شرح الأربعين النووية لابن العثيمين - الحديث رقم 35

رقم الحديث 35 الحديث الخامس والثلاثون
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدوا، وَلاَتَنَاجَشوا، وَلاَ تَبَاغَضوا، وَلاَ تَدَابَروا، وَلاَ يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ، وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانَاً، المُسلِمُ أَخو المُسلم، لاَ يَظلِمهُ، وَلاَ يَخذُلُهُ، وَلا يكْذِبُهُ، وَلايَحْقِرُهُ، التَّقوَى هَاهُنَا - وَيُشيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلاَثَ مَراتٍ - بِحَسْبِ امرىء مِن الشَّرأَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ، كُلُّ المُسِلمِ عَلَى المُسلِمِ حَرَام دَمُهُ وَمَالُه وَعِرضُه) رواه مسلم

الشرح

قوله: "لا تَحَاسَدوا" أي لا يحسد بعضكم بعضاً.


وما هو الحسد؟

قال بعض أهل العلم: الحسد تمني زوال نعمة الله عزّ وجل على الغير، أي أن يتمنى أن يزيل نعمته على الآخر، سواء كانت النعمة مالاً أو جاهاً أو علماً أو غير ذلك.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - الحسد: كراهة ما أنعم الله به على الغير وإن لم يتمن الزوال.


ومن المعلوم أن من لازم الكراهة أن يتمنى الزوال، لكن كلام الشيخ-رحمه الله - أدق، فمجرد ما تكره أن الله أنعم على هذا الرجل بنعمة فأنت حاسد.
"وَلا تَنَاجَشوا" أي لا ينجش بعضكم على بعض، وهذا في المعاملات، ففي البيع المناجشة: أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، لكن يريد الإضرار بالمشتري أو نفع البائع، أو الأمرين معاً.


مثال ذلك: عرضت سلعة في السوق فسامها رجل بمائة ريال، هذا الرجل السائم تعدى عليه رجل آخر وقال: بمائة وعشرة قصده الإضرار بهذا السائم وزيادة الثمن عليه، فهذا نجش.

ورجل آخر رأى رجلاً يسوم سلعة وليس بينه وبين السائم شيء، لكن السلعة لصديق له، فأراد أن يزيد من أجل نفع صديقه البائع، فهذا حرام ولا يجوز.


ورجل ثالث: أراد الإضرار بالمشتري ونفع البائع فهذا أيضاً حرام.


قال: "وَلا تَبَاغَضوا" أي لا يبغض بعضكم بعضاً، والبغضاء لا يمكن تعريفها، تعريفها لفظها: كالمحبة والكراهة، والمعنى: لا تسعوا بأسباب البغضاء.


وإذا وقع في قلوبكم بغض لإخوانكم فاحرصوا على إزالته وقلعه من القلوب.


"وَلا تَدَابَروا" إما في الظهور بأن يولي بعضكم ظهر بعض، أولا تدابروا في الرأي، بأن يتجه بعضكم ناحية والبعض الآخر ناحية أخرى.


"وَلاَ يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ" مثال ذلك: رأيت رجلاً باع على آخر سلعة بعشرة، فأتيت إلى المشتري وقلت: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو أعطيك خيراً منها بعشرة، فهذا بيع على بيع أخيه، وهو حرام.


"وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوانَاً" أي صيروا مثل الإخوان، ومعلوم أن الإخوان يحب كل واحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه.


وقوله: "عِبَادَ اللهِ" جملة اعتراضية، المقصود منها الحث على هذه الإخوة.
ثم قال: "المُسلِمُ أَخو المُسلِمِ" أي مثل أخيه في الولاء والمحبة والنصح وغير ذلك.


" لاَ يَظلِمهُ" أي لا ينقصه حقه بالعدوان عليه، أو جحد ما له، سواء كان ذلك في الأمور المالية، أو في الدماء، أو في الأعراض، في أي شيء.


" وَلاَ يَخذُلُهُ" أي لا يهضمه حقه في موضوع كان يحب أن ينتصر له.


مثاله: أن يرى شخصاً مظلوماً يتكلم عليه الظالم، فيقوم هذا الرجل ويزيد على الذي يتكلم عليه ولا يدافع عن أخيه المخذول، بل الواجب نصر أخيه ولا يكذبه أي لا يخبره بالكذب، الكذب القولي أو الفعلي.


