هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
363 حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ ، قَالَا : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ ، مَوْلَى عُثْمَانَ ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ : هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
363 حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح ، وحرملة بن يحيى التجيبي ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد الليثي ، أخبره أن حمران ، مولى عثمان ، أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله عنه : دعا بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاث مرات ، ثم مضمض واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك . ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه قال ابن شهاب : وكان علماؤنا يقولون : هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعا بوضوء.
فتوضأ.
فغسل كفيه ثلاث مرات.
ثم مضمض واستنثر.
ثم غسل وجهه ثلاث مرات.
ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات.
ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك.
ثم مسح رأسه.
ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات.
ثم غسل اليسرى مثل ذلك.
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين، لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه.

قال ابن شهاب: وكان علماؤنا يقولون: هذا الوضوء أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة.



المعنى العام

علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه كيفية الوضوء بالقول وبالفعل، وكثيرا ما كان يلفت نظرهم إلى تتبع وضوئه، فيتوضأ أمامهم وضوءا كاملا ثم يقول من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه.

وحرص الصحابة كل الحرص على الاقتداء الكامل، فلما اتسعت رقعة الإسلام انحرف بعض المسلمين المتأخرون في إسلامهم عن الدقة في الوضوء، ورأى كبار الصحابة والغيورون أن من واجبهم تبصير العامة، وتصحيح الخطأ بوضع الصورة الحقة أمامهم، وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه من هؤلاء الذين التزموا تعليم الأمة، وكان وقت أن كان أمير المؤمنين يجلس على مرتفع في ميدان المسجد بين الحين والحين ليقضي بين الناس، وليجتمع بأولي الشأن وأهل العلم، وليقوم بالوعظ والنصح عندما يرى الخلل، فجلس يوما هذا المجلس ونادى مولاه حمران، وطلب منه أن يأتيه بماء للوضوء، وأمام القوم بدأ يتوضأ وهو يقول: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كان من السهل أن يطلب من حمران أن يصب عليه من الإناء، لكنه أراد أن يشعرهم بتواضعه، وأن يبين لهم طريقة استخدام الشخص لنفسه إناء الوضوء، أخذ الإناء من حمران فوضعه على الأرض، ثم شمر عن ساعديه: وأكفأ الإناء قليلا على كفيه، ثم أعاده وغسل كفيه بما فيهما من ماء، ثم أكفأه مرة ثانية على كفيه فغسلهما ثم أكفأه مرة ثالثة فغسلهما، وكان الإناء ذا فم واسع، فأدخل فيه يمينه فملأ كفها، ثم أخرجها فتمضمض واستنشق من هذه الكف، ثم استنثر فأخرج ماء أنفه بيسراه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه للمرة الرابعة فملأ كفها، ثم أخرجها وأسند إليها اليسرى فغسل بهما وجهه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه فملأ كفها وأسال ماءها على يده اليمنى إلى المرفقين تدلكها يسراه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء فملأ كفها، ثم أخرجها فأسند إليها كف اليسرى، ثم أسال الماء على يسراه إلى المرفقين تدلكها يمناه، فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أدخل يده فأخرج ماء مسح به رأسه، ثم أدخل يده فأخرج ماء ثلاث مرات غسل بها رجله اليمنى إلى الكعبين، ثم ثلاثا أخرى غسل بها رجله اليسرى إلى الكعبين ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا.

هذا ما كان من عثمان رضي الله عنه لكن جماعة أخرى لم يكونوا قريبين من عثمان حتى يروا منه الوضوء الصحيح لجئوا إلى فقيه من فقهاء الصحابة هو عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري وطلبوا منه أن يريهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء وتوضأ أمامهم مثل وضوء عثمان السابق، ثم قال: هكذا كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.

وهكذا حرص كل خلف أن يتمثل وضوء سلفه، وعلم الآباء الأبناء، ونقل كل جيل هيئات العبادة نقلا متواترا عن الجيل الذي قبله، حتى جاءتنا الشريعة الغراء واضحة جلية، لا لبس فيها ولا غموض، وستظل هكذا إلى يوم القيامة إن شاء الله.

المباحث العربية

( عن حمران مولى عثمان) حمران بضم الحاء وسكون الميم، كان من سبي عين التمر، سباه خالد بن الوليد رضي الله عنه، فوجده غلاما كيسا فوجهه إلى عثمان رضي الله عنه، فأعتقه، وكان كاتبه وحاجبه، وولي نيسابور من الحجاج، وهو تابعي.

( أن عثمان بن عفان دعا بوضوء) في القاموس: وضؤ ككرم ، فهو وضيء، والوضاءة الحسن والنظافة ، وتوضأت للصلاة، وتوضيت لغية أو لغة، والميضأة الموضع يتوضأ فيه ومنه، والوضوء بضم الواو الفعل، وبالفتح ماؤه، ومصدر أيضا، أو لغتان قد يعني بهما المصدر، وقد يعني بهما الماء.
اهـ.

والحديث في رواياته يجري على أنهما لغتان، فإن اللفظة التي معنا مروية بضم الواو، ومقصود بها الماء، وفي آخر الحديث من توضأ نحو وضوئي هذا بضم الواو أيضا، ومقصود بها الفعل.

( فتوضأ) أي فتأهب للوضوء وشرع فيه، ففيه مجاز المشارفة.

( فغسل كفيه) الفاء تفسيرية، لأن غسل الكفين وما بعده هو الوضوء.

( ثم مضمض) يقال: مضمض وتمضمض إذا حرك الماء في فمه، وأصل المضمضة الحركة.

( واستنثر) قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون: الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف من مخاط وشبهه، وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة: هو الاستنشاق.
قال النووي: والصواب الأول.
اهـ.
ويؤيده الرواية الرابعة، إذ فيها فمضمض واستنشق واستنثر فجمع بين الاستنشاق والاستنثار، وكذا الرواية السابعة إذ فيها فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر.

( ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) المرفق على وزن منبر، وهو موصل الذراع في العضد، أي العظم الناتئ في آخر الذراع، قيل: سمي بذلك لأنه يرتفق به في الاتكاء ونحوه.

( ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) قال النووي: اتفق العلماء على أن المراد بالكعبين العظمان الناتئان بين الساق والقدم، وفي كل رجل كعبان، وشذت الرافضة: فقالت: في كل رجل كعب، وهو العظم الذي في ظهر القدم، وحجة العلماء في ذلك نقل أهل اللغة والاشتقاق وهذا الحديث الصحيح الذي فيه، غسل رجله اليمنى إلى الكعبين..ثم غسل اليسرى مثل ذلك فأثبت في كل رجل كعبين.
اهـ.

فقه الحديث

يتناول فقه الحديث النقاط التالية:

1- غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء.

2- الاغتراف للوضوء.

3- المضمضة والاستنشاق والاستنثار.

4- غسل الوجه.

5- غسل اليدين إلى المرفقين.

6- مسح الرأس.

7- مسح الأذنين في الوضوء.

8- غسل الرجلين إلى الكعبين.

9- الترتيب بين الأعضاء.

10- الوضوء ثلاثا ثلاثا.

11- النية للوضوء.

12- التسمية عنده.

13- ما يؤخذ من الحديث.

وإليك الكلام على هذه النقاط بالتفصيل:

1- روايات الإمام مسلم في غسل الكفين نصها في الرواية الأولى فغسل كفيه ثلاث مرات وفي الثانية فأفرغ على كفيه ثلاث مرار، فغسلهما

قال النووي: هذا دليل على أن غسل اليدين في أول الوضوء سنة، وهو كذلك باتفاق العلماء.
اهـ.
ثم قال: وفيه استحباب تقديم غسل الكفين قبل غمسهما في الإناء.
اهـ.
والتحقيق أن الكلام في نقطتين مختلفتين.

النقطة الأولى: غسل اليدين في أول الوضوء، وهو سنة ثابتة، لا منازعة في سنيته، قال الحافظ ابن حجر: هو سنة في حق المستيقظ الذي لا يشك في نجاسة يده: ولا يكره ترك غسلها لعدم ورود النهي فيه.
اهـ.

والنقطة الثانية: غسل اليدين لمن قام من النوم أو شك في نجاستهما، وقد ورد الأمر بغسلهما في هذه الحالة قبل غمسهما في الإناء، وورد النهي عن غمسهما، ففي البخاري ومسلم إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده وفي رواية إذا قام أحدكم من الليل وفي أخرى لأبي داود إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح وعند أحمد فلا يضع يده في الوضوء حتى يغسلها ولمسلم فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها.

ومذهب الجمهور من الفقهاء والمحققين أن غسل اليدين قبل غمسهما لمن قام من النوم أو شك في نجاستهما مندوب ويكره تركه، وذهب أحمد إلى وجوب الغسل عند القيام من نوم الليل دون نوم النهار، وفي رواية عنه أن ترك الغسل بعد القيام من نوم الليل مكروه كراهة تحريم، وتركه بعد القيام من نوم النهار مكروه كراهة تنزيه، والجمهور من المتقدمين والمتأخرين على أن الماء لا ينجس إذا غمس يده فيه قبل غسلهما، لأن الأصل في اليد والماء الطهارة، فلا ينجس بالشك، وحكي عن الحسن البصري وإسحق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري أنه ينجس بالغمس بعد القيام من نوم الليل، لكنه خلاف قواعد الشريعة المتظاهرة.

هذا وقد اختلف في الكيفية المستحبة لغسل الكفين، هل يغسلهما مجتمعتين؟ أو يغسل اليمنى، ثم يدخلها فيخرج ما يغسل به الأخرى؟ والظاهر الأول حيث أمكن.

كما اختلف في كون هذا الغسل المستحب للنظافة أو للتعبد، فمن قال للنظافة استدل بقوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدري أين باتت يده وعليه لا يستحب غسلهما لمن أحدث في أثناء وضوئه، أو تأكد من نظافتهما ونقاوتهما، ومن قال للتعبد استدل بطلب الغسل ثلاثا، إذا لو كان للنظافة لكفت واحدة أو طلب النقاوة دون تحديد بعدد، وعليه يستحب إعادة غسلهما لمن أحدث أثناء وضوئه أو تأكد من نظافتهما، وهذا الأخير أولى وأحوط.

2- أما الاغتراف من الماء القليل فعبارته في الرواية الثانية ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض وفي الرواية الأولى بعد باب ثم أدخل يده فاستخرجها فمضمض..ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه..ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين.
إلخ.

وفي رواية البخاري لحديث عبد الله بن زيد ثم أدخل يديه فاغترف بهما فغسل وجهه ثلاثا وفي رواية أخرى للبخاري ثم أخذ غرفة، فجعل بها هكذا، أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بهما وجهه وفي سنن أبي داود في وصف علي لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أدخل يديه في الإناء جميعا، فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه قال النووي: فهذه أحاديث، في بعضها يده وفي بعضها يده وضم إليها الأخرى فهي دالة على جواز الأمور الثلاثة، وأن الجميع سنة.
ويجمع بين الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في مرات، وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا، ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا، لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ، والله أعلم.
اهـ.
ويمكن أن يقال في الجمع بين هذه الأوجه الثلاثة: إنه إذا كان فم الإناء واسعا، أو كان الاغتراف من قناة أو بحر مثلا فالمستحب أخذ الماء باليدين معا لا غير، وإن كان فم الإناء يسمح بضم اليد الأخرى لتقرب وتساعد أختها في جمع الماء فالمستحب ضمها لا غير، وإن كان لا يسمح إلا بيد واحدة استحب بها وأن تكون اليمنى.
والله أعلم.

ويجرنا هذا إلى البحث في طهورية الماء المغترف منه، ومن المقرر عند جمهور العلماء والشافعي وابن حنبل ومالك في إحدى الروايتين وأبي حنيفة في رواية عنه أن الماء المستعمل في الغسل أو الوضوء يخرج عن كونه أهلا للتطهير لما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولا.

وحكم الوضوء حكم الغسل.

وذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وأبو حنيفة في إحدى الروايات عنهما وجميع أهل الظاهر إلى أن الماء المستعمل باق على طهوريته.

وأصحاب الرأي الأول القائلون بزوال طهورية الماء المستعمل يقولون: إن الماء مادام مترددا على العضو لا يصير مستعملا، فإذا انفصل زالت طهوريته.

ويقول النووي في المجموع: إذا غمس المتوضئ يده في إناء، فيه دون القلتين، فإن كان قبل غسل الوجه لم يصر الماء مستعملا، سواء نوى رفع الحدث أم لا ( لأن ترتيب وضوء اليد بعد الوجه) وإن كان بعد غسل الوجه فهذا وقت غسل اليد، وفيه خلاف، وإن قصد بوضع اليد في الإناء أخذ الماء لم يصر مستعملا.
اهـ.

