شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ - الحديث رقم 4

رقم الحديث 4 هذا الحديث هو الرابع من هذه الأحاديث المباركة، وهو حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- فيه ذكر القدر وذكر جمع الخلق في رحم الأم.
وهذا الحديث أصل في باب القدر والعناية بذلك، والخوف من السوابق والخوف من الخواتيم، وكما قيل: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: ماذا يختم لنا، وقلوب السابقين أو المقربين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا.
وهذا وهو الإيمان بالقدر والخوف من الكتاب السابق والخوف من الخاتمة، هذا من آثار الإيمان بالقدر خيره وشره، فإن هذا الحديث دل على أن هناك تقديرًا عمريًا لكل إنسان، وهذا التقدير العمري يكتبه المَلك بأمر الله -جل وعلا- كما جاء في هذا الحديث.
إذًا هذا الحديث مَسُوقٌ لبيان التقدير العمري لكل إنسان؛ وليخاف المرء السوابق والخواتيم؛ وليؤمن بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، والسوابق في عمل العبد والخواتيم متصلة كما قيل: الخواتيم ميراث السوابق.
فالخاتمة ترثها لأجل السوابق، فما من خاتمة إلا وسببها بلطف الله -جل وعلا- ورحمته أو بعدله وحكمته.
سوابق المرء في عمله وهي جميعاً متعلقة بسوابق القدر.
هذا الحديث قال فيه ابن مسعود -رضي الله عنه-: "حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق": قوله: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم هذا فيه استعمال لفظ التحديث من ابن مسعود -رضي الله عنه- وهو أحد ألفاظ التَّحَمُّل المعروفة عند المحدثين؛ ولهذا استعملها العلماء كثيراً في صيغ التحديث، واستعملوا -أيضاً- لفظ أخبرنا، وقد رواه الصحابة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فالمحدثون اختاروا من ألفاظ التحمل "حدثنا" وهي أعلاها؛ لأجل قول الصحابة حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا الحديث مثال لذلك، واختاروا "أخبرنا" -أيضاً- لقول الصحابة أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أخبرني النبي -صلى الله عليه وسلم- بكذا وزادوا عليها ألفاظاً من ألفاظ التحمل.
قوله: "وهو الصادق المصدوق": هو الصادق: يعني الذي يأتي بالصدق والصدق، حقيقته الإخبار بما هو موافق للواقع، والكذب ضده وهو الإخبار بما يخالف الواقع، والمصدوق: هو المصدَّق يعني الذي لا يقول شيئاً إلا صُدِّقَه.
وقول ابن مسعود هنا "وهو الصادق المصدوق" هذه تهيئة … هذه فيها أدب للمعلم أن يهيئ العلم لمن يعلمه ومن يخبره بالعلم؛ لأن هذا الحديث فيه شيء غيبي لا يدرك لا بالحس ولا بالتجربة، وإنما يُدرك بالتسليم والعلم بالخبر لصدق المخبِر به -عليه الصلاة والسلام- ففيه ذكر تنوع الحَمْل.
ومعلوم أن الصحابة في ذلك الوقت لم يكونوا يعلمون ذلك الزمان لم يكونوا يعلمون تطور هذه المراحل بعلم تجريبي أو برؤية أو بنحو ذلك، وإنما هو الخبر الذي يصدقونه، فكانوا علماء لا بالتجريب وإنما بخبر الوحي على النبي -صلوات الله عليه وسلامه.
قال: "وهو الصادق المصدوق" يعني: الذي لا يخبر بشيء على خلاف الواقع، وهو الذي إذا أخبر بشيء صُدِّقه مهما كان، وهذا من جراء التسليم له -عليه الصلاة والسلام- بالرسالة.
قال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة لفظ "يُجمع" كأنه كان قبل ذلك متفرقاً فجُمع نطفة، والنطفة معروفة، وهي: ماء الرجل وماء المرأة، أو ما شابه ذلك قبل أن يتحول إلى دم، والعلقة قطعة الدم التي تعلق بالشيء وهي تعلق بالرحم، والمضغة هي قطعة اللحم.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- هنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدثهم: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة يعني: أنه يكون ماء لمدة أربعين يوماً لا يتحول إلى دم هذا المدة -يعني- من حيث من بداية وضع النطفة في الرحم تستمر أربعين يوماً على هذا النحو.
