هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
434 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَأَبُو كُرَيْبٍ ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ح ، وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، وَوَكِيعٌ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَمَّامٍ ، قَالَ : بَالَ جَرِيرٌ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقِيلَ : تَفْعَلُ هَذَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ . قَالَ الْأَعْمَشُ : قَالَ إِبْرَاهِيمُ : كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ ، كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ . وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ ، قَالَا : أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، ح ، وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، ح ، وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ ، كُلُّهُمْ عَنِ الْأَعْمَشِ ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيسَى ، وَسُفْيَانَ قَالَ : فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير،  واللفظ ليحيى قال : أخبرنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، قال : بال جرير ، ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش : قال إبراهيم : كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير ، كان بعد نزول المائدة . وحدثناه إسحاق بن إبراهيم ، وعلي بن خشرم ، قالا : أخبرنا عيسى بن يونس ، ح ، وحدثناه محمد بن أبي عمر ، قال : حدثنا سفيان ، ح ، وحدثنا منجاب بن الحارث التميمي ، أخبرنا ابن مسهر ، كلهم عن الأعمش ، في هذا الإسناد بمعنى حديث أبي معاوية ، غير أن في حديث عيسى ، وسفيان قال : فكان أصحاب عبد الله يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن همام قال بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل تفعل هذا؟ فقال نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه.

قال الأعمش قال إبراهيم كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.



المعنى العام

كان العرب في جاهليتهم تغلب عليهم البداوة، وتتسم حياتهم بالانسياب مع الطبيعة والبساطة، يتبرز الراعي منهم خلف غنمه أو بقره أو إبله، والزارع في مزرعته، ولا يخرج من بالبلدة إلى الخلاء وتخرج النساء لحاجتها ليلا إلى الصحراء، ويتلمس الماشي في شوارعها خرابة أو مزبلة، يقضي فيها بوله، وفي جميع هذه الحالات لا يكادون يعرفون الاستنجاء بالماء، لعدم وجوده تارة ولصعوبة حمله تارة أخرى.

وجاء الإسلام، دين النظافة، دين الاجتماع، دين الشعور المرهف، دين الإنسانية والحياء، لم يشأ أن يطلب إليهم بناء الكنف والمراحيض، لأنهم لم يألفوا الرائحة الكريهة في بيوتهم التي لم تكن تضم غالبا إلا حجرة واحدة، فشرع آداب قضاء الحاجة بقطع النظر عن مكانها، وعجب الكفار من محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به الإسلام، فقال قائلهم لسلمان الفارسي مستهزئا علمكم نبيكم كل شيء حتى أمور الخراءة؟ ولم يعبأ سلمان بسخريته بل أجاب بكل فخر واعتزاز: نعم.
علمنا كل شيء، حتى ما ينبغي أن نكون عليه عند قضاء الحاجة علمنا احترام القبلة وتقديسها، وتنزيهها عن أن نستقبلها أو نستدبرها ببول أو غائط، وعلمنا أن نحافظ على نظافة يميننا لطعامنا وشرابنا، وأن نجعل الشمال لاستنجائنا، ودعانا إلى النظافة والتخلص من آثار فضلاتنا، وأن نتتبع كلا من مخرج البول والغائط بثلاثة أحجار على الأقل، بل علمنا أن لا نستخدم في هذا الإنقاء العظم والروث والبعر وكل رجيع.

ورغم المشقة في تنفيذ هذه التعليمات بحكم البيئة، فقد حافظ عليها المسلمون وحرصوا على القيام بها بكل عناية، حتى يوم أن قدموا الشام واضطروا إلى قضاء الحاجة بالمراحيض، ووجدوها في بنائها مستقبلات للقبلة أو مستدبرات، كان الواحد منهم ينحرف عند الجلوس عن الاستقبال والاستدبار، حتى إذا فرغ استغفر الله مما عساه يكون قد قصر فيه.
ورأى بعض الغيورين على سماحة الإسلام أن في هذا تشددا لا يقصده الدين في تشريعاته فدعا إلى التيسير، وبين أن النهي عن استقبال القبلة أو استدبارها ليس على سبيل الحرمة والإلزام، بل على سبيل التنزيه وعدم قصد الإهانة والتحقير، وعلى رأس هؤلاء الميسرين كان عبد الله بن عمر الذي حكى أنه صعد يوما بيت أخته حفصة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقام حائطا قصيرا من الطوب، وأعد حفرة لبوله وغطائه هو ونساؤه ليحجبهن عن الصحراء، ووجده وقد جلس يقضي حاجته على لبنتين وقد استدبر القبلة.

ولم يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذكرنا من آداب قضاء الحاجة، بل نهي عن مس الذكر باليمين، وعن الاستنجاء باليمين، وعن البول قائما، وعن البول في الماء الراكد، وعن البول في طريق الناس، أو في ظلهم، وحث على الاستنجاء بالماء، وعلى التستر عند قضاء الحاجة، والابتعاد عن أعين الناس، وحذر من التساهل في البول وآثاره، وشدد على التنزه منه، وبين أنه من أسباب عذاب القبر، لأن التساهل فيه يؤدي إلى نجاسة الثوب والبدن، فلا تصح معها الصلاة كما نهي في أحاديث كثيرة عن خروج الرجلين معا إلى الخلاء، وعن خروج المرأتين كذلك يكلم بعضهما بعضا على البول والغائط، وعن الأكل والشرب أو الكلام أو الذكر أثناء قضاء الحاجة، ونهي عن إدخال المصحف وكتب العلم إلى مكان قضاء الحاجة، وسن ذكرا خاصا عند الدخول، وآخر عند الخروج، اعترافا بنعمة الله وشكرا له جل شأنه على آلائه، وعلى الفضل الذي لا يحس به إلا من فقده أو أصيب فيه.

وهكذا نجد الإسلام في صورته المشرقة، وآدابه الراقية، التي تصل بالإنسانية إلى أعلى الدرجات في المجتمعات الحضارية، وإلى أسمى معالم الإحساس والحياء.

المباحث العربية

( عن سلمان قال: قيل له) هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، وكان الأصل أن يقول: قيل لي، لكنه جرد من نفسه شخصا حكى عنه، والقائل له أحد المشركين، كما سيأتي في الرواية الثانية.

( قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة) قصد بهذا القول السخرية والاستهزاء وعدم الاستحياء، وكان من حق سلمان أن يهدد أو يؤنب أو يسكت عن جوابه إهمالا له، لكنه تجاهل قصده، ورد سهمه في نحره، وأنزله منزلة المسترشد على طريقة الأسلوب الحكيم، كأنه يقول له: إن موقف السخرية والاستهزاء لا يليق بالعقلاء، وإنه كان الأجدر بك أن تسأل على سبيل الجد والاستفهام، لأجيبك بأجل، وحتى حرف عطف لإفادة الغاية والخراءة بكسر الخاء وتخفيف الراء اسم لهيئة الحدث، أي فعل التغوط معطوف على كل شيء، وأما ما يخرج من الدبر فهو بحذف التاء مع المد وفتح الخاء وكسرها.