مثال القولي: أن يقول حصل كذا وكذا وهو لم يحصل.

ومثال الفعلي: أن يبيع عليه سلعة مدلسة بأن يظهر هذه السلعة وكأنها جديدة، لأن إظهاره إياها على أنها جديدة كأنه يقول بلسانه هي جديدة، فلا يحل له أن يكذبه لا بالقول ولا بالفعل.


" وَلاَ يَحْقِرُهُ" أي لا يستصغره، ويرى أنه أكبر منه، وأن هذا لا يساوي شيئاً,

ثم قال: "التَّقوى هَاهُنا" يعني تقوى الله عزّ وجل في القلب وليست في اللسان ولا في الجوارح، وإنما اللسان والجوارح تابعان للقلب.


"وَيُشيرُ إِلَى صَدرِهِ ثَلاثَ مِرَاتٍ" يعني قال: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، تأكيداً لكون القلب هو المدبر للأعضاء.


ثم قال: "بِحَسبِ امرُىءٍ مِنَ الشَّرِّ" الباء هذه زائدة، وحسب بمعنى كافٍ و "أَن يَحْقِرُهُ" مبتدأ والتقدير حقر أخيه كافٍ في الشر، وهذه الجملة تتعلق بقوله: "وَلا يحَقِرَهُ" أي يكفي الإنسان من الإثم أن يحقر أخاه المسلم، لأن حقران أخيك المسلم ليس بالأمر الهين.
"كُل المُسلِم عَلَى المُسلِم حَرَام" ثم فسر هذه الكلية بقوله: "دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرضُهُ" يعني أنه لا يجوز انتهاك دم الإنسان ولا ماله ولا عرضه، كله حرام.


من فوائد هذا الحديث:

1-أن هذا الحديث العظيم ينبغي للإنسان أن يسير عليه في معاملته إخوانه، لأنه يتضمن توجيهات عالية من النبي صلى الله عليه وسلم.


.
2تحريم الحسد لقوله "لاَ تَحَاسَدوا".


وهل النهي عن وقوع الحسد من الجانبين، أو من جانب واحد؟

الجواب: من جانب واحد، يعني لو فرضنا إنساناً يريد أن يحسد أخاه وذاك قلبه سليم لا يحسد صار هذا حراماً، فيكون التفاعل هنا في قوله "لا تَحَاسَدوا" ليس من شرطه أن يكون من الجانبين، كما إذا قلت: لا تقاتلوا يكون القتال من الجانبين.


فإن قال قائل: ما يرد على القلب أحياناً من محبة كون الإنسان أعلى من أخيه، فهل يدخل في الحسد؟
فالجواب: لا، لأن الرجل لم يكره نعمة الله عزّ وجل على هذا العبد، لكن أحب أن يفوقه، وهذا شيء طبيعي، ولذلك لما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه السؤال: أن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، كلهم لم يعرفوها، ذكروا أشياء من الشجر لكنها لم تكن إياه، وابن عمر رضي الله عنهما يقول: وقع في قلبي أنها النخلة، ولكني أصغر القوم فلم أتكلم، قال أبوه: وددت أنك قلت هذا ، لأنه إذا قالها تفوق على الحاضرين.


فإن وقع في قلبه حسد لشخص ولكنه يدافعه ولم يعتد على الشخص، فهل يؤاخذ به؟ الجواب: لا يؤاخذ، لكنه ليس في حال الكمال، لأن حال الكمال أن لا تحسد أحداً، وأن ترى نعمة الله عزّ وجل على غيرك كنعمته عليك، لكن الإنسان بشر قد يقع في قلبه أن يكره ما أنعم الله به على هذا الشخص من علم أو مال أو جاه أو ما أشبه ذلك، لكنه لا يتحرك ولا يسعى لإضرار هذا المحسود، فنقول: هذا ليس عليه شيء، لأن هذا أمر قد يصعب التخلص منه، إلا أنه لو لم يكن متصفاً به لكان أكمل وأطيب للقلب، وفي الحديث إِذَا "ظَنَنتَ فَلاَ تُحَقق، وَإِذَا حَسَدتَ فَلاَ تَبغِ" .


فمن الناس من إذا حسد بغى فتجده مثلاً يتكلم في الشخص المرموق عند الناس الذي يعتبر رمزاً للإنفاق في سبيل الله وفي الصدقات، ثم يأخذ بمدحه ويقول: لكنه يتعامل بالربا، فإذا قال هذه الكلمة معناها أنه أهبط ميزانه عند الناس، وهذا حسد ببغي والعياذ بالله.