وهل يعني استمرارها هذه المدة أنها في هذه المدة لا يكون فيها أي نوع من التصوير أو الخلق أو نحو ذلك؟ لا يدل هذا الحديث على ذلك وإنما يدل على أن هذه المدة تكون نطفة، أما مسألة التصوير، ومتى تكون فهذه لم يعرض لها في هذا الحديث، وإنما في أحاديث أخرى.
قال: ثم يكون علقة مثل ذلك يعني: يكون دماً متجمداً في رحم الأم أربعين يوماً أخرى.
قال: ثم يكون مضغة مثل ذلك يعني: يتحول إلى مضغة، وهي قطعة اللحم -أيضاً- أربعين يوماً أخرى، وهذه -تحوُّل من الدم إلى اللحم … إلى آخره- قال فيها -عليه الصلاة والسلام-: "ثم يكون" وكلمة "ثم" هذه تفيد التراخي والتراخي -كما هو معلوم -في كل شيء بحسبه، والتصوير يكون في أثناء هذه المدة.
وقد جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيل -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا بلغت النطفة ثِنتين وأربعين ليلة أرسل إليها الملك فيأمره الله -جل وعلا- بتصويرها، ثم يقول: أي ربي، أذكر أم أنثى؟ فيأمر الله ما شاء ويكتب الملَك، ثم يقول: أي ربي، شقي أم سعيد؟ فيقول الله أو يأمر الله بما شاء ثم يكتب المَلَك، ثم يقول: أي ربي، رزقه؟ فيقول الله ما شاء ثم يكتب الملك .
فهذا يدل على أن التصوير سابق لتمام هذه المدة، وأن التصوير يكون بعد ثنتين وأربعين ليلة، وقد قال -جل وعلا-: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ وهذا التصوير معناه التخطيط، فإن هناك ثلاثة ألفاظ، ألفاظ التكوين: تكوين المخلوق وهي التصوير، والخلق، والبَرْء: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ .
فالمصور معناه: الذي يجعل الشيء على هيئة صورة مخططة، الخالق أو خلق الشيء … خلق الجنين: أن يجعل لها مقاديرها من الأطراف والأعضاء ونحو ذلك، والبرء: أن تتم وتكون تامة، يعني: أن يبرأ ما سبق وهذا في الجنين واضح، فإن الجنين يصور -أولاً- قبل أن تخلق له الأعضاء.
فلو رُئي الجنين … بعض الأجنة إذا سقط في تسعين يوماً أو في أكثر من ثمانين يوماً ونُظر إليه إذا أسقطته الأم ونظر إليه وُجد أنه كلوحة عليها خطوط، يعني: العين مرسومة رسمًا فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .
وتجد أنه كالتخطيط في شيء شفاف، وهذا لم تتكون الأعضاء، وإنما هذا التصوير، وهذا كما جاء في حديث حذيفة يفعله الملك بأمر الله -جل جلاله.
والملائكة موكلون بما يريد الله -جل وعلا- منهم كما قال -سبحانه-: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ فالملائكة موكلون بما شاء الله -جل وعلا- أن يفعلوه لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
نستفيد -أيضاً- من هذا أن في هذه المدة يكتب: هل هو ذكر أم أنثى؟ كما جاء في حديث حذيفة الذي ذكرت لك في مسلم أنه بعد الثنتين والأربعين ليلة يسأل الملَك فيقول: أي ربي، ذكر أم أنثى؟ فيقول الله -جل وعلا- أو يأمر الله -جل وعلا- بما شاء فيكتب الملك .
قال طائفة من المحققين من أهل العلم: إنه بذلك يعني بعد الثنتين والأربعين يخرج علم نوع الجنين من كونه ذكرا أو أنثى عن اختصاص الله -جل وعلا- به؛ لأن الله -جل وعلا- اختص بخمسة من علم الغيب اختص بخمسة لا يعلمها إلا الله، ومنها: أنه -جل وعلا- وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ .
وما في الأرحام كثيرة … ما في الأرحام يشمل: مَن في الرحم، ويشمل ما في الرحم اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ وهذا العلم الشمولي بتطور الجنين في بطن أمه لحظة بلحظة لا أحد يعلمها إلا الله -جل جلاله-.
أما العلم بكون الجنين ذكرا أو أنثى فهذا من اختصاص علم الله -جل وعلا- قبل الثنتين والأربعين ليلة، فإذا أعْلَم الملَك بذلك دل الحديث على خروجه عن العلم الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا.
ولهذا في بعض الأعصر المتقدمة كان بعض أهل التجريب كما ذكر ذلك ابن العربي في تفسيره "أحكام القرآن" بعض أهل التجريب كان ينظر إلى رحم المرأة … ينظر إلى المرأة الحامل، ويقول: في بطنها ذكر أم أنثى، يعني: إذا عظم بطنها.
وذكر العلماء: أن هذا ليس فيه ادعاء علم الغيب؛ لأن الاختصاص فيما قبل ذلك، منهم من يقيِّد الاختصاص بما قبل نفخ الروح، فيهم وهو الصحيح أن يقيد الاختصاص بما قبل الثنتين وأربعين ليلة كما دل عليه الحديث الصحيح الذي ذكرت لك.
وفى الزمن هذا يعرف -أيضاً- هل هو ذكر أم أنثى بالوسائل الحديثة وليس في هذا ادعاء علم الغيب؛ لأنهم لا يعلمون قطعاً ولا يستطيعون أن يعلموه إلا بعد هذه المدة التي ذكرنا، وأما قبلها فإنها من اختصاص علم الله -جل وعلا- مع أنهم لا يعلمونها إلا بعد أن تنفصل أو تتميز آلة الذكر من الأنثى، يعني: فرج الذكر من فرج الأنثى وهذا يكون بعد مدة.
قال -عليه الصلاة والسلام- هنا: يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك وهذه مائة وعشرون يوماً، يعني: أربعة أشهر.
قال: ثم يرسل إليه الملك هذا ملك آخر ملَك موكَّل بنفخ الروح أو هو الملك الأول ولكن هذا إرسال آخر، قال: فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد .
هنا نظر العلماء في ذلك فقالوا: هذا الحديث يدل على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر، وعلى هذا بنى الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم قولهم: إن الجنين إذا سقط لأربعة أشهر غُسِّل وصلي عليه؛ لأنه قد نفخ فيه الروح بدلالة هذا الحديث وأحاديث أُخَر دلت على أنه يكتب رزقه وأجله كما ذكرنا وشقي أو سعيد قبل ذلك.
فكيف نوفق بين الأحاديث التي فيها ذكر الكتابة قبل هذه المدة، وذكر الكتابة بعد تمام المائة وعشرين يوماً أي بعد تمام الأربعة أشهر.
للعلماء أقول في ذلك وأفضلها: أن هذا الذي جاء في هذا الحديث على وجه التقديم والتأخير، وذلك أن إدخال الكتابة في أثناء ذكر تدرج الحمل هذا من حيث اللغة غير مناسب، بل المراد أولاً أن يذكر التدرج ثم بعد ذلك ذكر نفخ الروح؛ لتعلقه بما قبله، وأما الكتابة فإنها وإن كانت في أثناء تلك المائة وعشرين يوماً فأخرت لأجل أنه لا يناسب إدخالها لترتيب تلك الأطوار بعضها على بعض.
يعني: أن اللغة يقتضي حسنها أن لا تدخل الكتابة بين هذه الأطوار فالمقصود هنا ذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، فذِكر الكتابة في أثنائها يقطع الوصل، وهذا له نظائر في اللغة، ومنه قول الله -جل وعلا- في سورة السجدة: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ … إلخ الآية.
فهنا كان الترتيب: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ مع أن النسل هذا ليس بأول هنا، يعني: نفخ الروح سبق وجود النسل، بدأ خلق الإنسان من طين ثم نفخت الروح ثم جُعل النسل من ماء مهين.
فهنا أخَّر نفخ الروح مع أنه بينهما؛ لأجل أن يتناسب الطين مع الماء، قال: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ .
وبهذا تتفق الأحاديث ولا يحسن في مثل هذه المجالس المختصرة أن نعرض اختلاف الرواية في هذا وكثرة الاعتراضات أو الإشكالات فيها لكن هذا هو أولى الأقوال في هذه المسألة وأقربها من حيث اللغة ومن حيث جمع الأحاديث.
إذا تقرر هذا فنفخ الروح هل هو متعلق بالكتابة أو هو بعد المائة والعشرين يوماً ؟ اختلف العلماء -أيضاً -في ذلك فقالت طائفة من أهل العلم: لا يكون نفخ الروح إلا بعد الأربعة أشهر؛ لأنه قال هنا: "ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" و"ثم" تقتضي التراخي الزمني؛ ولهذا قال طائفة من الصحابة واختاره الإمام أحمد وجماعة: أنه ينفخ فيه الروح في العشرة أيام التي تلي الأربعة أشهر.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه ينفخ فيه الروح بعد تمام أربعة أشهر وعشرة الروايات رويت عن الصحابة في ذلك.
وقال آخرون: أن نفخ الروح هنا عُلِّق أو جعل مقترنا به الكتابة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات فجعل الأمر بأربع كلمات تابعا مع نفخ الروح، ونعلم بالأحاديث الأُخَر أن الكتابة -كتابة هذه الكلمات- كانت قبل ذلك، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تتعارض بل تتفق؛ لأن الحق لا يعارض الحق وكلها يصدق بعضها بعضاً؛ فلهذا قالوا: هذا بناء على الأغلب.
وقد تنفخ الروح وتوجد الحركة قبل ذلك؛ لأنه هنا قرن نفخ الروح بالكتابة، والكتابة دلت أحاديث على سبقها، فمعنى ذلك: أنه يمكن أن يكون نفخ الروح في أثناء المائة وعشرين يوماً.
هل تكون الكتابة بعد نفخ الروح ؟.
هذا الحديث ليس فيه دلالة وإنما فيه ترتب الكتابة على الروح بالواو فقال: ثم يرسل إليه الملك … ويؤمر بأربع كلمات والواو لا تقتضي ترتيباً، وإنما تقتضي اشتراكاً، فمعنى ذلك أنه قد تتقدم الكتابة، وقد يتقدم نفخ الروح والأظهر تقدم الكتابة على نفخ الروح كما دلت عليه أحاديث كثيرة.
فإذًا نخلص من هذا … فيه خلاف طويل لأهل العلم، لكن ذكرت لكم لبه، وخلاصته أن الغالب أن يكون نفخ الروح كما جاء في هذا الحديث بعد مائة وعشرين يوماً، وقد يتحرك الجنين وينفخ قبل ذلك، وهذا مشاهد؛ فإنه كثير ما تحصل الحركة والإحساس بالجنين من قِبَل الأم وتنقله في رحمها قبل تمام الأربعة أشهر.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وكلماته وأحاديثه يصدِّق بعضها بعضا.
قال هنا: ويؤمر بأربع كلمات قال: فينفخ فيه الروح قبل ذلك فينفخ فيه الروح: الروح مخلوق من مخلوقات الله -جل وعلا- لا نعلم كيفية هذا النفخ، ولا كيف تتلبس الروح بالبدن، والروح أضيفت إلى الله -جل وعلا- تشريفاً لها وتعظيماً.
والروح أُضِيفَتْ إلى الله -جل وعلا- تشريفا لها وتعظيما لشأنها.
قال -جل وعلا-: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي الإضافة هنا إضافة خلق، وإضافة تشريف، ليست هي صفة لله -جل وعلا-.
والروح هي سر الحياة -كما هو معلوم-، وتعلُّق الروح ببدن الجنين في رحم الأم تعلق ضعيف؛ لأن الروح لم تكتسب شيئا، ولم تقوَ، فتبدأ الروح بالقوة في تعلقها بالبدن كلما تقدم بالجنين الزمن في رحم الأم، حتى إذا خرج صار التعلق تعلقا آخر.
يقول العلماء: إن تعلق الروح بالبدن أربعة أنواع: - تعلق في رحم الأم : هذا النوع الأول، وهو تعلق ضعيف، الحياة فيه للبدن، والروح تعلقها بالبدن ضعيف.
