هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1487 وحَدَّثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْوَاسِطِيُّ ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ يَعْنِي الطَّحَّانَ ، عَنْ حُصَيْنٍ ، عَنْ سَالِمٍ ، وَأَبِي سُفْيَانَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَدِمَتْ سُوَيْقَةٌ ، قَالَ : فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَيْهَا ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا أَنَا فِيهِمْ ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 
1487 وحدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي ، حدثنا خالد يعني الطحان ، عن حصين ، عن سالم ، وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فقدمت سويقة ، قال : فخرج الناس إليها ، فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم ، قال فأنزل الله : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } إلى آخر الآية
هذه الخدمةُ تعملُ بصورةٍ آليةٍ، وهي قيدُ الضبطِ والتطوير، 

: هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير، 

Jabir b. Abdullah reported that the Apostle (ﷺ) was delivering the sermon on Friday in a standing posture when a caravan from Syria arrived. The people flocked towards it till no one was left (with the Holy Prophet) but twelve persons, and it was on this occasion that this verse in regard to Jumu'a was revealed. And when they see merchandise or sport. they break away to it and leave thee standing.

شرح الحديث من فـــتح المــــنعم

: : هذه القراءةُ حاسوبية، وما زالت قيدُ الضبطِ والتطوير،   

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً؛ فأنزلت هذه الآية التي في الجمعة { { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً } }

المعنى العام

الجمعة عيد أيام الأسبوع، وصلاتها كصلاة العيد، أحيطت بهالة وقدسية، وأحيطت بجماعة لم تحظ بها صلاة، فكل صلاة تصح فرادى غير صلاة الجمعة، وكل صلاة تصح بدون خطبتين سابقتين غير صلاة الجمعة، وكل صلاة لا تقوم مقام صلاة أخرى ولا تسد مسدها غير صلاة الجمعة التي تقوم مقام صلاة الظهر.

من هذا الوضع الفريد لصلاة الجمعة كانت جديرة بدقة وقتها، وكانت اجتهادات العلماء في استنباط الوقت من الأحاديث الخاصة به اجتهادات حية، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يرى أنها تصح قبل الزوال حيث إن الصحابة كانوا يستمعون الخطبتين ويصلون ثم يرجعون إلى رحالهم عند الزوال، حيث كانوا لا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الصلاة، حيث كانوا يصلون ويخرجون من المسجد يلتمسون ظل الحوائط فلا يكادون يجدون ما يظلهم، مما يوحي بأن الصلاة كانت قبل الزوال.

وهؤلاء الأئمة الآخرون يفهمون هذه الأحاديث على أنها تشير إلى التبكير بها عند الزوال، وليس قبله، وحيث إن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر ولا قائل بصحة صلاة الظهر قبل الزوال، حيث إن المسلمين منذ فجر الإسلام لا يصلون الجمعة قبل الزوال.
كذلك كانت صلاة الجمعة جديرة ببحث ما يقرأ فيها من سور القرآن، وما يصلى بعدها من النوافل، فنصت الأحاديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بعد الفاتحة في الركعة الأولى سورة ( الجمعة) وفي الركعة الثانية سورة ( إذا جاءك المنافقون) وأحياناً كان يقرأ ( سبح اسم ربك الأعلى) في الركعة الأولى، وسورة ( الغاشية) في الركعة الثانية.

وهكذا كانت صلاة الجمعة من الأهمية الشرعية بمكان، حتى نزل بشأنها خاصة قرآن يتلى يحث على السعي إليها، والعناية بها وحضورها والتبكير إليها وترك المشاغل الدنيوية من أجلها، فقال جل شأنه: { { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } } [الجمعة: 9 وما بعدها] .

وكلما كان الأمر مهماً لزم الاستعداد له، وكلما عظم فضل العبادة قدم لها بمقدمات تتناسب وفضلها، تمهيداً وإعداداً وتهيئة للدخول فيها، كما أحيطت بهالة تبين عن قدسيتها وشرفها وعظمها وجلالها.

وهذا ما لزم خطبة الجمعة ولابسها من أذان قبلها وآذان بين يديها، وكونها خطبتين يجلس بينهما ويقوم فيهما على منبر مستقبل الناس، ويأتي فيهما بأركان أساسية، مقتديا بخطبة صلى الله عليه وسلم.

نعم لزم الجمعة إعداد خاص، غسل وطيب ولبس أحسن الثياب ومشي بالسكينة والوقار ودخول للمسجد في أدب وخشوع، لا يقيم أحداً من مجلسه ولا يفرق بين اثنين ولا يتخطى الرقاب، ثم يصلي نوافل ما قدر عليه ثم يجلس يستمع الخطبة، لا يكلم جاره أثناءها وإلا ضاع ثوابه حتى لو كان الكلام بالأمر بالمعروف، وحتى لو كان الكلام بإسكات المتكلم، ولا يعبث بيديه، ولا يمس الفراش أو الحصا ولا يكثر الحركة والالتفات، بل يكون في خشوع وإنصات للخطبة من أولها إلى آخرها.

لم يدرك المسلمون أول الإسلام هذه الأهمية ، ولم توضح لهم هذه الأمور ، فأخطئوا حين كانوا يستمعون الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب إذ علموا أن قافلة تجارية تحمل القمح والطعام قد جاءت المدينة في زمن شدة وحاجة فأسرعوا إليها، وانفضوا عن الخطبة، حتى لم يبق أمام الرسول صلى الله عليه وسلم من المئات سوى اثنى عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى في عتابهم وتوبيخهم وتوجيههم قرآنا يتلى، فقال: { { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } } [الجمعة: 11] .

لقد اقتضت حكمة الله تعالى ورحمته للمسلمين أن يشرع تكرار وعظهم وجوباً كل سبعة أيام يرغب الخطيب في فضل الله والطاعة، ويحذر من غضب الله والمعصية، يتفاعل مع الكلمة يشتد حين يقتضي الحديث الشدة ويرفع صوته كلما احتاج الأمر رفع الصوت، لقد كان صلى الله عليه وسلم يخوف من اليوم الآخر وقربه، ويوصي بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، ويحذر من البدع والضلالات، ويؤمن المسلمين على أموالهم وأولادهم وديونهم وأطفالهم من بعده، يخطب فيقتصد، لا يطيل ولا يخل، يرفق بالسائل ويعلم الجاهل.
فصلى الله وسلم وبارك وعلى من اتبع هداه إلى يوم الدين.

