239 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ ؟ فَقَالَ قوْمٌ : نَحْنُ سَمِعْنَاهُ ، فَقَالَ : لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ ؟ قَالُوا : أَجَلْ ، قَالَ : تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ ، فَقُلْتُ : أَنَا ، قَالَ : أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا ، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا ، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا ، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا ، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ، قَالَ حُذَيْفَةُ : وَحَدَّثْتُهُ ، أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ ، قَالَ عُمَرُ : أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ ؟ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ ، قُلْتُ : لَا بَلْ يُكْسَرُ ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ قَالَ أَبُو خَالِدٍ : فَقُلْتُ لِسَعْدٍ : يَا أَبَا مَالِكٍ ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ ؟ قَالَ : شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ ، قَالَ : قُلْتُ : فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا ؟ قَالَ : مَنْكُوسًا ، وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، قالَ : لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ جَلَسَ ، فَحَدَّثَنَا ، فَقَالَ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابَهُ ، أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتَنِ ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ لِقَوْلِهِ : مُرْبَادًّا مُجَخِّيًا ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّ عُمَرَ ، قَالَ : مَنْ يُحَدِّثُنَا أَوْ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحَدِّثُنَا - وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ - مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ : أَنَا ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ ، عَنْ رِبْعِيٍّ ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : قَالَ حُذَيْفَةُ : حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ ، وَقَالَ : يَعْنِي أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ |
It is narrated on the authority of Hudhaifa:
We were sitting in the company of Umar and he said: Who amongst you has heard the Messenger of Allah (ﷺ) talking about the turmoil? Some people said: It is we who heard it. Upon this be remarked: Perhaps by turmoil you presume the unrest of man in regard to his household or neighbour, they replied: Yes. He ('Umar) observed: Such (an unrest) would be done away with by prayer, fasting and charity. But who amongst you has heard from the Apostle (ﷺ) describing that turmoil which would come like the wave of the ocean. Hudhaifa said: The people hushed into silence, I replied: It is I. He ('Umar) said: Ye, well, your father was also very pious. Hudhaifa said: I heard the Messenger of Allah (may peace be, upon him ) observing: Temptations will be presented to men's hearts as reed mat is woven stick by stick and any heart which is impregnated by them will have a black mark put into it, but any heart which rejects them will have a white mark put in it. The result is that there will become two types of hearts: one white like a white stone which will not be harmed by any turmoil or temptation, so long as the heavens and the earth endure; and the other black and dust-coloured like a vessel which is upset, not recognizing what is good or rejecting what is abominable, but being impregnated with passion. Hudhaifa said: I narrated to him ('Umar): There is between you and that (turmoil) a closed door, but there is every likelihood of its being broken. 'Umar said: Would it be broken? You have, been rendered fatherless. Had it been opened, it would have been perhaps closed also. I said: No, it would be broken, and I narrated to him: Verily that door implies a person who would be killed or die. There is no mistake in this hadith. Abu Khalid narrated: I said to Sa'd, O Abu Malik, what do you mean by the term Aswad Murbadda? He replied: High degree of whiteness in blackness. I said: What is meant by Alkoozu Mujakhiyyan? He replied: A vessel turned upside down.
شاهد كل الشروح المتوفرة للحديث
[144] وَقَولُهُ (فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الْفِتْنَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى ان الحسنات يذهبن السيئات وَقَولُهُ (الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ) أَيْ تضطرب وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا وَقَولُهُ (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَقَولُهُ (لِلَّهِ أَبُوكَ) كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بيت الله وناقة اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا) هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شيخنا أبوالحسين بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قال بن سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَولُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قلوبهم العجل أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ .
قَوْلُهُ مْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بالتاء المثناة فى آخره قال بن دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضبطه كماذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ القاضي عياض قال لى بن سَرَّاجٍ لَيْسَ .
قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ (قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ بن دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍوَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا .
قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حياتك وأما قوله يوشك فبضم الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ وَقَولُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ وَقَولُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ والله اعلم قوله وحدثته أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَولُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهَكَذَا عَلَى الشَّكِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِبْهَامُ عَلَى حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَاطِبَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَتْلِ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْبَابُ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ قَبْلَ غَدٍ اللَّيْلَةَ فَأَتَى حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكَلَامٍ يَحْصُلُ مِنْهُ الْغَرَضُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ إِخْبَارًا لِعُمَرَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِيَ جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ وَهِيَ الَّتِي يُغَالَطُ بِهَا فَمَعْنَاهُ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا صِدْقًا مُحَقَّقًا لَيْسَ هُوَ مِنْ صُحُفِ الْكِتَابِيِّينَ وَلَا مِنَ اجْتِهَادِ ذِي رَأْيٍ بَلْ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَائِلَ بَيْنَ الْفِتَنِ وَالْإِسْلَامِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الْبَابُ فَمَا دَامَ حَيًّا لَا تَدْخُلُ الْفِتَنُ فَإِذَا مَاتَ دَخَلَتِ الْفِتَنُ وَكَذَا كَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
.
وَأَمَّا .
قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَلَسَ فَحَدَّثَنَا فَقَالَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتن إلى آخره فالمراد بقوله أمس الزمان الْمَاضِي لَا أَمْسِ يَوْمِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ تَحْدِيثِهِ لِأَنَّ مُرَادَهُ لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ الْكُوفَةَ فِي انْصِرَافِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي أَمْسِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَمْسٌ اسْمٌ حُرِّكَ آخِرُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتَلَفَ الْعَرَبُ فِيهِ فَأَكْثَرُهُمْ يَبْنِيهِ عَلَى الْكَسْرِ مَعْرِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِبهُ مَعْرِفَةً وَكُلُّهُمْ يُعْرِبهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ صَيَّرَهُ نَكِرَةً أَوْ أَضَافَهُ تَقُولُ مَضَى الْأَمْسُ الْمُبَارَكُ وَمَضَى أَمْسُنَا وَكُلُّ غَدٍ صَائِرٌ أَمْسًا.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مُذْ أَمْسَ بِالْفَتْحِ هَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ.
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ الْفَرَّاءُ وَمِنِ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ الْأَمْسَ وَإِنْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَاللَّهُ أعلم
(باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا (وَأَنَّهُ يَأْرَزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ)
[144] فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله هِيَ فرط محبته لَهُم وشحه عَلَيْهِم وشغله بهم عَن كثير من الْخَيْر وتفريطه فِيمَا يلْزمه من الْقيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم تموج تضطرب وتدفع بَعْضهَا بَعْضًا وَشبههَا بموج الْبَحْر لشدَّة عظمها وَكَثْرَة شيوعها فأسكت الْقَوْم بِقطع الْهمزَة الْمَفْتُوحَة يُقَال سكت وأسكت لُغَتَانِ بِمَعْنى صمت قَالَه أَكثر أهل اللُّغَة.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي سكت صمت وأسكت أطرق لله أَبوك كلمة مدح تعتاد الْعَرَب الثَّنَاء بهَا فَإِن الْإِضَافَة إِلَى الْعَظِيم تشريف وَلِهَذَا يُقَال بَيت الله وناقة الله فَإِذا وجد من الرجل مَا يحمد قيل لله أَبوك حَيْثُ أَتَى بمثلك تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب كالحصير عودا عودا فِي ضَبطه أوجه أظهرها وأشهرها ضم الْعين وإهمال الدَّال وَالثَّانِي فتح الْعين مَعَ الإهمال وَالثَّالِث الْفَتْح والإعجام وَاخْتَارَ القَاضِي الأول وَبِه جزم صَاحب التَّحْرِير وَاخْتَارَ بن السراج الثَّانِي.