وكذلك مع العلماء، وأكثر ما يكون الحسد بين المتفقين في مهنة، كالحسد بين العلماء، والحسد بين التجار، والحسد بين أهل الصنائع، هذا الغالب، وإلا فمن المعلوم أنه لا يأتي نجار مثلاً يحسد عالماً.


والحسد على مراتب:

الأولى: أن يتمنى أن يفوق غيره، فهذا جائز، بل وليس بحسد.


الثانية: أن يكره نعمة الله عزّ وجل على غيره، ولكن لا يسعى في تنزيل مرتبة الذي أنعم الله عزّ وجل عليه ويدافع الحسد، فهذا لا يضره، ولكن غيره أكمل منه.


الثالثة: أن يقع في قلبه الحسد ويسعى في تنزيل مرتبة الذي حسده، فهذا هو الحسد المحرم الذي يؤاخذ عليه الإنسان.
والحسد من خصال اليهود، كما قال الله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (البقرة: الآية109) قال الله تعالى في ذمهم) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54) والحسد يضر صاحبه لأن الحاسد لا يبقى مسروراً- والعياذ بالله- إذ إن نعم الله على العباد تترى ولا منتهى لها، وهذا الرجل كلما رأى نعمة من الله على غيره زاد غماً وهماً.


والحسد اعتراض على قدر الله عزّ وجل لأنه يريد أن يتغير المقدور، ولله الحكمة فيما قدره.


والحسد في الغالب تحدث فيه معاصٍ: كالعدوان على الغير، والمخاصمة، ونشر المعائب وغير ذلك، ولهذا يجب على المسلم أن يتجنبه كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.


.
3تحريم المناجشة ولو من جانب واحد، وسبق أن النجش في البيع: هو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وضربنا لهذا أمثلة.

ولكن لو أن الرجل يزيد في السلعة من أجل أن يربح منها، بمعنى أنه لا يريدها، بل يريد الربح منها، فلما ارتفع سعرها تركها، فهل يعد هذا نجشاً؟

الجواب: لا يعد هذا نجشاً، لأن هذا له غرض صحيح في الزيادة، وهو إرادة التكسب، كما لو كان يريد السلعة، وهذا يقع كثيراً بين الناس، تُعرَض السلعة والإنسان ليس له رغبة فيها ولا يريدها، ولكن رآها رخيصة فجعل يزيد فيها حتى إذا بلغت ثمناً لا يرى معه أن فيها فائدة تركها، فنقول: هذا لا بأس به، لأنه لم يرد إضرار الآخرين إنما ظن أن فيها فائدة فلما رأى أن لا فائدة تركها.


.
4النهي عن التباغض، وإذا نُهي عن التباغض أمر بالتحاب، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مفيدة لشيئين:

الأول: النهي عن التباغض، وهو منطوقها.


والثاني: الأمر بالتحاب، وهو مفهومها.


ولكن إذا قال قائل: كيف نتصرف في التباغض، والبغضاء والمحبة ليست باختيار الإنسان، ولهذا لما ذكر العلماء- رحمهم الله - أن الرجل المتزوج لأكثر من واحدة يلزمه العدل قالوا: إلا في المحبة، وعللوا ذلك بأن المحبة لا يمكن السيطرة عليها وكذلك البغضاء؟

فالجواب على هذا: أن نقول: المحبة لها أسباب، والبغضاء لها أسباب، فابتعد عن أسباب البغضاء وأكثر من أسباب المحبة، فمثلاً إذا كنت أبغضت شخصاً لأنه عمل عملاً ما، فاذكر محاسنه حتى تزيل عنك هذه البغضاء، وإلا ستبقى على ما أنت عليه من بغضائه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لاَ يَفرك مؤمِن مؤمِنَة إِن كَرِهَ مِنهَا خُلُقَاً رَضيَ مِنهَا خُلُقاً آخر" أي لا يبغض الرجل زوجته لأنها أساءت في خلق واحد، بل يقارن: إن كره خلقاً منها رضي منها خلقاً آخر.

كذلك المحبة: يذكر بقلبه ما يكون سبباً لمحبة الرجل من الخصال الحميدة والآداب العالية وما أشبه ذلك.