المباحث العربية

( كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي صلاة الجمعة.

( ثم نرجع) من الصلاة إلى بيوتنا.

( فنريح نواضحنا) جمع ناضح، وهو البعير الذي يستقى به، سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبه، ومعنى نريح نواضحنا: أي نريحها من العمل وتعب السقى، فنخليها منه، ويجوز أن يكون من الرواح للرعي.

( في أي ساعة تلك) أي تلك الصلاة.

( ما كنا نقيل) من القيلولة، وهي الراحة وسط النهار.

( كنا نجمع) بضم النون وفتح الجيم وتشديد الميم المكسورة، أي نصلي الجمعة.

( ثم نرجع نتتبع الفيء) أي نبحث عنه ونستظل به، فلا نكاد نجده لقلته بسبب التبكير وقصر الحيطان، كما جاء في الرواية الخامسة: فنرجع وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به.

( يقرأ القرآن ويذكر الناس) أي في الخطبتين، لا في الجلسة بينهما.

( فمن أنبأك) القائل جابر بن سمرة، والمخاطب سماك الراوي عن جابر.

( فقد -والله- صليت معه أكثر من ألفي صلاة) أي من الصلوات الخمس لا الجمعة، والقصد التوثيق من المتابعة والمصاحبة التي تؤدي إلى التوثيق بحالة الجمعة من باب أولى، لأن المواظب على الجماعة معه صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس لا يتخلف عنه في الجمعة.

( فجاءت عير من الشام) العير -بكسر العين- الإبل التي تحمل الطعام أو التجارة، لا تسمى الإبل عيراً إلا بهذا الوصف، وهي مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، وفي رواية للبزار: جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف.
وفي رواية: أنها كانت لوبرة الكلبي.
وفي رواية: أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي.
وجمع الحافظ ابن حجر بين هذه الروايات بأن التجارة كانت لعبد الرحمن بن عوف، وكان دحية السفير فيها أو مفاوضاً، وكان وبرة رفيق دحية.

( فانفتل الناس إليها) أي انصرفوا عن الخطبة إلى العير.

( حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً) في تسميتهم ذكرت رواياتنا أبا بكر وعمر وجابر بن عبد الله، وذكرت روايات أخرى بقية الخلفاء الأربعة علياً وعثمان وابن مسعود وسالماً مولى أبي حذيفة وبلالاً وعماراً.

( فقدمت سويقة) تصغير سوق، والمراد العير المذكورة في الرواية الأخرى وسميت سوقاً لأن البضائع تساق إليها ومنها، وأطلق على العير سويقة لأن الناس ستشتري منها الطعام.

( فابتدرها أصحاب رسول الله) أي عاجلوها وأسرعوا واستبقوا إليها.

( قال: دخل المسجد) القائل أبو عبيدة، وفاعل دخل ضمير يعود على كعب بن عجرة، أو فاعل قال كعب بن عجرة، وهو فاعل دخل وكأنه جرد من نفسه شخصاً يتحدث عنه، والأصل: دخلت المسجد....
فقلت: انظروا....
إلخ.

( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات) أي عن تركهم صلوات الجمعة، و ودع بفتح الواو وسكون الدال، مصدر الفعل الذي أميت ماضيه ولم يستعمل إلا المضارع والأمر يدع دع.

( أو ليختمن الله على قلوبهم) المراد من الختم الطبع والتغطية، وقد اختلف المتكلمون في المراد منه، فقيل: هو إعدام اللطف وإعدام أسباب الخير.
وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم.
وقيل: هو علامة جعلها الله في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذم.

( فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً) في القاموس: القصد ضد الإفراط، ورجل قصد ليس بالجسيم ولا الضئيل، فالمعنى هنا بين الطول الظاهر والقصر الماحق.

( كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم) أي كأنه منذر قومه بجيش الأعداء، وكأن منذراً يفجأ قومه بجيش يغير عليهم في الصبح فيقول: أدركوا أنفسكم فقد صبحكم العدو.
أو أدركوا أنفسكم فقد فاجأكم جيش العدو في المساء.
ففاعل يقول منذر الجيش.

( بعثت أنا والساعة) روى بنصب الساعة ورفعها، والمشهور نصبها على المفعول معه.

( كهاتين) يحتمل أنه تمثيل لمقاربتها، وأنه ليس بينهما أصبع أخرى، كما أنه لا نبي بينه وبين الساعة، ويحتمل أنه لتقريب ما بينهما من المدة، وأن التفاوت بينهما كنسبة التفاوت بين الأصبعين تقريباً لا تحديداً، قاله القاضي عياض.

( يقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى) يقرن بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكى كسرها.

( وخير الهدى هدى محمد) قال النووي: هو بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وإسكان الدال أيضاً، ضبطناه بالوجهين.
وفسره الهروي على رواية الفتح بالطريق، أي أحسن الطرق طريق محمد، وأما على رواية الضم فمعناه الدلالة والإرشاد.
قال العلماء: لفظ الهدى له معنيان أحدهما: بمعنى الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: { { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } } [الشورى: 52] .
{ { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } } [الإسراء: 9] .
و { { هدى للمتقين } } [البقرة: 2] .
ومنه قوله تعالى: { { وأما ثمود فهديناهم } } [فصلت: 17] .
أي بينا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: { { إنا هديناه السبيل } } [الإنسان: 3] .
{ { وهديناه النجدين } } [البلد: 10] .
والثاني: بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله به، ومنه قوله تعالى: { { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } } [القصص: 56] .

وقالت القدرية: حيث جاء الهدى فهو للبيان، بناء على أصلهم الفاسد في إنكار القدر، ورد عليهم أصحابنا وغيرهم من أهل الحق مثبتي القدر لله تعالى بقوله تعالى: { { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } } [يونس: 25] .
ففرق بين الدعاء والهداية.
اهـ.

( وكل بدعة ضلالة) قال النووي: هذا عام مخصوص، والمراد غالب البدع.
قال أهل اللغة: البدعة هي كل شيء عمل على غير مثال سابق، وسيأتي بحث المسألة من الناحية الفقهية.

( ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلى وعلى) دينا بفتح الدال أما الضياع فقد قال أهل اللغة: الضياع بالفتح العيال.
قال ابن قتيبة: أصله مصدر ضاع يضيع ضياعاً، أي من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع، فأوقع المصدر موضع الاسم، أي من ترك ديناً فإلى يتحول، وعلى يرجع الدائن.

( أن ضماداً قدم مكة وكان من أزد شنوءة) ضماد بكسر الضاد، و شنوءة بفتح الشين وضم النون أبو حي باليمن.

( وكان يرقى من هذه الريح) يرقى بكسر القاف من الرقية، والمراد بالريح هنا الجنون ومس الجن، وفي غير مسلم: وكان يرقى من الأرواح.
أي الجن سموا بذلك لأنهم لا يبصرهم الناس، فهم كالروح والريح.
قاله النووي.

( ولقد بلغن ناعوس البحر) قال النووي: ضبطناه بوجهين، وأشهرهما ناعوس بالنون والعين، هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني قاموس بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم.
قال أبو عبيد: قاموس البحر: وسطه.
وقال ابن دريد: لجته.
وقال بعضهم: قعره الأقصى.
اهـ ومعنى أن هذه الكلمات قد بلغت لجة البحر أو قعره أنها بعيدة الوصول إليها، يطلبها الباحث في الكتب فلا يجدها، فهي كلمات من أعماق البحار وليست من ألفاظ البشر.

( فقال صاحب السرية للجيش) أي قال رئيس السرية وقائدها لأفرادها.

( أصبت منهم مطهرة) بكسر الميم وفتحها، والكسر أشهر، وهي إناء يتطهر منه كالإبريق.

( فلو كنت تنفست؟) أي لو كنت أطلت قليلاً، ولو للتمني، أو للشرط مع حذف الجواب، أي لكان خيراً.
وفي القاموس: والنفس -بفتحتين- الفسحة في الأمر، والطويل من الكلام.

( مئنة من فقهه) بفتح الميم ثم همزة مكسورة ثم نون مشددة، أي علامة.
قال الأزهري والأكثرون: الميم فيها زائدة، وهي مفعلة.

( واقصروا الخطبة) من قصر مخففاً، فالهمزة همزة وصل في اقصروا.

( وإن من البيان سحراً) قال أبو عبيد: هو من الفهم وذكاء القلب.
قال القاضي: فيه تأويلان: أحدهما: أنه ذم، لأنه إمالة القلوب وصرفها بمقاطع الكلام إليه حتى يكسب من الإثم به كما يكسب بالسحر، وأدخله مالك في الموطأ في باب ما يكره من الكلام، وهو مذهبه في تأويل الحديث.
والثاني: أنه مدح، لأن الله تعالى امتن على عباده بتعليمهم البيان، وشبهه بالسحر لميل القلوب إليه، وأصل السحر الصرف، فالبيان يصرف القلوب ويميلها إلى ما يدعو إليه.
قال النووي: وهذا التأويل الثاني هو المختار الصحيح.

( فقد رشد) بكسر الشين وفتحها.

( ومن يعصهما فقد غوى) قال القاضي: وقع في روايتي مسلم بفتح الواو وكسرها، والصواب الفتح، وهو من الغي، وهو الانهماك في الشر اهـ وإنما كان الخطيب مذموماً لتشريكه الله ورسوله في ضمير واحد ومن يعصهما مما يوهم التسوية بينهما، وللمسألة إيضاح يأتي في فقه الحديث.

( لقد كان تنورنا وتنور رسول الله واحداً) في القاموس: التنور الكانون يخبز فيه.
تشير بذلك إلى حفظها ومعرفتها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقربها من منزله، والكلام على سبيل التشبيه، أي كالواحد.

( قال: رأى بشر) فاعل قال عمارة، وفاعل رأى عمارة، والأصل: رأيت بشر بن مروان.

( رافعاً يديه) أثناء الخطبة يشير بهما يميناً وشمالاً.

( فقال) أصله فقلت.
فالقائل عمارة، وملحق هذه الرواية كاشف لمرجع الضمائر.

( قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما) في القاموس: تجوز في الصلاة: خفف.

( انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أي قربت منه ومن المنبر.

( فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً) قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ حسبت.
ورواه ابن أبي خيثمة في غير صحيح مسلم خلت بكسر الخاء وسكون اللام، وهو بمعنى حسبت.
وفي بعض النسخ تصحيف إلى خلب خاء ولام وباء، وفي بعضها خشب خاء وشين وباء.

والكرسي بضم الكاف وكسرها، والضم أشهر.
أي نزل عن المنبر وجلس على الكرسي، وجعل يعلمني.

فقه الحديث

يمكن حصر شوارد الأحكام الفقهية في نقاط:

1- الأذان يوم الجمعة.

2- خطبة الجمعة، حكمها وشروطها وهيآتها.

3- عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم.

4- المطلوب والمباح ساعتها.

5- ما يؤخذ من الأحاديث.

وهذا هو التفصيل:

أولاً: الأذان يوم الجمعة.

لم تتعرض أحاديث الباب للأذان يوم الجمعة، ولم يرد في صحيح مسلم شيء عن أذان الجمعة اللهم إلا الإشارة إليه في الباب السابق في الروايتين الخامسة والسادسة.

وقد روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذ جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.

فالأذان الذي أحدثه عثمان ثالث من حيث القدم، فيسبقه أذان وإقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وهو أول باعتبار زمنه، فهو مقدم زمناً على الأذان الذي بين يدي الخطيب وبين الإقامة إذا نزل الخطيب.

قال الحافظ ابن حجر: والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين عندهم سوى مرة.
قال: وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة.
قال: فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسناً، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، وتبين أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب.
اهـ.

وأكثر البلاد الإسلامية اليوم يؤذنون عند دخول وقت الجمعة أذاناً عالياً على مرتفع أو في بوق يرفع الصوت ميكرفون ثم يؤذنون بين يدي الخطيب؛ وقد يقدمون للأذان الأول ببعض الذكر والتسابيح.
وبعضها يؤذن الأذان العالي قبل دخول وقت الجمعة بنحو ساعة من الزمن، ثم يؤذنون بين يدي الخطيب، وقلة منهم لا يؤذن الأذان العالي أصلاً ويكتفي بالأذان بين يدي الخطيب، كما كان الوضع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأعتقد أن المخالفة هينة، ولكل من المختلفين اجتهاده ووجهة نظره، ولا ينبغي إلزام فريق بما عليه الآخر، ولا الطعن على الفريق المخالف بالخروج عن الدين، ولا إيقاع الفرقة والحقد والبغضاء بسببه، فنكون كالدبة التي دفعت الذبابة عن صاحبها بحجر فقتلته.