( قال: فقال: أجل) أي قال سلمان: فقال سلمان: أجل، وكان الأصل: قال: فقلت: أجل، أي نعم.
علمنا كل شيء نحتاج إليه في ديننا، حتى الخراءة التي ذكرتها أيها المستهزئ، فإنه علمنا آدابها.
وأجل بتخفيف اللام مثل نعم حرف جواب.
قال الأخفش: هي أحسن من نعم في الخبر، ونعم أحسن منها في الاستفهام، وهما معا حرفا تصديق في الثبوت والنفي.

( لقد نهانا أن نستقبل القبلة) اللام في جواب قسم محذوف، لتأكيد الجملة لمناسبة إنكار السائل، وأن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف أي نهانا عن استقبال القبلة، وأل في القبلة للعهد، والمراد بها الكعبة.

( لغائط أو بول) قال النووي: كذا ضبطه في مسلم لغائط باللام، وروي في غيره بغائط كما روي بالغائط بالباء واللام.

والغائط كناية عن إخراج الفضلات من الدبر، وهو في الأصل المنخفض من الأرض في الفضاء، ومنه قيل لموضع قضاء الحاجة، لأنهم كانوا يقصدونه للتستر فيه، وعدم التعرض لكشف الثياب بفعل الريح.
ثم اتسع فيه، حتى صار يطلق على الخارج المعروف من دبر الآدمي.

( وأن نستنجي باليمين) المصدر مجرور بحرف جر محذوف، معطوف على المصدر قبله، مسلط عليه النهي أيضا.
أي ونهانا عن الاستنجاء باليد اليمنى، والاستنجاء إزالة الأذى عن المحل بالماء، مأخوذ من نجوت العود إذا قشرته، لأن فيه تقشير النجاسة وتنحيتها كما تنحى القشرة عن العود.

( أو أن نستنجي برجيع أوعظم) الرجيع هو الروث والعذرة، ونبه به على كل نجس فإنه يزيد المحل نجاسة.

( قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم) قال النووي: هكذا هو في الأصل.
وهو صحيح، وتقديره: قال لنا قائل المشركين.
أو أنه أراد واحدا من المشركين، وجمعه لكون باقيهم يوافقونه.
اهـ.
ومفعول يعلمكم الثاني محذوف، تقديره: يعلمكم كل شيء، كما جاء في الرواية الأولى.

وجملة يعلمكم في محل المفعول الثاني لأرى على أنها علمية، والتقدير: إني أرى صاحبكم معلما إياكم كل شيء.

( أو يستقبل القبلة) في الكلام حذف مفهوم من المقام، أي نهانا عن أن يستقبل أحدنا القبلة عند قضاء الحاجة.

( ونهي عن الروث والعظام) في الكلام مضاف محذوف أي نهي عن استعمال الروث والعظام في الاستجمار.

( وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار) لا نافية، والفعل يستنجي مرفوع، والنفي أبلغ من النهي، إذ يصور أن الفعل امتثل، وأصبح يخبر عنه.

( نهى أن يتمسح بعظم أو ببعر) البعر بسكون العين وفتحها، وهو رجيع ذي الخف والظلف، واحدته بعرة، أما الروث فقد قال التيمي: إنما تكون للخيل والبغال والحمير، فالرجيع أعم من الروث والبعر.

( إذا أتيتم الغائط) أتيتم من الإتيان، وهو المجيء، والظاهر أن المراد من الغائط المعنى الأصلي، أي المكان المنخفض المقصود بقضاء الحاجة.

( ولا تستدبروها ببول ولا غائط) في الكلام مضاف محذوف، أي تستدبروها بإنزال بول ولا بإنزال غائط، والمراد من الغائط هنا الفضلة الخارجة.

( ولكن شرقوا أو غربوا) أي اتجهوا ناحية المشرق، أو ناحية المغرب والخطاب لأهل المدينة، وقبلتهم في الجنوب، فلو اتجهوا جنوبا استقبلوا القبلة ولو اتجهوا شمالا استدبروها، ويلحق بهم من كانت قبلتهم على ذلك السمت أما من كانت قبلتهم إلى جهة المشرق أو المغرب، فإنهم لا يشرقون ولا يغربون بل يتيامنون أو يتشاءمون.

( فوجدنا مراحض) جمع مرحاض، وهو البيت المتخذ لقضاء الحاجة، ويقال له: الكنيف والخلاء، والمرفق، والحش مثلثة الحاء، لأنهم كانوا يقضون حاجاتهم في البساتين.

( قد بنيت قبل القبلة) أي يكون الجالس فيها متجها نحو القبلة.

( فننحرف عنها) أي فكنا ننحرف ونميل عن جهة القبلة قدر استطاعتنا.

( ونستغفر الله) من اتجاهنا هذا الذي اضطررنا إليه، أو نستغفر الله للبانين الذين أخطئوا في وضع هذا البناء.

( قال: نعم) أي قال سفيان ليحيى بن يحيى، ردا على سؤاله: نعم سمعت الزهري يذكر عن عطاء عن أبي أيوب هذا الحديث.

( إذا جلس أحدكم على حاجته) ذكر الجلوس لكونه الغالب، وإلا فحكم القيام كذلك، وقوله: على حاجته كناية عن التبرز وإخراج الفضلات.

( كنت أصلي في المسجد) أل في المسجد للعهد، والمراد المسجد النبوي بالمدينة.

( انصرفت إليه في شقي) بكسر الشين والقاف المشددة.

( ولقد رقيت على ظهر بيت) رقيت بكسر القاف هي اللغة الفصيحة وحكي فيها فتح القاف، مع الياء أو مع الهمزة، والمعنى صعدت، والمراد من البيت بيت أخته حفصة كما جاء في الرواية التالية.

( قاعدا على لبنتين) مثنى لبنة بفتح اللام وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها، وهي ما يصنع من الطين للبناء، قبل أن يحرق.

( ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) أصل الخلاء بفتح الخاء الموضع الخالي وسمي به موضع الحاجة لأنهم كانوا يقصدونه عندها، والمراد من الخلاء هنا -كما يقول النووي- الغائط وليس التقييد بالخلاء للاحتراز عن البول، بل هما سواء.
اهـ.

والمراد من التمسح المسح، وصيغة التفعل للتكلف، أي لا يتكلف المسح باليمين، أي لا يستنجى باليمين.

( إذا دخل أحدكم الخلاء) المراد من الخلاء هنا موضع قضاء الحاجة.

( فلا يمس ذكره بيمينه) يقال: مسست الشيء بالكسر، أمس مسا.
هذه اللغة الفصيحة، وحكى أبو عبيدة: مسسته بالفتح، أمسه بالضم.

( وأن يستطيب بيمينه) في القاموس: واستطاب استنجى كأطاب.
اهـ.

( إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب التيمن) إن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن والحال، والمراد بالتيمن البدء باليمين.

( وفي ترجله إذا ترجل) أي ترجيل شعره، وهو تسريحه ودهنه، قال في المشارق: رجل شعره، إذا مشطه بماء أو دهن ليلين.
اهـ.