3- وأما الروايات في المضمضة والاستنشاق والاستنثار، ففي الرواية الأولى ثم مضمض واستنثر وفي رواية ثم أدخل يمينه في الإناء، فمضمض واستنثر ثم أدخل يده فاستخرجها، فمضمض واستنشق من كف واحدة، فعل ذلك ثلاثا وفي رواية فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات وفي رواية فمضمض ثم استنثر وفي رواية، إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء، ثم لينتثر وفي رواية إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء، ثم لينتثر وفي رواية من توضأ فليستنثر وفي رواية إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه.

قال النووي: كمال المضمضة أن يجعل الماء في فمه، ثم يديره فيه، ثم يمجه، وأما أقلها أن يجعل الماء في فمه، ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور، وأما الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف، وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ويستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما، قال أصحابنا: وعلى أي صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حصلت المضمضة والاستنشاق، وفي الأفضل خمسة أوجه:

الأول: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها.

الثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا.

الثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق.

الرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا.

الخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.

والصحيح الوجه الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما.

( ولا يخفى أن جميع الروايات تتفق مع هذا الوجه) ثم قالوا: واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق.
وهل هو تقديم استحباب أم اشتراط؟ وجهان.

ثم قال: واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب:

أحدها: مذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل، وهو رواية عن عطاء وأحمد.

والمذهب الثاني: أنهما واجبتان في الوضوء والغسل، لايصحان إلا بهما، وهو المشهور عن أحمد بن حنبل لورود الأمر بهما، وظاهر الأمر أنه للوجوب، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه صلى الله عليه وسلم على الاستقصاء أنه ترك الاستنشاق بل ولا المضمضة.

والمذهب الثالث: أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه.

والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل، والمضمضة سنة فيهما، وهو مذهب داود الظاهري ورواية عن أحمد.
اهـ.

ومن قال بأنهما سنة حمل الأمر على الندب، بدليل أن الاستنثار مأمور به وهو ليس بواجب باتفاق، وأما مداومته صلى الله عليه وسلم فكثيرا ما تكون في السنة، فلم يؤثر أنه صلى الله عليه وسلم ترك التسمية، ومع ذلك هي سنة عند القائل بوجوب المضمضة.

وقال الأبي: المضمضة تحريك الماء في الفم بالأصابع أو بقوة الفم زاد بعضهم: ثم يمجه فأدخل في حقيقتها المج فعلى هذه الزيادة لو ابتلعه لم يكن مؤديا للسنة، إلا أن يقال: إنما زاده من حيث العادة لا أن أداء السنة يتوقف عليه، وإذا كان بالأصبع استحب أن يكون باليمين، لأن الشمال مست الأذى، وإذا كان في الفم درهم أداره ليصل الماء محله.
ثم قال: والاستنثار أن يدفع الماء من أنفه بنفسه، مع وضع اليد على الأنف، وكرهه في العتبية دون وضع يده لأنه يشبه فعل الدابة ويخشى تناثر ما يخرج على الآخرين أو الأماكن النظيفة، وإذا استنثر بيده فالمستحب أن يكون باليسرى.
ثم قال في موضع آخر: قيل: الحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق اختبار طعم الماء بالذوق والرائحة، وأما اللون فمشاهد.
اهـ.

أما ما جاء في الرواية 223 في تعليل الأمر بالاستنثار من أن الشيطان يبيت على الخياشيم فقد قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون المراد مبيته قريبا من المكان الذي يوسوس فيه، وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة اهـ.

والأولى حمل الكلام على الاستعارة للتنفير من عدم الاستنثار.
والله أعلم.

4- وأما غسل الوجه فواجب في الوضوء بالكتاب والسنن المتظاهرة والإجماع، والخلاف بين العلماء في حده الواجب غسله، فالجمهور على أنه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن، ومنتهى اللحيين طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، والاعتبار بالمنابت المعتادة، لا بمن يصلع الشعر عن ناصيته، ولا بمن نزل الشعر إلى جبهته.
ولا يدخل وتدا الأذن في الوجه، أما البياض الذي بين الأذن والعذار فهو من الوجه عند الشافعية، وهو محكى عن أبي حنيفة ومحمد وأحمد وداود، وعن مالك أنه ليس من الوجه، وعن أبي يوسف يجب على الأمرد غسله دون الملتحي، واللحية الكثيفة -أي التي تستر البشرة بحيث لا ترى البشرة عند المواجهة- يجب غسل ظاهرها بلا خلاف، ولا يجب غسل باطنها، ولا البشرة تحتها في المذهب الصحيح المشهور.
وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد، وذهب المزني إلى وجوب غسل البشرة في الوضوء قياسا على غسل الجنابة، وعلى الشارب والحاجب، وأجاب الجمهور بأن غسل الجنابة أغلظ.
ولهذا وجب غسل كل البدن، ولم يجز مسح الخف بخلاف الوضوء، ولأن الوضوء يتكرر فيشق غسل البشرة فيه مع الكثافة بخلاف الجنابة وأما الشارب والحاجب فكثافته نادرة، ولا يشق إيصال الماء إليه بخلاف اللحية.

أما اللحية الخفيفة فإنه يجب غسل ظاهرها وباطنها والبشرة تحتها عند الشافعية ومالك وأحمد وداود.
وقال أبو حنيفة: لا يجب غسل ما تحتها، كداخل الفم، وكما سوينا بين الخفيف والكثيف في الجنابة، وأوجبنا غسل ما تحتهما، فكذا نسوي بينهما في الوضوء فلا نوجبه.

هذا.
وتخليل اللحية الكثيفة سنة، ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن، وعند المالكية أن التخليل غير مشروع، واحتج مالك على عدم التخليل بعدم وروده في هذه الأحاديث، لكن الشافعية يستدلون بما رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل بها لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي ويحسن بنا في هذا المقام أن نعرف بالشعور التي في الوجه حتى لا يلتبس واجب الغسل بغيره.

العذار: هو الشعر النابت على العظم الناتئ بقرب الأذن، وهو الواقع بين بياض الأذن وبياض الوجه، ويجب غسله مع الوجه، بل يجب غسل بشرته، لأن كثافته نادرة ولأن المغسول يحيط بجوانبه الثلاثة.