لكنا مع الحافظ ابن حجر في قوله: وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى.
والله علم.

ثانياً: خطبة الجمعة، حكمها وشروطها وهيآتها:

ومن المقرر الواضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بدون الخطبتين، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي.
وقد حكم جمهور العلماء بأن الجمعة لا تصح إلا بخطبتين.
قال القاضي عياض: ذهب عامة العلماء إلى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة.
وعند أهل الظاهر ورواية عن مالك أنها تصح بلا خطبة.

ولخطبة الجمعة شروط أو أركان أو هيئات أو مواصفات منها:

( أ) جلوس الخطيب على المنبر قبلها أثناء الأذان بين يديه.
قال مالك والشافعي وجمهور العلماء: هو سنة.
وقيل هو من أجل الأذان، وعليه لا يسن للعيد، لأنه لا أذان له.
وقيل: الحكمة فيه الراحة وسكون اللغط والتهيؤ للإنصات والاستنصات لسماع الخطبة وإحضار الذهن وجمع الانتباه واستدل له بما رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال: كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام.
وفي رواية له: إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ويمكن أن يستأنس له أيضاً بروايتنا التاسعة والعشرين، وفيها: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر....
الحديث.
ويصبح معنى الرواية الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين: والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب.
أي يتهيأ للخطبة.

وذهب بعض الكوفيين إلى أن الجلوس على المنبر عند التأذين قبل الخطبة غير مشروع.
وقد رفض البدر العينى نسبة هذا القول لأبي حنيفة، فقال: إن مذهب أبي حنيفة ما ذكره صاحب الهداية: وإذا صعد الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذنون بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث.
اهـ.

( ب) واشتراط خطبتين، بهذا قال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور، يصرح بهذا روايتنا السابعة، وقال أبو حنيفة: الخطبة شرط، ولكن تجزئ خطبة واحدة.

( جـ) واشترط الشافعي ومالك وأحمد والجمهور أن يسمعها العدد الذي تنعقد به الجمعة.
وقال أبو حنيفة لا يشترط العدد لسماع الخطبة.

ومن اشترط العدد في السماع اختلفوا، فمنهم من اكتفى به عند الابتداء ولا يضر نقصه أثناءها كبعض الشافعية الذين استدلوا بروايتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة، وفيها أن الصحابة انفضوا عن الخطبة حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً وهم يشترطون لصحة الجمعة والخطبة أربعين رجلاً.
ومنهم من اشترط سماع العدد ابتداء وانتهاء، وأجاب عن الروايات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مد في الخطبة واستمر فيها وعاد العدد المطلوب قبل الفاصل الطويل.
أما المالكية فجعلوا الحد الأدنى للعدد اثنى عشر رجلاً، فلا إشكال.

واشترط الشافعي وأصحابه القيام في الخطبتين للقادر عليه، فإن خطب قاعداً مع القدرة على القيام لم تصح صلاته، ولا صلاة من علم من المأمومين قدرته على القيام.

وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: تصح الخطبة قاعداً مع القدرة، والقيام سنة عند أبي حنيفة، وواجب عند مالك في رواية، ولو تركه أساء وصحت الجمعة.

والأحاديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخطب جالساً والآية الكريمة تقول: { { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً } } [الجمعة: 11] .

وأول من خطب قاعداً معاوية، لما كثر شحم بطنه خطب الأولى قاعداً وخطب الثانية قائماً.

وروي أن عثمان أول من قعد في الخطبة، لكنه كان يخطب قائماً، فإذا تعب جلس ولم يتكلم حتى يقوم.
ولا يستدل بهذا ولا بذاك ولا بقبول الناس على أن القيام ليس شرطاً، فإن الجلوس في مثل حالهما كان لعذر، ولهذا أنكر كعب بن عجرة على عبد الرحمن ابن أم الحكم أن خطب قاعداً إنكاراً شديداً كما جاء في روايتنا الثانية عشرة.

( هـ) كما اشترط الشافعية لصحة الخطبة والجمعة جلوساً بين الخطبتين، وهو صريح في أحاديثنا التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي.
قال بعضهم: وفي دخول الخطبة تحت كيفية الصلاة نظر، فالاستدلال بمجرد فعله صلى الله عليه وسلم.

وجمهور العلماء على أن الجلوس بين الخطبتين سنة حتى قال الطحاوي: هذا القول محكى عن مالك في رواية عنه، وهو المشهور عن أحمد.

وهذا الجلوس خفيف جداً، أقله قدر الطمأنينة، وأكمله قدر قراءة سورة الإخلاص.
واختلف في حكمته، فقيل: للفصل بين الخطبتين.
وقيل للاستراحة.
وللخطيب أن يذكر الله تعالى ويدعوه في هذا الجلوس، وله أن يسكت.
والله أعلم.

( و) وهل تشترط طهارة الخطيب من الحدث الأصغر، ومن النجاسة في البدن والثوب والمكان وستر العورة؟ قولان للشافعية وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: لا يشترط ذلك.
واستحبابه أمر متفق عليه.

( ز) ومن السنة أن يخطب على منبر أو على مرتفع، ليتمكن من المصلين وليروه وليصل صوته إلى أكبر قدر من الناس، فهو أبلغ في الإعلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخل، حتى السنة السابعة أو الثامنة من الهجرة فعمل له منبر خشبي من ثلاث درجات.

( حـ) ويستحب للإمام أن يسلم عند دخوله المسجد، ويصل المنبر دون أن يصلي تحية المسجد، فإذا وصل إلى أعلى المنبر وأقبل على الناس سلم عليهم ولزم السامعين الرد عليه.

( ط) وأن يستقبل الخطيب الناس وأن يستقبلوه، لما روي عن سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا، واستقبلنا بوجهه.
والشافعية على كراهة الالتفات يميناً وشمالاً في كل الخطبة.
وقال أبو حنيفة: يلتفت يميناً وشمالاً في بعض الخطبة كما في الأذان.

