شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ - الحديث رقم 23

رقم الحديث 23 هذا الحديث -وهو الحديث الثالث والعشرون- حديث عظيم جدا، وألفاظه جوامع كلم للمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وهو من الأحاديث التي تهز النفس، وتدخل القلب بلا استئذان -يعني: أن فيه ما يرقق القلب، ويحمل على الطاعة بتأثيره على كل نفس- وألفاظه تدل عليه.
فقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيه: الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو قال تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
وهذه ألفاظ عظيمة للغاية، واشتملت على أحكام كثيرة ووصايا عظيمة دخلت في أبواب كثيرة من أبواب الدين، فقوله في أوله -عليه الصلاة والسلام-: الطُهور شطر الإيمان الطهور المقصود به الطهارة، التطهر؛ فإن صيغة فعول المقصود منها الفعل -يعني: ما يفعل- فالطهور هو التطهر كما أن الفطور هو فعل الإفطار، والسحور هو الفعل نفسه… وهكذا.
بخلاف الطَهور -بالفتح-: فإنه ما يتطهر به -يعني: الماء يسمى طهور-، وأكلة السحر تسمى سَحور -بالفتح-، والفطور يسمى فَطور -بالفتح- إذا كان المراد الذي يؤكل، أما الفعل نفسه فهو طهور للطهارة، وسحور للتسحر وهكذا، فقوله عليه الصلاة والسلام هنا: الطُهور يعني: التطهر.
وهذا اختلف فيه العلماء على قولين: الأول: أن المراد بالطهور هنا: التطهر من النجاسات المعنوية، أو مما ينجس القلب والروح والجوارح من الشرك والرياء، وفعل المحرمات وترك الواجبات وأشباه ذلك.
وهذا أخذوه من قول الله -جل وعلا-: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ على أحد تفسيرين، فإن التطهير هنا فسر بأن المقصود به التطهير من الشرك والنجاسات المعنوية.
وفسر أيضا قوله -جل وعلا-: إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ بالامتناع عن فعل الفاحشة، وهذا التفسير له مأخذه من القرآن، وظاهر دليله من أن الطهارة هنا المقصود منها: طهارة القلب، وطهارة الجوارح واللسان من المحرمات، أو من ترك الواجبات.
وكونها على هذا المعنى شطر الإيمان؛ لأن الطهارة ترك والإيمان قسمان: فعل وترك، فصارت الطهارة بالمعنى هذا شطر الإيمان -يعني: نصفه-؛ لأنه إما أن تترك أو تفعل، فإذا طهرت نفسك وجوارحك -يعني: جعلتها طاهرة مما حرم الله -جل وعلا- في القلب واللسان والجوارح- فقد أتيت بما هو نصف الإيمان وهو الترك فيبقى الأمر.
وهنا نقول: لماذا نبه على الترك ولم ينبه على الفعل وهو الإتيان بالواجبات؟ الجواب: أن الترك أعظم؛ فإن ترك المحرمات أعظم من الإتيان بالواجبات لهذا؛ تجد أن كثيرين يأتون بالواجبات، ولا يصبرون عن المحرمات -نسأل الله العافية والسلامة-، ومن يترك المحرمات فإنه يسهل عليه أن يأتي بالواجبات.
الوجه الثاني من كلام أهل العلم -يعني: التفسير الثاني-: أن الطهور هنا المقصود به الطهارة بالماء أو بما هو بدل الماء، والطهارة تكون: طهارة كبرى، أو صغرى -يعني: غسل الجنابة أو غسل المرأة من الحيض والنفاس، أو الطهارة الصغرى بالتطهر للصلاة، وهنا جعلها شطر الإيمان؛ لأن الله -جل وعلا- جعل الصلاة إيمانا فقال: جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني: صلاتكم.
حين توجهوا إلى القبلة بعد بيت المقدس، فقال طائفة من المسلمين كيف: بأمر الذين صلوا إلى بيت المقدس، ولم يدركوا الصلاة إلى الكعبة ؟ فأنزل الله -جل وعلا قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني: صلاتكم، والصلاة مفتاحها التطهر؛ فإنها لا تصح إلا بالطهارة، فلها شروط قبلها، ولها واجبات وأركان فيها -يعني: في الصلاة- فما قبلها أعظمه في فعل العبد الطهارة؛ فصارت شطرا بهذا الاعتبار.
فيكون إذن قوله: الطهور شطر الإيمان يعني: التطهر شطر الإيمان الذي هو الصلاة؛ لأن الصلاة رأس أعمال الإيمان.