والعارضان: هما الشعر النابت تحت العذارين حتى طرفي الفكين، والصحيح أن لهما حكم اللحية، فيفرق بين الخفيف والكثيف، وشذ من جعل حكمهما حكم العذارين، فأوجب غسل بشرتهما.

واللحيان: بفتح اللام، وأحدهما لحي، وهما الفكان الأيمن والأيسر اللذان عليهما منابت الأسنان السفلى، واللحية الشعر النابت عليهما، وقد سبق حكم غسلها.

والذقن هي: اللحية أو هي مجمع اللحيين.

والشارب: هو الشعر النابت على الشفة العليا، وحكي عن الشافعي التعبير بالشاربين، فقيل: أراد الشعر الذي على ظاهر الشفتين وقيل: أراد الشعر الذي على الشفة العليا، وجعل ما يلي الشق الأيمن شاربا وما يلي الأيسر شاربا، وبينهما مجرى الأنف، وهذا هو الصحيح، والواجب غسل أصول شعره.

والعنفقة: وهي الشعر النابت على الشفة السفلى والواجب غسل أسفل شعرها وبشرتها.

وموضع التحذيف: وهو البياض الذي بين العذار والعين، سمي بذلك لأن الأشراف والنساء يعتادون حف الشعر، وإزالته عنه ليتسع الوجه قال الغزالي في الوسيط: هو القدر الذي إذا وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين وقع في جانب الوجه.
اهـ.
ويجب غسل بشرته، والله أعلم.

أما الدلك في غسل الوجه واليدين والرجلين في الوضوء، وفي جميع الجسم في الغسل ( وهو إمرار اليد على العضو مع الماء أو بعده) ففيه خلاف:

ذهب مالك وأصحابه والمزني من الشافعية إلى وجوبه في الوضوء والغسل، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الغسل ادلكى جسدك بيدك والأمر للوجوب، ولا فرق على المذهب بين الوضوء والغسل، وبأنه من مسمى الغسل، أو شرط فيه.
قاله الحطاب والنفراوي.
وقال مالك في المدونة في الجنب يأتي للنهر فينغمس فيه انغماسا وهو ينوي الغسل من الجنابة، ثم يخرج.
قال: لا يجزئه وإن نوى الغسل، إلا أن يتدلك.
قال: وكذا الوضوء أيضا.
قلت: أرأيت إن أمر يديه على بعض جسده ولم يمررها على جميع الجسد؟ قال: لا يجزئه ذلك حتى يمرهما على جميع جسده كله ويتدلك.
اهـ.

وذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه سنة، واستدلوا بالأحاديث الكثيرة الواردة في صفة الوضوء والغسل التي ليس فيها التصريح بالدلك.

والحق أن ما ذهب إليه الإمام مالك تضييق وتعسير، وإلزام بما هو متعذر، فإن بعض أماكن الظهر مثلا لا يمكن لليدين الوصول إليها إلا بصعوبة، اللهم إلا أن يأمر باستعمال حبل ونحوه، مما لم يؤثر أن عائشة ( رضي الله عنها) قد أمرت به، نعم الدلك فيما يتيسر دلكه من الأعضاء مطلوب احتياطيا.

5- وفي غسل اليدين إلى المرفقين تقول الرواية الأولى ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك وتقول الرواية 401 ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات وتقول الرواية 416 فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين وتقول الرواية 419 ويده اليمنى ثلاثا، والأخرى ثلاثا.

ولما كنا سنفرد لتثليث الغسل في الوضوء فصلا خاصا، فإننا نقصر الكلام هنا على الترتيب بين اليدين، وعلى غسل المرفقين نفسيهما، وعلى تخليل الأصابع، أما تقديم اليمنى على اليسرى فقد نصت عليه بعض الروايات، وفيه يقول النووي: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين، في الوضوء، سنة لو خالفها فاته الفضل، وصح وضوؤه، وقالت الشيعة: هو واجب.
ولا اعتداد بخلاف الشيعة: واعلم أن الابتداء باليسار -وإن كان مجزيا- فهو مكروه، نص عليه الشافعي، وهو ظاهر.
وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا لبستم أو توضأتم فابدءوا بأيامنكم فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين، ومخالفته مكروهة أو محرمة، وقد انعقد إجماع العلماء على أنها ليست محرمة، فوجب أن تكون مكروهة، ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن، وهو الأذنان، والكفان، والخدان، بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين.
والله أعلم.
اهـ.

وأما المرفقان فقد قال النووي: اتفق الجماهير على وجوب غسل المرفقين، وانفرد زفر وداود الظاهري بقولهما: لا يجب.
اهـ.

قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء هل يدخل المرفقان في غسل اليدين أم لا؟ فقال المعظم: نعم، وخالف زفر، وحكاه بعضهم عن مالك، واحتج بعضهم للجمهور بأن إلى في الآية { { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } } [المائدة: 6] بمعنى مع كقوله تعالى: { { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } } [النساء: 2] وتعقب بأنه خلاف الظاهر، وأجيب بأن القرينة دلت عليه، وهي كون ما بعد إلى من جنس ما قبلها.
اهـ.

وقال الزمخشري: لفظ إلى يفيد معنى الغاية مطلقا: فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل، فقوله تعالى: { { ثم أتموا الصيام إلى الليل } } [البقرة: 187] دليل عدم الدخول النهي عن الوصال، وقول القائل: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، دليل الدخول كون الكلام مسوقا لحفظ جميع القرآن، وقوله تعالى: { { إلى المرافق } } لا دليل فيه على أحد الأمرين، قال: فأخذ العلماء بالاحتياط، ووقف زفر مع المتيقن.
اهـ.

قال الحافظ ابن حجر: ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء، فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين، وفيه عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق فهذه أحاديث يقوي بعضها بعضا، وقد قال الشافعي في الأم: لا أعلم مخالفا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، فزفر محجوج بالإجماع قبله على هذا، وكذا من قال بذلك من أهل الظاهر، ولم يثبت ذلك عن مالك صريحا، وإنما حكى عنه أشهب كلاما محتملا.
اهـ.

وقال الأبي -وهو مالكي المذهب- ويغسل المرفق عند مالك والكافة لا لأنه من اليد، بل لأن إلى بمعنى مع وأيضا فلأن حد الشيء إذا كان من جنسه دخل في حكمه، وعند مالك لا يجب وأنكره عبد الوهاب.
اهـ.