فالبغضاء لها سبب والمحبة لها سبب، فليفعل أسباب المحبة وليتجنب أسباب البغضاء.


.
5النهي عن التدابر، سواء بالأجسام أو بالقلوب.


التدابر بالأجسام بأن يولي الإنسان ظهره ظهر أخيه، لأن هذا سوء أدب، ويدل على عدم اهتمامه به، وعلى احتقاره له، ويوجب البغضاء.
والتدابر القلبي بأن يتجه كل واحد منا إلى جهة أخرى، بأن يكون وجه هذا يمين ووجه هذا شمال، ويتفرع على هذا:

وجوب الاجتماع على كلمة واحدة بقدر الإمكان، فلنقرب الهوة بيننا حتى نكون على هدف واحد، وعلى منهاج واحد، وعلى طريق واحد، وإلا حصل التدابر.


وانظر الآن الأحزاب الموجودة في الأمم كيف هم متدابرون في الواقع، كل واحد يريد أن يقع الآخر في شرك الشر، لأنهم متدابرون.


فالتدابر حرام، ولا سيما التدابر في القلوب، لما يترتب عليه من الفساد.


.
6تحريم بيع الرجل على بيع أخيه، ومثاله سبق ذكره في الشرح.


وهل هذا يشمل ما كان بعد زمن الخيار، وما كان في زمن الخيار، أو خاص فيما إذا كان ذلك في زمن الخيار؟

الجواب: في هذا للعلماء قولان:

القول الأول: إن تحريم البيع على بيع أخيه إذا كان هناك خيار، لأنه إذا كان هناك خيار تمكن من فسخ البيع، وأما إذا لم يكن خيار فلا حرج.


وأضرب لهذا مثلاً: زيد باع سلعة على عمرو بمائة ريال، وجاء بكر وقال لعمرو: أنا أعطيك مثلها بتسعين ريالاً، فهل هذا حرام، سواء كان في زمن الخيار أو بعد زمن الخيار، أو خاص بزمن الخيار؟

ننظر: إذا كان البائع قد أعطى المشتري مهلة ثلاثة أيام خيار، وبكر جاء إلى عمرو في هذه المدة، وقال: أنا أعطيك مثلها بتسعين، هنا يتمكن عمرو من فسخ البيع لأنه يوجد خيار.

أما إذا لم يكن خيار بأن باع زيد على عمرو هذه السلعة بمائة ريال وتقابضا، ولا خيار بينهما، ثم جاء بكر بعد ذلك، وقال لعمرو: أنا أعطيك مثلها بتسعين ريالاً، فهل هذا حرام أو ليس بحرام؟

اختلف في هذا العلماء رحمهم الله فمنهم من قال: إن هذا حرام لعموم قوله: "وَلا يَبِع بَعضُكُم عَلَى بَيعِ بَعضٍ"، ومنهم من قال: إنه ليس بحرام، لأنه لا خيار للمشتري، فلو أراد أن يفسخ البيع ويعقد مع بكر لم يحصل له ذلك.


والصحيح أنه عام لما كان بعد زمن الخيار أو قبله، لأنه إذا كان قبل زمن الخيار فالأمر واضح بأن يفسخ البيع ويشتري من الثاني، لكن بعد زمن الخيار أيضاً لا يجوز لأنه يترتب عليه مفاسد:

أولاً: أن المشتري يكون في قلبه حقد على البائع، ويقول: هذا الرجل غلبني وخدعني.


ثانياً: أن المشتري يندم ويقول: كيف أشتري هذا بمائة وهو بتسعين، وإدخال الندم على المسلم محرم.


ثالثاً: أنه ربما يسعى المشتري إلى إحداث عيب في السلعة، أو إلى دعوى اختلال شرط من الشروط من أجل أن يفسخ البيع.


فلذلك كان القول الراجح في هذه المسألة: إن بيع المسلم على المسلم حرام، سواء كان في زمن الخيار أو بعد زمن الخيار.


وهل يقال: إن شراء الإنسان على شراء أخيه كبيعه على بيع أخيه؟

فالجواب: نعم، إذ إن المعنى واحد، ومثال الشراء على شراء أخيه، أن يبيع زيد على عمرو سلعة بمائة، فيذهب بكر إلى زيد- البائع - ويقول: أنا أشتريها منك بمائة وعشرين، فهذا حرام لما فيه من العدوان، وإحداث العداوة والبغضاء والنزاع بين الناس.
وسبق لنا: هل هذا خاص في زمن الخيار أو هو عام؟ وبينَّا أن القول الراجح إنه عام.