( ي) ويكره تحريك اليدين والإشارة بهما ذات اليمين وذات الشمال وروايتنا الرابعة والعشرون صريحة في إنكار ذلك.
قال النووي في المجموع: ويسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا أو نحوها، ويستحب أن يأخذه في يده اليسرى، وأن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر، فإن لم يجد سيفاً أو عصا ونحوه سكن يده بأن يضع اليمنى على اليسرى، أو يرسلهما ولا يحركهما ولا يعبث بواحدة منهما، والمقصود الخشوع والمنع من العبث.
اهـ.

( ك) وذهب جمهور الشافعية وأحمد إلى أن أركان الخطبة أو فروضها أربعة:

أن يحمد الله، وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يوصي بالتقوى، وأن يقرأ الآية من القرآن.
وبعضهم يوجب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.

وقال أبو يوسف ومحمد وداود: الواجب ما يقع عليه اسم الخطبة.
وقال أبو حنيفة: يكفيه أن يقول: سبحان الله، أو بسم الله، أو الله أكبر ونحو ذلك من الأذكار.

ومن مستحباتها أن تكون بالعربية، وأن يرفع فيها صوته، وأن يوالي بين مواعظها، وأن تكون قصيرة، فقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم قصداً وخطبته قصداً، وقصر الخطبة علامة من علامات فقه الخطيب كما جاء في أحاديث الباب.

ثالثاً: عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم:

وقد تعرضت رواياتنا الخامسة عشرة والسادسة عشرة والثالثة والعشرون إلى عبارات وتوجيهات من خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يفتتح خطبته بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم يثنى بالتفويض والتسليم لجلاله وعظمته باعثاًَ في نفوس أصحابه أن الأمر كله لله فيقول: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
وكان يحذر من الآخرة وقربها، فيقول: بعثت أنا والساعة كهاتين.
يرفع أصبعيه السبابة والوسطى ويضمهما ويقرنهما فكأنهما لا فاصل بينهما، فلا نبي بينه وبين الساعة، وما بين الأصبعين من تقارب يشبه تقارب الزمن بين بعثته وقيام الساعة، وكان يقول بعد الحمد والثناء والتبصير بقرب الساعة: أما بعد.
ثم يعظ الناس ويذكرهم، ويوجههم إلى الاعتماد على القرآن والسنة، ويحذرهم من الابتداع في الدين واتباع الأهواء والزيغ عن الصراط المستقيم، فيقول: إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمداً صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.

وكان كثيراً ما يقرأ في خطبته آيات أو سوراً من القرآن الكريم، يقرأ كثيراً سورة ق والقرآن المجيد فهي سورة ترقق القلوب بما فيها من وعد ووعيد وصور الموت، وما بعد الموت، وكان يقرأ آيات في مناسبات، يرعى الأمة ويوجهها، وإذا رأى قصوراً عالجه في خطبته، رأى رجلاً يدخل المسجد فلا يصلي تحية المسجد فيقعد، فناداه: يا سليك.
أصليت ركعتين؟ قال: لا.
قال: قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما.
ثم توجه إلى الناس فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.

رابعاً: المطلوب والمباح ساعة الخطبة:

ولسماع الخطبة آداب وحقوق، وأهمها الاستماع لها والإنصات وعدم التلهي بمس الحصا ونحوه، وعدم الانشغال عنها بأمور الدنيا.

وتتحدث رواياتنا التاسعة والعاشرة والحادية عشرة عن حادثة الانفضاض، وهي حادثة فريدة لم تتكرر، ونزل فيها قرآن يتلى، يوبخ فاعليها ويحذرهم، فيقول: { { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } } [الجمعة: 11] .

وتتحدث الروايات الأولى والثانية والسادسة عشرة من الباب السابق -باب فضيلة يوم الجمعة- عن الاستماع والإنصات للخطبة، قال النووي: واختلف العلماء في الكلام أثناء الخطبة، هل هو حرام أو مكروه؟ وهما قولان للشافعي.
قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وعامة العلماء: يجب الإنصات للخطبة.
وحكى عن النخعي والشعبي وبعض السلف أنه لا يجب إلا إذا تلى فيها القرآن.
قال: واختلفوا فيمن لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كمن يسمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه.
وقال النخعي وأحمد وأحد قولى الشافعي: لا يلزمه.
اهـ.

ونقل صاحب المغني الاتفاق على أن الكلام الذي يجوز في الصلاة يجوز في الخطبة، كتحذير الضرير من الوقوع في بئر.
وقال الشافعي: وإذا خاف على أحدكم لم أر بأساً -إذا لم يفهم عنه بالإيماء- أن يتكلم.
اهـ وذهب بعض الفقهاء إلى أن تحريم الكلام محله حال أركان الخطبة فإذا فرغ من الأركان أبيح الكلام.
والجمهور على أن الكلام أثناء الجلوس بين الخطبتين لا يحرم، وكره عبث حال الخطبة لحديث: ومن مس الحصا فقد لغا.
ولأن العبث يمنع الخشوع.
والله أعلم.

وتتحدث رواياتنا الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون والسابعة والعشرون والثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والمتممة للثلاثين عن صلاة ركعتين قبل الجمعة.

قال الشافعي في الأم: إذا خرج الإمام وجلس على المنبر انقطع التنفل، وأما إذا دخل والإمام جالس على المنبر أو في أثناء الخطبة فيستحب له أن يصلي تحية المسجد ركعتين ويخففهما، ويكره تركهما للحديث الصحيح: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين.
وقال: إذا دخل والإمام في آخر الكلام ولا يمكنه صلاة ركعتين خفيفتين قبل دخول الإمام في الصلاة فلا عليه أن يصليهما، وأرى أن يأمره الإمام بصلاتهما ويزيد في كلامه ما يمكنه إكمالهما فيه، فإن لم يفعل كرهت ذلك له، ولا شيء عليه.
اهـ.

وبهذا قال الإمام أحمد، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلي شيئاً.

وظاهر أحاديثنا دليل للشافعي وأحمد.
قال النووي في شرحه للرواية الثالثة والعشرين وفيها: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.
هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ ويعتقده صحيحاً فيخالفه.
اهـ.

