شرح الأربعين النووية لصالح آل الشيخ - الحديث رقم 1

رقم الحديث 1 هذا هو الحديث الأول؛ حديث عمر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا الحديث حديث عظيم حتى قال طائفة من السلف، ومن علماء الملة: ينبغي أن يكون هذا الحديث في أول كل كتاب من كتب العلم؛ ولهذا بدأ به البخاري -رحمه الله- صحيحه، فجعله أول حديث فيه حديث إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى بحسب اللفظ الذي أورده في أوله.
وهذا الحديث أصل من أصول الدين، وقد قال الإمام أحمد: ثلاثة أحاديث يدور عليها الإسلام: حديث عمر: إنما الأعمال بالنيات .
وحديث عائشة: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد .
وحديث النعمان بن بشير: الحلال بين والحرام بين .
وهذا الكلام من إمام أهل السنة متين للغاية؛ ولذلك أن عمل المكلف دائر على امتثال الأمر، واجتناب النهي، وامتثال الأمر، واجتناب النهي هذا هو الحلال والحرام، وهناك بين الحلال والحرام مشبهات، وهو القسم الثالث.
وهذه الثلاث هي التي وردت في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات وفي رواية: "مشبهات" والعمل لمن أراد أن يعمل، أو فعل الأمر واجتناب النهي لا بد أن يكون بنية حتى يكون صالحًا.
فرجع تصحيح ذلك العمل، وهو الإتيان بما فرض الله، أو الانتهاء عما حرم الله إلى وجود النية التي تجعل هذا العمل صالحًا مقبولًا، ثم إن ما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو من المستحبات، وما فرض الله -جل وعلا- من الواجبات، أو ما شرع من المستحبات، لا بد فيه من ميزان ظاهر حتى يصلح العمل، وهذا يحكمه حديث من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد كما في رواية مسلم للحديث.
فإذًا هذا الحديث؛ حديث الأعمال إنما الأعمال بالنيات يحتاج إليه في كل شيء؛ يحتاج إليه في امتثال الأوامر، وفي اجتناب النواهي، وفي ترك المشتبهات، وبهذا يعظم وقع هذا الحديث؛ لأن المرء المكلف في أي حالة يكون عليها ما بين أمر يأتيه؛ إما أمر إيجاب، أو استحباب، وما بين نهي ينتهي عنه؛ نهي تحريم، أو نهي كراهة، أو يكون الأمر مشتبهًا، فيتركه، وكل ذلك لا يكون صالحًا إلا بإرادة وجه الله -جل وعلا- به وهي النية.
قوله -عليه الصلاة والسلام-: إنما الأعمال بالنيات روي أيضًا، في الصحيح إنما العمل بالنية وروي إنما الأعمال بالنية بألفاظ مختلفة والمعنى واحد، فإنه إذا أفرد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى هذا فيه حصر؛ لأن لفظ "إنما" من ألفاظ الحصر عند علماء المعاني، والحصر يقتضي أن تكون الأعمال محصورة في النيات، ولهذا نظر العلماء ما المقصود بقوله: إنما الأعمال بالنيات ؟ لأنه حصر الأعمال بالنيات، فقال طائفة من أهل العلم وهو القول الأول: إن قوله -عليه الصلاة والسلام-: إنما الأعمال بالنيات يعني: إنما الأعمال، وقوعها مقبولة، أو صحيحة بالنية.
و إنما لامرئ ما نوى يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه، فتكون الجملة الأولى متعلقة بصحة العمل، والجملة الثانية يراد بها الثواب على العمل إنما الأعمال بالنيات الباء هنا للسببية، يعني: إنما الأعمال تقبل، أو تقع صحيحة بسبب النية، فيكون تأصيلًا لقاعدة عامة.
قال: وإنما لكل امرئ ما نوى اللام هذه لام الملكية، يعني: مثل التي جاءت في قوله -تعالى-: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وإنما لكل امرئ ما نوى يعني: من ثواب عمله ما نواه، هذا قول طائفة من أهل العلم.
والقول الثاني: أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: إنما الأعمال بالنيات هذا راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فقوله: إنما الأعمال بالنيات يعني: إنما الأعمال بسبب النيات، فما من عمل يعمله أحد إلا وله إرادة وقصد فيه وهي النية.