وَقَالَ وَمعنى تعرض تلصق بِعرْض الْقُلُوب أَي جَانبهَا كَمَا يلصق الْحَصِير بِجنب النَّائِم ويؤثر فِيهِ شدَّة التصاقها بِهِ قَالَ وَمعنى عودا عودا أَي تُعَاد وتكرر شَيْئا بعد شَيْء قَالَ وَمن رَوَاهُ بِالْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاه سُؤال الِاسْتِعَاذَة مِنْهَا كَمَا يُقَال غفرا غفرا أَي نَسْأَلك أَن تعيذنا من ذَلِك.
وَقَالَ غَيره مَعْنَاهُ تظهر على الْقُلُوب أَي تظهر لَهَا فتْنَة بعد أُخْرَى وَقَوله كالحصير أَي كَمَا ينسج الْحَصِير عودا عودا وشظية بعد أُخْرَى قَالَ القَاضِي وعَلى هَذَا يتَرَجَّح رِوَايَة ضم الْعين وَذَلِكَ أَن ناسج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كلما صنع عودا أَخذ آخر ونسجه فَشبه عرض الْفِتَن على الْقُلُوب وَاحِدَة بعد أُخْرَى بِعرْض قضبان الْحَصِير على صانعها وَاحِدًا بعد وَاحِد قَالَ القَاضِي وَهَذَا معنى الحَدِيث عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يدل عَلَيْهِ سِيَاق لَفظه وَصِحَّة تشبيهه أشربها أَي دخلت فِيهِ دُخُولا تَاما وألزمها وحلت مِنْهُ مَحل الشَّرَاب وَمِنْه وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل أَي حبه وثوب مشرب بحمرة أَي خالطته مُخَالطَة لَا انفكاك لَهَا نكت بِالْمُثَنَّاةِ آخِره نقط نُكْتَة نقطة قَالَ بن دُرَيْد كل نقط فِي شَيْء بِخِلَاف لَونه فَهُوَ نكت أنكرها ردهَا أَبيض مثل الصَّفَا إِلَى آخِره قَالَ القَاضِي لَيْسَ تشبيهه بالصفا بَيَانا لبياضه وَلَكِن صفة أُخْرَى على شدته على عقد الْإِيمَان وسلامته من الْخلَل وَأَن الْفِتَن لم تلصق بِهِ وَلم تُؤثر فِيهِ كالصفا وَهُوَ الْحجر الأملس الَّذِي لَا يعلق بِهِ شَيْء مربادا بِالنّصب على الْحَال وَفِي بعض الْأُصُول مربئدا بِهَمْزَة مَكْسُورَة بعد الْيَاء وَالدَّال الْمُشَدّدَة من اربأد ك احمأر لُغَة فحين اربد كاحمر وَالْمَفْعُول من هَذِه مربد بِلَا همز كمحمر مجخيا بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة أَي مائلا قَالَ بن السراج لَيْسَ قَوْله كالكوز مجخيا تَشْبِيها لما تقدم من سوَاده بل هُوَ وصف آخر من أَوْصَافه بِأَنَّهُ قلب ونكس حَتَّى لَا يعلق بِهِ خير وَلَا حِكْمَة.