( يحب التيمن..في نعليه) أي هيئة تنعله ولبسه نعليه.

( اتقوا اللعانين) قال النووي: كذا وقع في مسلم، ووقع في رواية أبي داود اتقوا اللاعنين والروايتان صحيحتان، قال الخطابي: المراد باللاعنين الأمران الجالبان للعن الحاملان الناس عليه، والداعيان إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن، يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سببا لذلك أضيف اللعن إليهما: قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون، والملاعن مواضع اللعن.
اهـ.

قال النووي: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود، وأما على رواية مسلم فمعناها -والله أعلم- اتقوا فعل اللعانين، أي صاحبي اللعن، وهما اللذان يلعنهما الناس في العادة.
اهـ.

وعندي أن رواية مسلم بمعنى رواية أبي داود، غاية الأمر أن رواية أبي داود على صيغة اسم الفاعل، ورواية مسلم على صيغة المبالغة وهي بمعنى اسم الفاعل مع إرادة الكثرة، وما قيل في توجيه رواية أبي داود يقال في توجيه رواية مسلم، والله أعلم.

( دخل حائطا) أي بستانا.

( وتبعه غلام) قال الخليل: الغلام هو الذي طر شاربه، وقال الزمخشري: هو الصغير إلى حد الالتحاء، فإن أجرى عليه بعد ما صار ملتحيا اسم الغلام فهو مجاز.
قالت ليلى الأخيلية في الحجاج:

غلام إذا هز القناة تباهيا

والمراد من الغلام هنا في الحديث أبو هريرة، وقيل: ابن مسعود، وقيل: جابر.

( معه ميضأة) بكسر الميم، وهي الإناء الذي يتوضأ به، كالإبريق.

( هو أصغرنا) قيل في السن، وقيل في الوصف والحال، لقرب العهد بالإسلام، والأول هو الظاهر.

( فوضعها عند سدرة) أي فوضع الميضأة عند شجرة نبق.

( فأحمل أنا وغلام نحوي) أي مقارب لي في السن.

( إداوة من ماء) الإداوة بكسر الهمزة إناء صغير من جلد، وقوله من ماء أي مملوءة من ماء.

( وعنزة) بفتح العين والنون والزاي، وهي عصا طويلة، في أسفلها زج أي سنان، ويقال رمح قصير.

( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرز لحاجته) يتبرز يأتي البراز بفتح الباء، وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض ليخلو لحاجته، ويتستر، ويبعد عن أعين الناظرين.
قاله النووي.
وقال الحافظ ابن حجر: والبراز موجه لأن يطلق بكسر الباء على نفس الخارج، فمن فتح أراد الفضاء، فإن أطلقه على الخارج فهو من إطلاق اسم المحل على الحال، كما تقدم مثله في الغائط، ومن كسر أراد نفس الخارج.
اهـ.

( فيغتسل به) معناه: فيستنجي به، ويغسل محل الاستنجاء.

( فقيل: تفعل هذا) ؟ الكلام على تقدير حرف الاستفهام والمشار إليه المسح على الخفين، بدل غسل الرجلين، وسيأتي الموضوع في الباب التالي.

( فانتهى إلى سباطة قوم) السباطة بضم السين وتخفيف الباء، وهي ملقى القمامة والتراب والكناسة، وهي المزبلة، تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها، كما تكون خارجها بجوار جدارها.
والثاني هو المراد هنا، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد فيها البول على البائل.

( فتنحيت.
فقال: أدنه)
أي ابتعدت.
والهاء في أدنه للسكت.

( كان أبو موسى يشدد في البول) أي يشدد في التحذير من رشاش البول، ويشدد في كيفية التبول.

( ويبول في قارورة) زيادة في التشدد والحذر.

( إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم بول قرضه بالمقاريض) قال القرطبي: مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود، ففيها كان إذا أصاب جسد أحدهم لكن رواية البخاري صريحة في الملابس، إذ فيها إذا أصاب ثوب أحدهم والمراد من القرض هنا القطع، لا الغسل، والمقاريض جمع مقراض وهو المقص، وفائدة ذكره دفع حمل القرض على الغسل بالماء.

( فانتبذت منه) أي فانتحيت جانبا بعيدا عنه.

فقه الحديث

تتناول هذه المجموعة النقاط التالية:

1- حكم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط، وحكمته، وأدلته.

2- حكم الاستجمار بالأحجار، والاستنجاء بالماء، وكيفيته، وحكمة مشروعيته.

3- حكم الاستنجاء وعدم مس الذكر باليمين، وحكمته.

4- حكم التيامن في الأمور، وبيان ما يتناول بالشمال.

5- حكم التبرز في طريق الناس أو في ظلهم.

6- حكم البول قائما، وحكمته، وأدلته.

7- ما يؤخذ من الأحاديث من حكم وأحكام أخرى.

8- آداب أخرى لقاضي الحاجة لم تذكر في أحاديثنا.

وهذا هو التفصيل:

أولا: حكم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط، وحكمته، وأدلته: قبل الكلام على حكم استقبال القبلة أو استدبارها نوضح أن أماكن قضاء الحاجة إما صحراء خالية من ساتر، وإما صحراء مع الساتر، وإما فضاء دون ساتر داخل المدن كالأسطح والميادين، وإما بناء غير معد لقضاء الحاجة داخل المدن، وإما مرحاض معد لذلك داخل المدن أو خارجها.

وقد اختلف الفقهاء في الحكم على مذاهب:

الأول: تحريم استقبال القبلة، أو استدبارها ببول أو غائط مطلقا، في صحراء أو في غيرها، في بنيان أو غير بنيان، حتى المراحيض المعدة لذلك، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد، وقال به أبو ثور صاحب الشافعي، ورجحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم، وهو مذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري، وهو مذهب أبي أيوب الأنصاري راوي الرواية الرابعة في مجموعة أحاديثنا.

وحجتهم عموم النهي نهانا أن نستقبل القبلة، لغائط أو بول.
إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرقوا أو غربوا.
إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها فهذه الأحاديث كلها تدل على العموم؛ ولم يصححوا حديث جابر، ولفظه عند أحمد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا هرقنا الماء؛ قال: ثم رأيته قبل موته بعام يبول مستقبل القبلة وادعوا الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لحديث ابن عمر في روايتيه السادسة والسابعة.

وقالوا: إن المنع لأجل تعظيم القبلة، وهو موجود في الصحراء والبنيان فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء لأن بينها وبين الكعبة جبالا وأودية وغير ذلك.

الثاني: جواز استقبال القبلة أو استدبارها بالبول والغائط مطلقا؛ وهو قول عائشة وعروة وربيعة وداود، واعتلوا بأن الأحاديث تعارضت فليرجع إلى أصل الإباحة.

واستندوا إلى حديث جابر المروي عن أحمد، وحديث ابن عمر المذكور في الروايتين السادسة والسابعة، قالوا: ودعوى الخصوصية لا دليل عليها، والخصوصيات لا تثبت بالاحتمال.
كما استدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناسا يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو قد فعلوها؟ حولوا بمقعدي أي إلى القبلة.
رواه أحمد في مسنده وابن ماجه.
وإسناده حسن.