وهناك تفسيرات أخر لأهل العلم -يعني: اختلفوا في هذا اختلافا كثيرا- لكن هذان قولان مشهوران في هذا المقام، قال -عليه الصلاة والسلام-: والحمد لله تملأ الميزان "الحمد لله" الحمد هذه كلمة فيها إثبات الكمالات؛ لأن حمد بمعنى أثنى على غيره بما فيه من صفات الكمال، فحمد لفلان صنيعه يعني: أثنى عليه بصفات كمل فيها بما يناسب البشر؛ لأجل صنيعه، ومنه يدخل في الحمد بهذا الاعتبار أنه يثني عليه شاكرا له، يعني: باللسان.
فالحمد لله معناها الثناء على الله -جل وعلا- بإثبات صفات الكمال له -جل جلاله-، فالحمد على هذا يدخل فيه حمد الله وهو الثناء عليه، على ما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال، حمد لله على ربوبيته -يعني: على اسمه الرب-، وعلى وصف الربوبية له، وحمد لله -جل وعلا- على إلهيته، وعلى أنه الإله، وحمد لله -جل وعلا- على أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكماله، وحمد لله -جل وعلا- على القرآن على كلامه، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الكوني والقدري وحكمه في بريته، وحمد لله -جل وعلا- على أمره الشرعي.
فالحمد في نصوص الكتاب والسنة تكتنفه هذه الأنواع الخمسة التي ذكرنا؛ ولهذا تجد أنه في القرآن يأتي الحمد متعلقا بأحدها -بأحد هذه الخمسة لا غير- انظر مثلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ تعلق بالربوبية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ فهذا أيضا في الربوبية، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وهكذا في نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
فإذن الحمد إثبات الكمالات إثبات نعوت الجلال والكمال، وهذا مستغرق فيه جميع الأنواع لله -جل وعلا-؛ لأن كلمة "ال" هذه الحمد لله "ال" التي تسبق "حمد" هذه للاستغراق، استغراق جميع أنواع الحمد؛ لأنها دخلت على مصدر حمد يحمد حمدا، فقوله -جل وعلا-: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله -جل وعلا-.
واللام هنا في قوله لله: الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: الحمد المستحق لله -جل وعلا- الذي أُثني به على الله -جل وعلا- يملأ الميزان، فإذا قال العبد: الحمد لله فإن هذه تملأ الميزان، كما جاء في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم .
فالحمد إثبات، وكما سيأتي في: "سبحان الله والحمد لله" أن الحمد والتسبيح متلازمان، وقوله هنا -عليه الصلاة والسلام-: تملأ الميزان على قاعدتنا: أن الملء هنا على ظاهره حسي وليس ملئا معنويا، كما قاله طائفة، وهذا نوع من التأويل؛ لأن الدخول في الأمور الغيبية بما لا يوافق ظاهر اللفظ هذا نوع من التأويل المذموم.
فإذن نقول: الحمد لله تملأ الميزان على ظاهرها، وهو أن الله -جل وعلا- يأتي بهذه الكلمة فيملأ بها الميزان، والله -جل وعلا- يوم القيامة يجعل في الميزان الأعمال فيزنها، فتكون الأعمال التي هي أقوال واعتقادات وحركات تكون في الميزان، فيثقل بها ويخف بها ميزان آخرين، فإذن على ظاهرها أن "الحمد لله" هذه تملأ الميزان.
وهنا نظر أهل العلم في قوله: تملأ الميزان لماذا صارت تملأ على تفسيرين: الأول: أن تملأ نفهم منه أنها لا توضع أولا، يعني: لا يؤتى بالحمد أولا فتوضع في الميزان، وإنما الذي يؤتى الأعمال يؤتى بالأعمال فتوضع في الميزان، فيؤتى بالحمد فتملأ الميزان، هذا تفسير.
والتفسير الثاني: أن الإيمان والدين نصفان، نصف تنزيه ونصف إثبات الكمالات، والتنزيه فيه التسبيح، التنزيه تنزيه الرب -جل وعلا- عن النقص في ربوبيته، أو في إلهيته، أو في أسمائه وصفاته... إلى آخره.
هذا فيه إبعاد عن النقائص، والحمد إثبات للكمالات، فإذا وضعت "سبحان الله" أولا -فالحمد لله تأتي ثانيا فتملأ الميزان، ونفهم من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أن التسبيح أكثر من جهة وضعه في الميزان؛ فيكون الحمد تتمة لذلك.
وقد يتأيد هذا بشيء، وهو أن التسبيح -المعاني يطول ذكرها، لكن نذكر بعض فائدة- يختلف عن الحمد، وهو أن التسبيح فيه تخلية، ومعلوم أن التخلية بلا شيء يوضع محلها أنها ليست محمودة، بمعنى: أنه إذا قال أحد: أنا سأخلي هذا المسجد مما فيه من الأشياء، والدواليب والفرش ونحو ذلك.