وَقَالَ القَاضِي شبه الْقلب الَّذِي لَا يعي خيرا بالكوز المجوف الَّذِي لَا يثبت المَاء فِيهِ إِن بَيْنك وَبَينهَا بَابا مغلقا مَعْنَاهُ أَن تِلْكَ الْفِتَن لَا يخرج شَيْء مِنْهَا فِي حياتك يُوشك بِكَسْر الشين أَي يقرب أكسرا أَي أيكسر كسرا لَا أَبَا لَك قَالَ صَاحب التَّحْرِير هَذِه كلمة تَقُولهَا الْعَرَب للحث على فعل الشَّيْء وَمَعْنَاهُ أَن الْإِنْسَان إِذا كَانَ لَهُ أَب وَوَقع فِي شدَّة عاونه أَبوهُ وَرفع عَنهُ بعض الْكل فَلَا يحْتَاج من الْجد والاهتمام إِلَى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَالَة الِانْفِرَاد وَعدم الْأَب المعاون فَإِذا قيل لَا أَبَا لَك فَمَعْنَاه جد فِي هَذَا الْأَمر وشمر وتأهب تأهب من لَيْسَ لَهُ معاون فَلَو أَنه فتح لَعَلَّه يُعَاد أَي بِخِلَاف المكسور فَإِنَّهُ لَا يُمكن إِعَادَته وَلِأَن الْكسر لَا يكون غَالِبا إِلَّا عَن إِكْرَاه وَغَلَبَة رجل يقتل أَو يَمُوت هُوَ عمر كَمَا بَين فِي صَحِيح البُخَارِيّ ثمَّ يحْتَمل أَن يكون حُذَيْفَة سَمعه من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا على الشَّك وَالْمرَاد بِهِ الْإِبْهَام على حُذَيْفَة وَغَيره وَيحْتَمل أَن يكون حُذَيْفَة علم أَنه يقتل وَلكنه كره أَن يُخَاطب عمر بِالْقَتْلِ فَإِن عمر كَانَ يعلم أَنه هُوَ الْبَاب كَمَا فِي البُخَارِيّ حَدِيثا لَيْسَ بالأغاليط جمع أغلوطة وَهِي الَّتِي يغالط بهَا أَي حَدِيثا صدقا محققا لَيْسَ هُوَ من صحف الْكَاتِبين وَلَا من اجْتِهَاد ورأي بل من حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أسود مربادا قَالَ شدَّة بَيَاض فِي سَواد قَالَ بَعضهم هُوَ تَصْحِيف وَصَوَابه شبه الْبيَاض فِي سَواد لِأَن شدَّة الْبيَاض فِي السوَاد لَا تسمى ربدة وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ بلق والربدة إِنَّمَا هِيَ شَيْء من بَيَاض يسير يخالط السوَاد كلون أَكثر النعام وَمِنْه قيل للنعامة ربدا قَالَ أَبُو عَمْرو الربدة لون بَين السوَاد والغبرة.
وَقَالَ بن دُرَيْد لون أكدر
[ سـ
:239 ... بـ
:144]
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ قَالُوا أَجَلْ قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ حُذَيْفَةُ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ أَنَا قَالَ أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ قَالَ حُذَيْفَةُ وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ.
قُلْتُ لَا بَلْ يُكْسَرُ وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ قَالَ أَبُو خَالِدٍ فَقُلْتُ لِسَعْدٍ يَا أَبَا مَالِكٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا قَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ قَالَ.
قُلْتُ فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا قَالَ مَنْكُوسًا وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ جَلَسَ فَحَدَّثَنَا فَقَالَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتَنِ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ لِقَوْلِهِ مُرْبَادًّا مُجَخِّيًا وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ قَالُوا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ مَنْ يُحَدِّثُنَا أَوْ قَالَ أَيُّكُمْ يُحَدِّثُنَا وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ حُذَيْفَةُ أَنَا وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ .
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ قَالَ حُذَيْفَةُ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ.