.
7وجوب الأخوة الإيمانية، لقوله صلى الله عليه وسلم "وَكونوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانَاً".


ولكن كيف يمكن أن يحدث الإنسان هذه الأخوة؟
فالجواب: أن يبتعد عن كل تفكير في مساوئ إخوانه، وأن يكون دائماً يتذكر محاسن إخوانه، حتى يألفهم ويزول ما في قلبه من الحقد.


ومن ذلك: الهدايا، فإن الهدية تُذهِب السخيمة وتوجب المودة.


ومن ذلك: الاجتماع على العبادات ولا سيما على الصلوات الخمس والجمع والأعياد، فإن هذا يوجب المودة والأخوة، والأسباب كثيرة، والموانع كثيرة أيضاً، لكن يجب أن يدافع الموانع.


.
8أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن نكون إخواناً بيّن حال المسلم مع أخيه

.
9أن المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه.


.
10أنه لا يجني عليه بأي جناية تريق الدم أو بأي جناية تنقص المال، سواء كان بدعوى ما ليس له أو بإنكار ما عليه.


.
11تحريم عرض المسلم، يعني غيبته، فغيبة المسلم حرام، وهي من كبائر الذنوب كما قال ابن عبد القوي في منظومته:

وقد قيل صغرى غيبة ونميمة ... وكلتاهما كبرى على نص أحمد

والغيبة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها: "ذكرك أخاك بما يكره في غيبته" فإن كان في حضوره فهو سب وليس بغيبة، لأنه حاضر يستطيع أن يدافع عن نفسه، وقد شبهها الله عزّ وجل بأكل لحم الميت تقبيحاً لها حتى لا يقدم أحد عليها.


واعلم أن الغيبة تختلف مراتبها باختلاف ما ينتج عنها، فغيبة الأمراء أعظم من غيبة عامة الناس، لأن غيبتهم تؤدي إلى كراهتهم، وإلى التمرد عليهم، وإلى عدم تنفيذ أوامرهم التي يجب تنفيذها، وربما تؤدي إلى الخروج المسلح عليهم، فيحصل بذلك من الشر ما الله به عليم.


كذلك أيضاً غيبة العلماء أشد من غيرهم، لأن غيبة العلماء تتضمن الاعتداء على أشخاصهم، وتتضمن الاعتداء على ما يحملونه من الشريعة، لأن الناس إذا خف ميزان العالم عندهم لم يقبلوا منه.

ولذلك أحذركم ما حذرتكم به من قبل، من أولئك القوم الذين أعتبرهم مفسدين في الأرض، فيأتون في المجالس يغتابون فلاناً وفلاناً، مع أنك لو فكرت لوجدت عندهم من العيوب أكثر مما يعيبون به هذا الشخص، احذروا هؤلاء، لا تركنوا إليهم وانبذوهم من مجالسكم نبذاً، لأنهم مفسدون في الأرض، سواء قصدوا أو لم يقصدوا، فالفساد متى حصل فصاحبه مفسد، لكن مع نية الإفساد يكون ضرره أكثر وأعظم.


كما أن التشبه بالكفار مثلاً متى حصل ولو بغير قصد التشبه ثبت حكمه، ومع نية التشبه يكون أعظم.


.
12أنه لا يحل ظلم المسلم بأي نوع من أنواع الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "مَنْ تَعَدُّونَ المُفلِسَ فيكُم؟ " قَالوا: الذي لَيسَ عِندَهُ دِرهَم وَلاَ دينَار - أَو وَلاَ مَتَاع- قَالَ: "المُفلِس مَنْ يَأتي يَومَ القيامَةِ بِحَسَنَات ٍأَمثَالِ الجِبَالِ، فَيَأَتي وَقَد ضَرَبَ هَذا، وَشَتَمَ هَذا، وَأَخَذَ مَالَ هَذا، فَيَأخُذُ هَذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِن لَمْ يَبقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيء أُخِذَ مِنْ سَيئَاتِهِم فَطُرِحَ عَلَيهِ ثُمَ طُرِحَ في النَّارِ" ..
13وجوب نصرة المسلم، وتحريم خذلانه، لقوله: "وَلاَيَخذلهُ" ويجب نصر المسلم، سواء كان ظالماً أو مظلوماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "انصُر أَخَاكَ ظَالِمَاً أَو مَظلُومَاً" قَالوا: يَارَسُول الله هَذا المَظلوم، فَكَيفَ نَنصُرُ الظَالِمَ؟ قَالَ: "تَمنَعهُ مِنْ الظلم فَذلِكَ نَصرُكَ إيَّاهُ" وأنت إذا منعته من الظلم فقد نصرته على نفسه، وأحسنت إليه أيما إحسان.