لم يكن محمودا بفعله إلا إذا قال وآتي بغيره مما هو أحسن منه فأضعه فيه.
فالتسبيح تنزيه، والتنزيه قد يكون ناتجا عن قصور في إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فيقول: إن الله -جل وعلا- منزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ومنزه عن كذا، ثم لا يصفه -جل وعلا- بشيء؛ فلهذا كان التسبيح والحمد متكاملان، فالتسبيح تخلية، والحمد بالنسبة للقلب تحلية، والتخلية تسبق التحلية كما هو مقرر في علوم البلاغة.
فإذن جاء التسبيح في نصوص كثيرة مضافا إلى الله -جل وعلا- بمعنى: سلب النقائص ونفي النقائص عن الله -جل وعلا- في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وفي قدره وأمره الكوني، وفي شرعه وحكمه الديني، في هذه الخمسة تقابل بها الخمسة التي فيها إثبات الكمالات في الحمد، فكل واحدة منها نزهت عن الله -جل وعلا- جاء الحمد بإثبات الكمال اللائق بالله -جل وعلا- محلها.
وهذا لو فقهه العبد لكان: سبحان الله والحمد لله في لسانه أعظم من أي شيء يشتغل به عنها من غير ذكر الله -جل وعلا- والقرآن العظيم، فإذن هذه الكلمة خفيفة: سبحان الله والحمد لله لكنها عظيمة؛ لأن فيها الاعتقاد الصحيح في الله -جل وعلا- بجميع الجهات: ففيها الربوبية والإلهية، والأسماء والصفات، وفيها إثبات تحليل الحلال وتحريم الحرام، وفيها الاعتقاد الحسن في القدر، وفيها الاعتقاد الحسن فيما يتصرف الله -جل وعلا- به في ملكوته... إلى آخر ذلك من المعاني.
لهذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: والحمد لله تملأ الميزان يكون هنا الملء بعد التنزيه وهو التسبيح، قال: وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض سبحان الله يعني: تنزيها لله -جل وعلا- عن النقائص في ربوبيته وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وعن أمره الكوني وقدره، والحمد لله إثبات الكمالات لله -جل وعلا- فهما متكاملان.
قال: تملأ أو قال تملآن ما بين السماء والأرض إذا كان اللفظ "تملآن" فكل واحدة على اعتبار، وإذا كان اللفظ المحفوظ "تملأ" وهو الأظهر: تملأ ما بين السماء والأرض فإن "سبحان الله والحمد لله" كلمة واحدة؛ لأن مدلولها واحد، وهو كما ذكرنا التنزيه والإثبات.
قوله: تملأ ما بين السماء والأرض ما المقصود بذلك ؟ إذا أطلق لفظ السماء هنا فالمقصود به السماء الدنيا، والسماء تطلق في النصوص ويراد بها العلو بعامة: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ يعني: في العلو: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ يعني: من في العلو... وهكذا.
فإذا أطلق لفظ "السماء" وحده -يعني: بلا السماوات مفرد- فإنه قد يراد به العلو، وقد يراد به واحدة السماوات وهي السماء الدنيا، وخاصة إذا جعل أو قوبل بالأرض، فقوله هنا: تملأ ما بين السماء والأرض يعني: أنها تملأ هذا الفراغ الكبير الذي بين الأرض وما بين السماء؛ لما لعظم هذه الكلمة، ولمحبة الله -جل وعلا- لها، ولحمل الملائكة لها تقربا إلى الله -جل وعلا-.
قال: والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء هذه الثلاثة: الصبر، والصدقة، والصلاة، اقترنت هنا بثلاثة أنواع من أنواع النور والضياء والبرهان، فدرجات النور -يعني: درجات ما تحسه العين من الأنوار- ثلاث: نور، وبرهان، وضياء، فأولها النور، ويليها البرهان، والثالث الضياء.
فالقمر نور: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَالْقَمَرَ نُورًا فالقمر يوصف بأنه نور وهو: الذي يعطي الإضاءة بلا إشعاع -يعني: بلا إشعاع محسوس-، والبرهان: أشعة بلا حرارة، أعظم درجة من النور، وأقل درجة من الضياء، وأما الضياء: فهو النور الشديد، نور مسلط شديد يكون معه حرارة.
فهذه ثلاث مراتب من أنواع الأضواء، وإذا نظرت لذلك وجدت قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء مرتب على أجمل ما يكون من الترتيب، فإن الصلاة سبقت الصدقة؛ ولهذا سبق النور البرهان، والصبر لا بد منه للصلاة وللصدقة ولكل الطاعات، ولكن الصبر محرق كشدة حرارة الضياء، فالضياء نور قوي فيه حرارة ونوع إحراق.