بل قيل: إنهم ذهبوا إلى أن الأحاديث التي استند إليها الفريق الأول منسوخة بما ذكروه.

الثالث: تحريم استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط في الصحراء دون البنيان وهو مذهب مالك والشافعي وإسحق، وأحمد في إحدى روايتيه.

واحتجوا بحديث ابن عمر، فإنه يدل على جواز استدبار القبلة في الأبنية وبحديث جابر، فإنه يدل على جواز استدبار القبلة، وهو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه، لأن ذلك هو المعهود من حاله صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في التستر، وبحديث مروان الأصفر: قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنه أناخ راحلته مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نهي عن هذا؟ فقال: بلى.
إنما هي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس.
رواه أبو داود وغيره.

قال النووي: فهذه أحاديث صحيحة، مصرحة بالجواز في البنيان، وحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم وردت بالنهي، فيحمل على الصحراء ليجمع بين الأحاديث، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء.
اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر عن هذا الرأي: هو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة، ويؤيده من جهة النظر ما قاله ابن المنبر من أن استقبال القبلة إنما يتحقق في الفضاء، وأما الجدار والأبنية فإنها إذا استقبلت أضيف إليها الاستقبال عرفا.
اهـ.

نعم ذهب بعض المالكية إلى التفرقة في البنيان، فأجازوا الاستقبال والاستدبار في المرحاض ومنعوه في غيره من المباني.

واشترط بعض الشافعية وبعض المالكية لجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان شروطا منها: أن يكون قريبا من الساتر بحيث يكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها، وأن يكون الحائل مرتفعا بحيث يستر أسافل الإنسان، وإلا فهو حرام كالصحراء.
إلا إذا كان في بيت بني لذلك، فلا حجر فيه كيف كان.

وقال بعضهم: ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، ولا فرق بين أن يكون الساتر دابة أو جدارا أو وهدة أو كثيب رمل أو جبلا فالاعتبار بوجود الساتر المذكور وعدمه، فيحل في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم لعدمه.

وبعضهم يعتبر الصحراء والبنيان مطلقا، ولا يعتبر الحائل، فيبيح في البنيان بكل حال، ويحرم في الصحراء بكل حال.

الرابع: أنه لا يجوز الاستقبال في الأبنية والصحراء، ويجوز الاستدبار فيهما وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله.
وحجتهم حديث ابن عمر، فإنه يدل على جواز استدبار القبلة، وحديث سلمان بروايتيه الأولى والثانية فإن النهي فيهما عن استقبال القبلة، ولا تعرض فيهما لاستدبارها.

وهذه الأقوال الأربعة أو المذاهب الأربعة هي المشهورة عن العلماء ولم يحك النووي في شرح المهذب غيرها.

قال الحافظ ابن حجر: وفي المسألة ثلاثة مذاهب أخرى، منها:

1- جواز الاستدبار في البنيان فقط، وهو قول أبي يوسف.

2- وتحريم الاستقبال والاستدبار للقبلة ولبيت المقدس، وهو محكي عن إبراهيم وابن سيرين عملا بحديث معقل الأسدي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلتين ببول أو بغائط رواه أبو داود وغيره، وضعفه الحافظ ابن حجر، ثم قال: وقد ادعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن لا يستدبر في استقباله الكعبة قال: وفيه نظر لما ذكرناه عن إبراهيم وابن سيرين.
اهـ.

3- وقالت المذاهب غير المشهورة إن التحريم مختص بأهل المدينة ومن كان على سمتها، فأما من كانت قبلته في جهة المشرق أو المغرب فيجوز له الاستقبال والاستدبار مطلقا، لعموم قوله: شرقوا أو غربوا قاله أبو عوانة صاحب المزني.
اهـ.

ولا يفوتني في هذا المقام أن أوضح المراد باستقبال القبلة واستدبارها هل هو عين الكعبة أو وجهتها؟ فأنقل ما ذكره العيني عن بعضهم أنه قال: البيت قبلة لمن في المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لسائر أهل الأرض.
اهـ.

لكن ظاهر الحديث أن المقصود الجهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لهم قضاء الحاجة في جهة المشرق والمغرب، فيكون معناه أن لا قبلة ما بينهما، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين المشرق والمغرب قبلة قاله بالنسبة لأهل المدينة، وقال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة.

والرأي عندي -بعد هذا العرض الواضح لمذاهب العلماء- أن قصد استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط حرام، سواء كان بالصحراء أو بالمرحاض في جوف المدينة، وأما مع عدم القصد فليس حراما ولو كان في الصحراء، والسين والتاء في استقبل واستدبر للطلب، فطلب كونها قبل وجهه، أو طلب كونها خلف دبره هو المحرم، لما في ذلك من إهانة ما يجب تعظيمه، نعم الأولى عند عدم القصد اجتناب الاستقبال والاستدبار حيث أمكن وحيث خطر بالبال، كما أن الأولى لمن يبني مكانا لقضاء الحاجة أن يجعل وضعه في غير استقبال أو استدبار، خروجا من الخلاف، ورفعا لتوهم المتوهمين، وما يقال في القبلة يقال في المصحف الكريم، وفي القبر النبوي الشريف.

وأعتقد أن النهي عن استقبال القبلة بالبول والغائط قصد منه تعظيم القبلة وتقديسها في نفوس المسلمين، وصيانتها عن قصدها بالخبائث، وإلا فكيف نفهم استقبالها بالغائط، وهو ينزل من أعلى إلى أسفل، ولا يوصف بمواجهة ولا استدبار، ولا بيمين أو يسار.

ولا يقال: إننا نصونها عن استقبالها بالقبل والدبر، لأنه إن أريد مع الساتر فإننا نستقبل بهما الحجر الأسود في الطواف وليس علينا إلا الإزار، وإن أريد مع الكشف فإن من قال بالحرمة لم يمنع الاغتسال عريانا مستقبل القبلة، بل قال: إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط، ثم أراد الاستقبال أو الاستدبار حال الاستنجاء جاز.
قاله النووي في شرح مسلم، ثم قال: ويجوز الجماع مستقبل القبلة في الصحراء والبنيان، هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وأحمد وداود الظاهري، واختلف فيه أصحاب مالك، فجوزه ابن القاسم، وكرهه ابن حبيب، والصواب الجواز.
اهـ.

إذن الهدف الإسلامي للتوجه نحو الكعبة في الأمور المحمودة، كالدعاء والاستغفار وقراءة القرآن، وعدم قصدها في الأحوال المستقبحة كالبول والغائط وممارسة سائر النجاسات.
والله أعلم.