وأجاب المانعون لتحية المسجد وقت الخطبة بعدة أجوبة منها.

1- أن قصة سليك واقعة عين، لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك.
ويرد عليهم بالتعميم في آخر القصة: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما.

2- وقالوا: إن سليكاً كان رجلاً فقيراً، فأمره بالصلاة ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه، واستندوا إلى روايات ضعيفة، منها: روى أصحاب السنن: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل في هيئة بذة، فقال له: أصليت؟ قال: لا.
قال: صل ركعتين، وحض الناس على الصدقة.

وعند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين، وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه.
ويرد هذا الاستدلال بالعموم السابق، ثم إن المانعين لا يجيزون التطوع لعلة التصدق.

3- وقالوا: إن تحية المسجد تفوت بالجلوس، وسليك جلس، فدل على أن الأمر ليس ليصلي تحية المسجد.
بل لهدف آخر.
وأجيب بأن تحية المسجد لا تفوت بجلوس غير العالم وغير المتعمد.

4- وقالوا: إن الصلاة حال الخطبة تتعارض مع الأمر بالإنصات في قوله تعالى: { { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } } [الأعراف: 204] .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت.
متفق عليه -روايتنا في أول الباب السابق- قالوا: فإذا امتنع الأمر بالمعروف -وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه- فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى.
ويرد هذا الاستدلال بأن الآية في القرآن، وليست الخطبة كلها قرآناً.

وقياس التحية بالأمر للإنصات للاغي قياس مع الفارق فتحية المسجد مأمور بها، وقول: اسكت.
ليس مأموراً به.

5- وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي دخل يتخطى الرقاب: اجلس فقد آذيت.
أخرجه أبو داود والنسائي.
فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية.
وعند الطبراني: إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام.
ورد باحتمال أن يكون معنى اجلس أي لا تتخط، أو أن ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست بواجبة، أو يحتمل أن يكون الرجل قد صلى التحية في آخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطي، فأنكر عليه.
كما رد هذا الاستدلال بأن الحديثين ضعيفان لا يقاومان الأحاديث الصحيحة.
والله أعلم.

وتتعرض الأحاديث إلى وقت صلاة الجمعة، وما يقرأ فيها من سور القرآن وما يصلى بعدها من السنن.

فالأحاديث الخمسة الأولى ظاهرة في تعجيل صلاة الجمعة، وجمهور الفقهاء على أن وقت الجمعة هو وقت الظهر، ولا تجوز قبل الزوال خلافاً للإمام أحمد فقال: تجوز قبل الزوال.
وروى عنه أنه قال: في الساعة الخامسة، أي قبل الزوال بساعة أو بساعتين، حيث قسمنا ساعات التبكير إلى الجمعة بخمس أو ست.
وقال أصحاب أحمد: يجوز فعلها في الوقت الذي تفعل فيه صلاة العيد.
قال العبدري: قال العلماء كافة: لا تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال إلا أحمد.
اهـ.

واحتج له بروايتنا الأولى والثانية، إذ ظاهرهما أن الرجوع إلى النواضح والجمال كان عند الزوال، وكانت الصلاة قبله.
كذا ويحتج له بالرواية الخامسة وظاهرها أن الصلاة وقعت قبل أن يكون للحيطان ظل، أي قبل الزوال.

وأجيب عن الرواية الأولى والثانية بأنهما إنما تخبران بأن الصلاة والرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال، لا أن الصلاة قبله، فالمعنى كنا نصلي حين تزول الشمس وكنا نذهب إلى جمالنا حين تزول الشمس.

أما الرواية الخامسة: فمعناها ما نجد للحيطان فيئاً كثيراً يستظل به، وليس المقصود نفي الظل بالكلية، بدليل الرواية الرابعة: ثم نرجع فنتتبع الفيء.
ففيها تصريح بوجود الفيء لكنه قليل، ومعلوم أن حيطانهم كانت قصيرة، وأن بلادهم متوسطة من الشمس، ولا يظهر هناك الفيء بحيث لا يستظل به إلا بعد الزوال بزمان طويل.
قاله النووي في شرح المهذب، ثم قال: وأما حديث سهل: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
فمعناه أنهم كانوا يؤخرون القيلولة والغداء في هذا اليوم إلى ما بعد صلاة الجمعة، لأنهم ندبوا إلى التبكير إليها.
اهـ.

كما احتج له بما رواه أحمد في مسنده والدارقطني عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر رضي الله عنه وكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار، ولا رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره.
ورد هذا الاحتجاج بضعفه باتفاقهم، لأن ابن سيدان ضعيف عندهم، إذ قال عنه الحافظ ابن حجر: تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة.
وقال عنه ابن عدي: شبه مجهول.
وقال عنه البخاري: لا يتابع على حديثه.

قال النووي: والجواب عن احتجاجهم بحديث جابر وما بعده أنها كلها محمولة على شدة المبالغة في تعجيلها بعد الزوال من غير إبراد ولا غيره.
هذا مختصر الجواب عن الجميع، وحملنا على هذا الجمع عمل المسلمين قاطبة إذ هم لا يصلونها إلا بعد الزوال.

أما نهاية وقت الجمعة فهو نهاية وقت الظهر بلا خلاف، لكن الخلاف فيمن دخل في صلاتها في الوقت وخرج الوقت أثناء الصلاة، فعند الشافعية يتمها ظهراً، لأنه لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت، فلا يجوز إتمامها كالحج، بل يتمها ظهراً، لأنه فرض رد من أربع ركعات إلى ركعتين بشرط يختص به، فإذا زال الشرط أتم كالمسافر إذا دخل في الصلاة ثم قدم قبل أن يتم.

وقال أبو حنيفة: إذا خرج وقت الظهر وهم في صلاة الجمعة بطلت ويستأنفونها ظهراً.

وقال أحمد: إن كان صلى منها ركعة أتمها جمعة، وإن كان أقل أتمها ظهراً.
وقال بعض أصحابه: إن تحقق خروج الوقت قبل التحريمة صلى ظهراً، وإن لم يتحقق خروجه قبل التحريمة صلى جمعة، لأنها تدرك بالتحريمة كسائر الصلوات.