فمنشأ الأعمال؛ سواء كانت صالحة أو فاسدة، طاعة أو غير طاعة، إنما منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملًا، وكانت القدرة على إنفاذه تامة، فإن العمل يقع فيكون قوله -عليه الصلاة والسلام- على هذا: إنما الأعمال بالنيات يعني: إنما الأعمال صدورها وحصولها بسبب نية من أصدرها، بسبب إرادة قلبه وقصده لهذا العمل.
وإنما لكل امرئ ما نوى هذا فيه أن ما يحصل للمرء من عمله ما نواه نية صحيحة، يعني: إذا كانت النية صالحة صار ذلك العمل صالحًا، فصار له ذلك العمل.
والقول الأول أصح؛ وذلك لأن تقريب مبعث الأعمال، وأنها راجعة لعمل القلب، هذا ليس هو المراد بالحديث، كما هو ظاهر من سياقه، وإنما المراد اشتراط النية للعمل، وأن النية هي المصححة للعمل، وهذا فيه وضوح؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى بيان لما تطلبه الشريعة، لا لما هو موجود في الواقع.
فلهذا نقول: الراجح من التفسيرين أن قوله -عليه الصلاة والسلام- إنما الأعمال بالنيات يعني: إنما الأعمال صحة وقبولًا أو فسادًا بسبب النيات، وإنما لامرئ من عمله ثوابًا وأجرًا ما نواه.
إذا تقرر هذا فالأعمال ما هي؟ الأعمال جمع عمل، والمقصود به هنا ما يصدر عن المكلف، ويدخل فيه الأقوال فليس المقصود بالعمل قسيم القول، القول والعمل والاعتقاد قسيم القول والاعتقاد، وإنما الأعمال هنا كل ما يصدر عن المكلف من أقوال وأعمال، قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
فيدخل في قوله: إنما الأعمال بالنيات كل ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول اللسان، وقول القلب وعمل القلب وعمل الجوارح، فقوله: إنما الأعمال بالنيات يدخل فيها جميع أنواع ما يصدر من المكلف.
طبعًا هذا العموم عموم مراد به إلى الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: عام باق على عمومه، وعام دخله التخصيص، وعام مراد به إلى الخصوص، يعني: أن يكون اللفظ عامًا، ويراد به بعض الأفراد.
وهنا لا يدخل في الأعمال في قوله: إنما الأعمال بالنيات لا يدخل فيها الأعمال التي لا تشترط لها النية مثل أنواع التروك، وإرجاع المظالم، وأشباه ذلك، تطهير النجاسة، وأمثال ذلك، يعني: مما لا يشترط له النية؛ لأنه ترك ونحوه، والنية التي عليها مدار هذا الحديث، النية: قصد القلب وإرادته.
وإذا قلنا: النية قصد القلب وإرادته علقناها بالقلب، فالنية إذًا ليس محلها اللسان ولا الجوارح، وإنما محلها القلب نوى يعني: قصد بقلبه وأراد بقلبه هذا الشيء.
فالأعمال مشروطة بإرادة القلب وقصده، فأي إرادة وقصد هذه المقصود بها إرادة وجه الله -جل وعلا- بذلك؛ ولهذا في القرآن يأتي معنى النية بلفظ الإرادة والابتغاء وأشباه ذلك، كما في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وكما في قوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ونحو ذلك مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يريد يعني: ينوي يطلب ويقصد، هذه هي النية وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا هذه النية.
أو لفظ الابتغاء كقوله -جل وعلا-: إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وكما في قوله -جل وعلا-: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
فإذًا في النصوص يكثر ورود النية بلفظ أولًا: الإرادة إرادة القلب، ثانيًا: بلفظ الابتغاء، أو بلفظ الإسلام؛ إسلام القلب والوجه لله -جل وعلا- والنية في كلام الله -جل وعلا- أو في الشريعة بعامة يراد بها أحد معنيين: المعنى الأول: نية متجهة للعبادة، والمعنى الثانى: نية متجهة للمعبود.
فالنية قسمان: نية متعلقة بالعبادة، ونية متعلقة بالمعبود، فأما المتعلقة بالعبادة فهي التي يستعملها الفقهاء في الأحكام حين يأتون إلى الشروط، الشرط الأول: النية، يقصدون بذلك النية المتوجهة للعبادة، وهي تمييز العبادات بعضها عن بعض.