ثانيا: حكم الاستجمار بالأحجار، والاستنجاء بالماء، وكيفيته، وحكمة مشروعيته:

أما عن الاستنجاء بالأحجار فتقول الرواية الأولى لقد نهانا...أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم وتقول الرواية الثانية ونهى عن الروث والعظام، وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار

وظاهر هاتين الروايتين أن الثلاثة شرط وإن حصل الإنقاء بواحدة، وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإسحق وأبو ثور، وتؤيدهم أحاديث أخرى صحيحة ففي البخاري عن ابن مسعود فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار وعن أبي هريرة ولا يستنجى بدون ثلاثة أحجار وعن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن رواه ابن ماجه وأحمد.

وقالوا: لابد في الاستنجاء بالأحجار من إزالة عين النجاسة واستيفاء ثلاث مسحات فلو مسح مرة أو مرتين فزالت عين النجاسة وجب مسحة ثالثة.
وقالوا: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلما اشترط العدد لفظا، وعلم الإنقاء فيه معنى، دل على إيجاب الأمرين.

وقالوا: ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف، ومسح بكل حرف مسحة أجزأه، لأنه حينئذ يقوم مقام ثلاثة أحجار في عدد المسحات، وإن كانت الأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف، وللقبل ثلاثة أحجار، وللدبر ثلاثة أحجار، إذا حصل الإنقاء بها، فإن لم يحصل الإنقاء بها وجب رابع، فإن حصل الإنقاء به استحب الإيتار بخامس، وهكذا يجب الإنقاء مهما زاد ويستحب الإيتار لحديث ومن استجمر فليوتر.

وذهب المالكية والحنفية إلى أن الشرط الإنقاء فقط، ولو حصل بحجر واحد ومسحة واحدة أجزأ، وقالوا: إن الأحاديث المذكورة محمولة على الندب مبالغة في الإنقاء، لأن الثلاثة أكثر ما تستعمل غالبا، وقلما تكفي الواحدة.

وقالوا: إن أحاديث الأمر بثلاثة أحجار متروكة الظاهر عند المستدلين بها لأنهم يجيزون حجرا واحدا بثلاثة أحرف.

واستدلوا بحديث البخاري عن عبد الله بن مسعود، وفيه فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث، فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: هذا ركس.

قالوا: فقوله: فأخذ الحجرين دليل على الاكتفاء بهما، لأنه لو كان الثالث شرطا لطلب الثالث، فحيث لم يطلب دل على كفاية ما أخذ.

ورده الحافظ ابن حجر، قال: لقد ثبت فيما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم طلب الحجر الثالث، وفيه فألقى الروثة وقال: إنها ركس، إيتني بحجر قال: ورجاله ثقات.
على أنه يحتمل أن يكون قد اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة، فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث.

وأرى أن الخلاف هين، حيث إن الكل مجمع على شرط الإنقاء، وعلى طلب الثلاثة مع الإنقاء بواحد، لكن على سبيل الندب أو على سبيل الوجوب؟ الأمر هين، ولهذا قال بعض الشافعية بما ذهب إليه المالكية والحنفية، وقال بعض المالكية والحنفية بما ذهب إليه الشافعية، والله أعلم.

هذا وقد تمسك داود بلفظ الأحجار، وقال: لا يجزئ غيرها، وذهب العلماء كافة من الطوائف كلها إلى أن الحجر ليس متعينا، بل تقوم الخرق والخشب وغير ذلك مقامه، وأن المعنى فيه كونه مزيلا، وهذا يحصل بغير الحجر: نعم اشترطوا في الخرقة أن تكون صفيقة، لا ينفذ بلل جانب إلى الجانب الآخر وإنما قال صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحجار لكونها الغالب المتيسر، فلا يكون له مفهوم: فهو من قبيل تعليق الحكم على الاسم، وهو لا يدل على نفيه عن غيره عند أكثر الأصوليين، وتعليق الحكم على الاسم هو المسمى بمفهوم اللقب، ولم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة.

ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والبعر والرجيع ولو كان الحجر متعينا لنهي عما سواه مطلقا.

قال الشافعية: والذي يقوم مقام الحجر كل جامد، طاهر، مزيل للعين، ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان؛ فخرج بالجامد الرطب والمبتل من حجر أو ثوب، لأنه وإن قلع الجرم فليس بغسل ولا مسح، وخرج بالطاهر النجس والمتنجس، فإنه يزيد المحل نجاسة وخرج بمزيل العين الزجاج، فإنه ينشر النجس ولا يزيله، وخرج بما ليس له حرمة، حيطان المساجد، وأوراق كتب العلم وخرج بما ليس جزءا من حيوان اليد وغيرها.

وزاد بعضهم أن لا يكون مطعوما ليخرج مأكول الإنسان والحيوان، وأن لا يكون ذا سرف ليخرج الذهب والفضة والآلئ.

وقد ورد في الرواية الأولى والثانية النهي عن الاستنجاء بالعظام، قال القاضي عياض: لأن العظام طعام، إذ يؤكل في الشدائد؛ ويمشش الرخو منه وقيل: لأنه لا يخلو من بقية دسم، وجوز بعض الشافعية الاستنجاء بالعظم إن كان طاهرا لا زهومة فيه، لحصول المقصود.

قال النووي: ولا فرق في النجس بين المائع والجامد، فإن استنجى بنجس لم يصح استنجاؤه، ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء، ولا يجزئه الحجر، لأن الموضع صار نجسا بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات، فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك، إن لم يكن نقل النجاسة من موضعها، وقيل: إن الاستنجاء الأول يجزئه مع المعصية.

وقد ذكر الحديث الرابع عشر من مجموعتنا استنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالماء، وفيه فقضى حاجته، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء وفي الحديث الخامس عشر فيستنجى بالماء وفي الحديث السادس عشر يتبرز لحاجته، فآتيه بالماء، فيغتسل به.

قال النووي: يؤخذ من هذه الأحاديث جواز الاستنجاء بالماء، واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر.
قال: وقد اختلف الناس في هذه المسألة فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه.
فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها.
اهـ.

واستحب بعضهم الأحجار، وكره الاستنجاء بالماء.
فقد روى ابن أبي شيبة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء.
فقال: إذا لا يزال في يدي نتن.
وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله.
وممن ذكر عنه إنكار الماء سعد بن أبي وقاص.
وقال عطاء: غسل الدبر محدث.
وقال سعيد بن المسيب في الاستنجاء بالماء: إنه وضوء النساء.

واختلف النقل عن مالك وابن حبيب، فبينما يذكر ابن حجر أن ابن التين نقل عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم.
نجد الأبي يقول: قال مالك وابن حبيب: إن استعمال الأحجار ترك.
ويقول ابن حبيب، ولا نجيزه اليوم.
ولا نفتي به إلا لمن عدم الماء، وقال: إنما اقتصروا على الأحجار لأنهم كانوا يبعرون بعيدا [أي فلا يجدون الماء] ثم قال الأبي: اختلف في قول مالك وابن حبيب هذا، فقال اللخمي: هو الحق؛ لأن أحاديث الأحجار إنما جاءت في السفر، وقد تكون لعذر.
قال: والأصل في إزالة النجاسة الماء، والصلاة أولى ما احتيط لها وحمل الباجي قولهما على الندب.
قال: وإلا فهو خلاف الإجماع.
اهـ.