هذا وقد أجمعت الأمة أن الجمعة لا تقضي على صورتها جمعة، ولكن من فاتته لزمه الظهر.

أما ما يقرأ في صلاة الجمعة من السور بعد الفاتحة فإن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون -كما جاء في روايتنا الثانية والثلاثين- وهو رأي جمهور الشافعية، قال النووي: قال العلماء: والحكمة في قراءة سورة الجمعة اشتمالها على وجوب الجمعة وغير ذلك من أحكامها وغير ذلك مما فيها من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقون لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها.
اهـ.
أو بسورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة هل أتاك حديث الغاشية في الركعة الثانية كما جاء في ملحق روايتنا الثالثة والثلاثين، وبه أخذ المالكية.

وقال أبو حنيفة: لا مزية لهاتين السورتين، ولا لغيرهما، والسور كلها سواء في هذا.
والله أعلم.

هذا.
والجمعة ركعتان، تمام غير قصر، والسنة أن يجهر فيهما بالقراءة خلافاً للظهر.

أما الروايات السابعة والثلاثون وما بعدها فتتحدث عن راتبة الجمعة البعدية.

قال النووي: في هذه الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها، وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع، فنبه صلى الله عليه وسلم بقوله: إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً.
على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله صلى الله عليه وسلم: من كان منكم مصلياً على أنها سنة ليست واجبة، وذكر الأربع لفضيلتها، وفعل الركعتين في بعض الأوقات لبيان الجواز، لأن أقلها ركعتان، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أكثر الأوقات أربعاً، لأنه أمرنا بهن وحثنا عليهن، وهو أرغب في الخير وأحرص عليه وأولى به.
اهـ.

ويؤخذ من هذه الأحاديث:

1- يؤخذ من الروايات القيام في الخطبة، وقد سبق تفصيل القول فيه.

2- وأن للجمعة خطبتين.

3- وأنه يجلس بينهما.

4- وفي قوله في الرواية السابعة: يقرأ القرآن ويذكر الناس.
دليل للشافعية في ضرورة القراءة والأمر بالتقوى.

5- ومن الرواية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة أخذ بعض الشافعية أن استمرار الجماعة -الذين تنعقد بهم الجمعة من أول الخطبة إلى تمام الصلاة- ليس بشرط في صحتها، فقد انصرفوا ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً وصحت الصلاة.
قالوا: والشرط أن تبقى منهم بقية.

6- استدل بها على فضيلة جابر وفضيلة أبي بكر وعمر، حيث لم ينفضوا، وفي بعض الروايات أن ممن لم ينفض الخلفاء الأربعة وابن مسعود وبلال.

7- استدل بها على أن البيع وقت الجمعة ينعقد، حيث لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ ما تبايعوا فيه من العير المذكورة.

9- واستدل بها بعضهم على جواز انعقاد الجمعة باثنى عشر رجلاً، على أساس أن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام.
وفيه نظر.

10- ويؤخذ من الرواية الثانية عشرة الإنكار على ولاة الأمور إذا ما خالفوا السنة.

11- ومن الرواية الثامنة عشرة استحباب تقصير الخطبة.

12- ومن الرواية الخامسة عشرة استحباب قول: أما بعد.
في خطب الوعظ والجمعة والعيدين وغيرها، قال النووي: وكذا في خطب الكتب المصنفة.
اهـ وقال الحافظ بن حجر: وقد كثر استعمال المصنفين لها بلفظ وبعد.
اهـ.

13- واستحباب أن يفخم الخطيب أمر الخطبة.

14- وأن يرفع صوته ليسمع الحاضرين.

15- وأن يظهر غضبه عندما يستدعى من القول، كما في مقام الترهيب.

16- واستدل بها من منع البدع كلها وأنكر ما هو حسن منها، والجمهور على خلافه.
قال النووي: الحديث من قبيل العام المخصوص، والمراد غالب البدع، وقال: قال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة، فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك.
ومن المندوبة: تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك.
ومن المباح: البسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك.
والحرام والمكروه ظاهران.
قال: فإذا عرف ما ذكرته علم أن الحديث من العام المخصوص، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب في التراويح: نعمت البدعة.
اهـ.

17- استدل بقوله في الرواية الخامسة عشرة: من ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي دين من مات ولم يخلف سداداً، واستشكل بما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من مات وعليه دين.
وأجيب بأن ذلك قد قصد منه أولا أن لا يتساهل الناس في الاستدانة ويهملوا الوفاء، فزجرهم بترك الصلاة عليهم، فلما علموا خطر الدين ولم يعودوا يتهاونون فيه وفتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه الفتوح أدى الدين عن المدينين، واختلف هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه قضاء هذا الدين أو كان يقضيه تكرماً؟ الأصح أنه كان واجباً كما قال النووي.
واختلف أيضاً: هل كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم؟ أو إمام المسلمين يقوم مقامه في هذا؟ الظاهر أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

18- واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية التاسعة عشرة: بئس الخطيب أنت.
على إنكار تشريك الله ورسوله في الضمير، لئلا يوهم التسوية.
قال النووي: والصواب أن سبب النهي أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً ليفهم ومما يدل على عدم كراهية تشريك الله ورسوله في الضمير ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة...وفيه: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

19- ويؤخذ من الرواية الواحدة والعشرين والثانية والعشرين والثالثة والعشرين استحباب قراءة سورة ق كلها أو بعضها في خطبة الجمعة لاشتمالها على البعث والموت والمواعظ الشديدة والزواجر المخيفة.

20- واستدل بالرواية الرابعة والعشرين على كراهية رفع اليدين وتحريكهما أثناء الخطبة، وحكى عن بعض المالكية إباحته.

21- واستدل بأحاديث سليك على أنه يستحب لمن دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره له الجلوس قبل أن يصليهما.

22- وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة.

23- واستدل بها على جواز الكلام في الخطبة لحاجة.

24- وفيها الأمر بالمعروف والإرشاد إلى المصالح في كل حال وموطن.

25- وأن تحية المسجد ركعتان.

26- وأنها لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل بحكمها.

