى النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: (عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مثل لَهُ) ، لَكِن يُعَكر عَلَيْهِ بِمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (إعلموا أَن خير أَعمالكُم الصَّلَاة) .
قلت: لَا يُعَكر أصلا لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى سُؤال المخاطبين، كَمَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: (خير الْأَعْمَال أدومها وَإِن كَانَ يَسِيرا) .
وَقيل: هُوَ إِضَافَة تشريف كَمَا فِي قَوْله: { نَاقَة الله} (الشَّمْس: 31) .
مَعَ أَن الْعَالم كُله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عز وَجل.
وَقيل: لِأَن الِاسْتِغْنَاء عَن الطَّعَام من صِفَات الله، عز وَجل، فَيقرب الصَّائِم بِمَا يتَعَلَّق بِهَذِهِ الصّفة وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء، وَقيل: إِنَّمَا ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَة لِأَن ذَلِك من صفاتهم، وَقيل: إِضَافَته إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يعبد أحد غير الله بِالصَّوْمِ، فَلم يعظم الْكفَّار فِي عصر من الْأَعْصَار معبودا لَهُم بالصيام.
وَإِن كَانُوا يعظمونه بِصُورَة الصَّلَاة وَالسُّجُود وَالصَّدَََقَة وَغير ذَلِك، ونقضه بَعضهم بأربابُ الاستخدامات فَإِنَّهُم يَصُومُونَ للكواكب، وَلَيْسَ هَذَا بِنَقْض، لِأَن أَرْبابُُ الاستخدامات لَا يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَوَاكِب آلِهَة، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ: إِنَّهَا فعالة بأنفسها وَإِن كَانَت عِنْدهم مخلوقة،.

     وَقَالَ  بَعضهم: هَذَا الْجَواب عِنْدِي لَيْسَ بطائل.
قلت: هَذَا الْجَواب جَوَاب شَيْخه الشَّيْخ زين الدّين، رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَن بيَّن وَجه مَا ذكره، وَقيل: وَجه ذَلِك أَن جَمِيع الْعِبَادَات توفّي مِنْهَا مظالم الْعباد إلاَّ الصّيام، وروى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن أَيُّوب عَن حسان الوَاسِطِيّ عَن أَبِيه عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: (إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُحَاسب الله عَبده وَيُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ من الْمَظَالِم من عمله حَتَّى لَا يبْقى لَهُ إلاَّ الصَّوْم، فيتحمل الله مَا بَقِي عَلَيْهِ من الْمَظَالِم، ويدخله بِالصَّوْمِ الْجنَّة) ..
     وَقَالَ  الْقُرْطُبِيّ: هَذَا حسن، غير أَنِّي وجدت فِي حَدِيث الْمُقَاصَّة ذكر الصَّوْم فِي جملَة الْأَعْمَال.
لِأَن فِيهِ: (الْمُفلس من يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة بِصَلَاة وَصدقَة وَصِيَام، وَيَأْتِي وَقد شتم هَذَا وَضرب هَذَا وَأكل مَال هَذَا) الحَدِيث.
وَفِيه: (فَيُؤْخَذ لهَذَا من حَسَنَاته، وَلِهَذَا من حَسَنَاته، فَإِن فنيت حَسَنَاته قبل أَن يقْضِي مَا عَلَيْهِ أَخذ من سيئاته فطرحت عَلَيْهِ ثمَّ طرح فِي النَّار) وَظَاهره أَن الصّيام مُشْتَرك مَعَ بَقِيَّة الْأَعْمَال فِي ذَلِك،.

     وَقَالَ  بَعضهم: إِن ثَبت قَول ابْن عُيَيْنَة أمكن تَخْصِيص الصّيام من ذَلِك.
قلت: يجْرِي الْإِمْكَان فِي كل عَام وَلَا يثبت التَّخْصِيص إلاَّ بِدَلِيل، وإلاَّ يلْزم إِلْغَاء حكم الْعَام وَهُوَ بَاطِل.

وَقَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد يسْتَدلّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَحْمد من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يرفعهُ: (كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم، الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) عَن شُعْبَة عَن مُحَمَّد بن زِيَاد، وَلَفظه: (قَالَ ربكُم تبَارك وَتَعَالَى: كل الْعَمَل كَفَّارَة إلاَّ الصَّوْم) .
قلت: أخرجه البُخَارِيّ فِي التَّوْحِيد عَن آدم عَن شُعْبَة بِلَفْظ: (يرويهِ عَن ربكُم قَالَ: لكل عمل كَفَّارَة، وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
انْتهى، وَلم يذكر إلاَّ الصَّوْم، فَدخل فِي صدر الْكَلَام الصَّوْم، لِأَن لفظ: كل، إِذا أضيف إِلَى النكرَة يَقْتَضِي عُمُوم الْأَفْرَاد، وَلكنه أخرجه من ذَلِك، بقوله: (وَالصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ) لحصوصية فِيهِ من الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَإِن كَانَت جَمِيع الْأَعْمَال لله تَعَالَى.
وَقيل: إِن الصَّوْم لَا يظْهر فتكتبه الْحفظَة كَمَا لَا تكْتب سَائِر أَعمال الْقُلُوب، وَقيل: اسْتندَ قَائِله إِلَى حَدِيث واهٍ جدا، أوردهُ ابْن الْعَرَبِيّ فِي المسلسلات، وَلَفظه: (قَالَ الله: الْإِخْلَاص سرُّ من سري أستودعه قلب من أحب لَا يطلع عَلَيْهِ ملك فيكتبه، وَلَا شَيْطَان فيفسده) .
قيل: اتَّفقُوا على أَن المُرَاد بالصيام هُنَا صِيَام من سلم صِيَامه من الْمعاصِي قولا وفعلاً.
وَنقل ابْن الْعَرَبِيّ عَن بعض الزهاد أَنه مَخْصُوص بصيام خَواص الْخَواص، فَقَالَ: إِن الصَّوْم على أَرْبَعَة أَنْوَاع: صِيَام الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع، و: صِيَام خَواص الْعَوام، وَهُوَ الصَّوْم وَهُوَ هَذَا مَعَ اجْتِنَاب الْمُحرمَات من قَول أَو فعل، وَصِيَام الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن ذكر غير الله وعبادته، وَصِيَام خَواص الْخَواص وَهُوَ الصَّوْم عَن غير الله، فَلَا فطر لَهُم إلاَّ يَوْم لِقَائِه.

قَوْله: (الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا) ، كَذَا وَقع مُخْتَصرا عِنْد البُخَارِيّ، وروى يحيى بن بكير عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث بعد قَوْله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا، فَقَالَ: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف إلاَّ الصّيام فَهُوَ لي وَأَنا أجزي بِهِ) .
فَخص الصّيام بالتضعيف على سَبْعمِائة ضعف فِي هَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا عقبه بقوله: (والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا) إعلاما بِأَن الصَّوْم مُسْتَثْنى من هَذَا الحكم فَكَأَنَّهُ قَالَ: سَائِر الْحَسَنَات بِعشر الْأَمْثَال بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ بأضعافه بِدُونِ الْحساب، وَالْحَاصِل أَن الصّيام لَا يتَقَيَّد بأعداد التَّضْعِيف، بل الله يجْزِيه على ذَلِك بِغَيْر حِسَاب.
فَإِن قلت: الْأَمْثَال جمع مثل، وَهُوَ مُذَكّر، فمنزلته: بِعشْرَة أَمْثَالهَا، بِالتَّاءِ الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث؟ قلت: مثل الْحَسَنَة هُوَ الْحَسَنَة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعشر حَسَنَات،.

     وَقَالَ  الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قد يكون لسبعمائة، وَالله يُضَاعف لمن يَشَاء.
قلت: هَذَا أَقَله، والتخصيص بِالْعدَدِ لَا يدل على الزَّائِد وَلَا عَدمه.