تمييز الصلاة عن الصيام، تمييز الصلاة المفروضة عن النفل، يعني: أن يميز القلب فيما يأتي ما بين عبادة وعبادة، أتى المسجد وأراد أن يركع ركعتين، ميز قلبه هاتين الركعتين هل هي ركعتا تحية المسجد، أو هي ركعتا راتبة؟ أو هل هي ركعتا استخارة؟ إلى آخره... فتمييز القلب ما بين عبادة وعبادة هذه هي النية التي يتكلم عنها الفقهاء في الكتب الفقهية وهي النية المتوجهة للعبادة.
القسم الثانى: النية المتوجهة للمعبود، وهذه هي التي يتحدث عنها باسم الإخلاص: إخلاص القلب، إخلاص النية، إخلاص العمل لله -جل وعلا- وهي التي تستعمل كثيرًا بلفظ النية والإخلاص والقصد.
فإذًا هذا الحديث شمل نوعي النية: النية التي توجهت للمعبود، والنية التي توجهت للعبادة، فـ إنما الأعمال بالنيات يعني: إنما العبادات تقع صحيحة، أو مقبولة بسبب النية، يعني: النية التي تميز العبادة بعضها عن بعض أولا.
والنية التي هي إخلاص العبادة للمعبود، وهو الله -جل جلاله- فلهذا لا يصلح أن نقول: النية هنا هي النية التي بمعنى الإخلاص، ونقول: إن كلام الفقهاء في النيات لم يدخل فيه الإخلاص، ولا القسم الثاني، فإن تحقيق المقام انقسام النية إلى هذين النوعين -كما أوضحت لكم-.
قال -عليه الصلاة والسلام-: وإنما لكل امرئ ما نوى يعني: هذا حصر أيضًا، وإنما لكل امرئ من عمله ثوابًا وأجرًا لما نواه بعمله، فإن كان نوى بعمله الله والدار الآخرة، يعني: أخلص لله -جل وعلا- مريدا وجه الله -جل وعلا- فعمله صالح، وإن كان عمله للدنيا فعمله فاسد؛ لأنه للدنيا.
وهذا كما جاء في آيات كثيرة إخلاص الدين لله -جل علا-: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني: الدين يقع على نية الإخلاص، كما في قوله -جل وعلا- أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وقد جاء في أحاديث كثيرة بيان إخلاص العمل لله -جل وعلا- كقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وفي لفظ آخر قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث القدسي: فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء .
وهذا يدل على أن العمل لا بد أن يكون خالصًا لله -جل وعلا- حتى يكون مقبولًا، ويؤجر عليه العبد، إذا وصلنا إلى هذا فمعناه أن من عمل عملًا، ودخل في ذلك العمل نية غير الله -جل وعلا- بذلك العمل، فإن العمل باطل لقوله: من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه فهو للذي أشرك إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .
وهذه يحتمل أن يكون المراد بذلك العملِ العملَ الذي يكون في أصل العبادة، أو في أثناء العبادة، أو غيَّر نيته بعد العبادة، يحتمل هذا، أو تكون العبادة أيضا في بعضها لله، وفي بعضها لغير الله، فما المراد؟ قال العلماء: تحقيق هذا المقام أن العمل إذا خالتطه نية فاسدة، يعني: رياء نوى للخلق، أو سمعة، فإنه إن أنشأ العبادة للخلق فهي باطلة، يعني: صلى دخل في الصلاة، لا لإرادة الصلاة؛ ولكن يريد أن يراه فلان، فهذه الصلاة باطلة.
وهو مشرك كما جاء في الحديث: من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك يعني: حين أنشأ الصلاة الواحدة أنشأها يرائي، وإلا فإن إنشاء المسلم عباداته جميعًا على الرياء هذا غير متصور، وإنما يقع الرياء ربما في بعض عبادات المسلم؛ إما في أولها، وإما في أثنائها.
وأما الرياء التام في جميع الأعمال فإن هذا لا يتصور من مسلم، وإنما يكون من الكفار والمنافقين، كما قال -جل وعلا- في وصفهم: يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وقوله في وصف الكفار: رِئَاءَ النَّاسِ يعني: بهذا أن القسم الأول نية ابتدأ بها العبادة لغير الله، فهذه العبادة تكون باطلة: صلاته باطلة، صيامه باطل، وصدقته باطلة، نوى بالعمل غير وجه الله -جل وعلا- القسم الثاني: أن يحدث تغيير النية في أثناء العبادة، وهذا له حالان: الحال الأولى: أن يبطل نيته الأصلية، ويجعل العبادة لهذا المخلوق، فهذا حكمه كالأول من أن العبادة فسدت؛ لأنه أبطل نيتها، وجعلها للمخلوق، فنوى في أثناء الصلاة أن الصلاة هذه لفلان، فتبطل الصلاة.