.
14وجوب الصدق فيما يخبر به أخاه، وأن لا يكذب عليه، بل ولا غيره أيضاً، لأن الكذب محرم حتى ولو كان على الكافرين، لكن ذكره في حق المسلم لأن السياق في ذلك.


فإن قال قائل: ما تقولون في التورية؟

فالجواب: التورية فيها تفصيل:

.
1إن أدت إلى باطل فهي حرام.


.
2 إن أدت إلى واجب فهي واجبة.


.
3 إن أدت إلى مصلحة أو حاجة فجائزة.


.
4-أن لا يكون فيها هذا ولا هذا ولا هذا، فاختلف العلماء فيها: هل تجوز أو لا تجوز؟

والأقرب أنه لا يجوز الإكثار منها، وأما فعلها أحياناً فلا بأس لا سيما إذا أخبر صاحبه بأنه مورٍّ، لنضرب لهذا أمثالاً خمسة:

المثال الأول في التورية المحرمة التي تؤدي إلى الباطل: تخاصم شخصان عند القاضي فقال أحدهما لي في ذمة فلان ألف ريال، فهذه دعوى، فأنكر المدعى عليه فنقول للمدعي: هات البينة.
فقال: ليس عندي بينة، فإذا قال هذا توجهت اليمين على المدعي عليه، فأقسم المدعى عليه قال: والله ما له عندي شيء.


وأراد بـ (ما) اسم الموصول، اسم الموصول يعني: الذي، أي الذي له عندي شيء، وهو صحيح، أن ألف ريال شيء، فهذه تورية حرام لأنها تؤدي إلى محرم، أي أكل المال بالباطل.

ثم إن هذا الرجل لا ينجو في الآخرة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يَمينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ" .


المثال الثاني: التورية الواجبة: مثل أن يسأل ظالم عن مكان شخص يريد أن يقتله، فسأل رجلاً، وقال: أتدري أين فلان؟ وهو يدري أنه في المكان الفلاني، فقال: لا أدري، وينوي لا أدري عن كل أحواله، فقال له: هل هو في هذا البيت؟ وهو يدري أنه في البيت، فقال: ليس في البيت، وينوي ليس في السطح مثلاً أو ليس في الدور الأسفل، أوليس في الحجرة الفلانية.


فهذه التورية حكمها الوجوب، لأن فيها إحياء نفس.


المثال الثالث: أن تكون التورية لمصلحة: سأل رجل عن شخص في حلقة علم فقال الحاضرون: ليس هاهنا.
ويشيرون إلى شيء ليس هو فيه، بل هو في مكان آخر، فهذه مصلحة.


ويذكر أن الإمام أحمد -رحمه الله - كان في جلسة فجاء رجل يسأل عن المروذي، فقال الإمام أحمد: ليس المروذي هاهنا، وما يصنع المروذي هاهنا.
وأشار إلى يده، يعني أنه ليس في يده وهو ليس في يده، لكنه حاضر.
المثال الرابع: أن تكون التورية لحاجة: كأن يلجئك رجل في سؤال عن أمور بيتك، وأنت لا تريد أن تخبره عن أمور بيتك، فهنا تحتاج إلى التورية، فإذا قال مثلاً: أنت تفعل في بيتك كذا وكذا، وأنت لا تحب أن يطلع على هذا، فتقول: أنا لا أفعل.
وتنوي لا تفعل في زمن لست تفعل فيه هذا الذي سأل عنه، فالزمن متسع فمثلاً: أنت تفعله في الضحى فتقول: أنا لا أفعل هذا يعني في الصباح والمساء، فهذه حاجة.