وَقَالَ يَعْنِي أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فِي عَرْضِ الْفِتَنِ فَفِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ بِالْمُثَنَّاةِ وَ رِبْعِيٌّ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَهُوَ ابْنُ حِرَاشٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ
وَقَوْلُهُ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَصْلُ الْفِتْنَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ وَالِاخْتِبَارُ قَالَ الْقَاضِي ثُمَّ صَارَتْ فِي عُرْفِ الْكَلَامِ لِكُلِّ أَمْرٍ كَشَفَهُ الِاخْتِبَارُ عَنْ سُوءٍ قَالَ أَبُو زَيْدٍ فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إِذَا وَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ وَتَحَوَّلَ مِنْ حَالٍ حَسَنَةٍ إِلَى سَيِّئَةٍ وَفِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ضُرُوبٌ مِنْ فَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَشُحِّهِ عَلَيْهِمْ وَشُغْلِهِ بِهِمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ أَوْ لِتَفْرِيطِهِ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ فَإِنَّهُ رَاعٍ لَهُمْ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكَذَلِكَ فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ مِنْ هَذَا فَهَذِهِ كُلُّهَا فِتَنٌ تَقْتَضِي الْمُحَاسَبَةَ وَمِنْهَا ذُنُوبٌ يُرْجَى تَكْفِيرُهَا بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
وَقَوْلُهُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرِ أَيْ تَضْرِبُ وَيَدْفَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا وَشَبَّهَهَا بِمَوْجِ الْبَحْرِ لِشِدَّةِ عِظَمِهَا وَكَثْرَةِ شُيُوعِهَا
وَقَوْلُهُ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَكَتَ وَأَسْكَتَ لُغَتَانِ بِمَعْنَى صَمَتَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ سَكَتَ صَمَتَ وَأَسْكَتَ أَطْرَقَ وَإِنَّمَا سَكَتَ الْقَوْمُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْفَظُونَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْفِتْنَةِ وَإِنَّمَا حَفِظُوا النَّوْعَ الْأَوَّلَ
وَقَوْلُهُ لِلَّهِ أَبُوكَ كَلِمَةُ مَدْحٍ تَعْتَادُ الْعَرَبُ الثَّنَاءَ بِهَا فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْعَظِيمِ تَشْرِيفٌ وَلِهَذَا يُقَالُ بَيْتُ اللَّهِ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ فَإِذَا وُجِدَ مِنَ الْوَلَدِ مَا يُحْمَدُ قِيلَ لَهُ لِلَّهِ أَبُوكَ حَيْثُ أَتَى بِمِثْلِكَ
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا هَذَانِ الْحَرْفَانِ مِمَّا اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا وَأَشْهَرُهَا عُودًا عُودًا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَالثَّالِثُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ غَيْرَ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْقَاضِي عِيَاضٌ فَذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ وَاخْتَارَ الْأَوَّلُ أَيْضًا قَالَ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ سَرَّاجٍ فَتْحَ الْعَيْنِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ وَمَعْنَى تُعْرَضُ أَنَّهَا تُلْصَقُ بِعَرْضِ الْقُلُوبِ أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَقُ الْحَصِيرُ بِجَنْبِ النَّائِمِ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ شِدَّةُ الْتِصَاقهَا بِهِ قَالَ وَمَعْنَى عَوْدًا عَوْدًا أَيْ تُعَادُ وَتُكَرَّرُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ قَالَ ابْنُ سَرَّاجٍ وَمَنْ رَوَاهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ فَمَعْنَاهُ سُؤَالُ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْهَا كَمَا يُقَالُ غُفْرًا غُفْرًا وَغُفْرَانَكَ أَيْ نَسْأَلُكَ أَنْ تُعِيذَنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ مَعْنَاهُ تَظْهَرُ عَلَى الْقُلُوبِ أَيْ تَظْهَرُ لَهَا فِتْنَةٌ بَعْدَ أُخْرَى وَقَوْلُهُ كَالْحَصِيرِ أَيْ كَمَا يُنْسَجُ الْحَصِيرُ عُودًا عُودًا وَشَظِيَّةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ الْقَاضِي وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ رِوَايَةُ ضَمِّ الْعَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِجَ الْحَصِيرِ عِنْدَ الْعَرَبِ كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَرَ وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرْضَ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَانِ الْحَصِيرِ عَلَى صَانِعِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ لَفْظِهِ وَصِحَّةُ تَشْبِيهِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ مَعْنَى أُشْرِبَهَا دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلَّ الشَّرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أَيْ حُبَّ الْعِجْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ ثَوْبٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَةُ مُخَالَطَةً لَا انْفِكَاكَ لَهَا وَمَعْنَى نُكِتَ نُكْتَةً نُقِطَ نُقْطَةً وَهِيَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فِي آخِرِهِ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ كُلُّ نُقْطَةٍ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ لَوْنِهِ فَهُوَ نَكْتٌ وَمَعْنَى أَنْكَرَهَا رَدَّهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْسَ تَشْبِيهُهُ بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَةً أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْدِ الْإِيمَانِ وَسَلَامَتِهِ مِنَ الْخَلَلِ وَأَنَّ الْفِتَنَ لَمْ تَلْصَقْ بِهِ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا يَعْلَقُ بِهِ شَيْءٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ مُرْبَادًّا فَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَأُصُولِ بِلَادِنَا وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا فِي ضَبْطِهِ وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْبَئِدٌ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُهْمَزَ وَيَكُونُ مُرْبَدٌّ مِثْلُ مُسَوَّدٌ وَمُحْمَرٌّ وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْهَرَوِيُّ وَصَحَّحَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا عَنْ أَبِي مَرْوَانَ بْنِ سَرَّاجٍ لِأَنَّهُ مِنَ ارْبَدَّ إِلَّا عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ احْمَأَرَّ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ فَيُقَالُ ارْبَأَدَّ وَمُرْبَئِدٌّ وَالدَّالُ مُشَدَّدَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ مُجَخِّيًا فَهُوَ بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ مَعْنَاهُ مَائِلًا كَذَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَفَسَّرَهُ الرَّاوِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ مَنْكُوسًا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَائِلِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ لِي ابْنُ سَرَّاجٍ لَيْسَ قَوْلُهُ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا تَشْبِيهًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سَوَادِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ أَوْصَافِهِ بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَقَ بِهِ خَيْرٌ وَلَا حِكْمَةٌ وَمَثَّلَهُ بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا
قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شَبَّهَ الْقَلْبَ الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِفِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِيهِ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِيَ دَخَلَ قَلْبَهُ بِكُلِّ مَعْصِيَةٍ يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَةٌ وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ افْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُورُ الْإِسْلَامِ وَالْقَلْبُ مِثْلُ الْكُوزِ فَإِذَا انْكَبَّ انْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ شَيْءٌ بَعْدَ ذَلِكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ.
قُلْتُ لِسَعْدٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا فَقَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ إِنَّهُ تَصْحِيفٌ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيِّ قَالَ أَرَى أَنَّ صَوَابَهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ وَذَلِكَ أَنَّ شِدَّةَ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ لَا يُسَمَّى رُبْدَةً وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا بَلَقٌ إِذَا كَانَ فِي الْجِسْمِ وَحَوَرًا إِذَا كَانَ فِي الْعَيْنِ وَالرُّبْدَةُ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ مِنْ بَيَاضٍ يَسِيرٍ يُخَالِطُ السَّوَادَ كَلَوْنِ أَكْثَرِ النَّعَامِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّعَامَةِ رَبْدَاءُ فَصَوَابُهُ شِبْهُ الْبَيَاضِ لَا شِدَّةُ الْبَيَاضِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِهِ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْغَبَرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ الرُّبْدَةُ لَوْنٌ أَكْدَرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ أَنْ يَخْتَلِطَ السَّوَادُ بِكُدْرَةٍ.
وَقَالَ الْحَرْبِيُّ لَوْنُ النَّعَامِ بَعْضُهُ أَسْوَدُ وَبَعْضُهُ أَبْيَضُ وَمِنْهُ ارْبَدَّ لَوْنُهُ إِذَا تَغَيَّرَ وَدَخَلَهُ سَوَادٌ.