وأما تخليل الأصابع: فإن في الروايات الواردة به مقالا فلا تنهض دليلا على الوجوب، فهي محمولة على الندب جمعا بينها وبين سائر الروايات الصحيحة الكثيرة التي لم يذكر فيها التخليل، ولذا ذهب الجمهور إلى استحباب تخليل أصابع اليدين والرجلين، والأكمل في تخليل اليدين أن يضع بطن الكف اليمنى على اليسرى، ويدخل الأصابع بعضها في بعض، وفي الرجلين أن يكون بخنصر اليد اليسرى، بادئا بخنصر الرجل اليمنى خاتما بخنصر الرجل اليسرى، لما فيه من السهولة والمحافظة على التيامن.

وما ذكرناه من ندب تخليل أصابع اليدين والرجلين إنما هو إذا كان الماء يصل إليهما من غير تخليل، فلو كانت الأصابع ملتفة، لا يصل الماء إليها إلا بالتخليل فحينئذ يجب التخليل لا لذاته، لكن لأداء فرض الغسل.
ذكره ابن سيد الناس.
والله أعلم.

6- وأما مسح الرأس فعنه تقول الرواية الأولى ثم مسح رأسه وتقول الرواية 401 ثم مسح برأسه والرواية 416 ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر.
والرواية 417 فأقبل بيديه وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
والرواية 418 فمسح برأسه فأقبل به وأدبر مرة واحدة.
والرواية 419 ومسح برأسه بماء غير فضل يده.

وقد اختلف العلماء في القدر الواجب مسحه من الرأس عند الوضوء، بعد أن أجمعوا على وجوب المسح، فجاحد أصل المسح كافر، لأنه إنكار لقطعي، وجاحد المقدار لا يكفر لأن النص في حق المقدار ظني.

قال تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } } [المائدة: 6] .

وسر اختلافهم في المقدار هو الباء في قوله تعالى برءوسكم فمن رأى أنها للتبعيض اكتفى بمسح بعض الرأس، وممن أثبت أن الباء تأتي للتبعيض: الأصمعي والفارسي وابن مالك، قيل: والكوفيون، وجعلوا منه قوله تعالى { { عينا يشرب بها عباد الله } } [الإنسان: 6] .

ومن جعل الباء للتعدية يجوز حذفها وإثباتها كقولك: مسحت رأس اليتيم، ومسحت برأسه، أو جعلها زائدة أوجب مسح الرأس كله، مع استناد كل فريق إلى الأحاديث.

فالإمام مالك وأحمد وجماعة على وجوب استيعاب الرأس بالمسح، ويؤيدهم ظاهر الرواية الأولى ثم مسح رأسه ورواية فأقبل بيديه وأدبر ورواية بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما، حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.

قال ابن القيم: إنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة.
اهـ.

وسئل مالك عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله.

كما استدل أصحاب هذا الرأي بأن الكل متفق على تعميم غير الرأس من أعضاء الوضوء، فلتعمم الرأس أسوة ببقية الأعضاء.

والحنفية والشافعية على أن الواجب مسح بعض الرأس، لكن أراد الحنفية بالبعض ربع الرأس، وأراد الشافعية بالبعض ما يطلق عليه الاسم، ولو شعرة واحدة.

ويستدل هذا الفريق بما رواه أبو داود من حديث أنس بلفظ إنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة، فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة وبما عند مسلم وأبي داود والترمذي من حديث المغيرة بلفظ إنه صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته وعلى العمامة وبما رواه الشافعي من حديث عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه، ومسح مقدم رأسه.

قال الشافعي: احتمل قوله تعالى: { { وامسحوا برءوسكم } } جميع الرأس أو بعضه فدلت السنة على أن بعضه يجزئ.
اهـ.

ويرد هذا الفريق دليل الفريق الأول بأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على الأفضل والأحاديث التي استدلوا بها إنما وردت في كمال الوضوء، وليس فيما لا بد منه، ومسح الرأس كله مستحب باتفاق العلماء.

وأما استدلالهم بقياس الرأس على بقية أعضاء الوضوء فهو قياس مع الفارق؛ إذ كون المسح مبنيا على التخفيف واضح بما لا شبهة فيه.

ويضعف الفريق الأول أن أصحاب مالك لم يتفقوا معه على هذا الحكم، فقد قال ابن مسلمة: إن مسح ثلثيه أجزأه، وقال أبو الفرج: إن مسح ثلثه أجزأه، وقال أشهب: إن مسح الناصية أجزأه، وعنه أيضا: إن مسح أي شيء منه أجزأه.

بل يزيده ضعفا أن ما نسب إلى الإمام مالك نفسه هو المشهور عنه؛ إذ عبارة الأبي المالكي، أن المشهور لمالك ما ذكر من أن الفرض مسح جميعه.
اهـ.
ومعنى هذا: أن هناك رأيا آخر له غير مشهور، وأن ما نسب إلى الإمام أحمد إنما هو إحدى الروايات عنه.
والله أعلم.

وقد تعرضت الروايات في الباب بعد التالي إلى كيفية المسح، والسنة في ذلك أن يمسح شعر رأسه بيديه: يبدأ بمقدم رأسه، وينتهي بهما إلى قفاه، ثم يرد يديه إلى مقدم رأسه من المكان الذي بدأ منه، وبهذا الإقبال والإدبار يستوعب جهتي الرأس بالمسح؛ لأنه يمسح في الرجوع ما لم يمسحه في الذهاب وعلى هذا يختص ذلك بمن كان له شعر، وبمن كان شعره غير مضفور، وأما من لا شعر له على رأسه، أو كان شعره مضفورا فلا يستحب له الرد، إذ لا فائدة فيه، ولو رد في هذه الحالة لم يحسب الرد مسحة ثانية، لأن الماء صار مستعملا بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة.
قال النووي.

