شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ - الحديث رقم 21

رقم الحديث 21 هذا الحديث -أيضا- من أحاديث الوصايا، وهو الحديث الواحد والعشرون، حديث سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسال عنه أحدا غيرك ؟ قال: قل: آمنت بالله ثم استقم هذا طلب وصية، طلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه.
وقوله: قل لي في الإسلام يعني: قل لي وصية في شأن الإسلام، قل لي في الإسلام قولا يعني: أوصني في أمر في الإسلام، في دين الإسلام لا يحوجني معه أن أسأل أحدا عن أمر آخر، فقال -عليه الصلاة والسلام- وهو من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- قال: قل: آمنت بالله ثم استقم وهذا مأخوذ من قول الله -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا الآية، فقوله في الآية -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا هو كقوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: قل: آمنت بالله ثم استقم .
وفي رواية قل آمنت بالله فاستقم وهذا الحديث في معنى الآية، ومعنى الإيمان بالله هو معنى أن تقول: ربي الله؛ لأن قول العبد: ربي الله معناها معبودي الله وحده لا شريك له، ؛ لأن الابتلاء في القبر يكون بمسألة العبودية التوحيد الذي هو توحيد الإلهية ويأتي بصيغة الربوبية؛ لأن العبد يُسأل في قبره من ربك ؟ من نبيك ؟ ما دينك ؟ فمن ربك يعني: من معبودك ؟ الرب يطلق ويراد به المعبود؛ لأن المعبود يعني: توحيد المعبود لازم عن توحيد الرب، فتوحيد الإلهية لازم لتوحيد الربوبية، فمن أيقن بتوحيد الربوبية لزم عنه أن يوحد الله في الإلهية، وفي أسمائه وصفاته.
بهذا كان الاحتجاج في القرآن على المشركين كثيرا في توحيد الربوبية، الاحتجاج عليهم بتوحيد الربوبية في توحيد الإلهية، كما في قوله -جل وعلا-: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ .
وكقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وكقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ .
والآيات في هذا كثيرة، فطريقة القرآن أنه يحتج على المشركين بما يقرون به، وهو توحيد الربوبية على ما ينكرونه وهو توحيد الإلهية.
إذن فقوله: آمنت بالله قول قائل: آمنت بالله، أو قوله: ربي الله هو التوحيد الذي يشمل توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات؛ لأن أحد هذه الأشياء يلزم منه البقية، أو أن بعضها يتضمن البعض الأخر.
قوله -عليه الصلاة والسلام- هنا: قل آمنت بالله كما تقدم معنا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، فإذا قال: آمنت بالله، يعني: أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح، وعمل العمل الصحيح الصالح الذي وافق فيه السُنة، وكان مخلصا فيه لله -جل وعلا- و-أيضا- تكلم وتلفظ بما يحب الله -جل وعلا- ويرضى.
فإذن قوله: قل: آمنت بالله هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات، فدخل في هذه الوصية الدين كله ؛ لأنه قال: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك وفي لفظ لا أسأل عنه أحدا بعدك فقال: قل: آمنت بالله وقوله: آمنت بالله المقصود به الإيمان الشرعي ؛ لأنه هو الذي يتعدى بالباء، فالإيمان إذا تعدى بالباء في نصوص الكتاب والسنة فيعنى به الإيمان الشرعي، الذي هو قول وعمل واعتقاد.
وكما ذكرنا لكم سلفا في شرح حديث جبريل أن الإيمان مشتق من الأمن، وأصله أن من آمن بشيء أمن الغائلة، يعني: من صدق به تصديقا جازما، وعمل بما يقتضيه ذلك التصديق فإنه يأمن غائلة التكذيب؛ لأن تكذيب المخبر له غائلة يعني: له أثر سيئ على المكذِب، فمن كذَب لم يأمن فالإيمان والأمن متلازمان من حيث الأثر.
والإيمان مشتق من الأمن، يعني: من جهة الاشتقاق اللغوي البعيد، والإيمان معناه: التصديق الجازم الذي لا ريب معه، ولا تردد فيه.
ثم استقم ثم هذه لتراخي الجمل، وإلا فإن الاستقامة من الإيمان، فلا يفصل بين الاستقامة والإيمان، كما تقول: آمن بالله ثم اعمل من الصالحات فهذا تراخي جملة عن جملة، وتراخي الجمل بـ "ثم" له فائدة من جهة علم المعاني في البلاغة محل الكلام عليها هناك.
وقوله: ثم استقم فيه الأمر بالاستقامة، والاستقامة لفظها استفعل، استقام فيها معنى الطلب، ولكن هذا ليس بظاهر؛ لأن الفعل استفعل أو هذه الصيغة استفعل تأتي ويراد بها الطلب، وتأتي ويراد بها لزوم الشيء، وكثرة الاتصاف به.
فمن الأول ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد بها الطلب كقولك: استسقى فلان يعني: طلب السقيا، واستغاث طلب الإغاثة، واستعان طلب الإعانة، وهكذا في أشباهها.
ومن الثاني ؛ وهو أن استفعل تأتي ويراد منها لزوم الوصف، وكثرة الاتصاف به، وعظم الاتصاف به كقوله -جل وعلا- مثلا: وَاسْتَغْنَى اللَّهُ في سورة التغابن، وَاسْتَغْنَى اللَّهُ يعني: غني استغنى ليس معناها طلب الغنى، ولكنه غني بغنى لازم لذاته، وكثر وعظم جدا.
فإذن "استفعل" هذه إذا تغيرت، أو إذا لم تستعمل في الطلب فيعنى بها لزوم الصفة للذات، وكثرة الاتصاف، وعظم الاتصاف بها بحسب ما يناسب الذات، فإذن استقام يعني: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وهكذا.
استقيموا ليس معناها طلب الشيء، ولكن معناه الإقامة على هذا الدين، الإقامة على الإيمان، وأن تعظم الأوصاف أن يعظم وصف الالتزام به، وأن يعظم وصف الإقامة عليه، ولهذا كلمة "الاستقامة" تشمل كما فسرها طائفة من أهل العلم الثبات على الدين، استقام يعني: ثبت على الدين، واستقام قالوا: بمعنى عمل الطاعات، وابتعد عن مساخط الله، وعن المحرمات، وهذا معناه: الأخذ بوسائل الثبات.
الاستقامة بالجهاد بأنواعه، وهذا وسيلة من الوسائل، الاستقامة بلزوم السنة، والإخلاص لله -جل وعلا-، وهذا هو حقيقة الدين.
إذن فلفظ "استقام" يعني: صار له وصف الإقامة مبالغا فيه، يعني: كثيرا، بحيث إنه لزمه، ولم يتغير عنه، ولم يتبدل عنه، وهذا هو المقصود هنا.
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: قل: آمنت بالله ثم استقم يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
إذن قوله -عليه الصلاة والسلام-: قل: آمنت بالله، ثم استقم يعني: لتكن إقامتك بعد الإيمان بالله على هذا الإيمان عظيمة، بحيث يكون وصف الإقامة لك ملازما، وهذا تعظم معه هذه الوصية؛ لهذا أثنى الله -جل وعلا- على عباده المستقيمين بقوله -جل وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .
فإذن هذا الحديث شمل أمور الاعتقاد وأمور الظاهر والباطن، أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وشمل الحث على الثبات على هذه الطاعات، فهذه الوصية صارت إذن وصية جامعة، وما أعظمها من وصية: قل آمنت بالله ثم استقم يعني: على الإيمان بتعظيم أمر الإقامة عليه، والازدياد من خلال الإيمان.