وأعجب من هذا الخلاف الخلاف في حكم الاستنجاء من أساسه، فالشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحق وأبو داود ومالك في رواية علي أنه واجب وشرط في صحة الصلاة، وروي عن مالك أنه من باب إزالة النجاسة، وإزالتها عنده سنة.
وحكى عنه عبد الوهاب أنها واجبة.
قال الأبي المالكي: وعلى القول بوجوبها عندنا قيل: إنها شرط في صحة الصلاة، يعيد تاركها أبدا، وقيل: شرط مع الذكر دون النسيان، وقيل: واجبة دون شرط.
اهـ.

ومن قال بأنه غير شرط في صحة الصلاة استدل بما رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج وقالوا: إنه كدم البراغيث، لأنه نجاسة لا تجب إزالة أثرها، فكذا عينيها لا يجب إزالتها بالماء فلا يجب بغيره، وقال المزني: لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني، ولا يخفى أن استدلالهم بالحديث غير تام، لأنه مع ضعفه مراد برفع الحرج فيه -رفع الحرج في ترك الإيتار- وليس المراد ترك أصل الاستنجاء، بل قيل: إنه في استعمال الجمر والبخور وليس في الاستنجاء، ولا يخفى أن هذا المذهب بعيد عن نظافة الإسلام، بعيد كل البعد عن الصواب.
والله أعلم.

ثالثا: حكم الاستنجاء ومس الذكر باليمين، وحكمته: وقد صرحت الأحاديث بالنهي عن الاستنجاء باليمين، ومس الذكر باليمين، ففي الحديث الأول نهانا أن نستنجي باليمين وفي الثاني نهانا أن يستنجى أحدنا بيمينه وفي الثامن لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه وفي التاسع إذا دخل أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه وفي العاشر نهى أن يمس ذكره بيمينه، وأن يستطيب بيمينه.

وهذا النهي للتنزيه عند الجمهور، والقرينة الصارفة له عن التحريم أن ذلك أدب من الآداب، وذهب أهل الظاهر إلى أنه للتحريم، وقالوا من استنجى بيمينه أساء ولم يجزئه، وقال بعضهم: يجزئ مع الإساءة، وفي كلام جماعة من الشافعية ما يشعر به، لكن النووي صرف إشارتهم إلى الكراهة فقال: مراد من قال منهم: لا يجوز الاستنجاء باليمين أي لا يكون مباحا يستوى طرفاه، بل هو مكروه، راجح الترك.

ومحل هذا الخلاف إذا كانت اليد اليمنى تباشر الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، أما إذا باشرت المسح بنفسها فحرام غير مجزئ بلا خلاف -كما تقدم- واليسرى في ذلك كاليمنى.

وقد أثار الخطابي بحثا حاصله: أن المستجمر متى استجمر بيسراه مس ذكره بيمينه، ومتى أمسك بيسراه استجمر بيمينه، وكلاهما قد شمله النهي، فماذا يعمل؟ وأجاب عن هذا بأن قصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره، فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض، ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه، ويستجمر بيساره، فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه.
اهـ.

وهذا الجواب -فضلا عن الهيئة المنكرة التي يصفها، والتي يتعذر فعلها في غالب الأوقات- يتنافى مع واقع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، فلم يؤثر عن أحد منهم مثل هذا الفعل، بل كانوا يستجمرون بالأحجار بسهولة ويسر.

وأجاب الطيبي عن إشكال الخطابي، بأن النهي عن الاستجمار باليمين مختص بالدبر والنهي عن المس مختص بالذكر، قال: فبطل الإيراد من أصله.
اهـ.
يقصد استجمار الدبر باليسار.
ويمسك ذكره بيساره ويستجمر بيمينه.

ورده الحافظ ابن حجر، فقال: ما ادعاه من تخصيص الاستنجاء بالدبر مردود، والمس وإن كان مختصا بالذكر لكن يلحق به الدبر قياسا، والتنصيص على الذكر لا مفهوم له، بل فرج المرأة كذلك، وإنما خص الذكر بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص.
ثم قال: والصواب في الصورة التي أوردها الخطابي ما قاله إمام الحرمين ومن بعده كالغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه، وهي قارة غير متحركة، فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها، ومن ادعى أنه في هذه الحالة يكون مستجمرا بيمينه فقد غلط وإنما هو كمن صب بيمينه الماء على يساره حالة الاستنجاء.
اهـ.

وأرى أن الكل يعقد الصورة من غير موجب: فكل من الدبر والذكر سهل الاستجمار بالحجر بالشمال من غير إمساك بإمرار الحجر على مخرج الغائط والبول، فالملازمة التي ذكرها الخطابي غير لازمة، ولو استدعى الأمر إمساك الذكر لسبب من الأسباب فليمسك بحائل، على أن النهي للتنزيه، بل وقع في العتبية عن مالك عدم الكراهة، وذكر العلماء للحكمة، أنها كون اليمين معدة للأكل بها، فلو تعاطى ذلك بها لأمكن أن يتذكره عند الأكل، فيتأذى بذلك وأنه من قبيل إكرام اليمنى، وصيانتها عن الأقذار، وذكر العلماء لهذه الحكمة يوحى بأن التعقيد هنا لا موجب له، وخصوصا أنه لم يقل أحد بمنع معاونة اليمين للشمال في غسل الدم وغيره من النجاسات في غير الاستنجاء، فإن قيل: إن المنع خاص بالقبل والدبر قلنا: إن الظاهرية أنفسهم الذين حملوا النهي على التحريم يجيزون مس المرأة فرجها وذكر زوجها بيمينها، واستدل ابن أبي جمرة على إباحة مس الذكر في غير الاستنجاء بقوله صلى الله عليه وسلم لطلق بن علي، حين سأله عن مس ذكره إنما هو بضعة منك وحمل العلماء المطلق في الحديث العاشر نهى أن يمس ذكره بيمينه على المقيد بحالة الاستنجاء ليبيحوه في غير الاستنجاء، وإن خالف في ذلك بعضهم، ومنع مس الذكر في الاستنجاء وغيره، مدعيا أنه نهي عنه مع مظنة الحاجة فيكون منهيا عنه في غيرها من باب أولى.

ولو قلنا إن الموضوع كله للتنزيه وللكمال والأفضل لم نبعد، فقد روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من الأذى وفي الحلية عن عثمان رضي الله عنه ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رابعا: حكم التيامن في الأمور، وبيان ما يتناول بالشمال: ولا يتعارض النهي عن الاستنجاء باليمين مع الحديث الثاني عشر ونصه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب اليمن في شأنه كله، في نعليه وترجله وطهوره فإن عموم شأنه مخصص بما تقدم فيه الشمال.
قال الحافظ ابن حجر: في شأنه كله متعلق بيحب، لا بالتيمن، أي يحب في شأنه كله التيمن، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا، ولا في فراغه ولا شغله.
اهـ.