27- وأنها لا تترك في أوقات النهي عن الصلاة، لأنها لو سقطت في حال لكان هذا الحال أولى بها فإنه مأمور باستماع الخطبة، فلما ترك لها استماع الخطبة وقطع النبي صلى الله عليه وسلم لها الخطبة وأمره بها بعد أن قعد دل على تأكدها وأنها لا تترك بحال، ولا في وقت من الأوقات.

28- ويؤخذ من الرواية الواحدة والثلاثين استحباب تلطف السائل في عبارته.

29- وتواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وشفقته عليهم وخفض جناحه لهم.

30- والمبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهل الأمور فأهمها.
قال النووي: وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور.
قال: وقعوده صلى الله عليه وسلم على الكرسي ليسمع الباقون كلامه ويروا شخصه الكريم.
ثم قال: ويحتمل أن هذه الخطبة -التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها- خطبة أمر غير الجمعة، ولهذا قطعها بهذا الفصل الطويل، ويحتمل أنها كانت الجمعة واستأنفها، ويحتمل أنه لم يحصل فصل طويل، ويحتمل أن كلامه لهذا الغريب كان متعلقاً بالخطبة فيكون منها، ولا يضر المشي في أثنائها.

31- ومن الرواية الخامسة والثلاثين يؤخذ استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة، لما تشعر الصيغة به من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو إكثاره منه.

وقد ذهب المالكية إلى كراهة قراءة السجدة في الصلاة، قيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض.
قال القرطبي: وهو تعليل فاسد بشهادة الحديث.
وقيل: الكراهة لخشية اعتقاد العوام أنها فرض.
قال ابن دقيق العيد.
أما القول بالكراهة مطلقاً فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن تترك أحياناً لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات.
اهـ.

وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره.

32- ويؤخذ من الرواية الأولى اهتمام الصحابة بالتبكير للجمعة وتأخيرهم للقيلولة والغداء لما بعد صلاة الجمعة.

33- من الرواية الواحدة والثلاثين أخذ جواز بناء المقصورة في المسجد، إذا رآها ولي الأمر مصلحة، وأول من عملها -كما قيل- معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي.
قال القاضي: واختلفوا في المقصورة فأجازها كثير من السلف، وصلوا فيها، وكرهها بعضهم.
وقيل: إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة من غيرهم لم تصح فيها الجمعة، لخروجها عن حكم الجامع.

34- ويؤخذ من قوله في الرواية الثالثة والأربعين: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج.
ما ذهب إليه الشافعية من أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره، ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة.

35- وأن الفصل بين الفريضة والنافلة يحصل أيضاً بالكلام، ولكن كونه بالانتقال أفضل.

( ملحوظات) هناك أحكام فقهية خاصة بصلاة الجمعة، من المهم في هذا المقام ذكرها باختصار، وهي:

1- ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن إذن السلطان بصلاة الجمعة سنة، وأنها تصح من غير إذنه ومن غير حضوره، سواء أكان السلطان في البلد أم لا.

وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلا خلف السلطان أو نائبه أو بإذنه متى قدر على استئذانه، واحتج له بأنها لم تقم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن إلا بإذن السلطان أو نائبه، ولأن تجويزها بغير إذنه يؤدي إلى فتنة.

ورد هذا الاحتجاج بالقياس على الإمامة في سائر الصلوات، إذ لا يشترط فيها إذن السلطان، وبأن الفعل هنا خرج مخرج البيان، وكون الناس في الأعصار يقيمون الجمعة بإذن السلطان لا يلزم منه بطلانها إذا أقيمت من غير إذنه، وأما قولهم: إن إقامتها بغير إذنه يؤدي إلى فتنة فغير مسلم.

2- ذهب الشافعية إلى أن الجمعة لا تصح إلا في أبنية يستوطنها صيفاً أو شتاءً من تنعقد بهم الجمعة، سواء أكان البناء من أحجار أو أخشاب أو سعف، وسواء أكانت البلاد كباراً ذات أسواق أو صغاراً.
أما أهل الخيام الذين يتنقلون دون استقرار فلا تجب عليهم الجمعة، ولا تصح منهم مستقلين، وبهذا قال مالك وأحمد.

ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولكن تجوز في ساحة مكشوفة بشرط أن تكون داخلة في القرية أو البلدة، فلا تصح في صحراء.
وقال أبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلا من أهل مصر، وتصح منهم ولو في صحراء كالعيد.

3- جمهور الشافعية على أن تعدد المساجد التي تصلى فيها الجمعة في المدينة الواحدة جائز إذا كثر الناس أو شق اجتماعهم في موضع منها، ولا يجوز جمعتان في بلد لا يعسر الاجتماع فيه في مكان، وحكي هذا عن مالك وأبي حنيفة.
وقال محمد بن الحسن: يجوز جمعتان.
وقال أحمد: إذا عظم البلد كبغداد والبصرة جاز جمعتان فأكثر إن احتاجوا، وإلا فلا يجوز أكثر من جمعة واحدة.
4- ولا تجب الجمعة على صبي ولا مجنون ولا امرأة، وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنها لو حضرت وصلت الجمعة جاز.
ولا تجب على المسافر وتصح منه، ولا تجب على خائف على نفسه أو ماله، ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة.

5- وقد أجمع العلماء على أن الجمعة لا تصح من منفرد، وأن الجماعة شرط في صحتها، وشرط الشافعية أن يكون العدد أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية أخرى: شرط خمسين.
وقال أبو حنيفة: تنعقد بأربعة أحدهم الإمام.
وقال أبو يوسف: تنعقد بثلاثة أحدهم الإمام.
وقال داود: تنعقد باثنين أحدهما الإمام.

6- ذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن المسبوق في صلاة الجمعة إن أدرك الإمام في الركوع من الثانية فقد أدرك الجمعة، فإذا سلم الإمام أضاف ركعة أخرى، وإذا لم يدرك الركوع فقد فاتته الجمعة، فإذا سلم الإمام أتم ظهراً.
قال أبو حنيفة: من أدرك التشهد مع الإمام أدرك الجمعة، فيصلي بعد سلام الإمام ركعتين وتمت جمعته، بل حكى عن أبي حنيفة: أنه إن أحرم قبل سلام الإمام كان مدركاً للجمعة، بل حكى عن أبي حنيفة: أنه لو سلم الإمام ثم سجد للسهو فأدركه مأموم في سجود السهو أدرك الجمعة.

والله أعلم.