المثال الخامس: أن لا تكون التورية لحاجة ولا لمصلحة ولا واجب ولا حرام، فهذه مختلف فيها، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لا تحل التورية، وقال إنها حرام، لأن التورية ظاهرها يخالف باطنها، إذ إن معنى التورية أن ينوي بلفظه ما يخالف ظاهره، ففيها نوع من الكذب، فيقول: إنها لا تجوز.


وفيها أيضاً مفسدة وهي: أنه إذا أطلِعَ أن الأمر خلاف ما فهمه المخاطب وصف هذا الموري بالكذب وساء ظنه فيه وصار لا يصدقه، وصار هذا الرجل يلعب على الناس، وما قاله الشيخ - رحمه الله تعالى - قوي بلا شك.


لكن لو أن الإنسان فعل ذلك أحياناً فأرجو أن لا يكون فيه حرج، لا سيما إن أخبر صاحبه فيما بعد، وقال: إني قلت كذا وكذا، وأريد كذا وكذا، خلاف ظاهر الكلام، والناس قد يفعلون ذلك على سبيل المزاح، مثل أن يقول لك صاحبك: متى تزورني؟ أنا أحب أن تزورني، فقلت له: بعد غد، هو سيفهم بعد غد القريب، وأنت تريد بعد غد مالا نهاية له إلى يوم القيامة، وهذا يؤخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في صلح الحديبية لما قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تحدثنا أننا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: نعم، لكني لم أقل هذا العام وإنك آتيه ومطوف به .


وجرت لشيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - قصة حول هذا الموضوع، جاءه رجل في آخر شهر ذي الحجة، أي باقي أيام على انقضاء السنة، وقال له: يا شيخ نريد وعداً، فقال: هذه السنة لا يمكن أن أواعدك فيها، فظن المتكلم أنها اثنا عشر شهراً، فغضب، ولما رآه الشيخ غضب فقال له: لم يبق في السنة إلا عشرة أيام أو نحوها، فاقتنع الرجل، فمثل هذا لا بأس به أحياناً لا سيما إذا أخبر صاحبه..
15تحريم احتقار المسلم مهما بلغ في الفقر وفي الجهل، فلا تحتقره، قال النبي صلى الله عليه وسلم "رُبَّ أَشعَثَ أَغبَرَ مَدفوعٌ بالأَبوابِ لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ " .


أشعث أغبر لا يستطيع أن ينظف نفسه، مدفوع بالأبواب لا يُفتح له، وإذا فتح له أحد عرف أنه فلان رد الباب عليه، فدفعه بالباب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَو أَقسَمَ عَلَى اللهِ لأَبرَّهُ" فكيف تحتقر أخاك المسلم؟!.


ولعل يوماً من الدهر يكون أعلى منك، ولهذا قال الشاعر الجاهلي:

لا تهين الفقير علك أن تر ... كع يوماً والدهر قد رفعه

تركع يوماً: أي تذل، وهذا أمر مشاهد، كم من أناس كانوا فقراء في أول حياتهم لا يؤبه لهم فصاروا قادة وصاروا أغنياء.


إذاً لا تحقر أخاك المسلم، حتى لو سألته عن مسألة كلٌّ يفهمها وهو لم يفهمها لا تحتقره، فلعل الله يفتح عليه ويتعلم من العلم ما يكون به أعلم منك.


.
16أن التقوى محلها القلب، لقوله: "التَّقوَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى صَدرِهِ" يعني في قلبه.


.
17أن الفعل قد يؤثر أكثر من القول في المخاطبات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بإمكانه أن يقول: التقوى في القلب، لكنه قال: التقوى هاهنا وأشار إلى صدره، لأن المخاطب يتصور هذه الصورة ويتخيلها في ذهنه، وقد مر علينا أمثلة من هذا من الصحابة وغيرهم.
18الرد على أولئك المجادلين بالباطل الذين إذا فعلوا معصية بالجوارح ونُهوا عنها قالوا: التقوى هاهنا، فما جوابنا على هذا الجدلي؟
جوابنا أن نقول: لو اتقى ما هاهنا لاتقت الجوارح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة إِذَا صَلحَت صَلحَ الجَسَد كُلهُ، وَإِذا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُهُ أَلاَ وَهِيَ القَلب" .


.
19عظمة احتقار المسلم، لقوله: "بِحَسبِ امرئ مِنَ الشَّرِِّأَن يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسلِم".


20- وجوب احترام المسلم في هذه الأمور الثلاثة: دمه وماله وعرضه، والله الموفق.