فلهذا جعل الصبر ضياء، ولم يجعل الصلاة ضياء، لكن الصلاة نور؛ لأنه فيها إعطاء ما تحتاجونه براحة وطمأنينة، والصدقة جعلها برهانا؛ لأن البرهان وهو: الضياء الذي يكون معه أشعة تنعكس في العين، الصدقة فيها إخراج المال، وهو محبوب للنفس، وهذا يحتاج إلى شيء من المعاناة، والصبر: فهو ضياء كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معه المعاناة.
وتذكرون في قول الله -جل وعلا- في وصف القرآن بأنه نور، وصف الله -جل وعلا- القرآن بأنه نور: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ فوصف القرآن أيضا في آيات أخر بأنه نور، والتوراة مثلا وصفها الله -جل وعلا- بأنها ضياء.
وتعلمون، الحق كلام المفسرين على ذلك حيث قالوا: إن التوراة فيها آصار وأغلال على بني إسرائيل؛ ولهذا سماها الله -جل وعلا- ضياء مناسبة ما بين الضياء ووجود التكاليف العظام على بني إسرائيل: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا الآيات في آخر سورة النساء.
فقال -جل وعلا-: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً فجعل التوراة ضياء؛ لأن فيها هذه الشدة، فالصبر ضياء؛ لأن من تحمل شدة الصبر فإنه يقوى معه الضياء، فالصبر مشبه بالضياء، وأيضا أثره أنه يكون معك الضياء، وهذه الثلاثة أنت محتاج إليها يوم القيامة أشد الحاجة، حين تكون الظلمة دون الجسر ويعبر الناس على الصراط، حيث اليوم العصيب والأمر المخيف.
فمعك الصلاة وهي نور، ومعك الصدقة وهي برهان، ومعك الصبر وهو ضياء، تنقل به إلى رؤية الأمكنة البعيدة أو المسافات البعيدة -أعاننا الله -جل وعلا- على قربانه يوم القيامة- بهذا يظهر لك عظم قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام-.
والصبر -كما هو معلوم- ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والصبر: هو الحبس -يعني: حبس الجوارح والقلب على الطاعات، وحبسها عن المعاصي، وحبسها على الرضا بأقدار الله -جل وعلا- المؤلمة.
والكلام في تفاصيل الصبر تأخذونه من شرح "باب التوحيد" أو من مظانه، قد ذكرناه مرارا؛ لأن فيه تفاصيل يطول المقام ببسطها.
قال: والقرآن حجة لك أو حجة عليك القرآن حجة لك إذا تلوته حق تلاوته -بمعنى: تلوته فآمنت بمتشابهه وعملت بمحكمه، وأحللت حلاله وحرمت حرامه-، أو عليك: حيث يقودك القرآن يوم القيامة، فيزج بمن قرأه فخالف ما دل عليه من حق الله -جل وعلا- إن لم يغفر الله -جل وعلا- ويصفح، فيزج بصاحبه إلى النار.
القرآن إما لك أو عليك، فطوبى لمن كان القرآن حجة له، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: حجة لك أي: يحاج لك، وهذا جاء في أحاديث أخر كقوله -عليه الصلاة والسلام-: يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان -أو قال: غيايتان أو فرقان من طير صواف- تحاجان عن صاحبها .
فالقرآن حجة لك أو عليك؛ فلهذا يعظم القرآن عند من عمل به، ويضعف القرآن عند من تركه تلاوة وعملا.
كل الناس يغدو الغدو: هو السير في أول الصباح، والرواح: الرجوع في آخر النهار، قال: كل الناس يغدو -يعني: صباحا- فبائع نفسه فمعتقها بائع نفسه فمعتقها يعني: لله -جل وعلا- باع نفسه فلم يسلط عليها الهوى ولم يعبدها للشيطان بل جعلها على ما يحب الله -جل وعلا- ويرضى، فأعتقها ذلك اليوم.
قال: أو موبقها بأنه غدا فعمل بما لم يرض الله -جل وعلا- فخسر ذلك.
نختم بهذا الحديث، وأسأل الله -جل وعلا- أن يعلمني وإياكم العلم النافع، وأن يمن علينا بالعمل الصالح، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وإن شاء الله تلتزمون معنا لنكمل هذه الأربعين النووية، غدا نطيل -إن شاء الله- قليلا، يعني: ربع ساعة زيادة، أو شيء حتى ننهيها -إن شاء الله-.