والثاني: في الحياة الدنيا، والحياة فيها للبدن، والروح تبع، وتعلقها بالبدن تعلُّقٌ مناسب لبقاء البدن في الدنيا.
النوع الثالث من التعلق: بعد الموت، والحياة فيه للروح، والبدن تبع.
والنوع الرابع: تعلق الروح بالبدن بعد قيام الناس لرب العالمين يوم القيامة، وهذا التعلق أكمل التعلقات، فتكون الحياة للبدن وللروح جميعا هي أعظم أنواع التعلق.
قال: ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد .
هذه الكتابة تُسمَّى القدر العمري أو التقدير العمري، والتقديرات أنواع: منها القدر اليومي، ومنها القدر السنوي، أرفع منه، ومنها القدر والتقدير العمري، ومنها التقدير أو القدر السابق الذي في اللوح المحفوظ.
والقدر السابق الذي في اللوح المحفوظ، هذا الذي يعم الخلائق جميعا، كما جاء ذلك في قول الله -جل وعلا-: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ .
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ .
قال -عليه الصلاة والسلام-: قَدَّرَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء .
قدَّر مقادير الخلائق يعني: كتبها، أما العلم فإنه أول ليس مقصورا بقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
فتحصَّل من هذا أن هذا التقدير اسمه التقدير العمري، وهو بعض القدر السابق، يعني: أنك إذا تصورت التقدير العمري للناس جميعا، فإن هذا يوافق التقدير الذي في اللوح المحفوظ، كل أحد بحسبه.
فالتقدير الذي في اللوح المحفوظ عام وخاص أيضا، وأما هذا التقدير فهو تقدير عمري يخص كل إنسان.
وهذا القدر ليس معناه أنه إجبار؛ يعني: يؤمر الملك بكتب أربع كلمات، يؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد.
هذه الأربع كلمات ليست إجبارا، يعني: لا يكون العبد بها مجبرا؛ وإنما هي إخبار للملك بأنْ يكتب ما كتبه الله -جل وعلا- ليظهر موافقة علم الله -جل وعلا- في العباد، ليظهر علم الله فيهم -جل وعلا-، وهذا التقدير لا يمكن لأحد أن يخالفه.
من كُتِبَ عليه أنه شقي فإنه سيكون شقيا؛ لأن علم الله -جل وعلا- نافذ، بمعنى أن الله -جل وعلا- يعلم ما سيكون عليه العباد، وسيكون عليه ما خلق إلى قيام الساعة، وما بعد ذلك أيضا.
فهذا التقدير العمري كتابة، فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بشيء، وهو أنه يقبل التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير، بمعنى: أن ما كتبه الله -جل وعلا- في أم الكتب لا يقبل المَحْو ولا التغيير، وغيره من أنواع التقديرات -يعني: السنوية أو العمرية- فإنها تقبل التغيير.
قال -جل وعلا-: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ .
قال ابن عباس: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ يعني: فيما في صحف الملائكة.
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ عنده اللوح المحفوظ، لا يتغير ولا يتبدل.
ولهذا كان عمر -رضي الله عنه- يقول في دعائه: "اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا".
وهذا يعني به الكتابة في صحف الملائكة، لا الذي في اللوح المحفوظ؛ فإن الذي في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل، وهذا له حكمة بالغة، وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحه، وأن يعظم الرغب إلى الله -جل وعلا-، وأن الله -سبحانه- يعلم ما العباد عاملون، ومما يعلم دعاؤهم ورجاؤهم بالله -جل وعلا- ووسائلهم إليه -سبحانه- في تحقيق ما به صلاحهم في الآخرة.
بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد كما ذكرت لك هذه ليس فيها إجبار، والعبد عندنا -أهل السنة- العبد مُخَيَّر، وفي اختياره لا يخرج عن قدر الله -جل وعلا- السابق، وليس بمجبر على ما يفعل، وليس -أيضا- خالقا لفعل نفسه؛ بل الله -جل وعلا- هو الذي يخلق فعل العبد.
هنا قال: فوالله الذي لا إله غيره هذه الكلمة مُدْرَجَة من كلمات ابن مسعود -رضي الله عنه- كتعليق على ما سبق من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ؛ لأن الكتاب فيما ذكر الخاتمة، شقي أو سعيد، وهذا باعتبار الخاتمة، سار طول عمره في طاعة، ثم بعد ذك اختار الشقاء، فوافق ما كتبه الملك أنه شقي، وليس معنى ذلك أنه مجبر، ولكن وافق ذلك.
وكما قلت لك: قال جماعة من السلف: "الخواتيم ميراث السوابق".
فلهذا يبعث هذا الحديث -وكلام ابن مسعود هذا- يبعث على الخوف الشديد من الخاتمة؛ لأن العبد لا يدري بما يُخْتَم له، والسوابق هي التي تكون وسائل للخواتيم، والعبد بين خوف عظيم في أمر خاتمته، وما بين رجاء عظيم، وإذا جاهد في الله حق الجهاد، واستقام على الطاعة، فإنه يُرْجَى له أن يُخْتَم له بخاتمة السعادة.
قال: إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع .
يعني: عن القرب، أن الأجل قريب، لكن يسبق عليه الكتاب، فيكون أمره في آخر أمره على الردة -والعياذ بالله-.
وعمله بعمل أهل الجنة، هذا فيما يظهر للناس، وفي قلبه الله أعلم به، ما ندري ماذا كان في قلوب الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، لكن نعلم -على اليقين- أن الله -جل وعلا- حَكَمٌ عَدْل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
قال: وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها رواه البخاري ومسلم.
وهذا من فضل الله العظيم على بعض عباده أن يختم له بخاتمة السعادة، هذا الحديث -كما ذكرت لك، وكلام ابن مسعود في آخره- يبعث على الخوف الشديد من الخواتيم، ويبدأ المرء يفكر فيما سبق له، وإن المرء -أحيانا- لينظر إلى السوابق، فلا يدري ماذا كتب له فيبكي.
كما قال بعض السلف من الأئمة، قال: "ما أبكَى العيون ما أبكاها الكتاب السابق".
فالمرء ينظر ويتأمل، ويود أنه لو اطلع على ما كتبه الملك، هل الملك كتبه شقيا أم كتبه سعيدا ؟ فإن كان كتبه سعيدا فهي سعادة له وطمأنينة، وإن كان كتبه شقيا فيعمل بعمل أهل الجنة حتى يُكْتَب من الأتقياء، ولكن الله -جل وعلا- بحكمته غَيَّبَ هذا عن العباد ليبقى الجد في العمل، ولتبقى حكمة التكليف، وأن يكون الناس متفاضلين في البر والتقوى، فليسا سواء حازم ومضيع، ليسا سواء من هو مجاهد يجاهد نفسه ويجاهد عدوه إبليس، ومن هو مضيع ويتبع نفسه هواها.
قال: "ما أبكَى العيون ما أبكَاها الكتاب السابق".
وقال بعضهم: قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُختم لنا، وقلوب السابقين -أو قال المقربين- معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا".
وهذا مثال للخوف الشديد الذي يكون في قلوب أهل الإيمان، وإذا كان هذا الخوف فإنه لا يعني أن يكون مترددا ليس على طاعة، ولكنه يبعثه هذا الخوف على الأخذ بالحزم، وأن يعد العدة للقاء الله -جل وعلا-، فالإيمان بالقدر له ثمراته العظيمة في العمل واليقين، وصلاح قلوب العباد.
فالأتقياء هم الذين آمنوا بالقدر، والمضيعون هم الذين اعترضوا على القدر، ولكلٍّ درجات عند الله -جل وعلا- من الفضل والنعمة، يعني: من المقربين والسابقين، وأصحاب اليمين إلى آخره، ولأهل الشقاء دركات في النار، نعوذ بالله من الخذلان.
نكتفي بهذا القدر، وأول الأحاديث، -يعني- إلى ثماني أو عشرة أحاديث، هذه جوامع تحتاج إلى طول، ثم بعد ذلك نمشي -إن شاء الله- لأن ما بعدها يكون قد سبق فيما قبل أو يكون الكلام عليه قليلا.
بارك الله فيكم، ونفعني -وإياكم-، وثبتنا -وإياكم- على الحق والعلم والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.