الحال الثانية: من هذا القسم أن يزيد في الصلاة من لأجل رؤية أحد الناس، يعني: يراه أحد طلبة العلم، أو يراه والده، أو يراه كبير القوم، أو يراه إمام المسجد، فبدل أن يسبح ثلاث تسبيحات أطال في الركوع، والركوع عبادة لله -جل وعلا- فأطال على خلاف عادته لأجل رؤية هذا الرائي.
فهذا العمل الزائد الذي نوى به المخلوق يبطل؛ لأن نيته فيه لغير الله، و إنما الأعمال بالنيات لكن أصل العمل صالح؛ لأن هذه النية ما عرضت لأصل العمل، وإنما عرضت لزيادة في بعضه أطال الصلاة، أو إمام أطال القراءة؛ لأن حسن صوته لرؤية إلى الخلق، أو لأن وراءه فلان، أو نحو ذلك من الأعمال، فلا يبطل أصل العمل، وإنما ما زاد فيه لأجل الخلق يكون فيه مشركًا الشرك الأصغر، وهو الرياء -والعياذ بالله-، هذه الحالة الثانية من القسم الثاني.
والحالة الثالثة: أن يعرض له حب الثناء، وحب الذكر بعد تمام العبادة، عمل العبادة لله، صلى لله، حفظ القرآن لله، وصام لله، صام النوافل لله -جل وعلا- مخلصًا، وبعد ذلك رأى من يثني عليه، فسره ذلك، ورغب في المزيد في داخله، فهذا لا يخرم أصل العمل؛ لأنه نواه لله، ولم يكن في أثنائه فيكون شركا، إنما وقع بعد تمامه، فهذا كما جاء في الحديث تلك عاجل بشرى المؤمن أن يسمع ثناء الناس عليه لعبادته وهو لم يقصد في العمل الذي عمله أن يثني عليه الناس هذه ثلاثة أحوال.
وإذا تقرر هذا فالأعمال التي يتعلق بها نية مع نيتها لله -جل وعلا- على قسمين أيضا، الأول: أعمال يجب ألا يريد بها، وألا يعرض لقلبه فيها ثواب الدنيا أصلا، وهذه أكثر العبادات، وأكثر الأعمال الشرعية.
والقسم الثاني: عبادات حض عليها الشارع بذكر ثوابها في الدنيا، مثل صلة الرحم حض عليها الشارع بذكر ثواب الدنيا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه فحض على صلة الرحم بذكر ثواب الدنيا: النسأ في الأثر، والبسط في الرزق.
أو كقوله في الجهاد: من قتل قتيلا فله سلبه يعني: ما عليه من السلاح، وما معه من المال أو كذا، يسلبه ويكون لهذا القاتل، فهذا حض على القتل بذكر ثواب دنيوي، فمن أراد الثواب الدنيوي هنا -في هذا القسم- مستحضرا ما حض الشارع من العمل، يعني: من هذه العبادة، وذكر فيه الثواب الدنيوي فإنه جائز له ذلك؛ لأن الشارع ما حض بذكر الدنيا إلا إذن منه بأن يكون ذلك مطلوبا.
فإذًا من وصل الرحم يريد وجه الله -جل وعلا- ولكن يريد أيضا أن يثاب في الدنيا بكثرة الأرزاق، وبالنسأ في الأثر، يعني: طول العمر، فهذا له ذلك، ولأجل أن الشارع حض على ذلك.
جاهد في سبيل الله يريد أيضا مغنما، ونيته خالصة لله -جل وعلا- لتكون كلمة الله هي العليا؛ ولكن يريد شيئا حض عليه، أو ذكره الشارع في ذلك، هذا قصده ليس من الشرك في النية؛ لأن الشارع هو الذي ذكر الثواب الدنيوي في ذلك.
فإذًا تنقسم الأعمال إلى عبادات ذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وإلى عبادات لم يذكر الشارع الثواب الدنيوي عليها، وهذا كما جاء في قول الله -جل وعلا-: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ الآية.