كما تعرضت الروايات إلى كون مسح الرأس بماء جديد غير فضل يديه، وقد نقل عن القاضي عياض أن السنة تجديد الماء لمسح الرأس، وأجاز الحسن والأوزاعي وعروة مسحه ببل اليدين، وعند بعض المالكية: إن كان بلحيته بلل وبعد عن الماء مسح به، ومعنى هذا أن الرواية وإن أخبرت عن الإتيان بماء جديد فإنه لا يلزم من ذلك اشتراطه، ولكن جاء في المدونة: إن مسح الرأس ببل اللحية لم يجزه، وخرج اللخمي القولين على طهورية الماء المستعمل، فمن رأى طهوريته أجاز مسح الرأس ببقية ماء غسل اليدين، ومن رأى أنه غير طهور لم يجز مسح الرأس بفضل اليدين، والخلاف في طهورية الماء المستعمل وعدم طهوريته مشهور، فأحمد والليثي والأوزاعي والشافعي، ومالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة في رواية عنه ذهبوا إلى أن الماء المستعمل غير مطهر، وتوضيح هذه المسألة وأدلة كل فريق سيأتي في باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد ( إن شاء الله) .

بقي في هذه النقطة المسح على العمامة وما شاكلها، نعم لم تتعرض رواياتنا له، لكن روى أبو داود عن ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابهم البرد، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين، ( العصائب العمائم، جمع عصابة، سميت بذلك لأن الرأس يعصب بها، فكل ما عصبت به رأسك من عمامة أو منديل أو نحو ذلك فهو عصابة، والتساخين لا واحد لها من لفظها، فارسي معرب، وهو اسم غطاء من أغطية الرأس كان العلماء وفقهاء الفرس يلبسونه على رءوسهم) كما روى أبو داود أيضا عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عليه عمامة قطرية ( نسبة إلى قرية بإقليم البحرين) فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة، فهذان حديثان مختلفان في حكم الاكتفاء بمسح العمامة ونحوها، وهذه المسألة من الأهمية بمكان في عصر لبست فيه المرأة شعرا مستعارا ( باروكة) ولبسه بعض الرجال أيضا، كما لبسوا ولبست قبعات وعمائم يصعب خلعها في البرد، ويعرض نزعها في تيارات الشتاء لبعض الأمراض.

وليس موضوع البحث المسح على بعض شعر الرأس ولو شعرة والتكملة على العصابة، فإنه قد سبق القول بأنه جائز عند الشافعية، وليس الموضوع المسح على ربع الرأس والتكملة على العصابة، فإنه جائز عند الحنفية أيضا، وإنما موضوع المسألة الاكتفاء بمسح العصابة والعمامة بدلا من مسح شعر الرأس.

والحديث الأول المروي عن أبي داود يدل بظاهره على جواز ذلك، وهو قول لبعض العلماء، قال الترمذي في جامعه: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر وعمر وأنس، وبه يقول الأوزاعي وأحمد وإسحق.
وقال ابن القيم في تهذيب السنن: قال عمر بن الخطاب من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله، والمسح على العمامة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماضية مشهورة عند ذوي القناعة من أهل العلم في الأمصار.
اهـ.
كما قال هذا الفريق: إن عضوا يسقط فرضه في التيمم يجوز المسح على حائله كالقدمين، واختلف القائلون بهذا القول في: هل يشترط فيمن يمسح على العمامة أن يكون قد لبسها على طهارة، قياسا على الخفين؟ ذهب إلى ذلك البعض، والأكثرون لا يشترط، كما اختلفوا في: هل لهذا المسح وقت ومدة؟ قال أبو ثور: إن وقته كوقت المسح على الخفين، وقال ابن حزم: لا يوقت ذلك بوقت.

وجمهور العلماء والفقهاء، وسفيان الثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة على أنه لا يجوز المسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة، قالوا: إن الله فرض مسح الرأس، وحديث أبي داود محتمل التأويل، فلا يترك الأصل المتيقن وجوبه بالحديث المحتمل، بل قال بعضهم: إن حديث أبي داود خاص بهذه السرية، أو بأن المسح على العمامة منسوخ.
والله أعلم.

7- ولم تتعرض روايات مسلم لمسح الأذنين، لكن روى أبو داود في وصف علي -كرم الله وجهه- للوضوء ثم مسح رأسه وظهور أذنيه وروي أيضا عن المقدام بن معد يكرب الكندي في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس فمسح برأسه وأذنيه، داخلهما بالسبابتين، وخالف بإبهاميه على ظاهر أذنيه.
فمسح ظاهرهما وباطنهما.

وروى النسائي ثم مسح برأسه وأذنيه، باطنهما بالسبابتين، وظاهرهما بإبهاميه وروى ابن ماجه مسح أذنيه، فأدخلهما السبابتين، وخالف إبهاميه إلى ظهر أذنيه فمسح ظاهرهما وباطنهما.

ولا خلاف بين العلماء في مشروعية مسح الأذنين في الوضوء، لكن الخلاف بينهم في اعتبارهما من الرأس أو من الوجه أو منهما فذهب جمهور من العلماء إلى أنهما من الرأس، فيمسحان معه، مستدلين برواية لابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأذنان من الرأس وذهب الزهري وداود إلى أنهما من الوجه فيغسلان معه، لحديث ابن عباس سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره وذهب جماعة من العلماء إلى أن المقبل منهما من الوجه، فيغسل معه، والمدبر منهما من الرأس، فيمسح معه.

والذي تستريح إليه النفس أنهما عضوان مستقلان، وأن رواية ابن ماجه ضعيفة؛ حتى قال ابن الصلاح: إن ضعفها كثير لا ينجبر بكثرة الطرق.
اهـ.

كذلك الخلاف قائم بين العلماء في حكم مسحهما، فذهبت القاسمية وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل إلى أنه واجب، واستدلوا بأحاديث وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم التي سقناها عن أبي داود وابن حبان والنسائي وابن ماجه، وقالوا: إن أحاديث الأذنان من الرأس يقوي بعضها بعضا، وقد تضمنت أنهما من الرأس فيكون الأمر بمسح الرأس أمرا بمسحهما.

وذهب من عداهم إلى عدم الوجوب وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنها وصف أفعال لا تدل على الوجوب، والمتيقن الاستحباب، فلا يصار إلى الوجوب إلا بدليل ناهض، كذلك الخلاف في مسحهما بماء الرأس أو بماء جديد، فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه يؤخذ لهما ماء جديد، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد.
والله أعلم.

8- وعن غسل الرجلين تقول الرواية الأولى ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك وتقول الرواية 401 ثم غسل رجليه ثلاث مرات والرواية 416 ثم غسل رجليه إلى الكعبين والرواية 419 وغسل رجليه حتى نقاهما.

قال النووي: ذهب جميع الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين، ولا يجزئ مسحهما، ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع.
اهـ.

ويشير النووي في كلامه إلى الإمامية من الشيعة حيث قالوا: إن فرض الرجلين المسح وإنه لا يجزئ الغسل، محتجين بقراءة الجر في قوله تعالى { { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } } قالوا: وهي قراءة صحيحة سبعية مستفيضة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محل برءوسكم.

كما يشير بقوله ولا يجب المسح مع الغسل إلى ما ذهب إليه بعض أهل الظاهر من أنه يجب الجمع بين الغسل والمسح.

وقد ذهب محمد بن جرير الطبري والجبائي والحسن البصري إلى أنه مخير بين الغسل والمسح لاختلاف القراءتين.

ويوجه الجمهور قراءة الجر بأن الجر للجوار، وقد أجازه جماعة من أئمة الإعراب كسيبويه والأخفش كما في قوله تعالى: { { إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم } } [هود: 26] حيث جر أليم على الجوار ليوم، وإن كان صفة للعذاب، وحملت عليه هذه القراءة مع أنه قليل نادر لمداومته صلى الله عليه وسلم على غسل الرجلين، وعدم ثبوت المسح عنه من وجه صحيح وتوعده على المسح بقوله ويل للأعقاب من النار ولإجماع الصحابة على الغسل، وهناك جواب ثان، وهو أن الأرجل عطفت على الرءوس، لأنها تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة الإسراف المنهي عنه، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها، وجيء بالغاية ليعلم أن حكمها مخالف لحكم المعطوف عليه، لأنه لا غاية في الممسوح، قاله الزمخشري، وجواب ثالث وهو أن قراءة الجر للمسح، لكن في حالة لبس الخف.
وقراءة النصب على الغسل عند عدم الخف.
قال الحافظ أبو بكر بن العربي: قراءتا النصب والجر مشهورتان وبينهما تعارض، والحكم في تعارض الروايتين كالحكم في تعارض الآيتين، وهو أنه إن أمكن العمل بهما مطلقا يعمل، وإن لم يمكن يعمل بهما بالقدر الممكن، وهنا لا يمكن الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة، لأنه لم يقل به أحد من السلف، ولأنه يؤدي إلى تكرار المسح، لأن الغسل يتضمن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فيعمل في حالتين، فيحمل في قراءة النصب على ما إذا كانت الرجلان باديتين، وتحمل قراءة الخفض على ما إذا كانتا مستورتين بالخفين، توفيقا بين القراءتين وعملا بهما بالقدر الممكن.
اهـ.

وسيأتي مزيد إيضاح لغسل الرجلين في باب إسباغ الوضوء، وغسل الأعقاب.

هذا وفي غسل الكعبين نفسيهما ما في غسل المرفقين من خلاف سابق، وكذلك في تقديم الرجل اليمنى على اليسرى ما في تقديم اليد اليمنى من أحكام.

وفي تخليل أصابع الرجلين ما في تخليل أصابع اليدين، وقد سبق الكلام عنه في النقطة الخامسة من شرح هذه الأحاديث.
والله أعلم.

9- ومن العطف بثم بين الأعضاء في بعض الروايات يؤخذ وجوب الترتيب بين أركان الوضوء، وبه قال الشافعي، وهو المشهور عن أحمد، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ إلا مرتبا، ولو لم يجب لتركه في وقت بيانا للجواز، وبما رواه النسائي من قوله صلى الله عليه وسلم ابدءوا بما بدأ الله به ورواه مسلم بلفظ نبدأ بما بدأ الله.

فهذا الحديث وإن كان واردا في الحج في قوله تعالى: { { إن الصفا والمروة من شعائر الله } } [البقرة: 158] لكن العبرة بعموم اللفظ، والأمر فيه في رواية النسائي صريح بوجوب الترتيب.
وقالوا: إن آية الوضوء وإن كانت مجملة ببنتها السنة بفعله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الآية الكريمة ذكرت ممسوحا بين مغسولات، وتفريق التجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة وقصد، وهي هنا الوجوب، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أن الترتيب غير واجب، لأنه من لفظ الراوي، وقالوا: إن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب وإن داوم عليه صلى الله عليه وسلم، وحديث النسائي إنما قصد به التبرك بالبدء بما بدأ الله به.

قال ابن رشد: وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المرتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: لا تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب، فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي لم يقل بإيجابه.

السبب الثاني: اختلافهم في أفعاله صلى الله عليه وسلم هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال: إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة.
اهـ.

ولا يخفى أن القائلين بعدم وجوب الترتيب بين الأركان يقولون باستحبابه بينها كترتيب السنن بعضها مع بعض، والقائلين بوجوبه بين الأركان يقولون بأنه سنة بين السنن.

اللهم إلا ما روي عن أحمد من قوله بوجوبه أيضا بين المضمضة والاستنشاق، لأنهما من تمام غسل الوجه عنده، وأما تقديمهما على غسل الوجه فسنة.
والله أعلم.

ولم تتعرض رواياتنا للموالاة التي هي متابعة أعضاء الوضوء، من غير تفرقة بينها، بحيث يغسل العضو الثاني قبل جفاف العضو الأول، مع اعتدال الزمان والمزاج والهواء، ومذهب أحمد أنها واجبة، وبوجوبها قال الشافعي في القديم، وبه قال مالك لكن قيده بالذكر والقدرة، ومذهب أبي حنيفة أنها سنة وهو قول الشافعي في الجديد.
والله أعلم.

10- والروايات تصرح بالوضوء ثلاثا ثلاثا.

قال النووي: وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة، وثلاثا ثلاثا، وبعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين وبعضها مرة.
قال العلماء: فاختلافها دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ، فعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث.

وأما اختلاف الرواة فيه عن الصحابي الواحد في القصة الواحدة فذلك محمول على أن بعضهم حفظ وبعضهم نسي، فيؤخذ بما زاده الثقة، كما تقرر من قبول زيادة الثقة الضابط.
اهـ.

ثم قال في موضع آخر: وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث.

والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو، وأما إذا لم يستوعب العضو إلا بغرفتين فهي غسلة واحدة.
ولو شك هل غسل ثلاثا أو اثنتين جعل ذلك اثنتين؛ وأتى بثالثة، هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا، وقال الجويني: يجعل ذلك ثلاثا ولا يزيد عليها، مخافة ارتكاب بدعة بالرابعة، والأول هو الجاري على القواعد، وإنما تكون الرابعة بدعة ومكروهة إذا تعمد كونها رابعة.
اهـ.