وَقَالَ نَفْطَوَيْهِ الْمُرْبَدُ الْمُلَمَّعُ بِسَوَادٍ وَبَيَاضٍ وَمِنْهُ تَرَبَّدَ لَوْنُهُ أَيْ تَلَوَّنَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ حَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ أَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ تِلْكَ الْفِتَنَ لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ مِنْهَا فِي حَيَاتِكَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ يُوشِكُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ وَمَعْنَاهُ يَقْرُبُ
وَقَوْلُهُ أَكَسْرًا أَيْ أَيُكْسَرُ كَسْرًا فَإِنَّ الْمَكْسُورَ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ بِخِلَافِ الْمَفْتُوحِ وَلِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا عَنْ إِكْرَاهٍ وَغَلَبَةٍ وَخِلَافِ عَادَةٍ
وَقَوْلُهُ لَا أَبَا لَكَ قَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ هَذِهِ كَلِمَةٌ تَذْكُرهَا الْعَرَبُ لِلْحَثِّ عَلَى الشَّيْءِ وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ لَهُ أَبٌ وَحَزَبَهُ أَمْرٌ وَوَقَعَ فِي شِدَّةٍ عَاوَنَهُ أَبُوهُ وَرَفَعَ عَنْهُ بَعْضَ الْكُلِّ فَلَا يَحْتَاجُ مِنَ الْجِدِّ وَالِاهْتِمَامِ إِلَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الِانْفِرَادُ وَعَدَمُ الْأَبِ الْمُعَاوِنِ فَإِذَا قِيلَ لَا أَبَا لَكَ فَمَعْنَاهُ جِدَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَشَمِّرْ وَتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعَاوِنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ وَحَدِيثُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُقْتَلُ فَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَوْلُهُ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا عَلَى الشَّكِّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِبْهَامُ عَلَى حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حُذَيْفَةُ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَاطِبَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالْقَتْلِ فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ الْبَابُ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ قَبْلَ غَدٍ اللَّيْلَةَ فَأَتَى حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِكَلَامٍ يَحْصُلُ مِنْهُ الْغَرَضُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ إِخْبَارًا لِعُمَرَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِيَ جَمْعُ أُغْلُوطَةٍ وَهِيَ الَّتِي يُغَالَطُ بِهَا فَمَعْنَاهُ حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا صِدْقًا مُحَقَّقًا لَيْسَ هُوَ مِنْ صُحُفِ الْكِتَابِيِّينَ وَلَا مِنَ اجْتِهَادِ ذِي رَأْيٍ بَلْ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَائِلَ بَيْنَ الْفِتَنِ وَالْإِسْلَامِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ الْبَابُ فَمَا دَامَ حَيًّا لَا تَدْخُلُ الْفِتَنُ فَإِذَا مَاتَ دَخَلَتِ الْفِتَنُ وَكَذَا كَانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَلَسَ فَحَدَّثَنَا فَقَالَ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْفِتَنِ ؟ إِلَى آخِرِهِ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَمْسِ لِزَمَانِ الْمَاضِي لَا أَمْسِ يَوْمِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ تَحْدِيثِهِ لِأَنَّ مُرَادَهُ لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ الْكُوفَةَ فِي انْصِرَافِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَفِي أَمْسِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ أَمْسٌ اسْمٌ حُرِّكَ آخِرُهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتَلَفَ الْعَرَبُ فِيهِ فَأَكْثَرُهُمْ يَبْنِيهِ عَلَى الْكَسْرِ مَعْرِفَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِبهُ مَعْرِفَةً وَكُلُّهُمْ يُعْرِبهُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ أَوْ صَيَّرَهُ نَكِرَةً أَوْ أَضَافَهُ تَقُولُ مَضَى الْأَمْسُ الْمُبَارَكُ وَمَضَى أَمْسُنَا وَكُلُّ غَدٍ صَائِرٌ أَمْسًا.
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ جَاءَ فِي الشِّعْرِ مُذْ أَمْسَ بِالْفَتْحِ هَذَا كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ قَالَ الْفَرَّاءُ وَمِنِ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ الْأَمْسَ وَإِنْ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