فهذه المسألة مهمة، فإذا تقرر أنه لا يكون مشركًا بذلك، فهل من نوى الدنيا بصلة الرحم مثلا مع نيته لله مساوٍ لمن لم ينو الدنيا، وإنما جعلها خالصة لله لا يختلف الأجر؛ لكن لا يكون مرائيًا، ولا مشركًا بذلك.
فمن كانت نيته خالصة لله -جل وعلا- فأجره أعظم، لهذا لما سئل عدد من الأئمة من السلف والإمام أحمد وجماعة عمن جاهد للمغنم ونيته خالصة لله؟ قال: أجره على قدر نيته، لم يبطل عمله أصلًا، لم يبطل السلف العمل أصلًا، وإنما جعلوا التفاوت بقدر النيات.
فكلما عظمت النية لله في الأعمال التي فيها ذكر الدنيا، وذكر الشارع عليه ثواب الدنيا فإنه كلما عظمت النية الخالصة كلماعظم أجره، وكلما نوى الدنيا مع صحة أصل نيته قل أجره يعني: عن غيره.
هنا قال -عليه الصلاة والسلام فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله طبعًا الحديث تفاصيل الكلام في النية، ودخول النية في أبواب كثيرة من العبادات، هذا يطول عليه الكلام جدًّا، وصنفت مصنفات في هذا، وشروح كتب الأحاديث أطالت في شرح هذا الحديث، وإنما نذكر في شرحنا لهذه الأربعين النووية قواعد وتأصيلات متعلقة بشرح الحديث، كما هي العادة في مثل هذه الشروح المختصرة لهذه الكتب المهمة.
قال: فمن كانت هجرته الفاء هذه تفصيلية، تفصيل لمثال من الأعمال التي تكون لله وتكون لغير الله، ذكر مثالا للهجرة قال: من كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه .
الهجرة معناها: الترك، هجر يعني: ترك، وأصل الهجرة هجرة إلى الله -جل وعلا- وإلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- هجرة إلى الله -جل وعلا- بالإخلاص، وابتغاء ما عنده، والهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- باتباعه -عليه الصلاة والسلام- والرغبة فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام-.
ومن آثار ذلك، الهجرة إلى الخاصة التي هي ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فقال -عليه الصلاة والسلام-: فمن كانت هجرته يعني: من كان تركه لبلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ورسوله إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، هذا فيه تكرير للجملة.
من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته لله ورسوله.
والمتقرر في علوم العربية أن الجمل إذا تكررت في ترتب الفعل والجزاء فإن شرط الفعل يختلف عن شرط الجزاء؛ فلهذا نقول: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، فما تعلق بالفعل النية والقصد، وما تعلق بالجواب الأجر والثواب.
وهذا فيه نوع من أنواع البلاغة، وهو أن عمله جليل عظيم بحيث يستغنى لبيان جلالته وعظمه يستغنى عن ذكره؛ لأنه من الوضوح والبيان بحيث لا يحتاج إلى ذكره، فقال -عليه الصلاة والسلام-: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله هذا تعظيم، ورفع لهذا العمل، وهو أن تكون الهجرة إلى الله ورسوله، يعني: نية وقصدًا وتعظيما للثواب والأجر بقوله: فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا، يعني: حدث عن ثوابه وعظم ذلك.
ثم بين الصنف الثاني فقال ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها لدنيا يصيبها هذا حال التاجر الذي هاجر لكي يكسب مالًا، أو هاجر ليكسب زوجة أو امرأة، فهذا هجرته إلى ما هاجر إليه.
وقوله -عليه الصلاة والسلام-: فمن كانت هجرته لدنيا هذه النية يعني: هاجر العمل الظاهر يشارك فيه، من هاجر إلى الله ورسوله؛ لكن نيته أنه في هجرته يريد التجارة، أو يريد أن يتزوج امرأة فنيته فاسدة، قال: فهجرته إلى ما هاجر إليه يعني: من حيث أنه لا ثواب له فيها ولا أجر، وقد يكون عليه فيها وزر.
والهجرة هي ترك -كما ذكرت لك ترك- بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو ترك بلد تظهر فيه البدعة إلى بلد لا تظهر فيه البدعة، وإنما تظهر فيه السنة، أو القسم الثالث: ترك بلد تظهر فيه الفواحش والمنكرات إلى بلد تقل فيه الفواحش والمنكرات ظهورًا، وهذه كل واحدة منها لها أحكام مذكورة في كتب الفقه بالتفصيل.