وما حكاه النووي من إجماع المسلمين على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاثة سنة، هو المشهور، فقد قال الأبي وحكى الإسفرايني عن مالك وجوب الثانية.
اهـ.

وما حكاه من إجماع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث هو المشهور أيضا، فقد قال أحمد وإسحق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث، ولا يزيد على الثلاث إلا رجل مبتلى، وقال ابن المبارك: لا آمن إذا زاد في الوضوء على الثلاث أن يأثم، فهذا الرأي يجعل الزيادة على الثلاث أقوى من الكراهة، ويقابله ما نقله الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه.

وفي المرقاة قال الإمام النسفي: هذا إذا زاد معتقدا أن السنة هذا؛ فأما لو زاد لطمأنينة القلب عند الشك أو نية وضوء آخر فلا بأس، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.
اهـ.

فتعبير الإمام النووي في الحالتين بإجماع المسلمين محمول على التسامح.

والتحقيق: أن ما حكاه إنما هو قول جماهير المسلمين وجماهير العلماء.

ولا يفوتنا أن ننبه أن كراهة الزيادة على الثلاث مقصورة على حالة قصد الوضوء، فإن كان على العضو وسخ وقصد إزالته أزيل بقطع النظر عن العدد، وعليه تحمل الرواية 419 التي جاء فيها وغسل رجليه حتى أنقاهما بل استدل بعض الفقهاء بهذه الرواية على أن غسل الرجلين في الوضوء لا يحد بالثلاث، لأن الرجل لقربها من الأرض في المشي تكثر فيها الأوساخ والأدران، فيحال الأمر فيها على مجرد الإنقاء من غير اعتبار العدد، لكن هذا الرأي مردود، وإزالة الأوساخ في أي عضو مطلوبة بقطع النظر عن العدد، والثلاث للرجل كغيرها مطلوبة حيث لا وسخ، وقد نصت الرواية الأولى والثانية على التثليث في غسل الرجلين.

أما مسح الرأس فالجمهور على عدم التثليث، وجميع رواياتنا لم تذكر التثليث في مسح الرأس، بل نص في بعضها على أنه مسح مرة واحدة، وقال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، وكذا قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.

وبالغ أبو عبيدة فقال: لا نعلم أحدا من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، لكن الشافعي يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، وتكرار المسح مسنون عند أبي حنيفة أيضا -كما صرح بذلك صاحب الهداية- ولكن بماء واحد، ولعل بعض الروايات في ظاهرها تؤيدهما، إذ جاء فيها توضأ ثلاثا ثلاثا فلم تستثن مسح الرأس.

وقد وردت أحاديث كثيرة بالمسح ثلاثا، ففي سنن أبي داود من حديث عبد الرحمن بن وردان عن حمران ومسح رأسه ثلاثا وفيه أيضا من حديث علي رضي الله عنه رفعه ومسح برأسه ثلاثا وفي سنن الدارقطني عن عمر رضي الله عنه في وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ومسح برأسه ثلاثا والله أعلم.

11- ولم تتعرض الروايات للنية، ومذهب المالكية والشافعية وأحمد أنها واجبة في الوضوء والغسل كبقية العبادات، واستدلوا بقوله تعالى { { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } } [البينة: 5] .

وقالوا: الإخلاص هو النية، لأنه عمل من أعمال القلب، وهو مأمور به، كذلك استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وقدروا معناه: إنما صحة الأعمال بالنيات.
ومذهب الحنفية عدم وجوب النية في الوضوء والغسل، وقدروا المعنى في الحديث: إنما كمال الأعمال، أو ثوابها بالنيات.

قال ابن رشد: وسبب اختلافهم هو تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة، أي مقصودا بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى، كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون في أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة.
اهـ.

والنية محلها القلب وإن جمع اللفظ مع القلب كان آكد وأفضل عند الشافعية وجمهور العلماء، ومنع الجهر بها ابن تيمية وابن القيم وجماعة من العلماء.

12- وأما التسمية عند الوضوء فلم تأت في شيء من الأحاديث الصحيحة، بل قال أحمد: لا أعلم فيها حديثا له سند جيد.
اهـ.

وأما ما رواه الدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهورا لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما مر عليه الماء وما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه فإن أسانيدهما كلها ضعيفة، وأقوى ما يحتج به في مشروعية التسمية حديث كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي.
ولما لم ترد التسمية في أحاديث الوضوء اختلفت المذاهب في مشروعيتها فيه: فالشافعية على أن التسمية سنة في الوضوء وجميع العبادات وغيرها من الأفعال، حتى عند الجماع، لما رواه البخاري ومسلم من قوله صلى الله عليه وسلم لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان.

قال النووي: هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء، وهو أظهر الروايتين عن أحمد، وعنه رواية أنها واجبة، وعن أبي حنيفة رواية أنها ليست بمستحبة في الوضوء، وعن مالك رواية أنها بدعة فيه، ورواية أنها مباحة، لا فضيلة في فعلها ولا تركها.
اهـ.
والله أعلم.

ويؤخذ من مجموع هذه الأحاديث فوق ما تقدم

1- التعليم بالفعل لأنه أبلغ وأضبط للمتعلم.

2- جواز الاستعانة في إحضار الماء للوضوء من غير كراهة.

3- استحباب غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء، وإن لم يكن قد قام من النوم.

4- الإفراغ على اليدين معا في ابتداء الوضوء.

5- استدل بقوله ثم أدخل يمينه في الإناء على عدم اشتراط نية الاغتراف.
قال الحافظ ابن حجر: ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا.

6- يؤخذ من الاغتراف من الماء القليل للتطهير أنه لا يصيره مستعملا.

7- قد يستدل به على أن المضمضة والاستنشاق يكونان بغرفة واحدة.
وهو أحد الأوجه المستحبة المتقدمة في الشرح.

8- يؤخذ منه تقديم اليمنى على اليسرى.

9- الترتيب بين أعضاء الوضوء.

10- أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة، وبعضه بمرتين، وبعضه بثلاث.

11- الترغيب في الإخلاص.

12- فضل إحسان الوضوء والصلاة بعده، وسيأتي قريبا في باب خاص.

13- الوتر في الاستجمار، وسيأتي في بابه.

والله أعلم