قال الأبي: والضابط أن الفعل إن استعملت فيه الجارحتان قدمت اليمين في فعل الراجح، والشمال في فعل المرجوح، فيبدأ باليمين في دخول المسجد وبالشمال في الخروج منه، واستعمال الجارحتين على هذا النحو إنما هو إن تيسر، فإن شق ترك، كالركوب، فإن البداءة بوضع اليسرى في الركوب أيسر وأسهل، وإن كان مما تستعمل فيه إحداهما خصت اليمين بالراجح، والشمال بالمرجوح، فيأكل بيمينه، ويتناول من الغير بيمينه، ويستنجي ويمتخط بشماله.
اهـ.

وقال النووي: هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال، وتقليم الأظفار وقص الشارب وترجيل الشعر ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه، وأما ما كان بضده، كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والسراويل والخف وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، وذلك كله لكرامة اليمين وشرفها.
ثم قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوؤه، وقالت الشيعة: هو واجب، ولا اعتداد بخلاف الشيعة.

قال الحافظ ابن حجر: وقد استدل بالحديث على استحباب الصلاة عن يمين الإمام، وفي ميمنة المسجد.
اهـ.

وقال القاضي عياض: وسبب محبته صلى الله عليه وسلم اليمين التبرك باسم اليمين، وقيل: لأنه كان يحب الفأل الحسن، إذ أصحاب اليمين أهل الجنة.
والله أعلم.

خامسا: حكم التبرز في طريق الناس أو في ظلهم: أما التبرز في طريق الناس أو في ظلهم فقد جاءت عبارة النهي عنه بلفظ التخلي وهو يشمل التبرز والتبول، إذ التخلي هو التفرد لقضاء الحاجة من بول أو غائط، لكن النووي فسره بالتغوط فقط، ولعل وجهه أن التضرر في الغائط محقق بخلاف البول، فقد لا يحصل به التضرر، لكن بقاء الحديث على إطلاقه أولى، لما يجلبه البول وخاصة إذا تكرر في موضع واحد من روائح شديدة الكراهة وأمراض يصعب تجنبها، وإلى هذا التعميم يذهب أكثر العلماء، نعم يؤيد النووي ما رواه أبو داود عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل فكأن النووي حمل العام على بعض أفراده، أو حمل المطلق على المقيد، لكن إسناد الحكم لفرد لا يمنع من إسناده لآخر ضمن اللفظ العام.

والمراد من الطريق كل موضع يمر به الناس ويطرقونه ويسلكونه غالبا وليست الطرق المهجورة، ولا الطرق الخاصة المملوكة، لأن إضافته للناس تفيد الشيوع، والمنفعة العامة.

والمراد من ظلهم مستظلهم الذي اتخذوه مقيلا ومناخا، ينزلونه ويقعدون فيه، فيخرج عن ذلك ظل الشجرة التي لا تتخذ لذلك لبعدها عن الناس، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد لحاجته تحت حائش من النخل، أي تحت نخل ملتف مجتمع، كما يخرج عن ذلك الظل المملوك للشخص، فإن صاحبه لا يدخل في النهي، ويحرم على غير صاحبه بدون إذنه اتفاقا.

وحكم التبرز في طريق الناس أو ظلهم الحرمة كما ذهب النووي والرافعي بل قال الذهبي: إنه من الكبائر، وعده الحافظ ابن حجر في كتابه الزواجر من الكبائر، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفعل سببا للعن فاعله، وفعل موجب اللعن كبيرة، كلاعن والديه عن طريق لعن رجل آخر، فيلعن هذا الآخر والديه.
وقال بعض العلماء: إنه مكروه.
والرأي عندي أن حكمه يختلف باختلاف الطرق والظلال، وموقع البراز منها، ودرجة التضرر من هذا الفعل القبيح، وأقل ما فيه الكراهة.
والله أعلم.

سادسا: حكم البول قائما، وحكمته، وأدلته: أما البول قائما فإن الحديث الثامن عشر والتاسع عشر ظاهرهما إباحته، ففيهما فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما و فأتى سباطة خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم، فبال.

وهذا الحديث ذكره حذيفة ردا على تشدد أبي موسى في البول، إذ رأى رجلا يبول قائما.
فقال: ويحك.
أفلا قاعدا، ثم ذكر قصة بني إسرائيل.
فلما بلغ حذيفة روى هذا الحديث كدليل على أن التشديد مخالف للسنة.

والباحث في هذه المسألة يجد الصحابة والسلف الصالح أمامها فريقين كما يجد لكل فريق وجهة نظره ودليله.

الفريق الأول: فمن فريق أبي موسى نجد أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تقول: ما بال قائما منذ أنزل عليه القرآن وتقول: من حدثكم أنه كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا رواه أحمد والترمذي والنسائي وآخرون، قال النووي: وإسناده جيد.

ونجد مجاهدا يقول: ما فعله إلا مرة واحدة.

ونجد ابن مسعود يقول: البول قائما من الجفاء.

ونجد إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائما.

ونجد جمهور العلماء من الخلف يقولون بكراهة البول قائما.
كراهة تنزيه.
ويذكرون أن ابن ماجه حكى عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائما.
فلما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا قالوا: انظروا إليه.
يبول كما تبول المرأة.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفهم في ذلك، فيقعد، لكونه أستر، وأبعد عن نجاسة البول ورذاذه.

ويجيب هذا الفريق عن حديث حذيفة بعدة أجوبة منها:

1- ما ذكره ابن حبان في سبب قيامه.
حيث قال: لأنه لم يجد مكانا يصلح للقعود.
فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان عاليا، فأمن أن يرتد إليه شيء من بوله.

2- وقيل: لأن السباطة كانت رخوة، فخشي لو قعد أن يتخللها البول فيرتد إليه منه شيء.

3- وقيل: لعل السباطة كانت نجسة رطبة؛ فخاف إن جلس أن تصيب ثيابه.

4- وقيل: إنما بال قائما لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت.
فعل ذلك لكونه كان قريبا من الديار، وفي ذلك يقول عمر: البول قائما أحسن للدبر.

5- وقيل: إن العرب كانت تستشفى لوجع الصلب بالبول قائما.
فربما كان به صلى الله عليه وسلم وجع الصلب إذ ذاك.

الفريق الثاني: ومن فريق حذيفة: عمر، وابنه، وعلي، وأنس، وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة.
نقل ابن المنذر أنهم بالوا قياما.
وقال ابن المنذر.
البول جالسا أحب إلي، وقائما مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونجد في المدونة: لا بأس بالبول قائما، حيث لا يتطاير، وإلا كره.
بل استدل مالك بحديث حذيفة على الرخصة في مثل رءوس الإبر من البول.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه منه شيء.
اهـ.

وأجاب هذا الفريق عن حديث عائشة بأنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطلع هي عليه، وقد حفظه حذيفة وهو من كبار الصحابة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء.

وأمام هذه الأدلة والتوجيهات أرى أن القيام والقعود عند البول ليس هدفا للشرع، لذاته، وأنه يخضع للظروف، ظروف المتبول وظروف المكان، والهدف الأساسي البعد عن الرذاذ وإصابة النجاسة، والتستر عن الغير، وسهولة الأداء والاستبراء.
والله أعلم.

سابعا: ويؤخذ من الأحاديث فوق ما تقدم

1- يؤخذ من الحديث الأول: صبر الصحابة وحكمتهم إزاء ما لا قوة من عنت المشركين واستهزائهم وقلة حيائهم.

2- بذاءة لسان المشركين، وتصريحهم بما تستهجنه الأسماع كالخراءة.

3- طهارة لسان المسلمين، وصيانته عن الرد بالمثل.

4- ومن الحديث الرابع: أخذ ابن التين المنع من استقبال الشمس والقمر بالبول والغائط، قياسا على المنع من استقبال القبلة.
قال العيني: وفي هذا القياس نظر.

5- ورع أبي أيوب واستغفاره من غير ذنب، وخوفه من التقصير مع انحرافه عن القبلة.

6- ومن الحديث الخامس وغيره: استحباب الكناية بالحاجة والخلاء عن البول والغائط.

7- ومن الحديث السادس: جواز الجلوس في المسجد مع إسناد الظهر للقبلة.

8- وفيه دليل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يختلفون في معاني السنة، وكان كل واحد منهم يستعمل ما سمع.

9- وفيه حرص الصحابة على تتبع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كلها، ونقلها، وأنها كلها أحكام شرعية.

10- جواز رؤية الشيء الممنوع، قصدا لغرض مشروع.
فقد قيل: لعل ابن عمر قصد أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة، ورأى رأسه دون ما عداه من بدنه، ثم تأمل قعوده، فعرف كيف هو جالس ليستفيد، وينقل ما شاهد.
قاله الكرماني.
وقيل: إن رؤية ابن عمر وقعت اتفاقا من غير قصد لذلك، فنقل ما رآه، لأنه لا يجوز له أن يقصد الرؤية في تلك الحالة، كما لا يجوز أن يتعمد الشهود النظر إلى الزنا، فإن وقعت أبصارهم عليه تحملوا الشهادة، وهذا الأخير هو المناسب لأدب ابن عمر وفقهه وورعه.

11- ومن الحديث الثامن: النهي عن التنفس في الإناء، وهو نهي أدب وتنزيه، فإنه إن فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق، فيخالط الماء، فيعافه الشارب، وربما يتأثر برائحة فمه، إذا كانت متغيرة، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح، ثم إنه يعد من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني جرعت ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، وإنما السنة أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس، كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه، ثم عاد، مصا له غير عب، إلى أن يأخذ ريه منه، والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب، وأبعد عن الشره وأخف للمعدة، والنهي المذكور ليس خاصا بشرب الماء، بل غيره مثله وكذلك النفخ في الطعام والشراب، فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشرب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: اهرقها.
قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: فأين القدح إذن عن فيك.

12- جواز الشرب من نفس واحد، لأنه إنما نهى عن التنفس في الإناء والذي شرب في نفس واحد لم يتنفس فيه، فلا يكون مخالفا للنهي، وكرهه جماعة؛ محتجين بما رواه الترمذي لا تشربوا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم ولا شك أن هذا أفضل أدبا وصحة، وإن جاز الشرب من نفس واحد.

13- ومن الحديث الثالث عشر: حرص الإسلام على شعور الناس، وعدم إيذائهم ونظافة الأماكن العامة، بتحريم التخلي في طريق الناس وظلهم.

14- ومن الحديث الرابع عشر: من قوله دخل حائطا استحباب التباعد -لقضاء الحاجة- عن الناس، والاستتار عن أعين الناظرين.

15- ومن الحديث الخامس عشر: استحباب استصحاب عصا ونحوها عند المشي في الخلاء، وخصوصا في الليل، للتوكؤ عليها، وللحماية مما يعرض من هوام الأرض.

16- ومن الحديث الثامن عشر: جواز البول قرب الديار ومن قوله فتنحيت استحباب الإعراض عن قاضي الحاجة والبعد عن مكانه، قال بعض العلماء: إنما يستحب هذا عند الغائط أو البول قاعدا، أما عند البول قائما فلا.
والحديث أصل في ذلك، وقد جاء في بعض الآثار كان إذا بال لم يبعد، ولم يبعد الناس عنه، بل أدنى حذيفة منه حين بال قائما، وفي مراسيل عطاء: أنه بال جالسا، فدنا رجل منه، فقال: تنح عني، فإن كل بائلة نفيح.

17- لكن ظاهر الأحاديث التنحي والإبعاد عن قاضي الحاجة أيا كانت.

18- وجواز طلب البائل من صاحبه الذي يدل عليه القرب منه ليستره.

19- وفيه استحباب التستر، ولو كانت الحاجة بولا.

20- استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه في حاجته.

21- خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك.

22- ومن وقوف حذيفة خلف النبي صلى الله عليه وسلم دفع أشد المفسدتين بأخفهما والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معا.

23- مدى تشدد أبي موسى، وخوفه من آثار البول، وأنه كان يبول في قارورة خشية أن يصيبه رذاذ البول، وقد روى أبو داود والنسائي، كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان [أي من النخل الطويل] تحت سريره، يبول فيه بالليل.

24- رحمة الله بالأمة الإسلامية، ورفع الحرج عنهم والتيسير عليهم في العبادة حيث جعل طهارة النجاسة الغسل بالماء، بينما كتب على بني إسرائيل إذا أصاب ثوب أحدهم بول أن يقص من الثوب ما لاقى النجاسة.

ثامنا: ولقضاء الحاجة آداب أخرى.
نذكر منها

1- أنه يحرم إدخال المصحف الخلاء لغير ضرورة، ويكره إدخال كتب الحديث، وكتب العلم، وكل ما فيه ذكر اسم الله تعالى؛ فقد أخرج ابن حبان والحاكم والنسائي عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء نزع خاتمه وروى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس خاتما: نقشه محمد رسول الله، فكان إذا دخل الخلاء وضعه له ومحل هذا ما لم يخش على المتروك خارجا الضياع.

2- أنه يحرم على الرجلين أن يخرجا للخلاء معا، وأن يكشفا أنفسهما متجاورين، فقد أخرج ابن السكن وابن القطان من حديث جابر بلفظ إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه، ولا يتحدثا وروى أبو داود وأحمد وابن ماجه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يخرج الرجلان يضربان الغائط، كاشفين عذرتهما، يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك والمرأتان في حكم الرجلين، وأقبح منهما الرجل والمرأة.

3- أنه يشرع الإبعاد والاستتار للتخلي في الفضاء، فقد روى ابن ماجه عن جابر قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى ولأبي داود كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد.

ولا يشرع التسليم على قاضي الحاجة، ويكره رده السلام، وسيأتي توضيحه في باب التيمم -حيث وضع الإمام مسلم حديثه، وسنتكلم عنه في المأخذ الخامس والثلاثين ويسن الذكر بعد قضاء الحاجة.

والله أعلم